عنوان المادة الأصلي باللغة الإنكليزية: | ISIS: A catastrophe for Sunnis |
اسم الكاتب | ليز سلاي |
مصدر المادة الأصلي | واشنطن بوست، The Washington Post |
رابط المادة | http://www.washingtonpost.com/sf/world/2016/11/23/isis-a-catastrophe-for-sunnis/ |
تاريخ النشر | 23 تشرين الثاني/ نوفمبر2016 |
المترجم | أحمد عيشة |
جدول المحتويات
النجاح طريق طويل وعلينا أن نقطعه
عانى كثيرون في ظل الدولة الإسلامية، إلا أن البؤس الذي لحق بالسنة سيبقى مدويًا لأجيال.
سحقت الدولة الإسلامية، ومقاتلوها في تراجع، والخلافة التي سعت لبنائها في صورةِ مجدٍ ماضٍ تنهار. أكبر الخاسرين، على أي حالٍ، ليس المسلحون الذين سيحققون أحلامهم بالموت أو بالغوص في الصحراء لإعادة تنظيم صفوفهم؛ هم أكبر الخاسرين، ولكن الملايين من السنة العاديين الذين تدمّرت حياتهم بسبب تصرفهم الأهوج المدمر والقاتل.
لم تبقَ أيُّ مجموعة دينية أو عرقية سالمةً من اجتياح الدولة الإسلامية للعراق وسورية، فالشيعة والأكراد والمسيحيون والأقلية اليزيدية الصغيرة كانوا كلهم ضحايا حملةٍ من الفظائع، وهم الآن يقاتلون ويموتون في المعارك لهزيمة مقاتلي الدولة الإسلامية. ولكن الغالبية العظمى من الأراضي التي سيطرت عليها الدولة الإسلامية كان يسكنها تاريخيًا العرب السنة، وهم أتباعُ فرعٍ من الإسلام تدّعي الجماعة أنَّها تدافع عنه، ويدعي المقاتلون أنهم يمثلون مصالحهم. الأغلبية العظمى من العراقيين الذين يبلغون 4.2 مليون مواطن، والذين نزحوا من ديارهم بسبب الحرب على الدولة الإسلامية هم من السُّنّة. وبينما بدأت الهجمات لاستعادة الموصل كبرى مدن العراق السنية، والرقة عاصمة الجماعة التي نصَّبت نفسها في سورية؛ تهدم معظم المدن والقرى السنية وتدمر، إضافة إلى تدمير أكثر سُبل العيش للسنة.
لم يلعب السنة معظمهم أيّ دورٍ في صعود المتشددين، لكن جميعهم يدفع ثمنًا باهظًا من أجل أولئك الذين فعلوا: تسريع وتعميق انقلاب في ثروات طائفة الأغلبية في الإسلام التي حكمت المنطقة لأكثر من 1400 سنة ماضية.
((كانت الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) العاصفة التي اجتاحت السنة))، كما قال الشيخ غازي محمد حمود، وهو زعيمٌ قبليّ سنّي من بلدة ربيعة، في شمال غربي العراق، التي اجتاحتها سريعًا الدولة الإسلامية في عام 2014، وهي الآن تحت السيطرة الكردية، وأكمل قائلًا: ((لقد خسرنا كلَّ شيء، خسرنا بيوتَنا وأعمالَنا وحياتَنا)).
عبرَ الحدود مع سورية، حيث تتشابك الحرب ضدّ الدولة الإسلامية مع الصراع المعقد بين المتمرّدين وحكومة الرئيس بشار الأسد؛ يتحمّل السُّنّة العبء الأكبر من العنف والتفكّك أيضًا. ويجري تسويةَ -(الهدم حتى مستوى الأرض)- المُدن والأحياء السُّنّية من جانب الغارات الجوية السوريّة والروسيّة، حيث تعتمد محاولة سحق التمرّد ذي الأغلبية السنّية كثيرًا على المقاتلين الشيعة من إيران ولبنان والعراق، بينما يشكَّل السنَّة الغالبية العظمى من خمسة ملايين لاجئٍ منتشرين في أنحاء المنطقة جميعها وأوروبا، وفقًا للأمم المتحدة وحكومات الدول التي تستضيفهم.
