عنوان المادة الأصلي باللغة الإنكليزية: | Iran Dominates in Iraq After U.S. ‘Handed the Country Over’ |
اسم الكاتب | تيم أرانغو، Tim Arango |
مصدر المادة الأصلي | نيو يورك تايمز The New York Times |
رابط المادة | https://www.nytimes.com/2017/07/15/world/middleeast/iran-iraq-iranian-power.html |
تاريخ النشر | 15 تموز/ يوليو 2017 |
المترجم | أحمد عيشة |
المحتويات
أعضاء قوات الحشد الشعبي، وهي مجموعة من الميليشيات الشيعية، في موقعهم على الحدود العراقية مع سورية. سيرجي بونوماريف لصحيفة نيويورك تايمز
عندما تمشي في أيّ سوقٍ تقريبًا في العراق، تجد الرفوف مملوءةً بالبضائع من إيران؛ الحليب واللبن والدجاج. وعندما تتنقل بين قنوات التلفزيون، واحدةً بعد الأخرى، تشاهد البرامج المتعاطفة مع إيران.
مبنى جديد يرتفع أو يشيّد؟ ومن المرجّح أنَّ الإسمنت والقرميد يأتيان من إيران، وعندما يتناول الشبان العراقيون الضجرون الحبوب ليشعروا بالخدر أو كما يقال (يُسلطنوا)، فمن المرجّح أنَّ المخدرات غير المشروعة قد هُرِّبت عبر الحدود الإيرانية التي يسهل اختراقها.
وهذا ليس الجزء الأكثر أهميةً من الحكاية.
في أنحاء البلاد جميعها، الميليشيات التي ترعاها إيران، جديّةٌ في إنشاء ممرٍ لنقل الرجال والبنادق إلى القوات العميلة أو الوكيلة في سورية ولبنان، حيث تُبعد السلطات الإيرانية حتى من يباركها داخل أروقة السلطة في بغداد، والمسؤولين العراقيين الكبيرين معظمهم، بعيدًا عنها.
عندما غزت الولايات المتحدة العراق قبل 14 عامًا لإطاحة صدام حسين، نظرت إلى العراق بوصفه حجر الزاوية المحتمل لشرق أوسطٍ ديمقراطي يميل نحو الغرب، إذ ضُخَّتْ كمياتٌ كبيرة من الدم والمال-فُقد حوالى 4500 أميركي، وصُرفَ أكثر من تريليون دولار- لهذا السبب.
منذ اليوم الأول، رأت إيران شيئًا آخر: رأت في الأمر فرصةً لجعل العراق دولة عملاء، عدوًا سابقًا خاضت ضده حربًا وحشية جدًا في الثمانينيات بالأسلحة الكيمياوية وحرب الخنادق، ويشبهها المؤرخون بالحرب العالمية الأولى. إنْ نجحت، فلن يعود العراق أبدًا ليمثّل تهديدًا من جديد، ويمكن أن يكون بمنزلة نقطة انطلاقٍ لنشر النفوذ الإيراني في أنحاء المنطقة جميعها.
في ذلك السياق، فازت إيران، وخسرت الولايات المتحدة.
في السنوات الثلاث الماضيات، ركَّزَ الأميركيون على المعركة ضد الدولة الإسلامية (داعش) في العراق، إذ أعادوا أكثر من 5000 جندي إلى البلاد، وساعدوا في طرد الميليشيات المسلحة من ثاني كبرى المدن في العراق؛ الموصل.
رجال يشتبه في قتالهم مع تنظيم الدولة الإسلامية، محتجزون في محكمة موقتة في قرقوش بالقرب من الموصل. سيرجي بونوماريف لصحيفة نيويورك تايمز
لكن إيران حافظت على البوصلة؛ أي على القضية الرئيسة: وهي السيطرة على جارتها بدقةٍ، بحيث لا يشكَّل العراق خطرًا يهددها عسكريًا من جديد، وأن تستخدمَ البلاد على نحوٍ فاعل لتحكم ممرًا من طهران، إلى البحر الأبيض المتوسط.
«النفوذ الإيراني هو المهيمن»، بحسب ما قال هوشيار زيباري الذي أُطيح العام الماضي، عندما كان وزيرًا للمالية لأن إيران لا تثق بعلاقاته مع الولايات المتحدة -بحسب ما قال- «وهو أمر في غاية الأهمية».
لقد زادت هيمنة إيران على العراق من التوتر الطائفي في أنحاء المنطقة كلها، مع الدول السنية، وحلفاء الولايات المتحدة، بمثل المملكة العربية السعودية التي تحشد لمعارضة التوسعية الإيرانية. لكن العراق هو جزء فحسب من مشروع توسع إيران؛ ثم إنها استخدمت القوة الناعمة والصلبة لتوسيع نفوذها في لبنان، وسورية، واليمن، وأفغانستان، وفي أنحاء المنطقة جميعها.
