عنوان المادة الأصلي باللغة الإنكليزية: | Kennan Cable No.24: Russian Foreign Policy in the Arctic: Balancing Cooperation and Competition |
اسم الكاتب | Stacy R. Closson ستيسي ر. كلوسون |
مصدر المادة الأصلي | Wilson Center |
رابط المادة | https://www.wilsoncenter.org/publication/kennan-cable-no24-russian-foreign-policy-the-arctic-balancing-cooperation-and |
تاريخ النشر | 26حزيران/ يونيو 2017 |
المترجم | مروان زكريا |
المحتويات
ما الخطاب في موسكو حول دور روسيا في القطب الشمالي؟
ماذا يفعل الروسيون في القطب الشمالي؟
القطب الشمالي وسيلة لتحقيق الأولويات الإقليمية الروسية
العوامل التي تكوّن دور روسيا في القطب الشمالي
الخلاصة: التوازن بين التعاون والمنافسة
مقدمة
تمثل المنطقة القطبية الشمالية دراسة حالة مثيرة للاهتمام في ما يتعلق بالسياسة الخارجية الروسية. ففي الوقت الذي تمارس فيه روسيا عدوانًا متعددًا على ثلاث جبهات -منطقة بحر البلطيق وسورية وأوكرانيا- وتتدخل في العمليات الديمقراطية الغربية، تسلك في المنطقة القطبية الشمالية أسلوبًا أقل عدائية إلى حد كبير حتى الآن. والسؤال هو: لماذا؟
يعد سلوك روسيا في هذه المنطقة بعيدًا عن التجانس. فمن جهة، غرست روسيا علمها في عام 2007 في أقصى القطب الشمالي بقاع البحر خلال حملة علمية لدعم قضيتها من أجل السيادة القطبية الموسعة. ومن جهة أخرى، وقّعت روسيا على اتفاق مع النرويج عام 2010 لتحديد الحدود الإقليمية البحرية، وقد زادت روسيا نشاطها العسكري في المنطقة القطبية الشمالية، ولكنها تلتزم أيضًا بالاتفاقات الملزمة التي تعزز أمن الملاحة البحرية وسلامتها هناك.
ونتيجة سلوك روسيا غير المتجانس ذاك، أدت التقويمات الغربية لروسيا في المنطقة القطبية إلى استنتاجات متضاربة ومتناقضة؛ تمثل روسيا وجودًا عسكريًا ذا تطلعات توسعية مهددة، ولكنها تشارك أيضًا مشاركة بناءة في معالجة قضايا الجوار. وليس هذا الانقسام في السياسة الخارجية الروسية حديث العهد، ففي تاريخها مارست روسيا التعاون والمنافسة مع جيرانها ومنافسيها في الوقت نفسه. على سبيل المثال، باع الاتحاد السوفياتي -إبان الحرب الباردة- النفط والغاز لدول أوروبا الغربية، واشترى السلع منها، مع التزامه بميثاق حلف وارسو دعمًا استراتيجيًّا في وجه الناتو.
وعند التمعن في عقيدة روسيا وخطابها، وتطورات الحوادث في منطقة القطب الشمالي، تتجلى صورتها بوضوح في تبني سلوكات مختلفات في السياسة الخارجية تبعًا للسياق. تسعى روسيا جاهدة للمحافظة على منزلتها بوصفها قوة عظمى في وجه الولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي في الرقعة القطبية الشمالية([1]). وفي الوقت نفسه، هي عضو فاعل في مجلس القطب الشمالي، إضافة إلى كونها شريكًا إقليميًا إلى جانب جيرانها من دول شمال أوروبا في منطقة بحر بارنتس([2]).
