(*) أجرى هذه المقابلة يواخيم فرانك (Joachim Frank)، ونُشرت باللغة الألمانية في موقعي “كولنر شتات أنتسايغر” في 27/ 07/ 2020، و”فرانكفورتر غوندشاو” في 29/ 07/ 2020، وتمت الترجمة إلى اللغة العربية ونشرها بموافقة كل من البروفيسور كلاوس كريس والصحفي يواخيوم فرانك الذي أجرى المقابلة.
__________
(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
إن محاكمة كوبلنز الحالية لعملاء مخابرات سابقين لنظام الأسد، عن جرائم قتل وتعذيب، هي محاكمةٌ استثنائيةٌ في كل شيء.
يشرح كلاوس كريس (Claus Kreß)، أستاذ القانون الجنائي في جامعة كولونيا، في مقابلة معه، سبب أهمية المحاكمة الأولى في العالم لعملاء سابقين في أجهزة السلطات السورية، في عهد الأسد، بالنسبة إلى مجمل القانون الجنائي الدولي.
بالإضافة إلى ذلك، يشرح البروفيسور كريس، وهو مؤلف مشارك للمدونة الألمانية للجرائم بموجب القانون الدولي (Völkerstrafgesetzbuch)، الدور الإشكالي الذي تلعبه الحكومة الاتحادية [الألمانية].
اقرأ الحوار كاملًا هنا:
- بروفيسور كريس، هناك سوريّان ينتميان إلى جهاز مخابرات نظام الأسد، متهمان بارتكاب أسوأ الجرائم في وطنهما، ويحاكمان في المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز؛ ما هو الأساس القانوني لصلاحية المحكمة الألمانية؟
تستند المحاكمة إلى المدونة الألمانية للجرائم بموجب القانون الدولي لعام 2002. وتتعلق القضية بجرائم ضد الإنسانية، أي بجرائم خاضعة لحكم القانون الدولي. الفكرة هي أن مثل هذه الجرائم تهمّ العالم كله. لا تتعلق كوبلنز، في المقام الأول، باهتمام ألماني بالمحاكمة الجنائية. فالقضاء الألماني يتصرف بصفة الوكيل المؤتمن في خدمة المجتمع الدولي.
- لماذا لا يحاكم المتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية؟
كان يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تكون مكانًا جيدًا جدًّا للمحاكمة؛ لكنها تفتقر إلى الصلاحية القضائية للنظر في القضية. لم تنضم سورية إلى المعاهدة التأسيسية للمحكمة. وبالتالي، لا يمكن ملاحقة السوريين الذين يرتكبون جرائم على الأراضي السورية من قبل المحكمة، إلا بتفويض صريح من مجلس الأمن الدولي. لكن ذلك لم ينجح حتى الآن، بسبب قوة المصالح السياسية، خصوصًا مصالح روسيا، حيث منعت موسكو، حتى الآن، جميع محاولات تقديم أعضاء نظام الأسد إلى العدالة الدولية.
- إذن، قضية كوبلنز هي سابقةٌ؟
وفقًا لرؤيتي، هذه أوّل محاكمة في العالم لمسؤولين سوريين رسميين سابقين، في عهد الأسد، وبلا شكّ، هي ذات وظيفة رائدة مع أهمية دولية. من الشواغل الرئيسية للمدونة الألمانية للجرائم بموجب القانون الدولي، أنه ينبغي لألمانيا أن تسهم في مقاضاة مرتكبي الجرائم بموجب القانون الدولي، عندما لا تكون هناك محكمة جنائية دولية. وهذه هي الفكرة التي يجري تنفيذها في كوبلنز.
