أكون مراقبة بإحكام، إيماءة واحدة تجعلني أغلق حسابي الفيسبوكي، بعد أقل من خمس عشرة دقيقة على وضع المنشور تلقيت مكالمة هاتفية منه، تجعلني هذه الأفكار كلها على نحو مطرد، مخلوقًا أكثر هلعًا. أنا أتحاشى أصدقائي، لذا لن يكونوا على تماس مع قلقي الشديد[1].
هذا الاقتباس لسمر يزبك، يصف تجربتها في الحياة والعمل بصفتها صحافية في سورية عام 2011. والفاعل الذي يمارس هذا الشكل من السيطرة القهرية ليس الشريك الحميم، لكنها إحدى قوى الدولة. يمكن لهذا الاقتباس أن ينسب ببساطة إلى الأوصاف التي قدمها الناجون من التعسف المنزلي في علاقاتهم، حيث يمارس الشركاء المتعسفون السلطة والسيطرة على الآخر، ويملون عليهم الكيفية التي يعيشون بها حياتهم، ويضمنون تبعيتهم عبر الخوف. يكون التعسف في كثير من الحالات نفسيًا، وكثيرون منهم لا يعدّون أنفسهم ضحايا. فهم يعدّونه سلوكًا طبيعيًا أو أنهم لا يعترفون به. يتشابك العنف الذي يتعرضون له مع العنف الجسدي: العزلة وانحلال القوى وتكتيكات التخويف والترويع، الإشراف العام، التحذيرات والتعنيفات المتعارضة مع “كتاب القواعد” المتغير دائمًا الذي لا يمكن التنبؤ به[2]. توافق توصيفات يزبك سيناريو شخص ما في علاقة سيطرة مع شريك حميمي تعسفي، حيث يأخذ التعسف شكل التنمر النفسي، المعروف ضمن سلسلة العنف في التعسف المنزلي. في الحقيقة إنه يتعلق بالحياة في سورية.
يستكشف هذا البحث كيف أن مفهوم السيطرة القهرية الذي أقِرّ بوصفه اعتداءً جرميًا في تشريع المملكة المتحدة منذ عام 2015 وحاليًا يستخدم حصرًا لوصف شكل التعسف في علاقة الشريك الحميم، يمكن بسطه كي يساعدنا على فهم السلسلة المتصلة من العنف التي عاناها الرجال والنساء في الصراع السوري. استخدام الدولة للعنف الجسدي في الصراع موثق جيدًا، وكذلك استخدامها الممنهج للتعذيب، والحبس والاغتصاب.
في كل حال، من أجل فهم سورية بعد 2015، يوجد حاجة أيضًا إلى فهم الطريقة التي استخدمتها السلطة والفاعلون الآخرون استراتيجية في خلق مناخ الخوف جنبًا إلى جنب مع ممارسات العنف الجسدية. لقد شكل الخوف جزءًا من آليات النظام الاستبدادي في الحكم عقودًا وعززه القمع الشديد لأي معارضة، ولكن النظام استخدمه استراتيجية حرب منذ انفجار الصراع السوري. يحاول هذا البحث أن يبرهن أن العام يمكن أن يتعلم من الخاص في هذا المجال المحدد.
طور إيفان ستارك مصطلح “السيطرة القهرية” في عمله، السيطرة القهرية: كيف يوقع الرجالُ النساءَ في حبائلهم الذي طبع أول مرة في 2007. وأصبح في كانون الأول/ ديسمبر 2015 اعتداءً جرميًا في القانون البريطاني. السيطرة القهرية حاليًا، أولًا وقبل كل شيء، جريمة “منزلية” في التشريعات “المحلية”. ولكن بينما طور ستارك هذا المفهوم ليصف الآليات في علاقات الشريك الحميمية مع شكوكه حول فائدته الأوسع، وهو يتحدث في عمله الخاص عن المفهوم كونه “فخًا” وسلبًا للحرية. يقارن أيضا معاناة السيطرة القهرية “جرائم الأسر” أو الاختطاف رهينة ويرسم مقارنة بمعاناة أسرى الحرب، سواء في ما يتعلق بالسلوك نفسه والأثر الذي يتركه في الضحية. لذا هناك مؤشرات حول تعاضد السلوكات بين “المنزلي” في حالات عدم الصراع والجهات الفاعلة في الحرب وإمكان توسيع مجال المفهوم كما جسده مبتكره الذي ابتدعه، خارج عنف الشريك الحميم. أريد أن أستكشف الطرائق التي يمكن من خلالها تطبيق ذلك على معاناة الناس في الصراع السوري الراهن وكيف يمكن استعمال المفهوم لمساعدة الأكاديميين وصانعي السياسة على تحسين فهمنا لأثر الصراع في الناس المهجرين حاليًا أو الذين أعيد توطينهم، وأيضًا على أولئك الناس الذين يسعون للعودة إلى سورية في المستقبل كي يعيدوا بناء البلد.