ويكمن السبب وراء سياسة روسيا التعاونية والتنافسية المتزامنة في أهمية القطب الشمالي البالغة لنموها الاقتصادي المستقبلي ومنزلتها الدولية. ومع تباين التقديرات، فمن المتوقع أن يسهم شمال روسيا الأقصى بحوالى 20 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي، و22 في المئة من صادراتها. ومع تناقص إنتاج ما يعرف بالهيدروكربونات السيبيرية الغربية، تأمل روسيا في الاستفادة مما يقدر بـ 13 في المئة من النفط العالمي، و30 في المئة من الغاز الطبيعي في العالم، والمعادن النادرة الواقعة ضمن منطقتها القطبية الشمالية. وتتوقع روسيا نموًا كبيرًا من استثمارات الملاحة في طريقها البحري الشمالي، وربط الأسواق الأوروبية والآسيوية، وتوفير فرص كبيرة لحوالى 2 مليون روسي يقيمون بالقرب من ساحلها القطبي.
ومع ذلك، لا يمكن لروسيا تعزيز التنمية والاستثمار اللذين تطمح إليهما في منطقتها القطبية من دون شركائها المجاورين في المنطقة. ولضمان ازدهار منطقتها القطبية، تحتاج روسيا إلى الاستثمارات والتكنولوجيا والدراية والأسواق، لذلك فإن استراتيجية روسيا هي تحقيق التوازن بين مخططاتها التوسعية وموقعها العسكري مع المشاركة الإقليمية البناءة من أجل تعظيم إمكانات النمو الاقتصادي في القطب الشمالي.
ما الخطاب في موسكو حول دور روسيا في القطب الشمالي؟
تعترف العقيدة الرسمية الروسية بأهمية القطب الشمالي في مستقبلها، وتدعو إلى التعاون والمنافسة في آن معًا. وقد أدرجت استراتيجيات الطاقة لعامي 2003 و2009، واستراتيجية الأمن القومي لعام 2009 الموارد الطبيعية في القطب الشمالي بوصفها عاملًا حاسمًا للتنمية في روسيا. تشدد الوثيقتان الاستراتيجيتان الروسيتان (2008 و2013) على التعاون الإقليمي والدولي لتحقيق مصالح الأمن القومي. مع ذلك، في بداية عام 2013 عدّت روسيا حلف شمال الأطلسي تهديدًا رئيسًا لأمنها القومي في القطب الشمالي، وأعلنت أن مواجهة هذا التهديد أولوية قصوى. وعدّت السياسة العسكرية الروسية لعام 2014 وسياسة الملاحة البحرية أن القطب الشمالي أولوية إستراتيجية، وأن الجيش هو حامي مواردها الطبيعية. وتتصور إستراتيجية الأمن القومي الأخيرة في روسيا منافسة عالمية لتأمين موارد القطب الشمالي وتطويرها، مع تحديد المجالات الملائمة للتعاون المتبادل والبناء.
يتسم الخطاب السياسي الروسي بالجدل حول التعاون والمنافسة في القطب الشمالي. فالتيار الأكثر براغماتية يحبذ التعاون في إطار القانون الدولي، بينما يطالب الرأي المتشدد بأن تتبنى روسيا موقفًا هجوميًا لحماية مصالحها في القطب الشمالي([3]). يتمسك المتشددون بتلك الحكايات الكبرى التي تعيد إلى الذاكرة (القطب الشمالي الأحمر) في ذروة حقبة التصنيع والعسكرة السوفياتية([4]). ويعرب القادة الروسيون في الداخل عن أملهم في أن استغلال الموارد الطبيعية وفتح طريق بحر الشمال سيعززان القوة الروسية، وعلى الصعيد الخارجي يؤكد الدبلوماسيون الروسيون أن روسيا لاعب إقليمي في المنطقة القطبية، وعلى استعداد للتعاون عبر المنظمات متعددة الأطراف([5]).