إيران دولةٌ شيعية، والعراق بلد ذو أغلبيةٌ شيعية، كان يحكمه نخبة من الأقلية السنية قبل الغزو الأميركي. تعود جذور الانقسام بين السنة والشيعة، إلى 1400 سنة تقريبًا، وتكمن في الخلافات على من هم القادة الشرعيون للإسلام بعد وفاة النبي محمد. لكن في هذه الأيام يتعلق الأمر بالجغرافيا السياسية بالقدر نفسه لما للدين من أهمية في التقسيم المعبَّر عنه من قبل دول عدة مختلفةٍ ومتخاصمة، تقودها المملكة العربية السعودية من جهة، وإيران من جهةٍ أخرى.
النفوذ الإيراني في العراق ليس في حال تصاعد فحسب، لكنه متنوع، يتغلغل في مختلف الشؤون العسكرية، إضافة إلى الشؤون السياسية والاقتصادية والثقافية.
في بعض المراكز الحدودية في الجنوب، السيادة العراقية مرحلة انقضت. إذ تنقل الحافلات المجندين الشباب في الميليشيات إلى إيران، من دون أيّ تفتيشٍ أو تدقيق على الوثائق، وهناك يتلقون تدريبًا عسكريًّا، ومن ثم يُنقلون جوًا إلى سورية، حيث يقاتلون بقيادة الضباط الإيرانيين دفاعًا عن الرئيس السوري بشار الأسد.
ومرورًا بالاتجاه الآخر، تضخ الشاحنات المنتجات الإيرانية -المواد الغذائية، والسلع المنزلية، والمخدرات غير المشروعة- في ما أصبح سوقًا حيوية ومحتكرة.
تُحدثُ إيران تغييرًا لمصلحتها في كلِّ مجالٍ من مجالات التجارة. في مدينة النجف، تلتقط حتى القمامة، بعد أن منح مجلس المحافظة عقدًا لشركةٍ إيرانية خاصة. وقد لجأ أحد أعضاء المجلس (زهير الجبوري) إلى القول المأثور العراقي الشائع الآن: «نحن نستورد التفاح من إيران حتى نتمكن من إهدائه إلى الحجاج الإيرانيين».
سياسيًّا؛ إيران لديها عدد كبير من الحلفاء في البرلمان العراقي، ممن يستطيعون المساعدة في تحقيق أهدافها. ونفوذها في اختيار وزير الداخلية، من خلال مجموعة ميليشيات سياسية أنشأها الإيرانيون في الثمانينيات لمعارضة صدام حسين، قد أعطاها السيطرة على الوزارة والشرطة الاتحادية.
ربما يكون القانون الذي مرّره البرلمان في العام الماضي الأكثر أهمية، إذ يعدّ مجموعةً من الميليشيات الشيعية لاعبًا أساسًا، وداعمًا ثابتًا لقوات الأمن العراقية. وهذا يضمن التمويل للجماعات العراقية، والمحافظة على نحوٍ فاعل على سيطرة إيران على بعض أقوى الوحدات.
الآن، مع انتخاباتٍ برلمانية جديدة في الأفق، بدأت الميليشيات الشيعية، بتنظيم نفسها سياسيًا لمسابقة يمكن أنْ تؤّمن لإيران سيطرةً أكثر أمنًا على النظام السياسي في العراق.
وللاستفادة من موجات الأثير، أنشأت مجموعة قنواتٍ تلفزيونية جديدة بمالٍ إيراني، ترتبط في بثها بالميليشيات الشيعية، لتصوّر إيران بوصفها حامية العراق، والولايات المتحدة بوصفها دخيلًا مخادعًا.
جزئيًا، في محاولةٍ لاحتواء إيران، فقد أشارت الولايات المتحدة إلى أنّها ستبقي قواتها في العراق بعد انتهاء المعركة ضد الدولة الإسلامية (داعش). لقد عمل الدبلوماسيون الأميركيون على تأكيد دور قوات الأمن الحكومية في القتال، وعلى دعم رئيس الوزراء، حيدر العبادي، الذي بدا أكثر انفتاحًا على الولايات المتحدة من إيران.
لكن بعد سحب الولايات المتحدة المفاجئ القواتِ في عام 2011، ما يزال التوازن الأميركي موضع سؤال هنا؛ فشلٌ واسع للسياسة الخارجية الأميركية، ومسؤولية مشتركة عبر الإدارات الثلاث.
ما تزال إيران تلعب لعبةً أعمق، حيث تستثمر الروابط الدينية الواسعة مع الأكثرية الشيعية في العراق، ومع شبكةٍ واسعة من الحلفاء المحليين، وتتقدم بوصفها المدافع الوحيد الموثوق به في العراق.