- ما الدور الذي يفترض أن يكون المتهم قد لعبه في الجرائم التي اتُّهمت أجهزة الدولة بارتكابها؟
هذه هي -إذا أردت- السمة الرئيسة لهذه المحاكمة. منذ نشأة القانون الجنائي الدولي في محاكمات نورمبرغ لكبار مجرمي الحرب النازيين، يستهدف هذا القانون مثل هذه الأفعال تحديدًا. من الناحية العملية، من الأسهل بكثير اتخاذ إجراءات ضد المشتبه بهم الذين لا يمكنهم الاختباء وراء سلطة الدولة. وهذا ما أفضى، في السنوات الأخيرة، إلى ميل الملاحقات الجنائية الوطنية إلى التركيز على الجهات الفاعلة غير الحكومية. وهذا الاتجاه خطير للغاية على شرعية العدالة الجنائية الدولية. لا يجب أن يُسمح بنشوء انطباع عن ظهور شكل جديد من “عدالة المنتصر”.
- من المحاكمات النازية حتى يومنا هذا، موقف الجناة معروف جيدًا؛ بوصفهم موظفين حكوميين، كان عليهم أن يتبعوا الأوامر ولا يمكن أن يخالفوها. هل هذه حججٌ مقنعةٌ؟
الإحالة على “الأوامر العليا” أو على “الإكراه” هي استراتيجيات دفاع كلاسيكية في المحاكمات الجنائية الدولية. ومع ذلك، نادرًا ما تنجح. على وجه الخصوص، لا يعفي وجود الأوامر المدعى عليه من المسؤولية، إذا كان عدم المشروعية واضحًا في الأوضاع المتصلة بالجرم المرتكب. ولا يؤخذ “الإكراه” في الحسبان إلا عندما يتعرَّض الشخص المنتمي إلى جهاز الدولة، لتهديد مباشر بالموت أو بالأذى الجسدي الخطير، في حال رفضه تنفيذ أوامر الدولة. ولكن كون الأشخاص المتهمين في كوبلنز جزءًا من أجهزة الدولة، يتضمن جانبًا قانونيًّا مهمًّا آخر، آمل أن يتم تناوله بوضوح، في محاكمة كوبلنز.
- أي جانب؟
مسألة تمتّع المتهم بالحصانة، بوصفه مسؤولًا حكوميًّا. هذه النقطة ذات أهمية أساسية: عادة، لا يجوز للدولة أن تتخذ إجراءات جنائيةً ضد شخص متهم تصرّف بوصفه جزءًا من جهاز حكوميّ تابع لدولة أخرى ذات سيادة، ما لم تزل تلك الدولة تلك الحصانة. إذا طُبِّقت هذه القاعدة أيضًا على الجرائم بموجب القانون الدولي، فإنها ستقوِّض جوهريًّا فكرة المقاضاة الجنائية الفعالة لهذه الجرائم. في النهاية، في معظم الأحيان، تُرتكب الجرائم الدولية من قبل أعضاء أجهزة الدولة، وعادةً لا تقوم دول مرتكبي هذه الجرائم بتقديمهم إلى العدالة.
- انطلاقًا من ذلك، هل يمكن القول إن المتهم لا يمكنه المطالبة بالحصانة؟
نعم. وبدا لفترة طويلة أن هناك توافقًا في الآراء على أن القاعدة التي تقول: “لا حصانة وظيفية في حالة الدعاوى على الجرائم بموجب القانون الدولي”، قد أصبحت راسخةً في القانون الدولي. إن الحكم الإسرائيلي التاريخي في محاكمة أدولف أيخمان، في ستينيات القرن العشرين، يحتوي على تأكيد بارز بأن خلاف ذلك يتعارض مع فكرة القانون الجنائي الدولي. ومع ذلك، فإن هذا السؤال بالتحديد هو الذي أثار أخيرًا نزاعًا حادًّا في لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة؛ وقد جاهر عدد غير قليل من الدول لصالح الحصانة، في هذا السياق. لسوء الحظ، فإن الحكومة الاتحادية [الألمانية]، التي فعلت الكثير، في العقود الماضية، بدعم واسع من البرلمان الألماني، لإنشاء نظام عدالة جنائية دولية، لم تعارض هذه الأصوات، ولكنها، بدلًا من ذلك، أثارت شكوكًا كبيرة حيال موقفها الخاص.
