رامي البستان/ ترجمة بدر الدين عرودكي
(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
شهادات: مقهى، منصّة ملوّنة، ألعاب أطفال، وصور بشار الأسد في كل مكان. تحكي هذه الصور، المأخوذة بسرّية من الحياة اليومية في سورية، بقاءَ وهيمنة نظامٍ لا يرحم الشعب، بعد عشر سنوات من حربٍ أدّت إلى مقتل 500000 شخص و 12 مليون من النازحين.
“إجاك الدور يا دكتور”، هتف بها المتظاهرون في الأيام الأولى من آذار/ مارس 2011، خلال ما سوف يصير الحلقة السورية في “فصول الربيع العربي”. عشر سنوات من حرب أهلية، من “الصراع”، كما يقال بخجل في أوساط الموالين، ولا يزال بشار الأسد هنا دومًا. الناجي الوحيد من موجة جرفت كل المستبدين في المنطقة، مستمرًا في السلطة لقاء وحشية لا هوادة فيها، وبفضل الدعم الخارجي الروسي والإيراني لنظامه.
عشر سنوات، ومن لا يلفظ أحدٌ اسمه جهرًا موجودٌ في كل مكان، وفي ضروب الصور كلها: أبو الأمة الباسم، العسكري المتقشف، بشارب، وحليق الذقن، وحده، أو مع أخيه، أو مع أبيه؛ صغيرًا، وكبيرًا، ملصقة على المباني الرسمية، وفي الساحات، والمدارس، والمتاجر، وكذلك تلك الملصقة على زجاج السيارات الخلفي، أو المؤطرة، والمعلقة، كملصقات ورقية على الجدران… لقد جعل الرئيس السوري من شخصه رأس حربة الدعاية الحكومية.

ستائر الحديد مدهونة بألوان العلم السوري، “اقتراح” من السلطات، موالاة سطحية من قبل شعبٍ تخنقه الأزمة الاقتصادية. في دمشق، مركز السلطة، كل الستائر مدهونة على هذا النحو بلا استثناء. في حلب، وفي حمص، يُلاحظ غياب البعض منها. ولا بد من مغادرة العاصمة السورية، عبر الأوتوستراد م5، ذلك الذي يذهب نحو الشمال، عبر ضواحي دمشق، وحمص ثم حماة، حيث معاقل معارضة النظام، كي نكتشف ثمن هذه الحرب الأهلية التي أدت حتى الآن إلى مقتل 500000 قتيل و12 مليون من النازحين (حسب إحصاءات منظمة العفو الدولية).
“لم يعد بوسع الذين خرجوا من البلاد أن يعودوا إليها، والذين غادروا يعودون غالبًا إلى الخرائب. ولهذا، أبقى هنا، وأنتظر” نبيل، من سكان حلب الشرقية.
لا بد من أن تقود السيارة طوال أربع ساعات على الطريق المؤدي إلى حلب، عبر الأراضي التي استعادها النظام، وأن ترى من النافذة القرى الخاوية على عروشها وهي تتوالى، وفيها البنى التحتية المدمرة، والمباني المهدّمة، كي تفهم فوضى الحرب الكبيرة. “مرحبًا بكم في حلب، ملكة العالم!”، يصرخ نبيل الشاب، المقيم في مطعم يقع في القسم الغربي من حلب، مذكِّرًا بسخرية أن المدينة هي إحدى أقدم مدن الإنسانية.
كواحد من سكان حلب الغربية، لم يغادر المدينة عند وقوع المعارك. “إلى أين تريدني أن أرحل؟” يتظاهر بالاستعلام. “هل رأيت كيف استُقبلَ الذين رحلوا بسبب المعارك؟”، ويعدِّد قائمة الأصدقاء الذين هربوا من المدينة أو من سورية. “لم يعد بوسع أولئك الذين خرجوا من البلاد أن يعودوا إليها، والذين غادروا بسبب المعارك يعودون غالبًا إلى الخرائب”. يشرح مغلوبًا على أمره، “ولهذا أبقى هنا، وأنتظر”.

