عنوان المادة الأصلي باللغة الإنكليزية: | Samuel Huntington, a prophet for the Trump era |
اسم الكاتب | كارلوس لوزادا، Carlos Lozada |
مصدر المادة الأصلي | واشنطن بوست، Washington Post |
رابط المادة | https://www.washingtonpost.com/news/book-party/wp/2017/07/18/samuel-huntington-a-prophet-for-the-trump-era/?utm_term=.e25fdc3ec7aa |
تاريخ النشر | 18حزيران/ يونيو 2017 |
المترجم | أحمد عيشة |
تتوقع كتابات العالم السياسي الراحل في جامعة هارفارد؛ معارك أميركا السياسية والفكرية، وتشير إلى حال البلد التي قد نصل إليها.
روبرت كارتر لصحيفة واشنطن بوست: معتمدًا على صور من ستيف ليس /مجموعة صور الحياة/ صور جيتي (هنتنغتون) وأرون بيرنشتاين /رويترز (ترامب)
أحيانًا يصدق نبيٌّ في نبوءاته عما سيأتي، مع أنّه ممزق حول ما الذي سيكون.
الخطاب الذي ألقاه مؤخرًا الرئيس ترامب في وارسو، وحثَّ فيه الأوروبيين والأميركيين على الدفاع عن الحضارة الغربية ضد المتطرفين العنيفين وجحافل البرابرة؛ استحضر بالتأكيد (صدام الحضارات) لـ: صموئيل هنتنغتون، وفكرة أنَّ قوة عظمى منافسة من شأنها أنْ تفسح المجال لمعارك بين الكونية الغربية([1])، والتطرف الإسلامي والثقة الصينية.
في كتابه الشهير الذي يعود إلى عام 1993، وصف هنتنغتون الحضارات بأنّها المستوى الأوسع والأكثر أهميةً من الهوية، الحضارات التي تشمل الدين والقيم والثقافة والتاريخ. وكتب: «السؤال الأهم في عالم ما بعد الحرب الباردة سيكون “من أنت؟”، بدلًا من “إلى أي جانب تنتمي”؟».
لذلك عندما يدعو الرئيس دول أمم الغرب إلى أنْ «تستجمع الشجاعة، والإرادة للدفاع عن حضارتنا» وعندما يصرُّ على أنْ نقبل المهاجرين الذين «يشاركوننا قيمنا ويحبون شعبنا» فحسب، وعندما يحث الحلفاء عبر الأطلسي على «عدم نسيان من نحن»، ويتعلق بـ (أواصر التاريخ، والثقافة، والذاكرة)؛ أتخيل هنتنغتون -الذي وافته المنية في أواخر عام 2008، بعد حياةٍ مهنية طويلة في التدريس في جامعة هارفارد- يومئ برأسه من الخلف.
ربما ستكون إشارة تبرئة، ولكنها أساسًا إشارة إدراك أو اعتراف مظلم. خطاب ترامب الحضاري، هو صدى يتردد اليوم لخطاب هنتنغتون، وهو ليس الخطاب الأكثر إثارةً للاهتمام.
عمل هنتنغتون الذي يمتد من منتصف القرن العشرين إلى أوائل القرن الحادي والعشرين، يقرأ جدالًا طويلًا في معنى أميركا وهدفها، جدالًا يفسر التوتر في عصر ترامب، فضلًا عن أي شيء يمكن.
يؤرخ هنتنغتون ويتوقع معارك أميركا حول المسلمات التأسيسية، معارك فاقمها صعود ترامب. يتوقع هنتنغتون -وبصراحة اشتعال النار- صعود عدائية البيض ردًّا على المهاجرين من أصلٍ إسباني. يلتقط التنافر بين الطبقات العاملة والنخب، والقومية والكونية/ الكوسموبوليتانية التي استخدمت في حملة عام 2016. ويحذّر من أن الديماغوجيين الشعبويين أغروا الجماهير المغتربة، ومن ثم نكثوا بوعدهم.
هذه هي رئاسة ترامب، ولكن حتى أكثر من ذلك، إنها أميركا هنتنغتون. لربما يظن ترامب أنّه رجل عملي، بعيد عن أي تأثير فكري، لكنه هو عبدٌ لعالمٍ سياسي بائد (هنتنغتون).