- هل يلقي هذا التطور بظلاله على قضية كوبلنز، حاليًّا؟
إن موقف المحكمة من موضوع الحصانة هو أحد أهم المسائل في إجراءات كوبلنز، إذا نظر إليها من زاوية القانون الجنائي الدولي، بوصفه كلًّا. يمكن للحكم الواضح، في هذه الموضوع، أن يسهم إسهامًا حاسمًا في تبديد الشكوك التي أثيرت حول موقف ألمانيا، في هذا الخصوص. آمل، بشدة، أن يتبنى القضاة موقف مكتب المدعي العام الاتحادي -وبالتضاد مع الشكوك المتعلقة بموقف الحكومة الاتحادية- وأن يرفضوا صراحةً حصانة المتهمين.
- ما الذي دفع الحكومة الاتحادية إلى التعبير عن شكوكها بشأن مسألة الحصانة؟
يبدو أنها ترى صراحةً أن القانون المطبَّق مشكوكًا فيه. إن التعبير عن مثل هذه الشكوك، في مثل هذه اللحظة الحرجة، يعني، بالضرورة، بيانًا سياسيًّا، حتى دون قول ذلك صراحةً. لن يكون من المفاجئ لأي شخص أن تمارس دول مثل الولايات المتحدة، في ظل دونالد ترامب، أو الصين الحازمة بشكل متزايد، ضغطًا على القانون الجنائي الدولي بشأن مسألة الحصانة المهمة عمليًا. يجب على ألمانيا مقاومة هذا الضغط. ولا يعني ذلك عدم الاعتراف بالمخاوف الموجودة المتصلة بقضية الحصانة.
- ما هي تلك المخاوف؟
ربما يكون لدى برلين مخاوف بشأن احتمال إساءة استخدام القانون الجنائي الدولي. في الواقع، لا يمكن إنكار أن السلطة القضائية الوطنية لا تتصرف بشكل مستقلّ وخال من ضغوط الدولة، في أماكن كثيرة من العالم. فقط فكّر في تركيا، حيث لا يوجد لدى المرء الانطباع بأن سيادة القانون في أيد أمينة.
- في هذه الحال، يمكن أن يكون هناك خطر أن تسعى حكومات هذه الدول إلى تحقيق مصالحها تحت ستار القانون الجنائي الدولي، وأن تحاكم مسؤولي دول أخرى، دول لا تتفق معها؟
نعم. لكن كن حذرًا: حتى الآن، بقدر ما أرى، لا يوجد دليلٌ ماديٌّ مقنعٌ على مثل هذه الانتهاكات. هذا لا يعني أنه ينبغي للمرء ألا يأخذ تلك المخاوف على محمل الجد. لكن التخلي عن مبدأ أساسي في القانون الجنائي الدولي هو رد الفعل الخاطئ.
- ماذا سيكون رد الفعل الصحيح؟
أولًا، كما هو الحال دائمًا، يجب انتقاد التعسف في تطبيق القانون، بشدة، فور حدوث هذا التعسف. ثانيًا، يمكن النظر في زيادة الرقابة الدولية على الإجراءات القانونية التي تتخذها دولةٌ ما ضد أجهزة دولة أجنبية. هناك فكرة أخرى قيد المناقشة، وتتمثل في منح الدولة التي ينتمي إليها المتهم حق أولوية المحاكمة، شريطة أن تتمكن هذه الدولة -على العكس من حال سورية في عهد الأسد- من إثبات أن محاكمها قادرةٌ ومستعدةٌ حقًّا لتنفيذ الإجراءات ذات الصلة.
__________
كلاوس كريس، المولود عام 1966، أستاذ القانون الجنائي الألماني والدولي ومدير معهد القانون الدولي للسلم والأمن بجامعة كولونيا. وهو أحد مؤلفي المدونة الألمانية للجرائم بموجب القانون الدولي. وهو قاض متخصصٌ في محكمة العدل الدولية في لاهاي، منذ عام 2019.