وفي المقابل، يبقي ممثلو السياسة الخارجية الروسية أنفسهم بمنأى عن أي خطاب حول الصراع والمنافسة الجيوسياسية، لكنهم ما يزالون يتأرجحون بين تعزيز التعاون الدولي والتصريح بالسيادة الروسية العظمى([6]). وتشدد وزارة الخارجية على التعاون الاجتماعي والاقتصادي والبيئي مع دول القطب الشمالي في مستوى دون الإقليمي، وبخاصة في منطقة بارنتس. تعزز البيانات الرئاسية الروسية للجماهير المحلية التزام روسيا بالنهج التعاوني في المنطقة القطبية الشمالية، ما عدا قضية الموارد الطبيعية التي تقع -من وجهة نظر روسيا- ضمن المنطقة الاقتصادية الخاضعة للسيطرة الروسية.
ماذا يفعل الروسيون في القطب الشمالي؟
هناك منظمات عدة ومناطق قطبية محددة جغرافيًا تجعل أخذ دور واضح في المنطقة صعبًا على روسيا. وبدلًا من ذلك، تؤكد روسيا دورها الكبير في القطب الشمالي دليلًا على منزلتها العظيمة عالميًا، معززةً في الوقت نفسه التعاون الإقليمي.
ينبغي على روسيا أن تتعامل مع عدد من المجموعات الجغرافية لدول القطب. فهناك مجموعة أميركا الشمالية في الولايات المتحدة الأميركية وكندا، كلتاهما منطقة قطبية ذات كثافة سكانية منخفضة، ولها مطالبات محقة في نصيبها من ثروات الطاقة، وقدرات عسكرية استراتيجية. ثم إن هناك مجموعة دول المحيط المتجمد الشمالي الخمس (الولايات المتحدة وكندا والدانمارك/ غرينلاندة والنرويج وروسيا)، إضافًة إلى دول الغرب السبع (الولايات المتحدة وكندا والدانمارك وأيسلندا والنرويج، إضافة إلى فنلندا والسويد) اللواتي يؤيدن تعزيز مجموعة أمنية ردًا على روسيا. وهناك دول الشمال الأوروبي الأربع (دول النوردك) المتاخمات لروسيا، وتُعد مناطقها الشمالية أكثر المناطق كثافة سكانية وتطورًا في المنطقة القطبية. هناك المنطقة القطبية الشاسعة التابعة لروسيا التي تغطي خُمس الدائرة القطبية الشمالية، وتعد موطنًا لثلثي سكان القطب الشمالي في العالم، من بينهم 27 مجموعة من السكان الأصليين. وأخيرًا، يجذب القطب الشمالي بوصفه (مشاعًا عالميًا× اهتمام الدول غير القطبية، إذ تريد دورًا أكبر لرسم خططها التنموية، ومن بينها الصين.
أسفرت تلك التجمعات الجغرافية عن إنشاء منظمات عدة متعددة الأطراف عنيت بالقطب الشمالي منذ التسعينيات. من الناحية العملية، لا تعالج تلك المنظمات القضايا الأمنية الشائكة، بل تعزز -بدلًا من ذلك- مسائل أمنية أكثر ليونة من خلال المساعي التعاونية والتوافق. يجتمع مجلس القطب الشمالي في المستويات جميعها؛ الوطنية والبرلمانية (بما في ذلك البرلمان الأوروبي)، والدولية الإقليمية. يضم مجلس بارنتس الأوروبي القطبي دول النوردك (بلدان الشمال الأوروبي)، والاتحاد الأوروبي، وأيسلندا، وروسيا. يرتبط به المجلس الإقليمي لبارنتس الذي يربط 13 كيانًا إداريًا وإقليميًا محليًا في روسيا والنرويج وفنلندا والسويد، بما في ذلك مناطق كاريليا وكومي وأرخانغيلسك ومورمانسك ونينيتس في روسيا. وتشجع منظمات أخرى إقليمية غير حكومية في الشمال، بمثل مجلس وزراء بلدان الشمال الأوروبي والبعد الشمالي للشراكة البيئية (NDEP) التعاون الإقليمي.