تتحدث كتب هنتنغتون إلى بعضها بعضًا عبر العقود؛ إذ تجد أصول كتابٍ في الأسئلة غير المجاب عنها في كتابٍ آخر، لكنها تكشف أيضًا عن التناقضات العميقة. أكثر من صراع الحضارات، صراع الهتنغينونيين واضحٌ. ينظر أحدهم إلى الأميركيين، بوصفهم شعبًا استثنائيًا متحدًا، لا بالدم، ولكنْ بالعقيدة. ويتنكر كتابٌ آخر من هذه الفكرة لمصلحة أميركا التي تجد جوهرها في الإيمان، واللغة، والثقافة، والحدود. يرى هنتنغتون في أحد مؤلفاته مجموعاتٍ وهويات جديدة تدخل إلى الساحة السياسية بوصفها تنشيطًا للديمقراطية الأميركية. ويعدّ عملٌ آخر مثل تلك الهويات خبيثةً، ومناهضة للولايات المتحدة.
هذه الأعمال تجسد التحديات الفكرية والسياسية للولايات المتحدة في أثناء سنوات ترامب، وما بعدها. في كتابات هنتنغتون، تختلط الرؤى المثالية لأميركا بأحطِّ دوافعها، والدفاعات البليغة عن قيم الولايات المتحدة تكشف عن خوف من التعددية في قلب البلاد. أيّ رؤيةٍ تفوز، سوف تحدد حال البلاد التي نمضي إليها.
***
لفهم الفوضى التي نعيشها الآن، فإن كتب هنتنغتون المتعلقة بالموضوع، وليس المقصود هنا «صدام الحضارات، وإعادة صنع النظام العالمي» (1996)، أو حتى «من نحن؟ التحديات أمام هوية أميركا الوطنية» (2004)، إنما هو الكتاب الأقل شهرة الذي نُشر قبل 36 عامًا الذي استشرف المستقبل بصورة واضحة، والموسوم بـ: «السياسة الأميركية: وعد التنافر»، وهو الكتاب الذي شجعه -وما يزال- ريتشارد سبنسر الذي يعدّ نفسه الأنموذج الأمثل للقوميّ الأبيض.
في هذا العمل، يشير هنتنغتون إلى الفجوة بين قيم العقيدة الأميركية -الحرية، والمساواة، والفردية، والديمقراطية، والدستورية- وجهد الحكومة لترتقي إلى مستوى هذه القيم بوصفها التوتر الأساس في الحياة الأميركية. «في بعض الأحيان، هذا التنافر يكون كامنًا، وفي أوقاتٍ أخرى، عند شحذ العاطفة العقائدية عاليًا، يصبح واضحًا بوحشية، وفي مثل هذه الأوقات، فإنّ وعد السياسات الأميركية يصبح الصراع المركزي.»
سواء لدى مناقشة الرعاية الصحية والضرائب والهجرة، أم الحرب، يثير الأميركيون دائمًا القيم التأسيسية لتحدي المظالم المتخيلة. لا يمكن أنْ تكون الإصلاحات محض ضرورية أو معقولة؛ لا بد من حسابها، والدفاع عنها بمصطلحات العقيدة. وهذا هو السبب في أنّ معارضي ترامب يهاجمون سياساته، لا من خلال الإعلان بأنهم مخطئون فحسب، ولكن بأن «هذا ليس ما نحن عليه». وهذا ما وضحه هنتنغتون؛ «ينقسم الأميركيون بشدةٍ تقريبًا حول ما يجمعهم».
[نعم، ترامب هو شعبوي. ولكن ماذا يعني ذلك؟]
[Yes, Trump is a populist. But what does that mean?]
يبدو أنَّ الكتاب يعود إلى الحرب الثورية، إلى العصر الجاكسوني، العصر التقدمي، والستينيات في لحظات من زمن هيمنة عواطف عقائدية عالية، وتفسيرات هنتنغتون تعبر عن أميركا اليوم. في مثل هذه اللحظات، يكتب هنتنغتون أن الاستياء واسع النطاق، والسلطة، والخبرة موضع مساءلة؛ وتهيمن القيم التقليدية للحرية، والفردية، والمساواة، والرقابة الشعبية على الحكومة، على المناقشات العامة؛ وتتميز السياسات بالاستقطاب العالي، والاحتجاج المستمر؛ ويزداد العداء تجاه السلطة، والثروة وغياب المساواة بشدة. وتركّز الحركات الاجتماعية على قضايا من مثل حقوق المرأة، وازدهار العدالة الجنائية؛ وتظهر أشكالٌ جديدة من وسائل الإعلام مكرسة للمناصرة، وصحافة الخصومة([2]).
