ترجمة أيمن أبو جبل
(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة

التاريخ: يوم أو يومان، بعد انتهاء حرب الأيام الستة، حزيران/ يونيو 1967. امرأة من سكان القرية، ومعها حزمة من الأمتعة، تقف عند مدخل منزلها وتنظر بقلق إلى سيارة (جيب) تابعة للجيش الإسرائيلي. لا يُعرف هل طُلب منها المغادرة أم لا، ربما أدركت أنها لن تكون قادرة على العيش في أمان وحدها في القرية، أو مع عدد قليل من الأشخاص الآخرين الذين لم يفرّوا، وربما لا تزال تتوقع أن الأمور ستنجح، وأنها ستكون في المنزل مرة أخرى. قوات الاحتلال هنا والخوف مفهوم، إنها صورة مؤثرة.

في الصورة: أحد سكان بلدة (فيق) في جنوب هضبة الجولان، يقف عند مدخل منزله المبني من الوحل والطين. جدران البيت من دون جبصين، وبلا نافذة.. البؤس يظهر من كل زاوية. تشابك يديه ببعضهما يعكس حالة الضغط والخوف التي يعيشها، وعيونه قلقة بشأن المصير المجهول القادم. ربما يعُد أيامه الأخيرة، وربما يتساءل: كيف انكسر الجيش الذي كان من المفترض أن يحميه؟ ولماذا اختفى وتركه وبعض جيرانه وحدهم أمام لواء المظلّيين المعادي الذين هبطوا أمامه من عشرات المروحيات؟! يحاول القروي كسب الوقت لكي يستوعب: إلى أين يتجه؟ أين سينام الليلة؟ وماذا يُخبئ له الغد؟ ومن سيعتني بالحيوانات؟ ربما يعتقد أن هذا الكابوس سيزول، بعون الله، وأن هذا الواقع سيعود كما كان!

يظهر السوري من الصورة السابقة في هذه الصورة، وهو الأدنى في مجموعة من أربعة أو خمسة من جيرانه في قرية (فيق) وهم يسيرون وراء جندي إسرائيلي من لواء المظليين، أو ضابط من اللواء 80، يأخذهم إلى نقطة تجمع السجناء المدنيين.. إنها لحظات قلق شديد من القادم.

مجموعة قوامها نحو 25 سوريًا على الطريق، بينهم طفل وامرأة وعجوز، يسيرون على الأقدام، وعلى دراجة، وعلى ظهر حمار. إنهم في طريقهم ليصبحوا لاجئين في بلدهم، وقد أخذوا ما استطاعوا حمله من مقتنياتهم وممتلكاتهم التي تمكنوا من حزمها بسرعة لرحلة ووقت غير معروفين. يشير الطريق الإسفلتي وأعمدة الطاقة إلى طريق رئيسي. من الممكن أن يكون طريق بانياس – مسعدة. نتمنى أن يكون ذلك خيرًا إن شاء الله، وأن تكون طريق العودة إلى المنزل بالحافلة أو السيارة، وأن تعود الحياة كما كانت دائمًا.

مواطنون سوريون في القنيطرة في الأسر، 11 حزيران/ يونيو 1967، بعد يوم من احتلال المدينة ومرتفعات الجولان، وانتهاء حرب الأيام الستة؛ إذ قرر حوالي 500 من سكان القنيطرة، من أصل 35000، التمسك ببيوتهم وعدم الفرار شرقًا، لكن الجيش الإسرائيلي أجبرهم على مغادرتها، وتم تجميعهم في نقاط عدة كمراكز اعتقال، وسجّلت أسماؤهم على عجل، واقتيدوا مباشرة إلى مقر الحاكمية العسكرية الإسرائيلية، وما زالوا مصدومين: كيف سقطت مدينتهم التي طالما افتخروا بها؟ كيف سقطت من دون أن تُطلق رصاصة واحدة، مع أن مدينتهم وكل محيطها كانت محصنة كثكنة عسكرية، ولم يقف الأمر عند سقوط المدينة، بل تحول أهلها فجأة إلى أسرى أذلاء!! جنود الجيش الإسرائيلي يبتسمون ويضحكون ويتصورون لتخليد الذكرى، والسوريون محبطون أذلاء.