ويقول المحللون والعراقيين، إنَّ المخاطر واضحة؛ السنة هم عرضةٌ لخطر أن يصبحوا الطبقة الدنيا المحرومة والمستاءة في الأراضي التي كانوا يحكموها ذات يوم، مما يخلق أجواءً خصبةً لتكرار دوامة التهميش والتطرف التي أدت إلى صعود الدولة الإسلامية في المقام الأول. ((إنها ليست محض استيلاء على أراضٍ. عليك أن تحكمها بشكلٍ صحيح ومناسب، وإلا فنحن ذاهبون إلى تمردٍ للدولة الإسلامية طويل المدى))، كما قال روبرت فورد، سفير الولايات المتحدة السابق في سورية الذي يعمل حاليًا في معهد الشرق الأوسط ومقره واشنطن. ((إذا لم يكن للحكام الجدد دعم محليّ، فإنَّ الدولة الإسلامية ستكون دائمًا قادرة على تجنيد الناس، وخاصةً إذا لم تجرِ إعادة المياه ولم تُفتح المدارس وبقيت الكهرباء مقطوعة)).
ويقول عمال الإغاثة والدبلوماسيّون إنَّ ذلك هو السيناريو الأسوأ الذي لن يمر بالضرورة إذا انتهت الحرب في إعادة الإعمار وإعادة التأهيل والمصالحة.
في العراق، حيث تحققت أكبر المكاسب ضد المسلحين، فالمستقبل المرتقب الذي يمكن أن يهزمهم، يُبشر بلحظةِ أملٍ وفرصةٍ للسنّة، بقدر ما للشيعة والأكراد الذين يقودون المعركة فرصة لبدء علاقاتٍ جديدة، وإيجاد تكيَّفٍ جديد مع الجيران. طبيعة التكيف هي موضعُ سؤالٍ، على أيّ حال، العقبات هائلةٌ والموارد شحيحةٌ وآفاق المصالحة الحقيقية ما تزال بعيدةَ المنال.
إن رحلة في عددٍ من البلدات والقرى في العراق التي تم تحريرها من سيطرة الدولة الإسلامية -تحرّر معظمها قبل أكثر من عام- تكشف عن الحجم المهول من التحدي. من الحدود السورية في الغرب إلى الحدود الإيرانية في الشرق، ثمة قرىً مدمرةٌ، وبلداتٍ نصف خاوية، وأشخاصٌ تدمرت حياتهم وربما تمزقت إلى غيرِ رجعةٍ.
تخضع المدن ذات الأغلبية السنية والقرى المستعادة من الدولة الإسلامية الآن لسيطرة المجموعات التي حررتهما. في ربيعة بالقرب من الحدود السورية، بحسب أحد وجهاء قبيلة شمر يشغل موقعًا متميزًا، وعباب الدخان في الخلفية.
جنود البيشمركة الكردية يسيطرون على نقطة تفتيش في ربيعة. القريبة من بلدة البشير.
عضو في ميليشيا شيعية يصعد إلى شاحنة صغيرة بعد أن استعيدت المدينة من المسلحين.
الحكام الجدد، التحديات جديدة
على الرغم من أنَّ الأراضي التي استولت عليها الدولة الإسلامية تقطنها أغلبيةٌ سنية، لكن المقاتلين الذين استعادوها هم بأغلبيةٍ ساحقة من الشيعة أو الأكراد، ففي بعض الأماكن، يبقى المحررون من دون علاقة سابقة مع المجتمعات التي حرّروها بعد أن ربحوا في المعارك، وملؤوا الفراغ الأمني، محترسين من عودة المسلحين، ويعيدون رسم الخريطة في طرق يمكن أن تطلق العنان للنزاعات المستقبلية على الأرض والسلطة والسياسة.