رجال ميليشيا شيعية يحرسون المدخل إلى طريق صحراوي في محافظة ديالى يبدأ بالقرب من الحدود الإيرانية. سيرجي بونوماريف لصحيفة نيويورك تايمز
طريق إلى البحر
لا يبدو المشروع الإيراني الكبير في شرق العراق مثل كثير من المشروعات: ممرًا ترابيًا بعرض 15 ميلًا من الحصى معظمه، خلال الصحراء والأراضي بالقرب من الحدود في محافظة ديالى.
لكنه جزءٌ جديد ومهم من ممر إيران عبر العراق إلى سورية، وما يوفره وينقله -الميليشيات الشيعية، والوفود الإيرانية، وعروض التجارة، والإمدادات العسكرية- هو ميزته الأكثر قيمة.
وهو جزءٌ مما يقول محللون ومسؤولون إيرانيون بأنّه طموح إيران الأكثر إلحاحًا؛ أن تستغل الفوضى في المنطقة لمد النفوذ في العراق وخارجه. في نهاية المطاف، ويقول المحللون: إنَّ إيران قد تستخدم الممر الذي أُنشئ على أرض الواقع من خلال الميليشيات الخاضعة لسيطرتها، لشحن الأسلحة والإمدادات إلى وكلاءٍ في سورية، حيث إيران داعمٌة مهمة للسيد الأسد، ولحليفها حزب الله في لبنان.
على الحدود إلى الشرق، بُني معبرٌ جديد، تحرسه إيران. يمثل العلاقة بين البلدين، فهو غير متوازن، وخاضع لطرفٍ واحد.
وتشمل حركة المرور اليومية عبر الحاجز أو المعبر نحو 200 شاحنة إيرانية، تحمل الفواكه واللبن والإسمنت والقرميد إلى العراق. في مكاتب حرس الحدود العراقي، تُقدّم الحلوى والصودا للضيوف القادمين من إيران.
لا تسير الشاحنات المحملة في الاتجاه الآخر.
«لا يملك العراق أيّ شيءٍ يقدّمه لإيران»، بحسب ما قال وحيد غاشي المسؤول الإيراني عن المعبر، في مقابلةٍ من مكتبه، بينما تصبُّ القاطرات والمقطورات في العراق. وأضاف: «باستثناء النفط، يعتمد العراق على إيران في كلِّ شيء».
المركز الحدودي أيضًا نقطة عبورٍ مهمة للقادة العسكريين الإيرانيين، لإرسال أسلحةٍ وإمدادات أخريات إلى الوكلاء الذين يحاربون الدولة الإسلامية (داعش) في العراق.
بعد أن اجتاحت الدولة الإسلامية، المعروفة أيضًا باسم داعش، ديالى والمناطق المجاورة في عام 2014، جعلت إيران تطهير المحافظة -وهي منطقة متنوعة من السنّة والشيعة- أولويةً.
يفرغ عمالٌ المنتجات الإيرانية عند معبر عراقي حدودي. تدفق البضائع بين البلدين باتجاه واحد. تصوير سيرجي بونوماريف لصحيفة نيويورك تايمز
نظمت قوة كبيرة من الميليشيات الشيعية وجُندت، كثيرون منها تدرّبوا في إيران، وعلى الأرض يشرف عليهم مستشارون إيرانيون. بعد انتصارٍ سريع، يبدأ الإيرانيون، والميليشيات المتحالفة بتأمين مصالحهم الآتية: تهميش الأقلية السنيّة في المحافظة، وتأمين الطريق إلى سورية.
لقد قاتلت إيران بقوةٍ للمحافظة على حليفها الأسد في السلطة، من أجل أن تحتفظ بإمكان الوصول إلى عميلها المهم في المنطقة، حزب الله، وهو القوة السياسية والعسكرية التي تهيمن على لبنان، وتهدّد إسرائيل.
كلمةٌ من العقيد قاسم سليماني، مسؤول التجسس الإيراني القوي، أرسلت جيشًا من المقاولين العراقيين المحليين المتدافعين، يصفون الشاحنات والجرافات للمساعدة في بناء الطرق مجانًا. وأمرت الميليشيات الموالية لإيران بأن تؤّمن الموقع.
عدي الخدران؛ هو رئيس البلدية الشيعي في قضاء الخالص، في محافظة ديالى، وعضوٌ في منظمة بدر، وهي حزبٌ سياسي عراقي، وميليشيا أنشأتها طهران في الثمانينيات لمحاربة صدام حسين خلال الحرب بين إيران والعراق.