فتاة تركب على حمار وهي في طريقها لتصبح لاجئة، يبدو أنها ما زالت لا تعرف ذلك. نظراتها مليئة بالتعب والإذلال، ربما بسبب يدها المكسورة، وفي يدها الأخرى تحمل العلم الأبيض، وهو تأمين مؤقت على حياتها. لا أحد في هذه اللحظة المجنونة من الحياة يعرف ماذا سيحدث، حين يحتل جيش العدو قريتك في ساعتين. بسبب إصابتها لا تحمل معها مقتنياتها من المنزل، حيث تركت كل شيء مع ذكرياتها داخله، من دون أن تعلم أنها لن تعود إليه أبدًا، ستجد نفسها في خيمة في مخيم مهمل للاجئين، ربما يكون بالقرب من دمشق، أو شرق القنيطرة. وستبدأ حياتها من جديد من نقطة الصفر، سيصبح الجولان السوري، بالنسبة إليها، محض تاريخ. وستكون قادرة على رؤيته، من الآن فصاعدًا، في حالة واحدة فحسب: حين تنظر إليه من بعيد.
الطرد الصامت
وضعت حرب حزيران 1967 ما يقارب 100 ألف مواطن سوري أمام مصير مجهول، ففي اليوم الثاني للحرب في السادس من حزيران، حين بدأت طائرات سلاح الجو الإسرائيلي قصف المواقع والقواعد العسكرية السورية المنتشرة في كل مكان، ومحيط القرى المأهولة بالسكان التي بلغتها القذائف؛ بدأ السكان الهروب والاختباء حتى تنتهي الغارات الإسرائيلية، ويعودوا إلى ديارهم، لكنهم لم يتخيلوا قطّ أن عودتهم ستكون مستحيلة، مع احتلال الجولان والسيطرة على قراهم، في التاسع من حزيران، مع بدء تحرك القوات الإسرائيلية باتجاه مرتفعات الجولان. في هذ الوقت، لم يهرب من القرى السورية سوى مئات من المدنيين، ومنها القرى الدرزية في شمال الجولان (مجدل شمس وعين قنية ومسعدة وبقعاثا وسحيتا) التي تقع على الخط الحدودي الجديد، حيث تفرق سكانها بعد إخراجهم بوساطات الطائفة الدرزية في إسرائيل، ثمّ تم تدمير تلك القرى، أما قرية (الغجر) العلوية فلم تتضرر، لكونها قرية لبنانية في الأصل، ولم تصل إليها القوات الإسرائيلية.
استغلت إسرائيل حقيقة أن معظم قرى الجولان أصبحت مهجورة، بينما ظهرت مشكلتها الكبيرة في التعامل مع السكان في الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد أن هرب المئات من القرويين السوريين إلى هناك، حيث تعرّض الذين اختبؤوا هناك لمعاملة عدائية من قبل جنود جيش الدفاع الإسرائيلي، وأصرّ آلاف من السوريين على البقاء في قراهم وبيوتهم، وهم من القنيطرة والمنصورة وصرمان وكفر عقب وعشرات القرى الأخرى.. وقد تُرك أمر التعامل مع أولئك للجيش الإسرائيلي، لكن الشيء المؤكد أن الذين غادروا، إلى الجانب السوري شرقي الحدود الجديدة، لم يُسمح لهم بالعودة، بأي شكل من الأشكال، وقد صرّح القائد العام للقيادة الشمالية في الجيش الإسرائيلي ديفيد إلعازار، أمام لجنة الخارجية والأمن، في كانون الثاني/ يناير 1968 بالقول: “لا أريد أن يعود أولئك إلى ديارهم، وأحاول منع عودتهم نهائيًا”. وفي اجتماعٍ في مبنى مقر الجبهة السورية في القنيطرة، المقر الجديد لمقر قيادة الجيش الإسرائيلي في هضبة الجولان، في 11 حزيران/ يونيو 1967 (بعد يوم من انتهاء الحرب) بقيادة وزير الدفاع موشيه ديان ودافيد اليعازر والجنرال إلعاد بيليد؛ أثارت قيادة الجبهة الشمالية قضية مصير مواطني هضبة الجولان الذين بقوا في أراضيهم. ولا يُعرف بالضبط ما حدث في الاجتماع، لكن ما حدث بعده مباشرة يُنبئ به؛ إذ أُلغيت المعاملات النقدية السورية، وحُرم العمال والموظفون بشكل مُهين من أجورهم، وأوقفت المعاشات الحكومية لكبار السن والموظفين المتقاعدين، ورفضت الحاكمية العسكرية فتح المحالّ والمتاجر التي بقيت مغلقة، وجُمّع السكان في أحياء خاصة.
قال أفيشاي كاتز، من سلاح الهندسة 602 في جيش الدفاع الإسرائيلي، في مقابلة مع موقع (نعموش) في 2015: “نعم، تلقّيت أوامر عديدة بعد الحرب، أولًا قبل كل شيء أوامر بتدمير هضبة الجولان فورًا. كانت الفرق التابعة للسلاح تخرج يوميًا لتدمير المنازل وجمع الألغام الأرضية التي تركها السوريون وراءهم، كان هناك عمليات تدمير شامل لقرى كاملة، لم ندع أي منزل، كنا نأتي إلى القرية في الصباح، ونضع 10 كغ من المتفجرات داخل المنزل ونفجّره، كل صباح، كنا نخرج من حورشات التل إلى قرية بانياس والقرى المحيطة، لنفجر المنازل ونعود مساءً”. وأضاف: “في إحدى المرات، قام المهندسون بتفجير منزل على ساكنيه، وقتل جميع السوريين الذين كانوا في المبنى، وبصرف النظر عن نشاط سلاح الهندسة، في تموز/ يوليو 1967، أصبحت القرى السورية مناطق تدريب لوحدات المشاة والمدرعات، في قصرين والقلع وزعورة وجباثا الزيت وغيرها من القرى، واستمر هذا الوضع خمس سنوات تقريبًا، لم يبق أي منزل سوري سليمًا.
على طول الخط الحدودي الجديد، تم وضع حوالي 25 موقعًا لجيش الدفاع الإسرائيلي، وفي سجل يوميات غرفة العمليات التابعة لقيادة الجبهة الشمالية، تفاصيل عن عشرات الاشتباكات مع مواطنين سوريين حاولوا العودة إلى قراهم بعد الحرب، لاستعادة مقتنياتهم وأمتعتهم، وإنقاد ما يمكن إنقاذه من الممتلكات، واستعادة حيواناتهم المصادرة، ومن أجل منع ذلك، نصبت الكمائن مع حلول الظلام، وأطلق الجيش الإسرائيلي النار على كل شخص شوهد في الظلام، دون إنذار، ودون التحقق من هويته، سواء أكانوا إرهابيين أم مدنيين، وسقط عشرات القتلى والجرحى من المدنيين. أما أولئك الذين تمكنوا من التسلل فقد وجدوا أن منزلهم قد اقتُحم ونهب. وتجدر الإشارة إلى حذف عدد غير قليل من الأحداث، من سجل يوميات غرفة العمليات في تلك الأيام. ولنا أن نتساءل اليوم: ما الذي كانوا يريدون إخفاءه.