إحدى هذه الأمكنة هي ربيعة، وهي بلدةٌ سنّية على الحدود السورية التي استولت عليها الدولة الإسلامية في أغسطس 2014، واستعيدت بعد شهرين من جانب وحدات البيشمركة الكردية، مدينة حكمتها ذات يوم الحكومة المركزية في بغداد، وهي الآن تُدار من المنطقة شبه المستقلة لكردستان.
بعد مرور سنتين، كان السكان السُّنّة مرتاحون على الأغلب لأنهم آمنون، ولأنهم في منأى عن المعارك الطويلة التي وقعت في أماكن مثل الفلوجة والرمادي، حيث سُوِّيت بالأرض أحياء بكاملها. وقد شكَّل الشبان من أكبر قبيلة محلية، شمر، ميليشيا تساعد القوات الكردية في السيطرة على البلدة، ورفعوا العلم الكردي الذي تسطع منه الشمس في نقاط تفتيشهم. ((عندما كنا مُحتلين من جانب الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، ساعدنا الأكراد، لذلك يتوجب علينا الآن أن نقف معهم لسداد تضحياتهم))، بحسب قول محمد خضير، قائد كتيبة شمر.
العلاقة بين السكان وحكامهم الجدد هي محفوفةٌ بالريبة والشك، حيث تطلب السلطات الكردية من كلَّ مقيمٍ الحصول على إذنٍ قبل السفر داخل المدينة أو خارجها، وهو عبءٌ ثقيل بالنسبة إلى الأشخاص الذين ازدادوا ثراء من التجارة مع سورية المجاورة قبل الحرب، حيث يشكو عدد من السكان المحليين ذلك. وقال النقيب محمد صادق سيد، القائد المحلي لقوات للأسايش، قوات الأمن الكردية، إن المطلبُ ضروريٌ، وذلك لأنه يُنظر إلى كثير من السكان على أنهم متعاطفون مع الدولة الإسلامية؛ ((لدينا قائمةٌ كبيرة من الناس المشبوهين، نحن نعرفُ من هم، ونحن نراقبهم)).
مُنع عشرات الآلاف من الناس الذين يعيشون في القرى المجاورة من العودة إلى ديارهم، وهذه القرى معظمها لم تعد موجودةً على أيّ حال. أنقاض المباني المنهارة منتشرة على طول الطرق شمال وجنوب ربيعة، ومُراقبة من نقاط تفتيش البيشمركة. لربما أننا تسببنا في بعض الدمار، ولكن تجانس الضرر يشير إلى التخريب أيضا.
في إحدى القرى، كازوخا، على الطريق الممتدة جنوبا نحو منطقة سنجار اليزيدية، رافق ثلاثة من مقاتلي البيشمركة، الصحفيين من جريدة واشنطن بوست في رحلة حول المنازل المهجورة. وعزَوا استخدام مادة تي إن تي والجرافات لضمان ألّا يبقى شيء من القرية يُمكن أن يكون صالحًا للسكن مرةً أخرى، من خلال استخدام ما يكفي من المتفجرات التي تؤدي إلى انهيار سطح كل مبنى. ينتمي السكان إلى قبيلةٍ تدعمُ الدولة الإسلامية، ولن يُسمح لهم بالعودة أبدًا. كما قال النقيب عزيز الحاج خلف، وهو يزيدي يرأس قوات الأسايش في بلدة سنوني القريبة، حيث كان يعيش فيها عربٌ وأفرادٌ من الأقلية اليزيدية.
قرية كازوخا، العربية السنية قد دُمرت تماما.
وأضاف: ((إنهم لن يجرؤوا حتى على العودة))، مستخدما الاختصار العربي للدولة الإسلامية: ((كانوا كلهم مع داعش، وشاركوا في مجازر اليزيدين، ولهذا السبب، فإننا لا نستطيع أن نعيش مع العرب مرةً أخرى)).