يتوقع هنتنغتون حتى توقيت حرب أميركا: «إذا سادت وتيرة الماضي»، ويكتب، «سوف تحدث مرحلة عاطفية عقائدية مستدامة في العقدين الثاني والثالث من القرن الحادي والعشرين».
نحن نسير على المخطط تمامًا.
هناك طبيعة دورية لعواطفنا، بحسب ما يزعم هنتنغتون. لا يمكن أنْ يدوم السخط طويلًا، لذلك سيحل بدلًا منه الشكّية الساخرة (cynicism)([3])، وهو اعتقاد بأنَّ الكل فاسدين، وعلينا أنْ نتعلم كيف نتقبل الفجوة بين المثل والواقع. (اليوم يمكن أن نسميه هنا مرحلة «لا تستحق السخرية/ مرحلة جدية». في نهاية المطاف، يتغلب النفاق على مقاليد الأمور، ونحن ننكر الفجوة تمامًا حتى الموجة المقبلة من المواعظ. في عصر ترامب، تتعايش الأخلاقية والشكية الساخرة والنفاق في آن معًا، لكنه ليس تعايشًا سلميًا.
العقيدة حاضرةٌ ليس لأنّها تولّد انقسامات أميركا وتطلعاتها، ولكن لأنها توفّر تعريفًا راقيًا احتياطيًا لما يعنيه أنْ يكون المرء أميركيًا. إنَّها ليست حول الهوية العرقية أو العقيدة الدينية، بحسب ما يكتب هنتنغتون، ولكن حول المعتقدات السياسية «نحن نتمسك بهذه الحقائق لتكون بدهية»، تبدأ الفقرة الثانية من إعلان الاستقلال، ويستخدم هنتنغتون الفقرة ليعرفّنا «من يتمسك بتلك الحقائق؟ الأميركيون يتمسكون بتلك الحقائق. من هم الأميركيون؟ هم الناس الذين ينتمون إلى تلك الحقائق. لا يمكن فصل الهوية الوطنية عن المبدأ السياسي».
في هذه الحكاية، يحتل الحلم الأميركي أهميةً لأنَّه لم يتحقق أبدًا، والتوفيق بين الحرية والمساواة لن يكتمل أبدًا. ومع ذلك، فإن كتاب (السياسة الأميركية) ليس كتابًا متشائمًا تمامًا. يكتب هنتنغتون في الفقرات النهائيات: «يقول النقاد إنَّ أميركا كذبةٌ لأنَّ حقيقتها متأخرة عن مثلها». ويضيف «إنهم على خطأ. أميركا ليست كذبةً؛ بل هي خيبةُ أمل. ولكن يمكن أن تكون خيبةَ أملٍ فقط، لأنها هي أيضًا أمل».
***
في مدى العقدين اللاحقين، فقد هنتنغتون الأمل. في كتابه الأخير (من نحن؟) يؤكّد أنَّ وجهات نظره لا تعكس كونه عالمًا فحسب، بل وطنيًا أيضًا، يراجع هنتنغتون تعريفاته لأميركا، وللأميركيين. في حين إنّ العقيدة كانت ذات مرة هي الأهم، هنا إنّها محض نتيجة ثانوية للثقافة البريطانية البروتستانتية -بلغتها الإنكليزية، وعقيدتها المسيحية، وأخلاقيات العمل، وقيم الفردية، والمخالفة- ويؤكد الآن أشكال الجوهر الحقيقي للهوية الأميركية.
إن تهديد ذلك الجوهر -بحسب ما يكتب هنتنغتون- هو أيديولوجية التعددية الثقافية؛ الموجات الجديدة من المهاجرين من أميركا اللاتينية، وبخاصة المكسيك الذين يظن هنتنغتون أنَّهم أقلُّ قدرةً على الاندماج من المهاجرين القدماء. والتهديد من اللغة الإسبانية الذي يتعامل معه هنتنغتون بوصفه مرضًا يصيب السلامة الثقافية، والسياسية للولايات المتحدة. «ليس هناك حلم أميركي»، كما يؤكّد «هناك الحلم الأميركي فحسب الذي أنشئ من المجتمع الأنجلوبروتستانتي، وسوف يشارك المكسيكيون الأميركيون في ذلك الحلم، وفي ذلك المجتمع فقط إنْ حلموا بالإنكليزية».