شكاوى سورية
- – في 17 حزيران/ يونيو 1967، أرسلت الأمم المتحدة إلى إسرائيل قائمة بالاتهامات السورية بشأن معاملة السكان المدنيين، ولخّصنا المزاعم السورية وردود إسرائيل وتفسيرها على كل شكوى، حيث اشتكى السوريون من طرد إسرائيل لحوالي 40 ألف مواطن سوري من الأرض المحتلة، وقدمنا تصوراتنا وثلنا إنهم فرّوا مرعوبين وخائفين من الحرب، لكن الجيش الإسرائيلي كان يمنعهم من العودة إلى ديارهم.
- – والشكوى الثانية هي استيلاء إسرائيل على قطعان الماشية كلها، وقد نُقل 600 رأس ماشية لاحقًا إلى المستوطنين الإسرائيليين الأوائل الذين قدموا إلى الجولان، ونقل 800 رأس ماشية أخرى إلى المستوطنات والكيبوتسات الشمالية داخل إسرائيل، وبيعت أعداد كبيرة أخرى في الأسواق الإسرائيلية بعد فترة الإغلاق البيطري.
- – قدّمت سورية شكوى تتعلق بطرد إسرائيل كل الذكور في منطقة البطيحة، واحتجاز النساء والأطفال، ورفضت إسرائيل هذه الشكوى، وعدّتها باطلة ولا تمتّ إلى الحقيقة بصلة.
- – قدّمت سورية شكوى إلى الأمم المتحدة، قالت فيها إن إسرائيل تمارس سياسية التجويع ضد السكان المدنيين في الأرض المحتلة، ولا توفر لهم الطعام والغذاء. ورفضت إسرائيل الشكوى جملةً وتفصيلًا.
- – شكوى تتعلق باغتصاب سيدة سورية من قبل عدد من الجنود الإسرائيليين، وتوفيت في اليوم التالي، وردّت إسرائيل بأنها لم تسمع بهذه القصة على الإطلاق.
- – شكوى تتعلق باعتقال إسرائيل لجميع الذكور والرجال الأصحاء، ونقلهم إلى مكان مجهول. ولم تعترف إسرائيل بذلك.
- – شكوى حول إجبار أسرى سوريين على حفر القبور، ثم قتلهم بعد ذلك بيد جنود إسرائيليين. ولم تعترف إسرائيل بالحادثة.
- – شكوى حول مقتل سبعة ممرضين، كانوا يعملون في مستشفى القنيطرة. ولم تعترف إسرائيل بالحادثة.
- – شكوى حول اعتقال جميع المدنيين الذين خدموا في صفوف الجيش السوري، ونقلهم إلى جهة مجهولة، وتعرضهم مع مدنيين آخرين للتعذيب، بهدف انتزاع معلومات منهم. واعترفت إسرائيل بذلك لكنها لم تعترف باستخدام التعذيب ضدهم.
لم يكن هناك أمر رسمي بترحيل المواطنين السوريين
من يبحث في وثائق جيش الدفاع الإسرائيلي لا يجد أثرًا لطرد وتهجير السوريين من هضبة الجولان. رسميًا، لم يكن هناك أمر من هذا القبيل. علاوة على ذلك، في وثائق جيش الدفاع الإسرائيلي من تلك الفترة، لا يمكن للمرء أن يجد أمرًا صادرًا عن غرفة العمليات في هيئة الأركان العامة، تحت عنوان تطهير أو تنظيف الأراضي السورية المحتلة، بل إن هناك مستندات تقول إنه لا ينبغي طرد القرويين من الهضبة السورية. ولكن ما حدث على الأرض، عمليًا، كان على العكس تمامًا. السوريون الذين عاشوا في الجولان تُركوا بلا مأوى وبلا ممتلكات. وطُردوا، وانتقلوا إلى