دعمَ كثيرٌ من السنة في المنطقة في الواقع الدولةَ الإسلامية، على الأقل في البداية، بديلًا مرحّبًا به من قمع وتمييز الحكومة المركزية في بغداد، اعترف حمود، الزعيم القبلي في ربيعة.
وأضاف: ((لو لم يكن دعمٌ هنا، لما بقوا على قيد الحياة ساعةً واحدة. كان السُّنّة سعداءَ جدًا في البداية. إنهم لا يعرفون من كانوا، ورحبوا بهم بوصفهم منقذين، الآن نحن نعدهم كارثةً)).
يعيش لؤي راشد وزوجته أمل صالح، وأطفالهم الثمانية في مقطورة خارج طوز خورماتو بعد أن أُجبروا على الفرار من منزلهم في قرية سلمان بيك السنية.
يقولون السُّنّة كلهم داعش
يستمر طوقُ البلدات والقرى المدمرة لمئات الأميال على طول الحدود المتعرّجة لسيطرة الدولة الإسلامية التي تنكمش. يمكن أن يتخيل المرء إلى أين ذهب الناس الذين عاشوا يومًا في هذه الأماكن المُفرغة جميعهم. سيكون بعضهم قد هرب تزامنًا مع انسحاب مقاتلي الدولة الإسلامية، وهم من بين مليونين أو ثلاثة ملايين من الناس الذين ترجح الأمم المتحدة والحكومة العراقية أنهم ما يزالون يعيشون تحت سيطرة الدولة الإسلامية، بما في ذلك في مدينة الموصل. ربما مات بعضهم في القتال والغارات الجوية، ولكن الأمم المتحدة وهيئات الكوارث الحكومية المتابعة لشؤون العراق لا تشمل الذين قُتلوا في مناطق الدولة الإسلامية.
رجال من القرى التي استعادتها مؤخرًا قوات تحتجزهم الأمن العراقية في مخيم ديباج للاجئين، بعضهم متّهمون منذ أشهر، في حين تحقق السلطات الكردية في أيّ صلات قد تكون لديهم مع الدولة الإسلامية.
كثير منهم -4.2 مليون على الأقل- فرَّ في الاتجاه المعاكس، بعيدًا عن المسلّحين وأحيانًا مباشرةً إلى أحضان القوات المتقدمة، حيث اتهم تقريرٌ لمنظمة العفو الدولية في تشرين الأول/ أكتوبر الميليشيات العراقية والقوات الحكومية باعتقال آلافِ الأشخاص، من الرجال معظمهم، ممن كانوا يحاولون الفرار من القتال.
الأرقام تعني أنه ليس السُّنّة وحدهم من يشكلون ضحايا الحرب مع الدولة الإسلامية، ولكنّ أغلبية الطائفة السنية قد تضرّرت أيضًا. يمثل السنة نحو 20 في المئة من سكان العراق البالغ عددهم 32.5 مليون، (نسبة متحيِّزة جدًّا، حيث تبلغ نسبة السُّنّة نحو 40 في المئة) وفقًا لأرقام وكالة المخابرات المركزية عام 2014 -أي نحو 7 ملايين- وتُشير أرقام الأمم المتحدة إلى أنَّ ما يصل إلى 6 ملايين منهم، إما أنّهم شُرِّدوا، أو إن قراهم ومدنهم تحتلها الدولة الإسلامية.
حيث كانت المدن يومًا سُنِّيةً بالكامل، وهناك فرصةٌ جيِّدة في أن الأسر التي ليس لديها علاقات مع المسلحين ستتمكن من العودة، بعد أن تحررت تلك المجتمعات، كما تقول وكالات المساعدة. حيث عاد نحو 900،000 نازحٍ إلى منازلهم في العامين الماضيين، ومعظمهم إلى المدن السُّنّية من مثل الفلوجة والرمادي وتكريت، وفقًا لأرقام جمعتها المنظمة الدولية للهجرة لصالح كلٍّ من الأمم المتحدة والولايات المتحدة.
