عنوان المادة الأصلي باللغة الإنكليزية: | The Cold War and America’s Delusion of Victory |
اسم الكاتب | أودد أرني ويستاد، Odd Arne Westad |
مصدر المادة الأصلي | نيو يورك تايمز، The new York Times |
رابط المادة | https://www.nytimes.com/2017/08/28/opinion/cold-war-american-soviet-victory.html?mcubz=0 |
تاريخ النشر | 28 آب/ أغسطس 2017 |
المترجم | أحمد عيشة |
الرئيس جورج بوش، والرئيس ميخائيل غورباتشيف في موسكو عام 1981. ريك ويلكنغ/ رويترز
انتهت الحرب الباردة بوصفها نظامًا بين الدول في يومٍ باردٍ ورمادي من كانون الأول/ ديسمبر بموسكو في عام 1991، عندما وقَّع ميخائيل غورباتشوف على إزالة الاتحاد السوفياتي من الوجود. فالشيوعية نفسها، في شكلها الماركسي- اللينيني، لم تعدْ موجودةً كمثالٍ عملي لكيفية تنظيم المجتمع.
الزعيم البلغاري المخلوع تودور جيفكوف قال في العام الماضي: «لو قُدّر وعادت الأمور ثانيةً، فإنني لن أكون حتى شيوعيا»، «ولو قُدر لـ لينين أنْ يعود إلى الحياة اليوم، لكان سيقول الشيء نفسه. ويجب أنْ أعترف الآن بأننا بدأنا من الأساس الخطأ، من الفرضية الخاطئة. كان أساس الاشتراكية خاطئًا. وأظن أنَّه في مفهومها ذاته، كانت فكرةُ الاشتراكية ميتة».
لكنَّ الحرب الباردة بوصفها صراعًا أيديولوجيًا اختفت جزئيًا فحسب، على الرغم من انهيار الشيوعية. على الجانب الأميركي، لم تتغيرْ الأحوال كثيرًا عن ذلك اليوم؛ فالحرب الباردة انتهت، والولايات المتحدة فازت بها. لكنَّ الأميركيين معظمهم ما زالوا يظنون أنَّهم لا يمكن أن يكونوا آمنين إلا إذا بدا العالم أشبه ببلدهم، وإذا ما التزمت حكومات العالم بإرادة الولايات المتحدة.
استمرت الأفكار والافتراضات التي تراكمت على مدى أجيال، على الرغم من اختفاء التهديد السوفياتي. فبدلًا من سياسةٍ خارجية أميركية محدودة، وقابلة للتحقيق، ظن صانعو السياسات معظمهم من الطرفين كليهما أنَّ الولايات المتحدة تستطيع بعد ذلك، بتكلفةٍ قليلة أو خطر قليل، أنْ تتصرف على أساس ضروراتها الخاصة.
جاء الانتصار الأميركي بعد الحرب الباردة في صيغتين؛ الأولى، صيغة كلينتون التي عززت أجندة الازدهار لقيم السوق على نطاقٍ عالمي. وكان غموضها في الشؤون الدولية لافتًا، لكن غرائزها السياسية المحلية كانت على الأرجح محقةً: كان الأميركيون متعبين من التشابكات الأجنبية، ويريدون التمتع بـ: (عائدات السلام).
ونتيجةً لذلك، كانت التسعينيات فرصةً ضائعة للتعاون الدولي، ولا سيما لمكافحة الأمراض، والفقر، وعدم المساواة. وكانت أكثر الأمثلة وضوحًا على هذه الإغفالات هي ساحاتُ القتال السابقة في الحرب الباردة من مثل أفغانستان، والكونغو، ونيكاراغوا، إذ لم تكن الولايات المتحدة قادرةً على رعاية ما حدث حالما انتهت الحرب الباردة.
والثانية هو صيغة بوش، بينما أكدَّ الرئيس بيل كلينتون الرخاء، أكد الرئيس جورج دبليو بوش الغلبة. في هذه المرحلة -بطبيعة الحال- وقعت حوادث 11 أيلول/ سبتمبر. ومن المحتمل أنَّ صيغة بوش ما كانت لتظهر أبدًا إلى حيز الوجود لو لم تكن الهجمات الإرهابية على نيويورك، وواشنطن التي قام بها المتعصبون الإسلاميون (فصيلٌ متمرد، في الواقع، من تحالف أميركي في الحرب الباردة).