عشر سنوات، وحلب الشهباء (الشهباء اسم لون الرخام الذي يكسوا مبانيها) لم تعد كذلك. فنصف المدينة، أي ذلك الذي كان المتمردون يسيطرون عليه ويُقصَفُ من قبل القوات الموالية، صار حقل خرائب واسعًا. القلعة، وهي متحف قديم يمجِّد تاريخ مدينة عمرها آلاف السنين، صارت حصنًا عسكريًا يحيِّي بشار الأسد، من قمتها، مستمتعًا، أنقاضَ مدينة وقفت في وجهه.
أطفال لم يعرفوا سوى الحرب يلعبون بكرة القدم على الساحة، بعد أن كفوا عن الانتباه إلى الدمار الذي يحيط بهم. أمام بقايا ما كان يؤلف من قبل أحد أقدم أسواق المنطقة، وضعت طاولات وكراسٍ من البلاستيك يجلس الحلبيون عليها لتناول الشاي أو النرجيلة، وقد أداروا ظهورهم للدمار. تحوّلٌ غريب لحياة عادية ظاهريًا.
في المناطق التي بدأ فيها النازحون يعودون بأعداد ضئيلة للغاية، هذا إن سُمِحَ لهم بذلك، تستعيد الحياة طبيعتها بصورة خدّاعة. أولئك الذي كانوا محظوظين إذا وجدوا بيتهم سليمًا يحاذون أولئك الذين قذف بهم من المخيم إلى أماكن إقامة غير رسمية، منتظرين بصورة محمومة عودة غير مؤكدة. وثمة ألغام غير متفجرة، ومبانٍ على حافة الانهيار، وخدمات شبه معدومة…تقول المخاطرُ التي يواجهها الذين قرروا العودة الكثيرَ حول وضع النازحين الذين فضلوا هشاشة الأمل في ما يشبه حياة مستقرة، على عدم اليقين وعلى آلام حياة المنفيين.

كان هناك أكشاك صغيرة تظهر بين الأنقاض، في حين أن الأرتال من أجل توزيع الخبز والحساء الشعبية تمتد وتصير منظرًا عاديًا. صار أكثر من 80% من السكان تحت عتبة الفقر، وتفاقمت الأزمة الاقتصادية حين اقترنت بأزمة غذائية.
البلد الهزيل يختنق بالجهد الحربي، وبالعقوبات الغربية وبالأزمة المنهجية في لبنان المجاور الذي جعل منه السوريون منفذهم المالي. وقد دفع التضخم المتفجر، الذي بلغت نسبته 300% خلال سنة، المصرفَ المركزي السوري، وبعد تخفيض قيمة العملة في صيف 2020، إلى إصدار أوراق نقدية جديدة. ومن علامات الزمن وهموم النظام، كان ثمة رسم يمثل جنديًّا يحيّي العلم الوطني هو الذي يزين الورقة النقدية من فئة 5000 ليرة.
عشر سنين من أراضٍ محروقة، وأجساد وأرواح جريحة. “قبل الحرب، لم نكن أغنياء، لكننا كنا فخورين“، كما تروي ريما، التي بقيت حتى الآن صامتة في شقتها بلا كهرباء في ضواحي حلب. وتضيف الأرملة الشابة ذات الثلاثة والعشرين عامًا، وهي أم ّطفلين، بصوت عذب وقد أضاء وجهها قليل من نور النهار عبر الستائر: “بعد عشر سنوات من الصراع، ما الذي بقي لنا من هذا الفخر؟”













عنوان المادة: D’Alep à Damas, des vies en ruines
الكاتب: Rami Al-Bustan
المترجم: بدرالدين عرودكي
مكان وتاريخ النشر: Le Monde, le 05 mars 2021
رابط المقال: https://bit.ly/3rqfpKN
عدد الكلمات: 1003