ترجمة أحمد عيشة

(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة

في الأشهر الأخيرة، بدأ عدد من الأكاديميين والمعلقّين عملية تفكير وتأمّل في صدى وملاءمة الهويات الطائفية، وإن كان ذلك بطرق مختلفة. في موقع (SEPAD) المعني بدراسات التطييف ونزعه في لندن، قدّمنا ​​أنا ومورتن فالبجورن، في وقت سابق من هذا العام، أوراقًا حول موضوع “نزع التطييف”. ومن دون قصد، استخدمنا مقاربات مماثلة للموضوع، ولكننا انتهينا بفهم مختلف تمامًا. شوهد هذا التعدد في الأفكار في مقالات لكل من باسل صلوخ، وزيدون الكيناني، وجيسيكا واتكينز، وبن روبن دو كروز، وآخرين. بالطبع، يظهر تعقيد هذه الأسئلة في خضم السياقات المختلفة التي يستكشفها المؤلفون، من حركة (You Stink) الاحتجاجية في لبنان، إلى تداعيات انتخابات 2018 في العراق.

يشار إلى هذه المفاهيم على أنها تحرك نحو نزع التطييف أو ما بعد الطائفية أو مناهضة الطائفية، إذ تشير (المفاهيم) إلى التنازع والتآكل الواضح لانتشار الهويات الطائفية في الحياة الاجتماعية والسياسية. وعلى ما يبدو، تشير المصطلحات إلى عمليات مختلفة، حيث تشير ما بعد الطائفية إلى تجاوز الهويات الطائفية ومناهضة الطائفية، مع الاعتراف بوجود مجموعات ترفض فعليًا وجود الهويات الطائفية، ومع ذلك فإن نزع التطييف يعمل كمصطلح شامل يشير إلى الطيف الواسع من الطرق التي يكون فيها تنازعٌ على الهويات الطائفية، وإلى طرق تقليل جوانب الطائفية المشحونة سياسيًا.

الفهم الأساسي لنزع التطييف هو مناقشات حول الهوية والأمن. يتم تعبئة الهوية من قبل الفاعلين الذين يسعون إلى التأكيد على أوجه التشابه مع أعضاء الجماعة، وعلى الاختلافات بين التي لدى الجماعات الخارجية. في حين كان يُنظر إلى الجهات الحكومية تقليديًا على أنها الوكيل الرئيس لتعبئة الهوية، على النحو الذي أوضحه أمثال مايكل بارنيت، فإن ظهور الرواد الطائفيين في الأعوام الأخيرة يكشف عن طريقة أكثر مرونة للتلاعب بالهويات، تنتهي بمجموعة من الطرق السياسية والحياة الاجتماعية والاقتصادية. يضيف صعود الرواد الطائفيين بعدًا إضافيًا إلى السياسة الطائفية، ويدمجها في الديناميكيات المحلية، حيث إنها تعمل على تعزيز قوة وتأثير شبكات التوريث الجديدة.

إحدى أبرز الدراسات العلمية التي تسعى إلى فهم الطرق التي ترسخت بها السياسة الطائفية، في جميع أنحاء الشرق الأوسط، أطروحةُ التطييف التي وضعها نادر هاشمي وداني بوستيل. حيث ترتكز أطروحة التطييف على العمل الفكري لمدرسة كوبنهاغن وعمليات الآمننة securitization [تحويل السياسة إلى عملية أمن] التي تلعب دورًا بارزًا في توسيع الأجندة الأمنية، من خلال تأطير القضايا باعتبارها تهديدات وجودية. بالنسبة إلى باري بوزان (أحد الآباء المؤسسين للمدرسة)، تحتاج عملية الأمننة إلى نقل القضايا من حالة الطوارئ إلى عملية المساومة العادية في المجال السياسي. إن عملية تأطير الحدث بهذه الطريقة تعبّر عن “الحاجة والحق لمعالجته بوسائل غير عادية”. والنتيجة المباشرة لذلك، كما لاحظ تييري بالزاك، هي أن “تعبير الأمن بحد ذاته يخلق نظامًا اجتماعيًا جديدًا”، حيث السياسة العادية “تُحصَر بين قوسين”.