نشر الخدران خريطة عبر مكتبه -في مرحلة ما بعد الظهر في وقتٍ سابق من هذا العام- وناقش مفتخرًا كيف أنّه ساعد في بناء الطرق التي قال إنّها كانت بأمر من الجنرال سليماني قائد فيلق القدس، وهو فرع من فيلق الحرس الثوري الإسلامي الإيراني المسؤول عن العمليات الخارجية. يشرف الجنرال سليماني سرًا على سياسة إيران في العراق بعد الغزو الأميركي في عام 2003، وكان مسؤولًا عن مقتل المئات من الجنود الأميركيين، في الهجمات التي تقوم بها الميليشيات التابعة له.
قال السيد خدران: «أُحب قاسم سليماني أكثر من أولادي»، وأضاف: سيكون طريق الجنرال الجديد في نهاية المطاف اختصارًا للحجاج من إيران إلى سامراء في العراق، موقع المزار المهم.
ولكنه اعترفَ أيضًا بأهمية الطريق الاستراتيجية الكبرى بوصفها جزءًا من ممرٍ مضمون من طرف وكلاء وعملاء إيرانيين يمتدون عبر وسط العراق وشماله. سلسلة الطرق الواصلة تربط الضواحي غربي مدينة الموصل وتمتد إلى تلعفر -وهي مدينة كانت تسيطر عليها الدولة الإسلامية (داعش)- وأنشأت الميليشيات المدعومة من إيران والمستشارين الإيرانيين قاعدة في مهبط للطائرات على مشارفها.
قال علي الداييني، الرئيس السني لمجلس المحافظة هناك: «ديالى هي الممر إلى سورية ولبنان، وهذا أمرٌ مهم جدًا لإيران».
تحركات الميليشيات الحليفة لإيران غربي الموصل أقرب إلى سورية، إذ كشفت المعركة ضد الدولة الإسلامية في الأشهر الأخيرة استيلاء الميليشيات على بلدة البعاج، وبعد ذلك انتقلت إلى الحدود السورية، ووضعت إيران على أعتاب استكمال الممر.
بالعودة إلى الشرق؛ في ديالى، قال السيد الداييني أنّه قد كان بلا سلطةٍ أمام ما وصفها بالهيمنة الإيرانية على المحافظة.
وبحسب ما قال: عندما يذهب السيد الداييني إلى العمل، عليه أن يمشي بين ملصقاتٍ للزعيم الثوري الإيراني آية الله روح الله الخميني، وهي في خارج مبنى المجلس.
الميليشيات الإيرانية في المحافظة متهمةٌ بالتطهير الطائفي على نطاقٍ واسع، تطرد السنّة من منازلهم لتأسيس هيمنةٍ شيعية، وإنشاء منطقةٍ عازلة على حدودها. هُزمت الدولة الإسلامية (داعش) في ديالى قبل أكثر من عامين، لكن آلاف العائلات السنيّة ما تزال تملأ مخيماتٍ وسخة، غير قادرة على العودة إلى ديارها.
الآن، أصبحت ديالى ساحة عرضٍ لكيفية مشاهدة إيران الهيمنة الشيعية بوصفها قضية حاسمة بالنسبة إلى أهدافها الجيوسياسية.
«كانت إيران أكثر ذكاء من أميركا»، قالت نجاة الطائي، وهي عضوٌ سني في مجلس المحافظة، واحدة من منتقدي إيران صراحةً، إذ تصف إيران بأنها المحرّض على محاولات اغتيال عدة ضدها. وأضافت: «إنهم حققوا أهدافهم على الأرض. لم تحمِ أميركا العراق. بعد أن أطاحوا النظام، وسلموا البلاد إلى إيران».
حجاج ينتظرون توزيع الطعام والماء قبل صلاة المغرب في كربلاء، وهي مدينة مقدسة عند الشيعة. تصوير سيرغي بونوماريف لصحيفة نيويورك تايمز
أعمال (بيزنس) النفوذ
تشكلت حياة الجنرال سليماني وغيره من كبار القادة في طهران من خلال الحرب طويلة الأمد مع العراق في الثمانينيات. ترك الصراع مئات آلاف من القتلى من الجانبين، والجنرال سليماني أمضى كثيرًا من الوقت على الجبهة، مترقيًا بسلاسة في الرتب، بسبب مقتل كثير من الضباط.
«كانت الحرب بين إيران والعراق، التجربة التكوينية لقادة إيران جميعهم»،بحسب ما قال علي فائز المحللٌ السياسيّ الإيراني في مجموعة الأزمات الدولية، وهي منظمةٌ لحل النزاعات. «من سليماني وأدنى. كانت تلك لحظتهم التي لا تتكرر ثانية».
ما يزال صراع الحدود على شط العرب الذي كان عاملًا في الأعمال العدائية؛ من دون حلٍّ، وإرثًا للحرب الوحشية؛ قد أثرَّ في الحكومة الإيرانية منذ ذلك الحين، من سعيها نحو الأسلحة النووية، إلى سياستها في العراق.