وترى روسيا أن دورها القيادي في القطب الشمالي، سواء من جانب واحد أو بمشاركة أطراف عدة، وسيلة للمحافظة على عظمتها. وتؤكد العقيدة الروسية والخطاب السياسي الداخلي هذا الرأي. ولدى روسيا ثلاثة أهداف رئيسة في القطب الشمالي لتعزيز هذه المنزلة: 1- ضمان سيادة روسيا على منطقتها الاقتصادية الخاصة وجرفها القاري في المنطقة.
2- حماية مصالحها الاقتصادية في منطقتها القطبية.
3- إثبات أن روسيا تمتلك قدرات عسكرية متفوقة في المستوى العالمي([7]).
تمتد سياسة روسيا التوسعية الإقليمية المستحدثة إلى القطب الشمالي. في عام 2001 ادعت روسيا أنه بموجب قانون البحار يمتد الجرف القاري من شاطئها حتى القطب الشمالي، وهي خطوة تبعتها النرويج والدنمارك/ غرينلاندة، حيث تتداخل منطقة الأخيرة بمنطقة روسيا. وتريد روسيا أن توسع منطقتها الاقتصادية الخاصة البالغة 200 ميل بحري، والخاضعة حتى أعماق المحيط للسيادة الروسية المطلقة، حتى أبعد نقطة شمالية. تنتظر هذه الادعاءات جميعها النتائج من لجنة الأمم المتحدة المعنية بحدود الجرف القاري، وتحتاج عند نقطة معينة إلى التوصل إلى تسوية نهائية للتفاوضات بين أصحاب الادعاءات.
وتسعى روسيا جاهدة لإنشاء الطريق البحرية الرئيسة في القطب كذلك. تعدّ طريق بحر الشمال إلى روسيا -في الوقت الحاضر- الطريق الأكثر حيوية في المياه القطبية الشمالية، ومع مرور الوقت، ستجعله تغيرات المناخ، وكاسحات الجليد، وتحسينات الميناء أكثر سهولة للملاحة البحرية. وسوف تربط الطريق المنطقة الروسية القطبية الغنية بالطاقة بالمحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، ما قد يخلق ثالث أكبر ممر للطاقة في العالم. وأعطت روسيا في مجلس القطب الشمالي الأولوية لأمن الملاحة البحرية وسلامتها، والالتزام بالرموز القطبية التي وضعتها المنظمة البحرية الدولية، إلا أنه على الرغم من تلك الوعود المستقبلية كلها، فقد تباطأت خطط التنمية لطريق بحر الشمال بسبب الطقس غير المتوقع، وانخفاض الطلب العالمي على النفط، والعقوبات الغربية التي تحد الاستثمار في قطاع الطاقة، والتمويل، وتبادل التكنولوجيا مع روسيا.
تدعم استراتيجية الانتشار العسكري الروسية في القطب الشمالي ردعها النووي، وتساعد في عملياتها العسكرية على الصعيد الدولي. وتصف عقيدة روسيا العسكرية لعام 2015 كيف ستدافع روسيا عن جناحها الشمالي مع بنية قيادة برية وجوية ونووية وبحرية مشتركة. ويتمركز أسطول الشمال -الأكبر في روسيا- في القطب الشمالي وتعد طريقه إلى المحيط الأطلسي حرجة، وتعزز قدرات أسلحة الأسطول النووية التكتيكية والغواصات الاستراتيجية قوة الردع.
تربط المنطقة القطبية الغربية الروسية بحر البلطيق بشبه جزيرة كولا، حيث تتمركز قوات روسيةٌ وضعت مسبقًا للدفاع عن جناحها الشمالي ضد حلف الناتو.
القطب الشمالي وسيلة لتحقيق الأولويات الإقليمية الروسية
وفي حين يعمل القطب الشمالي على تعزيز عظمة روسيا، إلا أن روسيا ليست القوة الإقليمية المهيمنة، ولا يتضح من العقيدة أو الخطاب الروسي أنها ترغب في هذا الدور. وتعد دول القطب الشمالي كلها ومنطقة بحر بارنتس غنية ومتطورة للغاية، ولا تعتمد على روسيا في التجارة أو الأمن. وهناك دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي (الدانمارك وأيسلندا وفنلندا والسويد) وأعضاء حلف شمال الأطلسي (الولايات المتحدة وكندا والدانمارك وأيسلندا والنرويج). ومن ثَمَّ، فإن موقف روسيا هو واحد من قوى إقليمية عدة تعمل مع مختلف الجماعات الاقتصادية والأمنية.