وقد كيّفتْ تجربة الحرب الباردة بوضوحٍ ردَّ الولايات المتحدة على هذه الفظاعات. وبدلًا من الضربات العسكرية المستهدفة، والتعاون الأمني العالمي الذي كان سيكون ردّة الفعل الأكثر منطقيةً، اختارت إدارة بوش هذه اللحظة من هيمنتنها العالمية بلا منازع لتسحق، وتحتل أفغانستان، والعراق. ولم يكن لهذه الإجراءات قيمةً بمعنى استراتيجي، منشئةً مستعمرات في القرن الحادي والعشرين تحت حكم دولةٍ عظمى من دون شهيةٍ للحكم الاستعماري.
ولكنَّ الولايات المتحدة لم تتصرف بدافع هدفٍ استراتيجي. لقد تصرفت لأنَّ شعبها كان غاضبًا وخائفًا، وهي تستطيع. وجَّهَت صيغة بوش مستشاري السياسة الخارجية الذين غالبًا فكروا في العالم وفق شروط الحرب الباردة؛ وشددوا على إسقاط السلطة، والسيطرة على الأراضي، وتغيير النظام.
ومن ثَمّ، فإنَّ عصر ما بعد الحرب الباردة لم يكن انحرافًا بل استمرار هدفٍ تاريخي مطلق للولايات المتحدة وتأكيده. ولكن تدريجًا، على مدى انقضاء جيل منذ الحرب الباردة، أصبحت الولايات المتحدة أقلُّ وأقل قدرةً على تحمل هيمنةٍ عالمية.
ومع دخول أميركا في قرن جديد، كان ينبغي أنْ يكون هدفها الرئيس جعل الأمم الأخرى تقبل القواعد الدولية، وسيادة القانون، لا سيما مع تقلص سلطتها. وبدلًا من ذلك، قامت الولايات المتحدة بما تفعله غالبًا القوى العظمى المتراجعة: الانخراط في حروبٍ لا جدوى منها، بعيدًا عن حدودها التي يُسيء فيها الأمن قصير الأجل إلى الأهداف الاستراتيجية طويلة الأجل. والنتيجة هي أميركا أقل جاهزية مما كان يمكن أن يكون لأن تتعامل مع التحديات الكبرى في المستقبل: صعود الصين والهند، ونقل السلطة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق، والتحديات النظامية من مثل تغير المناخ، والأوبئة، والمرض.
بفرض أنَّ الولايات المتحدة فازت في الحرب الباردة، لكنها فشلت في الاستفادة منها، والاتحاد السوفياتي، أو بالأحرى روسيا، خسرتها، كثيرًا. وقد أدى الانهيار إلى شعور الروس بالإهانة والقهر. الذين كانوا يومًا ما الأمة النخبة في اتحاد القوى العظمى للجمهوريات. في ما بعد، لم يبقَ لديهم هدفٌ ولا موقف. وعلى نحوٍ ملموس، كانت الأمور سيئةً أيضًا. ولم يحصل كبار السن على معاشاتهم التقاعدية. بعضهم جاع حتى الموت. وأدى سوء التغذية، وإدمان الكحول إلى تقصير متوسط عمر الرجل الروسي من 65 عامًا تقريبًا في عام 1987 إلى أقل من 58 عامًا في عام 1994.
إذا شعر كثيرون من الروسيين بأنهم بلا مستقبل، فهم غير مخطئين. لقد سُرق مستقبل روسيا بالفعل بخصخصة الصناعة الروسية، ومواردها الطبيعية. وفُكِّكت الدولة الاشتراكية مع اقتصادها المحتضر، وظهرت أوليغارشيةٌ جديدة من المؤسسات الحزبية، ومكاتب التخطيط، ومراكز العلوم والتكنولوجيا، وملكية مفترضة لثروات روسيا. وفي كثيرٍ من الأحيان، جرّد المالكون الجُدد هذه الأصول وأوقفوا الإنتاج. وفي حالةٍ كانت البطالة فيها -على الأقل- غير موجودةٍ على الإطلاق، ارتفع معدل البطالة خلال التسعينيات إلى ذروته، إذ بلغ 13 في المئة. وحدث هذا كله في حين كان الغرب يشيد بالإصلاحات الاقتصادية التي أجراها بها بوريس يلتسين.