تتم تحركات الأمننة داخل المكان، وتتشكل من خلال تفاعل الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية والدولية، وبهذه العملية؛ تكتسب الهويات طابعًا أمنيًا وتؤطَر على أنها تهديد وجودي. تحدث حركات الأمننة -كما يجادل مات ماكدونالد- على ثلاث مراحل: تحديد التهديد، وظروف التسهيل، والجمهور. تسمح هذه المراحل الثلاث بتحليل أكبر للقطاع الذي تحدث فيه الأمننة، وتشكُل التحديد في العملية، مع الظروف التي تسمح بحركات الأمننة لإيجاد الجاذبية والرواج، ومراعاة الجمهور المستهدف لأعمال الأمننة. وقد اقترحتُ، في مكان آخر، أن هناك عددًا لا يحصى من المشكلات عند تطبيق مقاربات الأمننة في الشرق الأوسط، استنادًا إلى تنظيم المجتمع، وطبيعة “السياسة العادية” والمشكلات المتعلقة بـ “السترة الويستفالية المقيدة” التي تقصر الجمهور على الدوائر الانتخابية المحلية في الغالب. إن بروز عنصر الدِّين في نسيج الدول يعني أنه عند حدوث التحركات الأمنية على أسس طائفية، فإن أفعال الكلام هذه تخاطب الجماهير في جميع أنحاء المنطقة. وبالفعل، فإن خليط mélange الهويات وانتشارها في جميع أنحاء المنطقة يعني أن التحركات الأمنية غالبًا ما يكون لها جماهير غير مقصودة، ويؤجج ذلك عمليات الطائفية، ويزيد من التحدي أمام نزع الطابع الطائفي/ التطييف.

على الرغم من هذه المشكلات، فإن الإيماءة إلى الأمننة تساعد في إلقاء الضوء على عدد من جوانب أطروحة التطييف، وهي أهمية تأطير الأحداث ضمن السياقات المحلية والإقليمية والتحدث إلى جمهور معين. إن لعمليات الأمننة عواقب سياسية واضحة، من خلال الطرق التي يشكل بناء التهديد فيها بناء الهوية. ومن هذا المنطلق، فإن الجهات الفاعلة ليست مستقلة عن تحركات الأمننة -أو التطييف- بل تُبنى عبر السرد من خلال الفهم الخاص للتهديد.

وينخرط الرواد الطائفيون -كما تجادل جينيف عبدو- في إعادة كتابة “تاريخ الحاضر”، حيث تُشكَل الذاكرة والتقاليد من خلال سياق العوامل المحلية والإقليمية وحالتها الطارئة، مع ما يترتب على ذلك من آثار على ترتيب المكان. في نهاية المطاف، كما يقترح ياسين الحاج صالح، في كتابه “الثورة المستحيلة”، خلقت إستراتيجية سياسات التطييف جنونًا عارمًا جماعيًا، وأدت إلى الانحدار إلى الخوف، من خلال قتل “مفهوم الحقيقة نفسه”.

وكما أن التطييف يُدعَم بمنطق الأمننة، فإن نزع التطييف يُدعَم بمنطق إلغاء الأمننة الذي يمتلك القدرة على تغيير الظروف المُيسرة التي تساعد في أن تكتسب التحركات الأمنية الرواج. ويقترح أوليه وايفر أن من الممكن أن تُلغى الأمننة في ثلاثة أشكال: ألا تؤطر قضية ما كتهديد؛ أو بإدارة الأمننة بحيث لا تتصاعد؛ أو بإعادة القضية المؤمننة إلى السياسة العادية. من الأمور الأساسية في هذه المقاربة فكرة إلغاء الأمننة، التي يعدّها جيف هويسمانز “عدم صنع الأمننة”. هناك أدبيات مزدهرة حول إلغاء الأمننة كوسيلة ممكنة للخروج من الخوف الوجودي من إضفاء الطابع الأمني ​​على التحركات، ومع ذلك فإن قدرًا كبيرًا من هذه الأدبيات يأخذ في الحسبان الأجزاء المكونة التحليلية والفلسفية. على الرغم من أهميتها بالتأكيد، ربما تكون هناك جوانب أخرى أكثر صلة بمقاربتنا. وتجادل كلوديا أراداو بأنه يجب أولًا معالجة مسألة إلغاء الأمننة سياسيًا، قبل معالجتها بشكل تحليلي، وهذا يستدعي النظر والتأمل في طبيعة الحياة السياسية ذاتها. بينما تساعد عمليات الأمننة وإلغاؤها في إظهار المنطق الكامن وراء عمليات التطييف، ونزع التطييف، فإن هذه العمليات تتشكل جميعها من خلال حالات الطوارئ في السياق المحلي.