تقدم منطقة بحر بارنتس حالة تستدعي الاهتمام ودرس العلاقات المعقدة بين الدول في مستويات عدة تتضمن التعاون والمنافسة في آن معًا. فمن جهة، تظهر روسيا براعتها العسكرية بانتهاكها المجالين الجوي والبحري، وإجراء تدريبات واسعة النطاق، وإعادة فتح القواعد السوفياتية، وإعادة انتشار القوات السابقة. وتختبر روسيا الحدود حول أرخبيل سفالبارد النرويجي، وتحتج على نشاط الناتو الذي تعدّه تهديدًا لها. ومن جهة أخرى، يؤكد المسؤولون الروس باستمرار ضرورة ألا يُسيّس التعاون في المنطقة، وإبقاء قنوات الاتصال رفيعة المستوى مفتوحة. وتحتاج روسيا إلى دعم بلدان الشمال من أجل الاستثمار والتمويل والتكنولوجيا لتعزيز إنتاج الطاقة الخاصة بها والتنمية الإقليمية.
يلتقي ممثلو منطقة بارنتس في المستويات كلها: في مستوى المجتمع المدني ومستوى دون الإقليمي والإقليمي وعلى نطاق الدولة. وتجتمع بقدرات حكومية وغير حكومية. وبما أن BECA المنظمة الإقليمية الرئيسة، فإن أهدافها تتمثل في تهيئة بيئة مواتية للتجارة والاستثمار، وتطوير روابط تكامل مستقرة، وتحديث البنية التحتية للحدود والجمارك، وإنشاء طرق جديدة للنقل. وقد ترأست روسيا الـ BECA مرتين، وكان آخرها بين عامي 2015 و2017، وأعطت الأولوية للقضايا البيئية والتنمية الاقتصادية الاجتماعية. وترأست روسيا أيضًا مجلس بارنتس الإقليمي. عادة ما يكون هذا التجمع في مستوى المحافظة هو الأكثر اهتمامًا بالروابط بين الشعوب، وتعزيز الثقافة والسياحة.
كان تمويل تلك المنظمات الإقليمية الضخمة والمتداخلة سخيًا للمشروعات في المنطقة القطبية الشمالية الغربية لروسيا. وقد أسهم التمويل الفردي من بلدان الشمال الأوروبي (بقيادة النرويج)، والتمويل المشترك بين روسيا والاتحاد الأوروبي والبلدان المشاركة، والاستفادة من أموال مؤسسات النقد الدولية؛ في تعزيز التنمية البيئية والاقتصادية في منطقة روسيا القطبية. غير أن فرض عقوبات دولية على روسيا بسبب أزمة أوكرانيا أدى إلى إبطاء التعاون الإقليمي لبارنتس. وقبل فرض العقوبات، تلقت روسيا تمويلًا لمجموعة متنوعة من مشروعات بارنتس من بنوك أوروبية عدة للتنمية والاستثمار. ومع ذلك، بعد عام 2014، توقفت المشروعات الكبريات للبنية التحتية، أو أُجِّلَت، وفشلت بعض المشروعات الصغرى في الحصول على التمويل اللازم من الحكومة الروسية. ويتعرض التعاون أيضًا لمزيد من الأذى بسبب وسم روسيا مؤخرًا مجموعات مختلفة بالعملاء الأجانب، بما في ذلك مجلس وزراء دول الشمال الأوروبي (النوردك) في سانت بطرسبرغ، وعدد من المجموعات المحلية والبيئية في منطقة بارنتس الروسية.