«إنّه ندبةٌ دائمة في أذهانهم»، هذا ما قاله موفق الربيعي، وهو عضوٌ في البرلمان، ومستشار الأمن القومي السابق، مضيفًا: «إنهم مهووسون بالبعث، وصدام، والحرب بين إيران والعراق».
أكثر من أيّ شيء آخر -بحسب ما يقول المحللون- إنّه إرثٌ ترك ندبات من تلك الحرب التي وجهت الطموح الإيراني للهيمنة على العراق، ولا سيما في جنوب العراق، حيث السكان معظمهم من الشيعة، تجد آثار النفوذ الإيراني في كلِّ مكان.
الميليشيات المدعومة من إيران، هي المدافعة عن المقدسات الشيعية في مدينتي النجف وكربلاء اللتين تشرفان على التجارة والسياحة. في المجالس المحلية، تمتلك الأحزاب السياسية المدعومة من إيران الأغلبية الصلبة، وتؤكد معدات الحملة على العلاقات مع المشايخ الشيعة، ورجال الدين الإيرانيين.
لو كانت الحكومة العراقية أقوى -كما قال مشتاق العبادي، وهو رجل أعمالٍ من خارج النجف- «عندئذ ربما يمكننا أن نفتح مصانعنا بدلًا من الذهاب إلى إيران». وقال إنَّ مستودعه كان مكتظًا بالواردات الإيرانية، لأنَّ حكومته لم تفعل شيئًا لتشجيع القطاع الخاص، وتؤّمن حدودها، أو تفرض رسومًا جمركية.
صور لأعضاء من الميليشيات الشيعية والقوات العراقية في مقبرة في مدينة النجف. تصوير سيرغي بونوماريف لصحيفة نيويورك تايمز
رعد فاضل العلواني، تاجرٌ من الحلة، وهي مدينةٌ جنوبية أخرى، يستورد مواد التنظيف، وبلاط الأرضيات من إيران. يلصق لافتات «صنع في العراق» بالعربية على زجاجات المنظفات، لكنه في الواقع يمتلك مصنعًا في إيران بسبب العمالة الرخيصة هناك.
قال العلواني :«أشعر وكأنني أدمّرُ اقتصاد العراق»، لكنه يصرُّ على أنَّ الساسة العراقيين، من خلال تأجيل الضغط الإيراني، ورفض دعم الصناعة المحلية، جعلوا الأمر صعبًا لفعل أيّ شيءٍ آخر.
تجذب النجف ملايين الحجاج الإيرانيين الذين يزورون كلَّ عامٍ ضريح القبة الذهبية للإمام علي، أولُّ إمام شيعي. عمال البناء الإيرانيين -وكثير منهم يُنظر إليهم من جانب الموظفين العراقيين على أنّهم جواسيس- يتدفقون أيضًا إلى المدينة لتجديد الضريح، وبناء الفنادق.
في محافظة بابل -وفقًا لمسؤولين محليين- فقدْ سيطر قادة الميليشيا على مشروع الحكومة لإقامة كاميراتٍ أمنية على طول الطرق الاستراتيجية. وكان المشروع قد مُنح لشركةٍ صينية قبل تدخّل الميليشيات، والآن الجيش والشرطة المحلية، الذين أبعدوا الشركة الصينية جانبًا -وفق ما قال مقداد عمران- وهو قائد الجيش العراقي في المنطقة.
لم يمرْ تفوق إيران في الجنوب العراقي من دون الاستياء. يتشارك الشيعة العراقيين الإيمان مع إيران، لكن أيضًا يتمسكون بقوةٍ بهوياتهم الأخرى بوصفهم عراقيين وعربًا.
ينتمي «العراق إلى جامعة الدول العربية، وليس إلى إيران»، قال الشيخ فاضل البديري، وهو رجل دين في المدرسة الدينية في النجف: «الشيعة هم أكثرية في العراق، ولكنَّهم أقليةٌ في العالم. ما دامت الحكومة الإيرانية تسيطر على الحكومة العراقية، لن يكون لنا أيّ فرصة».
في هذه المنطقة حيث لم نتخطَ التهديد العسكري للدولة الإسلامية (داعش) أبدًا، فمصالح الأمن الإيراني توجه في الغالب بالتلاعب الاقتصادي -بحسب ما يقول مسؤولون عراقيون- التجارة في الجنوب غالبًا ما تموّل من إيران بقروضٍ، وتقدّم الحوافز للتجار العراقيين للمحافظة على سيولتهم في البنوك الإيرانية.
تؤدي البنوك في بغداد دورًا أيضًا، كما المراسي المالية لشركات التمويه العراقية التي تستخدمها إيران للوصول إلى الدولارات التي تمكّنها عندئذ تمويل الأهداف الجيوسياسية الأوسع في البلاد، كما قال انتفاض قنبر، وهو مساعدٌ سابق للسياسي العراقي أحمد جلبي، الذي مات عام 2015.