[من هو اللاتيني؟] [Who is Latino?]
كان هنتنغتون في عام 1981 -في ما يبدو- مخطئًا تمامًا، عندما صنف الأكاديميين- بصورة غير دقيقة، وهو التصنيف الذي ما يزال مصرًّا عليه- الذين عرّفوا الأميركيين بمعتقداتهم السياسية، يقتبس هنتنغتون من باحثٍ غير معروف وصف الأميركيين ذات مرة بأنّهم غير قادرين على الانفصال عن الحقائق البدهية للإعلان.
ما لم تتعرف إلى الانتقال من (السياسة الأميركية) أو تكلف نفسك عناء التحقق من الحواشي، فلن يكون لديك أيّ فكرة بأنه يقتبس من نفسه. إنّها أقرب إلى غمزة كما ستجد في كتاب هنتنغتون الأكثر توترًا.
إنَّ مبادئ العقيدة هي محض «علاماتٍ عن كيفية تنظيم المجتمع» وفق ما يقرّر هنتنغتون. وأضاف «إنّهم لا يعرفون مدى وحدود هذا المجتمع أو تكوينه» لذلك -فهو يؤكّد- أنت بحاجةٍ إلى عائلةٌ وثقافة؛ يجب أن تنتمي. يدعي أنّ المهاجرين من أميركا اللاتينية، وذريتهم لا ينتشرون في أنحاء البلاد جميعها على أكمل وجه مثل المهاجرين القدماء، ويقلق من أنهم يسعون لاستحقاقات الرعاية الاجتماعية فحسب، ويحذّر من أنّهم سوف يخلفون وراءهم فرصًا أقل للعمال الأصليين. يتاجر هنتنغتون أيضًا بالصور النمطية، حتى يستشهد بـ (متلازمة الصباح) mañana syndrome. المكسيكية.
ربما المكسيكيون كسالى بغض النظر عن أنهم يأخذون فرص عمل الجميع.
أنا لا أعرف لماذا غيّرَ هنتنغتون رؤيته، ربما شعر أنّ تجريدات العقيدة لم تعد قادرة على الصمود في وجه جلبة تعدّد أميركا، أو ربما إنَّ خلط سعة المعرفة والوطنية ألحق ضررًا بالاثنتين على حدٍّ سواء. وفي الحالتين كلتيهما، فإنَّ أيّ شخصٍ يدافع عن جدران الحدود، وقوات الترحيل سيجد كثيرًا مما يشبهه في مثل هذا التجسد الجديد، لأنّ هنتنغتون يصف التهديد الإسباني بمجازيةٍ عسكرية. «الهجرة المكسيكية تقود نحو إعادة احتلال ديموغرافي لمناطق احتلها الأميركيون من المكسيك بالقوة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن التاسع عشر»، ويشير إلى أنَّ الولايات المتحدة تشهد «غزوًا ديمغرافيًا غير قانوني».
يلقي هنتنغتون باللوم على السياسيين المطواعين الرخوين، والنخب الفكرية التي تدعم التنوع بوصفه قيمة أميركية أصلية جديدة إلى حدٍّ كبير بسبب شعورهم بالذنب المضلَّل تجاه ضحايا الاضطهاد المزعوم، حتى إنهم يشجعون التعددية الثقافية مقابل الهوية الأميركية التقليدية، بحسب ما يقول، ويتبنون التجارة الحرة والحدود التي يسهل اختراقها على الرغم من أولويات الجمهور الحمائية. إنها معاينة خارقة وغير طبيعية لمعارك عام 2016. إنَّ شجب التعددية الثقافية على أنها (حضارةٌ مناهضة لأوروبا) في دعوة هنتنغتون إلى قوميةٍ متجددة ومكرسة لحفظ «تلك الصفات التي عرفَّتْ أميركا منذ تأسيسها»، وتعزيزها.