على الرغم من ذلك، تواصل روسيا إظهار استعدادها للعمل والتعاون مع الدول الأخرى، إذ قامت مؤخرًا بقيادة ثلاث فرق عمل في مجلس القطب الشمالي: واحد حول التلوث البحري بالنفط وإجراءات الوقاية، وقد نتج منه اتفاق ملزم؛ وآخر حول الأعمال التجارية أدى إلى إنشاء المجلس الاقتصادي في القطب الشمالي؛ والثالث حول التعاون العلمي مع الولايات المتحدة أدى أيضًا إلى اتفاق ملزم. من المهم أن هذه الاتفاقات كلها ستعزز المصالح الوطنية لروسيا من خلال تزايد دورها بوصفها لاعبًا إقليميًا مهمًا في القطب الشمالي.
العوامل التي تكوّن دور روسيا في القطب الشمالي
أولًا، لم تكن أفعال روسيا في القطب الشمالي مستقيمة ولا ثابتة. وكان المسؤولون الروس أكثر عدائية في مطلع العقد الأول من القرن الحالي، حيث المزاعم والمطالبات بحقوق إقليمية واختبارات الحدود. أعقب ذلك الجهد لتعزيز قدرة الحكومة الروسية على العمل داخل منظمات القطب الشمالي الدولية، والسعي لاتباع نهج أكثر تعاونًا مع جيرانها، وإبرام اتفاقات مع الولايات المتحدة والنرويج أدت إلى ترسيم الحدود. بعد عودة بوتين إلى الرئاسة، عادت القضايا الأمنية والعسكرية إلى مركز الصدارة. واليوم هناك جهد بقيادة الكرملين لتركيز قدراته على تنمية منطقته القطبية الشمالية، وذلك لجذب الاستثمار الأجنبي ودعم إسهامات شركات النفط والغاز المحلية للتنمية الإقليمية للتعويض عن محدودية الميزانية الاتحادية وتأثير العقوبات.
ثانيًا، غياب وضوح دور روسيا في القطب الشمالي يتأثر أكثر بالأولويات المختلفة للوكالات الحكومية في روسيا؛ المركزية والفرعية، وبين المجتمع المدني والحكومات الإقليمية. وقد تؤدي الحوارات الساخنة بين مختلف أصحاب المصالح الروسيين إلى تحولات في السياسة، وينتقد مناصرو البيئة العاملين في القطب الشمالي الصناعة واستثمارات الطاقة، ويطالبون بمزيد من التشريعات والضمانات. وبالمثل، وجب على خبراء القانون الروسيين أن يتعاملوا مع قطاع صناعة صيد الأسماك الذين اعترضوا على الحدود التي تفاوضت عليها وزارة الخارجية، وتحد مناطق صيدهم. وما زالت جماعات السكان الأصليين تكافح من أجل إسماع أصواتها بشأن قضايا التنمية المستدامة في حين تعطى الأولوية لإنتاج المعادن والهيدروكربونات.
ثالثًا، تواجه استراتيجية التعاون تحديات المواجهة المحتملة، ومن غير الواضح ما إذا كان مجال التعاون والسلام في المنطقة القطبية الشمالية -كما تصورها مجلس القطب الشمالي- ستظل قائمة. إن العقوبات المفروضة على روسيا نتيجة الأزمة الأوكرانية قد عرقلت بالفعل بعض جوانب التعاون. وقد أدى تأهب القوات العسكرية المتزايد نتيجة ارتفاع مستوى التهديد بين الدول جميعها إلى زيادة فرص نشوب نزاع داخل القطب الشمالي. وفي منطقة بارنتس، أدى تخفيض الميزانية الروسية المخصصة للتعاون، وتصنيف مجموعات تعاونية معينة بـ (عملاء أجانب) إلى حد كل من مستوى الاتصال الدولي ونوعيته.