وأضاف: «إنه أمرٌ مهم جدًا بالنسبة إلى الإيرانيين أن يحافظوا على الفساد في العراق».
الذراع الطويلة للميليشيات
في مدى عقودٍ، هرّبَتْ إيران البنادق ولوازم تصنيع المتفجرات من خلال المستنقعات الشاسعة في جنوب العراق. ونُقلَ الشبان ذهابًا وإيابًا عبر الحدود، من منزلٍ آمن إلى آخر، يذهب المجندون إلى إيران للتدريب، ومن ثم يعودون إلى العراق للقتال. في البداية، كان العدو هو السيد صدام حسين؛ وفي ما بعد، صار العدو الأميركيين.
اليوم، يجنّد وكلاء الحرس الثوري الإيراني المقاتلين علنًا في المدن ذات الأغلبية الشيعية في جنوب العراق. وتمر حافلاتٌ ممتلئة بالمجندين بسهولةٍ عبر المراكز الحدودية التي يقول المسؤولون إنَّها خاضعةٌ في الأساس لسيطرة إيران – من خلال وكلائها في الجانب العراقي، وقوات حرس حدودها الخاصة من جهةٍ أخرى.
مقاتلون شيعة قرب الحدود العراقية السورية. حيث دربت إيران الميليشيات للقتال ضد الدولة الإسلامية في العراق، كذلك حشدت جيشًا من الشيعة العراقيين للقتال دفاعًا عن مصالحها في سورية. تصوير سيرغي بونوماريف لصحيفة نيويورك تايمز
بينما كانت إيران قد دربَّت الميليشيات للقتال ضد الدولة الإسلامية (داعش) في العراق، كذلك حشدت جيشًا من الشبان الشيعة العراقيين الساخطين للقتال دفاعًا عن مصالحها في سورية.
محمد كاظم (31 عاما) وهو واحدٌ من هؤلاء الجنود المشاة لصالح لإيران، بعد أنْ خدم ثلاث دوراتٍ في سورية. قال؛ يستند قرار التجنيد في الغالب إلى الإيمان، والدفاع عن المقدسات الشيعية في سورية. وأضاف؛ إنه هو وأصدقاؤه، تطوعوا بسبب الحاجة الماسة إلى العمل.
«كنتُ أبحث عن المال فحسب»، قال: «إنَّ أغلبية الشباب الذين التقيتُ بهم في أثناء القتال في سورية، فعلوا ذلك للحصول على المال».
تطوّع مع جنود الحرس الثوري في النجف، وبعد ذلك نُقل في الباصات عبر جنوب العراق إلى إيران، حيث خضع لتدريبٍ عسكري بالقرب من طهران.
وتابع؛ هناك ألقى الضباط الإيرانيون خطاباتٍ يستحضرون فيها استشهاد الإمام الحسين، الشخصية الشيعية المُبجّلة من القرن السابع، الذي أصبح موته على يدِّ جيشٍ سني قوي الحدث الروحاني الشيعي الأبرز. الأعداء نفسهم للشيعة الذين قتلوا الإمام هم الآن في سورية والعراق، هذا ما كان يقوله الضباط للمتطوعين الشباب.
بعد سفره إلى إيران، عاد السيد كاظم إلى بيته لقضاء عطلة، ومن ثم نُقل إلى سورية، حيث يدربَّهم حزب الله على تكتيكات القنص.
إنَّ تشديد إيران على الدفاع عن المذهب الشيعي قد حدا ببعض هنا إلى أْن يستخلص أنَّ هدفها النهائي هو تحقيق دولةٍ دينية ثيوقراطية على النمط الإيراني في العراق. لكن هناك شعورٌ مستمر بأنَّها لنْ تنجح في العراق الذي يحوي عددًا كبيرًا من سكانه الأصليين السنة، إضافة إلى تقاليدهم، ورجال الدين في العراق في النجف، بما في ذلك آية الله العظمى علي السيستاني، الزعيم الروحي الشيعي البارز في العالم، يعارض النظام الإيراني.
ميليشيات شيعية في بيجي. كما فعلت مع حزب الله في لبنان، تحاول إيران أن تحول الميليشيات التي تدعمها في العراق إلى مواقع في السلطة السياسية. تصوير سيرغي بونوماريف لصحيفة نيويورك تايمز
ولكن إيران تتخذ خطواتٍ لتحويل سلطة الميليشيا إلى قوةٍ سياسية، مثلما فعلت مع حزب الله في لبنان، فقد بدأ قادة الميليشيا بالتنظيم السياسي قبل الانتخابات البرلمانية في العام المقبل.