في البداية سأنطلق من تحديد موقعي الخاص، وأقدم هذا البحث في إطار التمحيص المستمر. يتبع هذا مناقشة لمفهوم ستارك عن السيطرة القهرية والإجراء الذي أصبح بوساطته اعتداءً جرميًا في المملكة المتحدة. إن عقلانية استخدام هذا المفهوم في ضبط العلاقات الدولية مؤكدة، خصوصًا بوصفه طريقة لتحسين فهمنا لمعاناة الحرب. ثم تنتقل المناقشة لاستنطاق ما يقوله القانون الدولي بخصوص “السلوك المسيطر” وأنواع العنف النفسي التي يصفها ستارك والصعوبات في تفسيرها وتطبيقها. أخيرًا، أطبق هذا الإطار المفهوماتي على الصراع السوري كي أوضح كيف يمكن توسيع التعريف، قبل أن نعود إلى البيئة المحلية كي نربط بين الاثنين عبر حركة ” استردي الليل·“.
اهتمامي الأساسي هو أن أستكشف أثر “الخوف” من العنف الجنسي في النزاع السوري. وأنا هنا أشارك ستارك وجهة نظره، بأننا لا نبحث عبر تركيزنا على أشكال أخرى من العنف، عن تقليل أهمية أو إنكار جريمة العنف الجسدي. أنا أقصد بدلًا من ذلك، أن أركز على أن تكون قضية الخوف من العنف بوصفه سلاحًا نفسيًا خاصًا ينشره الوكلاء إلى جانب مجموعة من التكتيكات الجسدية الأخرى، في المجالين المحلي والدولي للصراع. يكون الخوف الناشئ عن سلسلة العنف المتواصلة شديدًا جدا درجة يمنع فيها الأشخاص من الإفلات من علاقاتهم مع قاهرهم لذلك يقعون في الفخ. ما يجعل السلوك الذي عانوه جريمة سلب أو جريمة حرية. السؤال الذي طرح على عدد من الناجين من سوء المعاملة المنزلية ومن طالبي اللجوء، “لماذا لم تغادر”؟ اللحظة التي يستطيع فيها الأشخاص أن يهربوا من هذا العنف، أو تفسير عدم قدرتهم، يمكن فهمها كليًا عبر الاستحواذ النفسي الذي علقوا به، وتتويجًا لسنوات من السلوك المسيطر الذي صار طبيعيًا عندهم من دون أن يدركوا ذلك. اللحظة التي يصبح فيها هذا العنف غير محتمل هي تلك اللحظة التي يختار فيها الناجي المغادرة؛ وغالبًا ما يشترط الوصول إلى نقطة التحول حدوث الأذى ضد الأطفال أو أطراف أخرى. فقد عدّت بشكل واسع الجريمة ضد الأطفال الذين كتبوا الشعارات ضد بشار على جدر مدينة درعا في آذار/ مارس 2011، لأنها أدت دورًا محفزًا مشابهًا للاحتجاجات في سورية.
أهمية فهم هذا العامل الجذري من العنف المستمر، يدور حول التأثير في الحرية والاستقلالية. إن تولد الخوف من حدوث العنف الجسدي سيكون له الأثر نفسه في الضحية كما لو أنه قد حصل فعلًا. أثر هذا الخوف في السلوك الإنساني، وحركته، وقراره في أن يفر أو يواجه، مهمٌ في فهم ما حدث للناس في سورية. درست عالمة الاجتماع ليز كيللي أثر العنف الجنسي في الناجين واستنتجت أن مستوى الخوف لدى الضحية ينشأ بقدر كبير من إدراكها لما يمكن أن يحدث بناء على تجربة سابقة تمامًا مثل التهديد المباشر للمرتكب[3]. يحدد ستارك بصورة مشابهة في السيطرة القهرية، أن فكرة الأذى الجسدي المزروعة في عقل الضحية يمكن أن تترك أثرًا مدمرًا أكثر من العنف الفعلي[4].
يساعد ذلك على شرح ما يريد الناس أن يحدث قبل إعادة بناء سورية وبناء السلام. تصف ميريام كوك في كتابها الرقص في دمشق 2017 مفكرًا سوريًا رائدًا:
مثل السوريين الذين قابلتهم كلهم، هو ملتزم بتخيل نظام سياسي جديد يمنح كل فرد الحرية، والكرامة والفهم الواضح لما يعنيه أن تكون مواطنًا حقيقيًا[5].