رابعًا، يعاد تشكيل المنطقة القطبية الشمالية كاملها من خلال الضم البطيء والتدرجي لدول إقليمية أخرى، لها مصالح في تنمية الموارد الطبيعية في تلك المنطقة. ومن غير الواضح كيف سيؤثر النشاط المتزايد من الدول غير القطبية في المنطقة في التعاون الشامل. وبالفعل، موّلت الشركات الصينية الحكومية محطة يامال نينيتس للغاز الطبيعي المسال مع نوفاتيك الروسية على الرغم من العقوبات الغربية، واستفادت من طريق بحر الشمال، واستثمرت في التعدين في غرينلاندة، وأجرت عمليات تنقيب عن النفط والغاز في بحر أيسلندا. وسيؤثر الاهتمام المتزايد للدول الآسيوية الأخرى بمنطقة القطب الشمالي في روسيا في كل من الرقعة القطبية الشمالية والتعاون مع بارنتس.
الخلاصة: التوازن بين التعاون والمنافسة
في الوقت الراهن، تتصرف الحكومة الروسية وتتحدث بثقة كبيرة عن قدرتها على تحقيق التوازن بين التعاون والمنافسة في القطب الشمالي. ربما تكون المنطقة الوحيدة التي بقيت في العالم حيث يقف القادة الروسيون والغربيون على قدم المساواة، ويعدون بالالتزام بالاتفاقات الدولية في ترسيم الحدود، وإبرام اتفاقات ملزمة بشأن تدبيرات أمنية أكثر ليونة، وتشجيع تواصل الشعوب. ويجب أن تواصل دول القطب الشمالي تشجيع القيادة الروسية البناءة في مجالات من مثل السلامة والأمن البحري والتعاون العلمي. وقد تحصل روسيا على منزلة وسلطة جديدتين في البحر مع امتلاكها كاسحات الجليد، والموانئ القطبية الشمالية، وتطوير الهيدروكربون، وجاهزيتها لزيادة تفعيل طريق بحر الشمال. يمكننا توقّع أن نرى روسيا تواصل السعي لمصالحها في المنظمات العالمية مثل مجلس القطب الشمالي ومنظمات بحر بارنتس الإقليمية. وسيكون المحرك الرئيس للتطورات في القطب الشمالي كيف ستمرر روسيا (والدول الأخرى) نفسها عبر هذا الطيف المتنوع من القضايا.
وفي الوقت نفسه، فإن النهج التنافسي الروسي لتأمين مزيد من الأراضي والموارد، والاستعداد العسكري في القطب الشمالي؛ قد يخل بهذا النظام الدقيق للتعاون الإقليمي. وهناك احتمال أن تتنازع الدول القطبية الشمالية على الحدود الإقليمية، ولا سيما في القطب الشمالي وبحر بارنتس. ثم إن الاختلافات بين الدول القطبية الشمالية في الأهداف الإستراتيجية والرؤى في أماكن أخرى قد تمتد أيضًا إلى القطب الشمالي بحسب ما أظهرت الأزمة الأوكرانية. وفي هذه الحالة، ستتزايد كثيرًا أهمية تحقيق روسيا التوازنَ بين التعاون والمنافسة.
([1]) Mearsheimer, J. 2001. The Tragedy of Great Power Politics. W. W. Norton and Company.
([2]) Fawcett, L. 2003. “The Evolving Architecture of Regionalization,” in The United Nations and Regional Security ed. by Michael Pugh and Sidhu, 11-30.
([3]) Konyshev, V. and A. Sergunin. 2014. Is Russia a revisionist military power in the Arctic? Defense and Security Analysis, 1-13.
([4]) Laruelle, M. 2013. Russia’s Arctic Strategies and the Future of the Far North, M.E. Sharpe, Armonk, NY.
([5]) Gritsenko, D., and Tynkkynen, V. P. 2016. Arktinen Venäjän poliittisessa viestinnässä. Idäntutkimus, 23, 3-18.
([6]) Wilson Rowe, E. and Blakkisrud, H. 2014. “A New Kind of Arctic Power? Russia’s Policy Discourses and Diplomatic Practices in the Circumpolar North.” Geopolitics, 66-85.