ولا عجب إذًا أنه قبل وقتٍ طويل من تثقيف ترامب اليمين البديل، وتنديد هيلاري كلينتون بهذا اليمين، إذ وصفت المنتمين إليه بـ: (البائسين) في وسطنا، توقع هنتنغتون ردَّ فعلٍ عنيف ضد التعددية الثقافية من طرف الأميركيين البيض. ويكتب: «أحد ردات الفعل المعقولة جدًا ستكون ظهور حركاتٍ اجتماعية سياسية إقصائية»، ويضيف: تتألف إلى حدٍّ كبير -ولكن ليس فقط- من الذكور البيض، في المقام الأول من الطبقة العاملة، والطبقة الوسطى احتجاجًا، ومحاولةً لإيقاف تلك التغييرات أو عكسها، وما يظنون- محقين أم لا- بأنه الانتقاص من وضعهم الاجتماعي والاقتصادي، وفقدهم فرص العمل لمصلحة المهاجرين والدول الأجنبية، وتشويه ثقافتهم، واستبدال لغتهم أو إزاحتها، وتآكل الهوية التاريخية لبلدهم أو حتى تبخرها.
إنَّ مثل هذه الحركات ستكون ذات إلهامٍ عرقي وثقافي، ويمكن أنْ تكون مضادةً للمهاجرين من دول أميركا اللاتينية (الأميركيين من أصل إسباني)، وضد السود، وضد الهجرة.
«العناصر الأكثر تطرفًا في هذه الحركات، كما يلاحظ هنتنغتون، هي الخوف من استبدال ثقافات سوداء أو بنيّة اللون التي هي من وجهة نظرهم، متدنية فكريًا وأخلاقيًا بالثقافة البيضاء التي جعلت أميركا بلدًا عظيمًا».
نعم، حذّر هنتنغتون في عام 2004 من مدٍّ عنصري متركزٍ على حماية ما يجعل أميركا عظيمة.
***
بعد تعريف جوهر الهوية الأميركية، يربط هنتنغتون ظهورها المستمر بالحرب.
«إنَّ الثورة ولّدت الشعب الأميركي، وولّدت الحرب الأهلية الأميركية، والحرب العالمية الثانية هي وحي تعريف الأميركيين بوطنهم»، بحسب ما يكتب في (من نحن؟).
ولدت من حيث المبدأ الهوية الأميركية المستمرة بقوة. عندما انحسر التهديد السوفياتي، احتاجت الولايات المتحدة إلى عدوٍ جديد، وفي (يوم 11 أيلول/ سبتمبر 2001) أعلن هنتنغتون «أنهى أسامة بن لادن بحث أميركا عن عدوٍ».
هذا هو الصراع الذي توقّعه منذ مدةٍ طويلة. في كتابه 1996 معلنًا صراع الحضارات، كتب: إنَّ الغرب سوف يستمر في انحداره ببطءٍ بالنسبة إلى آسيا والعالم الإسلامي. في حين إن الديناميكية الاقتصادية تسهم في صعود آسيا، والنمو السكاني في الدول الإسلامية «يوفر المجندين للأصولية والإرهاب والتمرد، والهجرة». ويسخر ترامب كثيرًا من السياسيين الذين يرفضون شجب (الإرهاب الإسلامي المتطرف)، ينتقد هنتنغتون القادة الأميركيين من مثل بيل كلينتون الذي زعم أنَّ الغرب ليس لديه خلافٌ مع الإسلام، وإنما مع المتطرفين الذين يمارسون العنف فحسب. إذ يصرّح أنَّ: «أربعة عشر قرنًا من التاريخ تثبت غير ذلك».
صُوِّر صدام هنتنغتون دعوة عازمة لحمل السلاح ضد المسلمين، وبالتأكيد، ليس الجدال بهذه البساطة، ولا بهذا الضيق. هو ربما أكثر قلقًا من الصين، ويخشى من (حرب كبرى) إذا تحدّت واشنطن صعود بجين بوصفها القوة المهيمنة في آسيا. ومع أنّ التهديد الذي يراه هنتنغتون من العالم الإسلامي يذهب إلى ما هو أبعد من الإرهاب أو التطرف الديني. يقلق من عودةٍ إسلامية أوسع، من الإسلام السياسي بوصفه جزءًا واحدًا فقط من (إحياء أوسع كثيرًا للأفكار الإسلامية، والممارسات، والخطابة، ومن تجديد الولاء للإسلام من السكان المسلمين».