ولكن في الأماكن التي يعيشُ فيها السُّنّة على مقربةٍ من الشيعة أو الأكراد، مئات الآلاف غير قادرين على العودة إلى ديارهم، على الرغم من أنَّ الدولة الإسلامية قد ولَّت. إنّهم يعيشون في طيّ النسيان؛ في المخيمات أو في أماكن موقّتة، غير متأكدين من مستقبلهم في العراق، حيث يُنظر إلى السُّنّة بشبهة المتعاطفين المحتملين مع الدولة الاسلامية.
((إنهم يقولون، السُّنّة كلّهم داعش، ولكن ليس صحيحًا)) هذا ما قاله جاسم نوري سائق شاحنةٍ سابق، وعمره 50 عامًا، عاش نوري العامين الماضِيَين في ورشةٍ للبناء في شمال شرقي محافظة صلاح الدين، ومنزله في قرية سلمان بيك السنية التي تبعد ستةَ أميالٍ فقط، ولكنّ الميليشيات الشيعية التي طردت الدولة الإسلامية من المنطقة منذ أكثر من عامين ترفض السماح لأيٍّ من السكان بالعودة. وفي العام الماضي، اعتقل اثنان من أبنائه، وهما طالبان جامعيان سابقًا، من قبل رجالٍ ملثمين يرتدون زيًّا من دون علاماتٍ، حيث اتُّهِموا بالعمل مع الدولة الإسلامية، بينما يصرُّ نوري على براءتهم، لكنه لم يعد قادرًا على تأمين إطلاق سراحهم. ((الشيء الوحيد الذي يحطم قلبي هو أنَّ أبنائي في السجن، ولا يمكنني أن أثبت براءتهم، إذا لم تتغير هذه الحكومة، لن يكون هناك أمنٌ واستقرار في العراق، محضُ انتقامٍ أعمى لا نهاية له)).
أعضاء من الحشد الشعبي الشيعي، يصلون في حال الخطوط الأمامية في قرية صوفايا السنية جنوبي الموصل، بعد أن استُعيدت من الدولة الإسلامية.
سيناريو الحال الأسوأ
في محافظة ديالى، على الحدود مع إيران شرقًا، ثمة بالفعل دورةٌ جديدة من العنف. تعد ديالى بخليط سكانها من الشيعة والسنة والأكراد، نموذجًا مصغّرًا للعراق، وإذا كانت تُعدّ أيضًا رائدًا لمستقبل البلاد لما بعد الدولة الإسلامية، فإشاراته (المستقبل) قاتمة.
في ثمانية عشر شهرًا، منذ أن طردت الميليشيات الشيعية مقاتلي الدولة الإسلامية، ظهر من جديد التوتر القديم بين الشيعة والسُّنّة، توتر ساعد في إذكائه صعودُ الدولة الإسلامية. أعادت خلايا الدولة الإسلامية اختراق مناطق يفترض طردهم منها، ينفذون التفجيرات الانتحارية في المساجد والمقاهي، ما يُسفِر عن مقتل عشرات من الشيعة. استهدفت عمليات القتل الانتقامية من جانب الميليشيات الغامضة السُنّة، فقد عاد 172،000 على الأقل من السُّنّة الذين فرّوا منذ بداية صعود الدولة الإسلامية، ولكن ما يزال هناك 82000، حيث رُفض السماح لهم بالعودة إلى ديارهم، وبعضٌ من الذين عادوا يفرون مرةً أخرى.
ومن بين هؤلاء أبو محمد، وهو كهربائيٌّ يبلغ من العمر 46 عامًا، حيث جمَع بناته الصبايا التسع، وغادر قبل ثلاثة أشهرٍ بعد موجةٍ من عمليات القتل الشريرة في قريته، إلى خارج بلدة المحمودية السنية.