في نيسان /أبريل، ألقى قيس الخزعلي وهو قائد ميليشيا شيعية كلمةً أمام جمهور من طلاب الجامعات العراقية، يهاجم فيها الولايات المتحدة، والتآمر الشائن لتركيا والمملكة العربية السعودية. بعدئذ وقف شاعرُ من الوفد المرافق للسيد الخزعلي، وأشاد مادحًا بالجنرال سليماني.
بالنسبة إلى الطلاب، كان ذلك القشة الأخيرة. بدأت هتافات «إيران خارجًا! إيران خارجًا!»، واندلعت اشتباكاتٌ بين الطلاب وحراس السيد الخزعلي، الذين أطلقوا النار من بنادقهم في الهواء خارج المبنى.
«الشيء الذي أثار استفزازنا حقًا هو الشاعر»، هذا ما قاله مصطفى كمال، وهو طالبٌ في جامعة القادسية في الديوانية في جنوب العراق، من الذين شاركوا في الاحتجاج.
أدركَ السيد كمال وزملاؤه الطلاب بسرعةٍ مقدار الخطر الذي يمكن أن يلحق بمن يتجرأ على الوقوف في وجه إيران هذه الأيام.
أولًا؛ هددت الميليشيات باعتقالهم، ثم لاحقتهم وسائل الإعلام المرتبطة بالميليشيات، ونشرت صورهم، ونعتتهم بالبعثيين، وأعداء الشيعة. عندما ظهرت سيارةٌ غامضة بالقرب من منزل السيد كمال، أُصيبت أمه بالذعر، لأنَّ عناصر الميليشيات قادمون من أجل اعتقال ابنها.
وأخيرًا، تلقى السيد كمال -طالب في كلية الحقوق- وثلاثة من أصدقائه، إشعاراتٍ من الجامعة تقول: لقد فُصلوا لمدة عام.
«كنا نظنُّ بأنّه كان لدينا أملٌ واحد فقط، وهو الجامعة» – بحسب قوله- «وبعد ذلك تدخلت إيران أيضًا هنا». السيد الخزعلي المنظم سياسيًا وميليشيويًا مع عصائب أهل الحق، يرتبط بعمقٍ مع إيران، فقد كان في جولة خطاباتٍ، في الجامعات في أنحاء العراق جميعها في محاولةٍ منه لتنظيم دعمٍ سياسي للانتخابات الوطنية في العام المقبل. أثار هذا الأمر المخاوف بأنَّ إيران لا تحاول تعميق نفوذها داخل التعليم العراقي فقط، ولكن تعمل أيضًا على تحويل الميليشيا إلى منظمةٍ سياسية واجتماعية مباشرة، بمثل ما فعلت مع حزب الله في لبنان.
وأضاف: «إنّه نوعٌ آخر من التغلغل الإيراني، وتوسع النفوذ الإيراني»، وفق ما قالت بيروان خيلاني، وهي عضوٌ في البرلمان، وعضو لجنة التعليم العالي في البرلمان، وأضافت: «تريد إيران السيطرة على الشباب، وتعليمهم المعتقدات الإيرانية، من خلال العراقيين الذين يدينون بالولاء لإيران».
غمرت الأسواق في بغداد بالسلع الاستهلاكية من إيران. تصوير سيرغي بونوماريف لصحيفة نيويورك تايمز
هيمنة سياسية
عندما اُختطفت مجموعةٌ من صيادي الصقور القطريين، «تضم أفرادًا من العائلة المالكة» في عام 2015، في أثناء قيامهم برحلة سفاري في الصحراء الجنوبية من العراق، اتصلتْ قطر بإيران والميليشيات المتحالفة معها، وليس مع الحكومة المركزية في بغداد.
كانت الحادثة بالنسبة إلى السيد العبادي -رئيس الوزراء- إثباتًا محرجًا على ضعف حكومته أمام قوة إيران، وكان يظن بأنَّ كتائب ميليشيا حزب الله التابعة تقف وراء عملية الخطف.
حتى عندما كانت مفاوضات الرهائن على وشك الانتهاء، أُبعد السيد العبادي.
في ظهيرة أحد أيام شهر نيسان /أبريل، هبطت طائرةٌ حكومية من قطر في بغداد، وعلى متنها وفدٌ من الدبلوماسيين و500 مليون يورو، محشوةً في 23 صندوقًا أسود.
كان الصيادون حالًا في طريق عودتهم إلى الوطن، لكن الفديّة لم تذهب إلى الميليشيات المدعومة من إيران التي كانت قد اختطفت القطريين؛ بل أُودعتْ نقدًا في قبو البنك المركزي في بغداد.
الاستيلاء على المال كان بأمرٍ من السيد العباد، الذي كان غاضبًا من مظاهر الميليشيات، وحزب الله، ورعاتهم الإيرانيين، فقد دُفع لهم على الرغم من أنف الحكومة العراقية.
«مئات الملايين للجماعات المسلحة؟»، هذا ما قاله السيد العبادي في حديثٍ تشدقيّ عام، وأضاف: «هل هذا مقبول؟».