في وقتٍ لاحق، كان التحوّل الاقتصادي إلى الرأسمالية كارثةً بالنسبة إلى الروس معظمهم. ومن الواضح أيضًا أنَّ الغرب كان ينبغي أن يتعامل مع روسيا بعد الحرب الباردة أفضل مما فعل. ولكان كلًّا من الغرب، وروسيا أكثر أمنًا اليوم لو أنَّ فرصة انضمام روسيا إلى الاتحاد الأوروبي، وربما حتى حلف شمال الأطلسي، ظلّت مفتوحةً على الأقل في التسعينيات.
وبدلًا من ذلك، أعطى إقصاءهم الروسيين الشعور بأنَّهم منبوذون وضحايا، وهو ما أعطى بدوره صدقيةً للقوميين المتشددين الساخطين من مثل الرئيس فلاديمير بوتين، الذين يرون الكوارث كلها التي حلّت بالبلاد على مدى الجيل الماضي مؤامرة أميركية لتقليص دور روسيا وعزلها. واستمر استبداد بوتين وعدوانيته بدعم شعبي حقيقي.
لقد أفسحت صدمات التسعينات الطريق أمام نزعةٍ شكّيةٍ ساخرة مستهترة بين الروسيين التي لا تقتصر على غياب الثقة العميق في مواطنيها فحسب، بل ترى أيضًا المؤامرات ضدها من الجميع، وغالبًا ما تتعارض مع الواقع والعقل. أكثر من نصف الروسيين يظنون الآن أنَّ ليونيد بريجنيف كان زعيمهم المفضل في القرن العشرين، يليه لينين، وستالين. غورباتشيف هو في أسفل القائمة.
بالنسبة إلى الآخرين في أنحاء العالم جميعها، جاءت نهاية الحرب الباردة بلا شك بمنزلة فرج. وكثيرًا ما يُنظر إلى الصين على أنَّها مستفيدة رئيسة من الحرب الباردة. هذا ليس صحيحًا تمامًا، بطبيعة الحال. على مدى عقود، كانت البلاد تحت حكم دكتاتوريةٍ ماركسية لينينية لم تكن متوافقةً مع حاجاتها. وكانت النتيجة، خلال الحقبة الماوية، وقع بعضٌ من أشدِّ الجرائم فظاعةً في الحرب الباردة، إذ قُتل ملايين. ولكن في السبعينيات والثمانينيات، استفادت الصين في عهد دينغ سياو بينغ استفادة كبيرة من تحالفها الواقعي مع الولايات المتحدة، في مجالي الأمن والتنمية.
في العالم متعدد الأقطاب الذي يتأسس الآن، ظهرت الولايات المتحدة، والصين بوصفها أقوى القوى. وستحدد منافستهم على النفوذ في آسيا آفاق العالم. إنَّ الصين، مثل روسيا، تندمج اندماجًا جيدًا في النظام الرأسمالي العالمي، ويرتبط كثير من مصالح قادة هذين البلدين بمزيدٍ من التكامل.
روسيا والصين، بعكس الاتحاد السوفياتي، من غير المرجّح أنْ تسعيا للعزلة أو المواجهة العالمية. وستحاولان عرقلة المصالح الأميركية، والسيطرة على مناطقهم. ولكن لا الصين، ولا روسيا مستعدةً لمواجهة تحد أيديولوجي عالمي تدعمه قوة عسكرية أو قادرةً عليه. التنافس قد يؤدي إلى الصراعات، أو حتى الحروب المحلية، ولكن ليس من نوع الحرب الباردة النظامية.