منال إسماعيل عيسى، زوجة أبي محمد، تجلس مع بناتها في الخيمة وهي الآن منزل العائلة في مخيم كورا تو.
مرةٌ أخرى في مخيم كورا تو في شمال المحافظة نفسه، حيث كان قد لجأ من الدولة الإسلامية في العام السابق، قال إنه اختبر عمليات القتل التي دفعته إلى الرحلة الثانية من المدينة، كما قُتل الرجل الذي كان يبيع إسطوانات غاز الطهي من جانب مجهولين كانوا على دراجةٍ نارية، وعثر الجيرانُ على جثةٍ مشوهةٍ ملقاة في قريةٍ مجاورة، أما الجار الآخر في المدينة فقد خرج ولم يعد، وأخيرًا وقعت عملية قتلٍ وقحة لثلاثة رجال، أحدهم ابن عم أبو محمد، من جانب رجال مسلحين ظهروا في القرية وأطلقوا النار على الرجال، لأنهم خرجوا في إحدى الليالي لشراء الطعام.
قال أبو محمد إن المسلحين ((يرتدون الأسود والأقنعة. لا أحد يعرف من هم، من أين أتوا، أو أين يذهبون))، وأضاف: ((السنّة مستهدفون، والدول وراء هذه السياسة))، مرددًا وجهةَ نظرٍ منتشرة في نطاقٍ واسع بين السُّنّة، ومفادها أنَّ إيران الشيعية تُشجع محاولة متعمدة من جانب الأغلبية الشيعية في العراق لتطهير عرقي للسُّنّة من مناطق شرق العراق حيث الحدود الإيرانية. ((إنهم يشرِّدون طائفةً كاملة من أجل إحداث تغيير ديموغرافي، وفعل هذا ليس بالأمر السهل)).
وقال عدنان سالم داود (46 عاما) الذي عاش في منطقة لم تستولِ عليها الدولة الإسلامية أبدًا، إن عمليات القتل ليست وحدها ما يدفع الناس بعيدًا، فقد طُرد بعيدًا من جانب عناصر الميليشيات الشيعية بعد أن هزموا المسلحين إلى أماكن أخرى، وقضى العام الماضي في خيمةٍ بمخيم كورا تو. ((إنهم يأتون إلى منزلك ليلًا، ويطرحون عليك أسئلةً سخيفة، مثل: هل تعرف هذا الرجل؟ وهل تعرف ذاك الرجل؟))، وأضاف: ((إنهم يضربونك أمام زوجتك وأولادك حتى ينفر الدم من فمك وأنت ذليل. لا يقولون لك بصراحة وشرف أن تغادر البلاد، ما يفعلونه هو جعل حياتك بائسة حيث تصبح شاكرًا وممتنًّا إن غادرت)). وأضاف: ((لا أحب العيش هنا، ولكن لا أستطيع أن أعود، لا يوجد لدينا أي مستقبلٍ في العراق)).
كريم نوري، المتحدث باسم منظمة بدر، أكبر مجموعةٍ عسكريةٍ شيعية في محافظة ديالى التي تتحكم أيضًا في حكومة المحافظة، اعترف بالمشكلات، لكنه نفى أن تكون هناك أيّ محاولةٍ متعمّدة لتهجير السُّنّة من المحافظة أو من أيّ جزءٍ آخرَ من العراق.