يستشهد هنتنغتون بالعلماء الذين حذّروا من انتشار مفهومات الشريعة الإسلامية في الغرب، ويشجب «الطبيعة غير المتسامحة للثقافة الإسلامية» مع الديمقراطية، ويقترح أنَّ الإسلام سيسود في لعبة الأرقام ضد المسيحية. وفي المدى الطويل (سيفوز محمد) كما يقول. «المسيحية تنتشر أساسًا بالهداية، بينما الإسلام بالهداية والتكاثر».
[لماذا أميركا عنيفة/ بشعة في جعل العالم مكانًا أفضل]
[Why America is terrible at making the world a better place]
تستحضر الرؤية خطاب المحصلة الصفرية([4]) لكبير مستشاري ترامب السياسيين ستيفن بانون الذي كان قوةً دافعة وراء حظر السفر الذي أصدرته الإدارة، واستهدف البلدان ذات الأغلبية المسلمة، ولمستشار الأمن القومي السابق مايكل فلين الذي ألف كتابًا في عام 2016 يُبشر بنزاع الولايات المتحدة متعدد الأجيال ضد (حضارة الإسلام الفاشلة). هنتنغتون -على الأقل- لديه ميزة النظر إلى جانبي الصدام.
«إنَّ المشكلة الرئيسة بالنسبة إلى الغرب ليست الأصولية الإسلامية»، وفق ما يكتب. «إنه الإسلام، بوصفه حضارة مختلفة، إذ إن الناس مقتنعون بتفوق ثقافتهم، ومهووسون بدونية قوتهم. إنَّ المشكلة بالنسبة إلى الإسلام ليست وكالة الاستخبارات المركزية أو وزارة الدفاع. إنّها الغرب، كحضارةٍ مختلفة، شعبها مقتنعٌ بعالمية ثقافته ويؤمن بأفضليته/ تفوقه، إذا تراجعوا، تفرض القوة/ السلطة عليهم الالتزام بتوسيع تلك الثقافة في أنحاء العالم جميعها».
وهو لا يعدّ القيم الغربية قيمًا عالمية، فهي لنا وحدنا.
***
في حين يتوقع هنتنغتون أنَّ أميركا ستفسد من خلال الشك الذاتي، والقومية البيضاء، والعداء ضد الإسلام، لكنه لا يتوقع صعود زعيمٍ يشبه ترامب في الولايات المتحدة.
ولكنه كان قد تعرَّف إلى النموذج.
لنتمعن في أوائل كتبه؛ في (النظام السياسي في مجتمعات متغيرة) (1968)، يتفحص هنتنغتون كيف كافحت أميركا اللاتينية ودول أفريقيا وآسيا في معمعة التحديث الاقتصادي لتكييف سياساتها، ودمج مجموعاتٍ جديدة بمطالب جديدة. ويوضح هنتنغتون أن النتيجة لم تكن تنميةً سياسية، ولكن (انحطاطًا سياسيّا).
وأي نوع من السلطات يجسد هذا الانحطاط؟ عبر العالم النامي، رأى هنتنغتون «هيمنة القادة الشخصانية غير المستقرة»، وحكوماتهم تعج بـ «الفساد الصارخ. . . والتعدي التعسفي على الحقوق وحريات المواطنين، والمعايير المنخفضة لأداء البيروقراطية وكفايتها، والاغتراب السائد للجماعات السياسية الحضرية، وفقد السلطة من الهيئات التشريعية والمحاكم، وتفتيت الأحزاب السياسية القائمة، والتفكك الكامل لها على نطاقٍ واسع أحيانًا».
هؤلاء الثوريون المدّعون ينتعشون بالانقسام. «إنّ هدف الثوري هو أن يزيد تباين السياسة»، كما يشرح هنتنغتون، «ومن ثم يحاول أن يبسّط القضايا السياسية، ويبالغ فيها، ويدمجها في وحدة ثنائية واضحة المعالم». إنّ مثل هؤلاء القادة يجذبون الناخبين في المناطق الريفية الجديدة عبر (المناشدات العرقية والدينية)، فضلًا عن الحجج الاقتصادية، إلا أنَّهم سرعان ما يخونون تطلعاتهم.