مقارنة هذا بما تقوله ناجية من التعسف المنزلي عندما سئلت عما تريده من مستقبلها: “مستقبل خال من الخوف لئلا أتلفت خلفي طوال الوقت وأن أكون مستقلة ماليًا وعقليًا لكن أكثر من كل هذا هو التوقف عن الشعور بالخجل من ماهيتي.[6]” في فهم ما هو المطلوب لدعم هذا الطموح، هناك مجال لوضع البنى والاستراتيجيات في المكان الملائم الذي يسمح بتحقيق ذلك. ما الذي يمكن أن نتعلمه من المعاناة المنزلية ليساعدنا على عمل ذلك في سورية المستقبلية؟
الهدف هنا هو أن نبين كيف تُستخدم السيطرة القهرية لتحقيق نتائج العنف الجسدي نفسها في الصراع: العنف الطائفي، والتهجير لأناس محددين واستعادة الاستبداد في مواجهة الثورة. ونظهر بناء عليه كيف يتشابه العنف النفسي في الصراع مع السيطرة القهرية في أنها جزء من ترسانة الأسلحة الموضوعة تحت تصرف الجاني، سواء أكان زوجًا أم خليلًا أم وكيلًا للدولة أم لغير الدولة، فالنتيجة هي نفسها. فهم يحققون الهيمنة والسيطرة. وتفعل الضحية ما يعتزمه القاهر.
متابعاتي الأكاديمية هي فقط جزء من موقفي. إضافة إلى كوني طالبة دكتوراه، فأنا موظفة مدنية رفيعة المستوى في وزارة الداخلية في المملكة المتحدة ولديّ خبرة عمل 17 سنة في الهجرة، والجريمة وتنظيم المجتمع. في ما بتعلق بهذا العمل، فقد كنت مسؤولة عن استراتيجية حكومة المملكة المتحدة لإنهاء العنف ضد النساء والفتيات عام 2010 ودعمت حاليًا العمل على توطين العائلات السورية في المملكة المتحدة إضافة إلى أسبقية واسعة حول دعم اللجوء والاندماج. وأنا الآن مديرة مركز معاناة الطفولة المحرومة في ويلز للنظر في كيفية دعم المنظمات لفهم أثر الصدمة في الطفولة وزيادة الإدراك لمنع حدوثها.
سيدعم الفهم الأفضل لأشكال المعاناة المختلفة للعنف في الحرب تطور البحث الأكاديمي ويقدم بعض الاعتراضات على الأدب الموجود في الكيفية التي يجد فيها العنف النفسي وتحريض الاستجابة العاطفية مكانًا لهما في العلاقات الدولية (IR). سيساهم هذا العمل في تطوير جدول جديد متنامٍ من الأبحاث في العلاقات الدولية المناصرة لحقوق المرأة الذي يأخذ بالحسبان العاطفة والحرب. من خلال تضمين أصوات فنانين وكتاب وشعراء، آمل أن توضح أهمية أعمالهم في مساعدتنا لفهم المشاعر الشبيهة بمعاناة الصراع، وأن نصر على أن نفاذ البصيرة في الأدب، مثلًا، يمكن أن يكون مصدرًا لفحص نظريات العلاقات الدولية. آمل أيضًا أن يدعم بحثي هؤلاء الذين يعملون معنا في سياسات حكومة المملكة المتحدة ليشجعوا بصورة أفضل اندماج اللاجئين من مناطق الصراع، كما في حالة سورية. كما أنه سيساعدنا على ضمان توفير الخدمات المحلية الملائمة لهؤلاء الذين يريدونها أو يحتاجون إليها، وكذلك لدعم هؤلاء الذين نسعى لمساعدتهم كي يكونوا جزءًا من مجتمعنا أيضًا بناءً على فهمنا المحسن لكيفية تأثير السيطرة القهرية في الناس في المحيط المحلي. يمكن أن يساعدنا رسم أوجه التشابه في ما يعانيه الضحايا والناجين، على أن نفعل ذلك.
[1] سمر، يزبك، امرأة في تقاطع النيران- يوميات من الانتفاضة السورية، (لندن: دار هاوس للنشر، 2011) ص183
[2] https://www.cedarnetwork.org.uk/about/supporting-recovery/what-is-domestic-abuse/what-is-coercive-control/
- نظِّم عدد من المسيرات الليلية من الحركات النسوية ومناصريها في أوروبا وأميركا ضد الاغتصاب والتحرش والعنف الذي تتعرض له النساء ليلًا بعناوين مشابهة، بمعنى أن تكون المرأة قادرة على الخروج من بيتها ليلًا وهي آمنة.
[3] ليز. كيللي، النجاة من العنف الجنسي، (أوكسفورد: مطبعة الحكومة، 1998)، ص98
[4] إيفان. ستارك، السيطرة القهرية: كيف يوقع الرجال النساء في حبائلهم، (نيويورك: مطبعة جامعة أوكسفورد، 2007)، ص251.
[5] م. كوك، الرقص في دمشق المبدعة، المرونة، والثورة السورية، (أوكسون: روتليدج، 2017)، ص2.
[6] الناجية د. أ من مجموعة التركيز في 17 حزيران/ يونيو 2018.