في العراق، كان يُنظر إلى حادثة الخطف بوصفها انتهاكًا لسيادة البلاد، ورمزًا لسطوة إيران الخانقة على الدولة العراقية.
في ما بعد، وفي تغريدة على تويتر، دعا السيد زيباري -وزير المالية السابق، الذي كان سابقًا وزيرًا للخارجية- الحادثة (بالمهزلة).
السيد زيباري يعرف عن كثب سطوة إيران على الدولة العراقية.
في العام الماضي -بحسب ما قال- بأنّه أُطيح عندما كان وزيرًا للمالية لأن إيران صنّفته مقربًا جدًا من الولايات المتحدة. جرى التحقق من الموقف عن طريق عضو البرلمان الذي شارك في إبعاد السيد زيباري الذي تحدث شرط ألا يذكر اسمه لتجنب إغضاب إيران.
السيد زيباري الذي سرد الحوادث في مقابلةٍ من قصره الجبلي في شمال العراق، قال: إنّه عندما التقى الرئيس باراك أوباما، مع السيد العبادي في أيلول/ سبتمبر الماضي في الأمم المتحدة، ضغط المسؤول الأميركي شخصيًا لعدم إطاحة السيد زيباري. حتى ذلك لم يكن كافيًا.
يجد السيد العبادي الآن نفسه في موقفٍ صعب. إن قام بأيّ خطوةٍ يمكن أنْ يُنظر إليها بوصفها مواجهة مع إيران، أو بمثل ما أظهر نفسه أقرب إلى الولايات المتحدة، يمكن أنْ تعوقَ مستقبله السياسي.
«كان لديه خياران: إما أن يكون مع الأميركيين أو مع الإيرانيين»، وفق ما قال عزت شهبندر، وهو زعيمٌ شيعي عراقي عاش في المنفى في إيران، طوال وجود صدام حسين في السلطة، مبينًا أن «العبادي، اختار أنْ يكون مع الأميركيين».
السيد العبادي الذي تولى منصبه عام 2014، بدعمٍ من الولايات المتحدة وإيران، بدا أكثر جرأةً ليقف ضد الضغط الإيراني منذ تولى الرئيس ترامب منصبه.
إضافة إلى الاستيلاء على أموال الفدية، فقد أنجز مشروعًا طموحًا لشركةٍ أميركية لتأمين الطريق السريع من بغداد إلى عمان، في الأردن، حيث عارضته إيران. وقد بدأ أيضًا مناقشةً مع الولايات المتحدة، حول شروط اتفاقٍ لإبقاء القوات الأميركية في ما بعد هزيمة الدولة الإسلامية (داعش).
يرى بعضهم التزام القوات الأميركية بمنزلة فرصةً لإعادة النظر في سحب قوات الولايات المتحدة عام 2011 الذي على ما يبدو فتح الباب لإيران.
عندما بدأ المسؤولون الأميركيون في العراق بالتراخي البطيء في المهمة العسكرية هناك، في عام 2009، كان بعض الدبلوماسيين في بغداد يحتفلون بحذرٍ بتحقيق إنجاز وحيد: بدت إيران في سعيّ مباشر لتنمية نفوذها في البلد المنكسر.
«في العام الماضي، فقدت إيران المبادرة الاستراتيجية في العراق»، كما كتب دبلوماسي في برقية، ونُشرت في وقتٍ لاحق من قبل ويكيليكس.
لكن البرقيات الأخرى أرسلت تحذيراتٍ إلى واشنطن، بأنّ هناك ثمّة أصوات متكررة من مسؤولين عراقيين تحدثوا معهم: إنْ غادر الأميركيون، ستملأ إيران الفراغ من بعدهم.
وقال ريان كروكر، السفير الأميركي في العراق من 2007 إلى 2009: إذا غادرت الولايات المتحدة ثانيةً بعد هزيمة الدولة الإسلامية (داعش)، «سيكون بمنزلة إعطاء الإيرانيين الحرية الكاملة تمامًا».
لكنَّ كثيرًا من العراقيين قالوا إنَّ الإيرانيين بالفعل يتمتعون بالحرية كاملها. وعلى الرغم من أنَّ ادارة ترامب قد أشارت إلى أنّها سوف تولي اهتمامًا أكبر بالعراق بقصد مواجهة إيران، فإن المسألة هي ما إذا كان الأوان قد فات.
ويقول سامي العسكري السياسيٌّ الشيعي البارز، ذو العلاقاتٌ الجيدة مع كل من الإيرانيين والأميركيين: «إنَّ إيران لن تجلسَ صامتةً من دون أن تفعل أيّ شيء»، مضيفًا: «لديهم كثير من الوسائل. بصراحة، فإن الأميركيين لا يمكنهم القيام بأيّ شيء».