«لربما يظهر غوغائي شعبوي» -بحسب تعبير هنتنغتون- «ينشئ أتباعًا على نطاقٍ واسع، ولكنه سيئ التنظيم، ويهدد المصالح الراسخة للأغنياء والأرستقراطيين، ويُنتخَب لمنصبٍ سياسي، ومن ثم يُشترى من المصالح ذاتها التي كان قد هاجمها. «وتشمل هذه المصالح مصالح هؤلاء الأقارب القادة، كما يفسر، لأنه بالنسبة إليهم لا يوجد تمييزٌ بين الالتزامات تجاه الدولة والواجب تجاه الأسرة».
كتاب هنتنغتون (الجندي والدولة) (1957)، وهو دراسة العلاقات المدنية-العسكرية، مفيدٌ في معايير المصلحة لهؤلاء القادة، وخصوصًا عندما يقارن المؤلف الأهلية المهنية لضباط الجيش بجبرية الزعماء الفاشيين. «تؤكد الفاشية القوة العليا، وقدرة القائد، والواجب المطلق بالخضوع لإرادته» بحسب ما كتب هنتنغتون. الفاشية هي بدهية، مع «حاجةٍ إلى معرفةٍ منظمة، وعملية وواقعية تجريبية أو استخدام قليل لها يحتفل بانتصار الإرادة على المعوقات الخارجية».
[كيف يتعامل دونالد ترامب مع الطغاة الخياليين في الأدب الأميركي؟]
[How does Donald Trump stack up against American literature’s fictional dictators?]
تأخذ مثل هذه العقبات شكل الاحتجاجات الشعبية ضد قادةٍ لا يحظون بشعبية. اليوم، يجد بعض الكتاب عزاءً في اضطراباتنا الوطنية، بحجة أنَّ النشاط والطاقة اللذين أحدثتهما انتخابات ترامب ستعززان ديمقراطية الولايات المتحدة. ولكن في كتابٍ بعنوان (أزمة الديمقراطية) (1975)، يتفحص هنتنغتون لحظة تمرد أهلي مماثل، ونتائج هذا التمرد غير مشجَعة.
«شهدت الستينيات تجديدًا دراماتيكيًا للروح الديمقراطية في أميركا» وبحسب ما كتب هنتنغتون، لم تُرفض سياسات الهوية، وقال مثنيًا عليها «المستويات العليا للوعي الذاتي بصورة ملحوظة»، والتعبئة من جانب الأميركيين الأفارقة واللاتينيين والطلاب والنساء في تلك الحقبة، مشيرًا إلى أنَّ «روح المساواة [و] الدافع لفضح تصحيح المظالم كانت واسعة النطاق في الأرض» المشكلة -مثلما يشرح- هي أنَّ النظام السياسي أصبح أيضًا عبئًا، نتيجة غياب الثقة الشعبية التي يستحقها من المؤسسات الأميركية. «إن حيوية الديمقراطية في الستينيات»، كما يكتب، «أثارت تساؤلاتٍ حول استقرار الحكم الديمقراطيّ في السبعينيات».
انشغلت الأسئلة الكبرى بالمنصب الأعلى. «ربما لا تنمية الستينيات والسبعينيات لديها قدرٌ أكبر من الأهمية بالنسبة إلى مستقبل السياسة الأميركية أكثر من الانحدار في السلطة، والمنزلة، والنفوذ، وفاعلية الرئاسة» بحسب ما يكتب هنتنغتون.
يخشى أنَّ إدارةً فقدت شرعيتها لا تهدد التماسك الوطني فحسب، وإنّما الأمن الوطني. وأضاف «إذا لم يثق المواطنون الأميركيون بحكومتهم، لماذا ينبغي للأجانب أن يكونوا ودودين؟ إذا تحدى المواطنون الأميركيون سلطة الحكومة الأميركية، لماذا لا ينبغي على الحكومات غير الودية ألا تتحداها».
كان هنتنغتون يكتب في عقب فضيحة ووترغيت، والآن يواجه البيت الأبيض الحالي أزمته الخاصة بالصدقية. ترامب، مهووسٌ جدًا بفوزه الانتخابي الذي رسم خريطةً مؤطرة لنتائج 2016 مؤخرًا في البيت الأبيض، وتتطلب منه أنْ يستجيب لتحذيراتٍ حول استمرارية الحكم.