توزيع العرب السنّة في سورية والعراق
المصدر: د. ميكائيل إيزادي على الموقع http://gulf2000.columbia.edu/maps.shtml
((إذا كان السماح للسُّنّة بالعودة إلى ديارهم مفروضًا؛ فذلك لأنَّ قراهم أو مدنهم قريبةٌ من مناطق القتال وغير آمنة، أو لأنّهم أو عائلاتهم مُشتبهٌ في انتمائهم إلى الدولة الإسلامية)) بحسب قوله، مبينًا أنه إذا كان بعضهم قد طُرد مرة أخرى عن طريق التهديد أو العنف، فذلك بسبب المشكلات القبلية التي تتجاوز قدرة منظمة بدر أو الحكومة المركزية على حلّها. وقال: ((هناك الانتقام الذي يجري بين القبائل، وهناك أفراد يسعون إلى الانتقام، ولكنهم لا يمثلون إلّا أنفسهم، وهناك بعض العصابات الشيعية، ولكنها لا تحظى بدعمنا، ونحن نرفضها)).
وأضاف نوري، إنَّ ((السُّنّة هم الذين تضرّروا أكثر من الدولة الإسلامية في العراق والشام، ولن يُخدعوا مرةً أخرى، نحن نعلم أننا لا نستطيع رمي السُّنّة جانبًا. لقد وحدّتنا الدولة الإسلامية جميعًا)). ولكن حثّنا ألا ننظر إلى ديالى، ((انظروا إلى تكريت. تكريت هي النجاح. إنها نجاح لأننا تمكنّا من التوصل إلى تفاهم مع أهل المدينة، حيث طردنا العناصر الإرهابية، ولم نسمح لهم بالعودة ثانية)).
ما يزال عدد من المناطق المحررة من سيطرة الدولة الإسلامية ماثلًا في حال خراب، بمثل القبور والأضرحة في مقبرة تكريت خارج المدينة.
ينتظر العرب السنة الذين نزحوا مؤخرا في طابور ليتم عرضهم وتسجيلهم.
يمكن أن نرى دليلًا على النفوذ الشيعي الجديد في تكريت على لوحة تعرض قادة الميليشيات الشيعية الثلاث الأقوى.
النجاح طريق طويل وعلينا أن نقطعه
إن تكن تكريت هي نجاحٌ، فإنها نجاحٌ نسبي، فقد عاد السكان معظمهم منذ هزيمة الدولة الإسلامية قبل 18 شهرًا. فقد توصلت تكريت -مسقط رأس الدكتاتور السابق صدام حسين- على الأقل حتى الآن؛ إلى اتفاقٍ مع الميليشيات الشيعية التي طردت الدولة الإسلامية منها، وتحتفظ الآن بوجودٍ واضح.
ترفرف رايات الشيعة على حواجز التفتيش المؤدّية إلى المدينة وإلى مجمع القصور التي بناها صدام حسين. حيث كان الزوار ذات يوم يحيّون تمثال الدكتاتور لدى وصولهم عبر طريق بغداد، والآن ثمة لوحة تضم الزعماء الثلاثة لأقوى الميليشيات الشيعية؛ هادي العامري، وأبو مهدي المهندس، وقيس الخزعلي.
((هذه هي طريقة رسمية للقول شكرًا للشعب الذي حررّ تكريت))، قال رئيس بلدية تكريت عمر الشينداخ، موضّحًا سبب نصب القادة السّنة المحليين في البلدة اللوحة، وأضاف ((إنهم قدموا لنا الكثير من القتلى والجرحى)).
ما تزال مساحاتٌ كبيرة من المدينة في حال خرابٍ، ولكن على الرغم من استعادة الخدمات الأساسية، لا يوجد المال لإعادة بناء البنية التحتية المدمّرة والمحلات التجارية والمباني الحكومية أو المستشفى. لقد عاد أكثر من 90 في المئة من السكان قبل الحرب، و((وفق ذلك المقياس، فتكريت هي نجاح)) هذا ما قالته ليزا غراندي كبير منسقي الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في العراق. وأضافت: ((لكن هذا لا يعني أنك تبحث عن مجتمع مستعاد كليًّا أو مستردٍّ. أنتم لا تتوقعون ذلك)). عندما يمكن أن يحدث، فذاك موضع سؤال.