مخيمات اللاجئين في منطقة دمشق وشرق القنيطرة. هذه هي نكبة سكان الجولان السوري. النكبة التي لم يذكرها أحد تقريبًا. لقد كانت حرب حزيران على الجبهة السورية، بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي ودولة إسرائيل، فرصةً للقضاء على القرى أو البلدات السورية وطرد سكانها، وسرعان ما اتضح أن 1967 لا يشبه عام 1948. اليوم هناك رأي عام، هناك سلطات، هناك ضغوط، هناك تهديدات وهناك خوف: ماذا سيقول العالم عن دولة إسرائيل، خاصة في ظل تعاظم الدعاية العربية! ومن الغرابة أن إسرائيل سمحت، في 2 تموز/ يوليو 1967، لجميع سكان الضفة الغربية الذين غادروا إلى الأردن أو الذين تم ترحيلهم، بالعودة إلى ديارهم، لكنها لم تسمح على الإطلاق للسوريين في الجولان، بالعودة إلى بيوتهم.
شددت الرواية الإسرائيلية الرسمية على أن السكان السوريين غادروا طوعًا، لكن هذا ليس صحيحًا، وعندما تذكر العالم مشكلة لاجئي مرتفعات الجولان، في أيلول/ سبتمبر 1967، ردّت إسرائيل بطريقة عنجهية بأن الأمر سيناقش في محادثات مباشرة مع الحكومة السورية. لكن السوريين لم يرغبوا في التفاوض والنقاش والحوار مع إسرائيل، وبكل الأحوال، لم يكن لدى إسرائيل نية لإعادة أي سوري إلى أرضها.
احتلال مرتفعات الجولان و”تطهير” السكان المدنيين السوريين السريع جدًا، كان تتويجًا للعلاقة المشحونة والمتوترة وللعداوة العميقة طوال 19 عامًا من الصراع بين سورية وإسرائيل، وخاصة ما جرى خلال أحداث احتلال منطقة مشمار هيردن في العام 1948 وتدميرها بالكامل (ويعرف السوريون أيضًا كيف يدمرون)، وقصف الكيبوتسات، ومحاولات تحويل مصادر نهر الأردن، وقضية إيلي كوهين. إسرائيل لم تكن بريئة من التهم والشكاوى، ولم تكن بعيدة عن عقلية الانتقام من السوريين، فكانت حرب حزيران فرصة ذهبية لتصفية الحسابات القديمة مع السوريين، حيث احتلت أرضهم وطردت سكانها، ولم تكتف بذلك، فقد ضمتها بالكامل إلى سيادتها لاحقًا. مهجرو الجولان المدنيون وحدهم دفعوا الثمن الأغلى من هذا الصراع، انتقلوا ليصبحوا لاجئين يعيشون اليوم معاناة كبيرة، بسبب فقدان منازلهم وأراضيهم وممتلكاتهم، وألقي بهم في مخيمات اللاجئين المليئة بالفقر والألم والمعاناة، وعلى الرغم من مرور 53 عامًا على قصتهم، ومن استحالة عودة الجولان في المستقبل المنظور إلى سورية، وعودتهم إلى ديارهم، فإنهم ما زالوا يحلمون بأنهم سيعودون يومًا ما إلى القرية التي وُلدوا ونشؤوا فيها.
عنوان المقال | طرد السوريين من الجولان |
الكاتب | شلمومو مين |
مكان النشر وتاريخه | نعموش: 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 |
المترجم | أيمن أبو جبل |
عدد الكلمات | 2156 |
رابط المقال | http://bit.ly/38b1IaX |