(فور انتخابه رئيسًا)، يكتب هنتنغتون، «التحالف الانتخابي للرئيس، بمعنى من المعاني، أدى غرضه. وفي اليوم التالي لانتخابه بدا أن الأكثرية التي انتخبته غير مرتبطةٍ بقدرته على حكم البلاد…. ما يهم في ما بعد هو قدرته على حشد الدعم من قادة المؤسسات الرئيسة في المجتمع والحكومة».
***
إنّه شعور غريب يعتري من يكتب عن ترامب بوصفه شخصية هنتنغتونية. فمن جانب هو غرائزي ومعادٍ للثقافة؛ ومن الجانب الآخر هو نظري ومتأنٍ. من جهة يتواصل عبر اندفاعات غير واضحة؛ ومن جهة أخرى يكتب كتبًا ستظل شهاداتٍ خالدة. أتخيل هنتنغتون بأنه سيكون قلقًا حول زعيمٍ غير مبالٍ حتى تجاه اعتداء قوة أجنبية على نظام الولايات الانتخابي، وشخصًا يعرض القليل جدًا من أخلاقيات العمل، وتقديس حكم القانون الذي يحظى بإعجاب هنتنغتون.
ما يجعل الأستاذ (هنتنغتون) نبيًا في زماننا ليس أنَّ رؤيته تنعكس جزئيًا في رسالة ترامب ومناشدته فحسب، لكن لأنه يفهم جيدًا خطر هذا النمط من ممارسات ترامب السياسة.
ونقطة تلاقيهما (ترامب وهنتغنتون) -في ظني- هو في حنينهما، ووجهتي نظرهما الضيقة للتميز الأميركي. هنتنغتون مثل ترامب، أراد لأميركا أنْ تكون عظيمة، وتاق منذ مدةٍ طويلة إلى استعادة القيم، والهوية التي كان يظن أنها لم تجعل البلاد عظيمة فحسب، بل دولةً متميزة. ومع ذلك، إذا استلزم هذا الطريق الانغلاق، وتشويه صورة القادمين الجدد، وطالبي الولاء الثقافي، عندها يُطرح السؤال: كم نحن مختلفون، حقًا، عن الآخرين في أيّ مكانٍ آخر؟ المصيبة الرئيسة في عصر ترامب هي أنّه بدلًا من أنْ نصبح أمةً عظيمة، تصبح أميركا عادية، بمعنى أنها غير استثنائية.
وهذا ليس صراع الحضارات، إنه تحطيم الحضارة.
المصادر والمراجع
- هنتنغتون. صموئيل، الجندي والدولة: النظرية والسياسة، للعلاقات المدنية-العسكرية، (منشورات بلكناب، 1957).
- النظام السياسي في مجتمعات متغيرة. (مطبعة جامعة ييل، 1968).
- هنتنغتون. صموئيل، ومايكل كروزير، وجوجي وأتانوكي، أزمة الديمقراطية: تقرير حول استمرارية حكم البلدان الديمقراطية إلى اللجنة الثلاثية، (مطبعة جامعة نيويورك، 1975).
- هنتنغتون. صموئيل، السياسة الأميركية: وعد التنافر، (منشورات بلكناب،1981).
- هنتنغتون. صموئيل، وسايمون وشوستر، صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي، (1996).
- من نحن؟ والتحديات التي تواجه هوية أميركا الوطنية، (2004).
([1]) الكونية الغربية (Western universalism) وهي مجموعة القيم الغربية المتعلقة بالثقافة والتاريخ الغربيين مثل الليبرالية والتقدم وغيره، وهي التي أسست لمركزية الغرب، والتعامل مع البقية بوصفه (آخر) مختلفًا عن الغرب/أوروبا.
([2]) صحافة الخصومة (adversarial journalism) وهي الصحافة التي تبحث في تحقيقاتها واستقصاءاتها عن أسباب تثير العداء أو الكراهية تجاه شخص أو جماعة.
([3]) الشكية الساخرة (Cynicism): وهي مذهب يدعي بأن المصلحة الذاتية هي محرك أفعال البشر، ومؤسس لغياب الثقة بدوافعهم، ويدعو إلى التعامل مع الناس وتصرفاتهم بشك وسخرية.
([4]) خطاب المحصلة الصفري (Zero-Sum) وهو خطاب من دون نتائج، حيث يكون فيه مجموع الأرباح معادلًا مجموع الخسائر.