تزامنت فتوحات الدولة الإسلامية بالضبط تقريبًا مع انهيارٍ في أسعار النفط، المصدر الرئيس في إيرادات العراق، حيث فقدت الحكومة بين عشية وضحاها حوالى نصف دخلها تمامًا، بينما كان عليها أن تستعد لحملةٍ عسكرية كبيرة، إذ قال المتحدث باسم الحكومة سعد الحديثي إنه لا يوجد مالٌ لإعادة بناء ما تدَّمر، في تكريت أو في أيّ مكانٍ آخر في العراق. وتابع قائلًا: ((نظرًا لحجم الدمار، فإنَّ الأولوية لمكافحة الإرهاب والوضع المالي، لكنَّ من المستحيل تغطية هذه النفقات في الوقت الراهن)). في شوارع تكريت، يقول الناس إنَّهم سعداءٌ لأنهم عادوا، لكنهم يتساءلون إلى أين تسير بلادهم؟ وهل ستعود حياتهم كما كانت في السابق؟ ((حتى أولئك الذين لم يفقدوا أحباءهم؛ فقدوا مدّخراتهم واستثماراتهم، فقد ضاع كلَّ عملٍ في حياتنا كلها، بحسب قول حسن عدنان، وهو تاجر في السوق فرَّ من الدولة الإسلامية))، ثم عاد ليجد أن منزله ومتجره قد تعرضا للحرق ونهبت بضاعته، وليس هناك أي أمل في تعويضه. وتابع قائلًا: ((المشكلة هي أنَّ الحكومة لا تنفق ولا حتى دينارٍ واحد لمساعدتنا على إعادة البناء. إذا لم يتمكنوا من حلّ هذا الشيء البسيط، كيف يمكنهم حل المشكلات الكبرى في البلد؟)) هذا هو سؤال كثيرين، وليس السنة وحدهم، هم من يسأله. وقد أثبت رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أنّه أكثر تصالحيةً من سلفه، نوري المالكي الذي يتحمل مسؤولية النظرة الطائفية الصارخة التي تسبّبت في الأوضاع التي مكنت الدولة الإسلامية أن تزدهر، لكن العبادي أضعف مما كان المالكي، ويعود الفضل إلى حدٍ كبير إلى القوة المتزايدة للميليشيات الشيعية التي لعبت دورًا رئيسًا في المعركة ضد الدولة الإسلامية.
((إنَّ التحديات التي تواجه العراق ضخمة، وعلى كثير من المستويات، ولا أعتقد أنّنا شهدنا هذا النوع من القيادة التاريخية التي ترتفع إلى مستوى هذا التحدي)) قال فواز جرجس، وهو أستاذٌ في كلية لندن للاقتصاد ومؤلف كتاب ((الدولة الإسلامية في العراق والشام: تاريخ)). ويرى أحمد الكريم، رئيس مجلس محافظة تكريت أملًا، فثمة إدراك بين السنة معظمهم بأنَّ الجماعات المتطرفة لن تحلَّ مشكلاتهم، فضلًا عن اعتراف الشيعة معظمهم بأنهم في حاجةٍ إلى تسوية مع السنة إذا أرادوا أن يتجنّبوا تجسيدًا آخر للتمرد الذي أدى إلى صعود الدولة الإسلامية، ((لكنّه من الصعب)) بحسب تعبيره. وقال: ((هناك انعدام الثقة، تحتاج سياسة البلد برمتها إلى تغيير. نحن في حاجةٍ إلى فصل الدين عن السياسة، نحن في حاجةٍ إلى عشرِ سنواتٍ أو أكثر)).
وفي هذه المرحلة؟
ردّ قائلًا: ((هذا هو قلقنا، ما الذي سيأتي بعد داعش؟ ما الفصل التالي؟))
يبقى السؤال ((كيف تعود الخدمات الأساسية ومتى تبنى مدينة تكريت مجددًا؟)) من دون إجابة.