ومثلما تخلق التحركات الأمنية التهديدات والهويات، في محاولة لإزالة الأمننة، يجب على المرء تحدي تعريف التهديدات والسياسة نفسه على نطاق واسع. ومن الأمور المركزية في هذا السياق، الحاجة إلى تجاوز فهم شميت للسياسي، وهو الفهم الذي يضع الصديق في خندق بمواجهة العدو: “إن كيفية صياغة مفهوم إيجابي للسياسة يسمح بتحديد القيمة في سياق المجتمعات الحديثة ممزقة، بين عملية تبرير رسمية وعملية جمالية وغير عقلانية وذاتية لتحديد القيمة التي لا يمكن أن تصبح قوة مضادة ناجحة للعقلنة المجتمعية، بسبب ذاتيتها”. بالنسبة إلى جيف هويسمانز، فإن الحاجة إلى إنشاء عملية بناء الهوية، مع تجزئة الهوية، هي المفتاح لمنع ظهور هوية مهيمنة. وكما أوضحت كلوديا أراداو، يجب أن يُنظر إلى إلغاء الأمننة على أنها “عملية عدم تحديد الهوية، وانقطاع عن الهوية المخصصة، والمشاركة في مبدأ عالمي”. يمكن تقديم ادعاءات مماثلة حول عمليات نزع التطييف، وإن ظهرت في مجموعة من الطرق المختلفة التي تتوقف على الزمان والمكان.

يُنظر إلى عملية نزع الهوية هذه عبر الشرق الأوسط في سلوك الجماعات الرافضة للهويات والسياسات الطائفية. وكما وثق جون ناغل، وأشار آخرون إليه في مدونات موقع (SEPADPods)، فإن تحركات نزع التطييف تحدث في مجموعة من الأشكال المختلفة، أبرزها البيئة والمثليون والقوميون، وعادة ما تحدث خارج النظام السياسي الذي يعزز السياسات والهويات الطائفية، ومع ذلك يجب أن يحدث ذلك. تجدر الإشارة إلى أن نظام آل خليفة في البحرين سعى إلى تجاوز الخلافات الطائفية، للقضاء على التهديد المتصوّر من الجماعات الشيعية. وعلاوة على ذلك، تتشكل هذه العمليات نفسها من خلال مجموعة من العوامل الاجتماعية السياسية التي يمكن أن تحد -أو تسهل بالفعل- الوصول إلى الحركات. ونتيجة لذلك، تختلف عمليات نزع التطييف عبر الزمان والمكان، وتؤدي إلى مجموعة من النتائج المختلفة التي شكلتها الجهات الفاعلة المعنية والسياق الذي تحدث فيه هذه العمليات.

إن العمل على نزع التطييف عن الحياة السياسية عملية معقدة، توجب الاعتراف بمجموعة من الظواهر المختلفة والمشاركة فيها، وسيتم كشف تلك الظواهر بمزيد من التفصيل في منشورات (SEPAD) المستقبلية. نشرت مجلة الإيمان والشؤون الدولية (Faith and International Affairs) مناقشة موسعة حول هذه الأفكار، في كانون الأول/ ديسمبر 2019، وستنشر عددًا خاصًا كاملًا حول موضوع نزع التطييف، يتألف من إسهامات من أعضاء رئيسين في (SEPAD).

وفي الختام، يتضمن نزع التطييف إعادة تخيّل مكان الهويات في المشهد الاجتماعي والسياسي المعاصر، الذي يمكن أن يكون له تداعيات بعيدة المدى على تنظيم الحياة. ولكي يكون لدينا فهمٌ أكثر دقة لهذه العمليات، نحتاج إلى تحليل أوسع بكثير لمجموعة من العوامل، وأهمها: أ) الجهات الفاعلة المعنية؛ ب) العمليات المختلفة لإعادة تخيل سياسات الهوية؛ ج) السياق الذي يشكل هذه الإمكانية (محليًا وإقليميًا ودوليًا)؛ د) قدرة الجهات الفاعلة على ممارسة الفاعلية في مواجهة السلطة السيادية والضغوط الهيكلية.

اسم المقالة الأصليDE-SECTARIANIZATION: SOME INITIAL THOUGHTS
الكاتبسيمون مابون، Simon Mabon
مكان النشر وتاريخهمدونة (SEPAD)، 19 آب/ أغسطس 2019
رابط المقالةhttp://bit.ly/3r41Y4b
عدد الكلمات1320
ترجمةقسم الترجمة/ أحمد عيشة