إنَّ السهولة التي تكّيف بها عدد من الماركسيين السابقين مع اقتصادات سوق ما بعد الحرب الباردة تثير تساؤلًا عما إذا كان هذا صراعًا كان يمكن تجنبه في المقام الأول. وفي النهاية، كانت النتيجة لا تستحق التضحية ليس في أنغولا، وليس في فيتنام، أو نيكاراغوا، أو روسيا، لهذه المسألة. ولكن هل كان من الممكن تفاديها مرةً أخرى بالعودة إلى الأربعينيات، عندما انتقلت الحرب الباردة من صراعٍ أيديولوجي إلى مواجهةٍ عسكرية دائمة؟
في حين إنَّ الصراعات والمنافسات في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت حتميةً بالتأكيد -كانت سياسات ستالين وحدها كافيةً لإنتاجها- فمن الصعب القول إنَّ الحرب الباردة العالمية التي استمرت مدة 50 عامًا تقريبًا، وهددت بمحو العالم ما كان يمكن تجنبها. كانت هناك مواقف خلال تلك المرحلة، إذ كان يمكن للقادة أن يتراجعوا، وبخاصة عن التنافس العسكري وسباق التسلح. غير أنَّ الصراع الأيديولوجي الذي كان سبب التوتر جعل من الصعب جدًا تحقيق هذا التفكير المعقول.
ويظن الناس ذوو النيات الحسنة من الجانبين أنّهم يمثلون فكرةً كان وجودها ذاته مهددًا. وقد دفعتهم إلى افتراض أن المخطرة بحياتهم وحياة الآخرين، مخاطرة يمكن تجنبها.
لقد أثرَّتْ الحرب الباردة في الجميع في العالم بسبب تهديد الدمار النووي الذي تنطوي عليه. في هذا المعنى، لم يكن أحدٌ آمنًا من الحرب الباردة. وكان أكبر انتصار لجيل غورباتشيف هو تجنب الحرب النووية. تاريخيًا، منافسات القوى العظمى معظمها تنتهي بكارثة. الحرب الباردة لم تنته كذلك، ولكن في بضع مناسبات، كنا أقرب كثيرًا إلى الدمار النووي من أيّ شيءٍ، ولكنَّ قلة أدركوا ذلك.
لماذا كان القادة على استعدادٍ للمجازفة غير المعقولة بمصير الأرض؟ لماذا كان كثير من الناس يؤمنون بالأيديولوجيات التي عرفوها، وغالبًا، لم يكن يمكن أنْ تقدم الحلول جميعها التي كانوا يبحثون عنها؟ جوابي هو أنَّ عالم الحرب الباردة، مثل عالم اليوم، كان لديه كثير من العلل الواضحة. ومع ظهور الظلم والطغيان بوضوحٍ أكثر في القرن العشرين من خلال الاتصالات الجماهيرية، شعر الناس -وبخاصةً الشباب- بالحاجة إلى علاج هذه العلل. قدمت أيديولوجيات الحرب الباردة حلولًا عاجلة للمشكلات المعقدة.
الذي لم يتغير مع نهاية الحرب الباردة هو الصراعات بين من يملكون، ومن لا يملكون في الشؤون الدولية. وفي بعض أنحاء العالم اليوم أصبحت هذه الصراعات أكثر حدَّةً بسبب تصاعد الحركات الدينية، والعرقية التي تهدد بتدمير مجتمعاتٍ بأكملها. غير أنَّ المتهورين بالحرب العالمية الباردة الذين تظاهروا على الأقل أنَّ الناس جميعهم يمكن أنْ يدخلوا جنتهم الموعودة، هم جماعات استقصائية أو عنصرية بصورة واضحة، وأنّ مؤيديهم مقتنعون بأنَّ هناك ظلمٌ كبير قد حدث لهم في الماضي، وهو ما يبرر بصورة ما اعتداءاتهم الحالية.
في كثيرٍ من الأحيان، لا سيما الشباب الذين احتاجوا إلى أنْ يكونوا جزءًا من شيء أكبر من أنفسهم أو حتى من أسرهم، ولنوع من المثال الكبير لأن يكرس المرء حياته لأجله. وتُبين الحرب الباردة ما يمكن أنْ يحدث عندما تُحرَّف هذه المفهومات من أجل السلطة والنفوذ والسيطرة.
وهذا لا يعني أن هذه الدعوات الإنسانية ذاتها لا قيمةَ لها في حدِّ ذاتها. غير أنَّه تحذيرٌ ينبغي أنْ ننظر إليه بعنايةٍ حول الخطر الذي نرغب في التعرض له لتحقيق مثلنا، حتى لا نكرر الخسارات الفادحة التي استغرقها القرن العشرين في سعيه نحو الكمال.