ترجمة علي كمخ

(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة

تسببت الحرب المتواصلة في سورية منذ عام 2011 في دمار مادي ومعنوي كبيرين؛ فقد شملت أضرار هذه الحرب (التي ارتُكبت فيها مختلف أنواع الجرائم والفظائع، من المجازر الجماعية… إلى عمليات الاغتصاب، وما إلى ذلك) وويلاتها جميعَ الناس الذين يعيشون في المنطقة، بصرف النظر عن أصولهم ومنابتهم العرقية. ولأن الناس فقدوا آمالهم في تحقق السلام على المدى القريب، اضطروا إلى سلوك طريق الهجرة، على مخاطره ووعورته، وانتشروا في أصقاع الأرض بحثًا عن ملاذ آمن لهم ولأسرهم.

خرج الوضع في سورية الذي بدأ بتظاهرات مدنية عام 2011، عن كونه نضالًا من أجل الديمقراطية، وانقلب في مدة قصيرة إلى حرب طاحنة، وتحولت البلاد إلى جغرافيا مقسمة يطبّق فيها كل تشكيل أو فصيل قانونه الخاص به. فقبل الحرب، كان العرب السنة يشكلون ما نسبته 60 %، والعرب المسيحيون 10%، والعرب العلويون 10%، والكرد السنّة 10%، والتركمان 05% من مجموع عدد سكان سورية البالغ حوالي 22 مليون نسمة، أما النسبة الباقية، فكانت تتألف من مجموعات عرقية ودينية مختلفة. غير أن الحديث عن هذه النسب لا يبدو ممكنًا اليوم.

وبصرف النظر عن المكونات الاجتماعية الأخرى، يشكل الكُرد في سورية إحدى أكثر المجموعات إثارة للجدل في ما يتعلق بمستقبل البلاد. حيث إن الأكراد السوريين الذين لم يتمكنوا من إثبات وجودهم السياسي الفعال في البلاد في فترة ما قبل الحرب، بسبب سياسات القمع والاحتواء التي انتهجها النظام، كانوا منقسمين فيما بينهم أيضًا، بسبب ولاءاتهم العشائرية وصراعاتهم على السلطة والنفوذ.

فحزب الاتحاد الديمقراطي (Partiya Yekîtiya Demokrat/PYD) الذي أسسه أكراد سورية عام 2003 على الإرث الاجتماعي والسياسي لحزب العمال الكردستاني، تحوّل في وقت قصير إلى قوة سياسية كبيرة، وغدا أقوى فاعل كردي في البلاد خلال مسيرة الحرب التي استعرت بعد عام 2011. وكانت مساهمة النظام السوري في وصول حزب الاتحاد الديمقراطي (الذي انتظم وتشكل كأيديولوجية لحزب العمال الكردستاني أو كامتداد كامل له في شمال سورية) إلى قوّته الحالية، كبيرة لدرجة لا يمكن تجاهلها. ففي عام 2011 انسحب النظام السوري تاركًا المنطقة لحزب الاتحاد الديمقراطي المهيمن على الساحة منذ بدء الربيع العربي، والذي قام بتصفية كل الكيانات السياسية الأخرى، وتمكّن من فرض سيطرته الكاملة على المنطقة بقوات (YPG) المسلحة التي أنشأها.

وفي مقابل ذلك؛ عمد بارزاني في العراق (من أجل موازنة حزب الاتحاد الديمقراطي) إلى دعم الأحزاب الكردية القريبة منه، إذ جرى التوقيع على اتفاقية في أربيل، بين الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي السوري (ENKS) الذي شُكل من اجتماع اثني عشر حزبًا كرديًا في حزيران/ يونيو عام 2012، لحلّ الخلافات الناشئة بين الأطراف. وبهذا الاتفاق؛ انتهت الخلافات بين الأطراف، واجتمعَت الحكومة الإقليمية لشمال العراق مرة أخرى، مع (ENKS وPYD) في أربيل، في تموز/ يوليو عام 2012، وتمخض الاجتماع عن إنشاء المجلس الأعلى الكردي (KYK).

وبعد انسحاب الحكومة السورية من المنطقة في عام 2012، للتفرغ من أجل قتال الفصائل الأخرى بفاعلية أكبر؛ انتقلت السيطرة على المناطق الكردية الواقعة في شمال سورية إلى حزب الاتحاد الديمقراطي، القوة الوحيدة المهيمنة في المنطقة حتى حصار (داعش) لمدينة كوباني/ عين العرب، في أيلول/ سبتمبر 2014. أما المجلس الوطني الكردي السوري (ENKS) فقد انسحب في هذه المرحلة إلى شمال العراق، وواصل تنفيذ أنشطته من هناك، غير أن دعم بارزاني لحزب الاتحاد الديمقراطي في حرب كوباني أدى إلى إذابة الجليد بين الكتلتين، وعاد المجلس الوطني الكردي السوري (ENKS) إلى شمال سورية مرة أخرى، ودخل في حوار مع حزب الاتحاد الديمقراطي، مع فكرة حل مشكلات المنطقة بالطرق والوسائل الديمقراطية. وبين عامي 2017-2019، بذلت الولايات المتحدة وفرنسا محاولات عديدة لتوطيد الوحدة بين أكراد المنطقة، لكن حزب الاتحاد الديمقراطي الذي رفض تقاسم الإدارة مع المجلس الوطني الكردي بأي شكل من الأشكال، بذريعة أنه تحرك إلى جانب قوى المعارضة السورية، اشترط على المجلس الوطني الكردي الانضواء تحت لوائه وقطع كل ارتباط له بالمعارضة السورية. وعلى الرغم من أن الطرفين اتفقا -من خلال تفاهمات أربيل ودهوك- على وضع سياسة مشتركة بينهما نيابة عن أكراد سورية؛ فإنهما فشلا في التوصل إلى أي حل سياسي عمليًا، بسبب العلاقة التي تربط حزب الاتحاد الديمقراطي بنظام البعث. فحزب الاتحاد الديمقراطي الذي سعى لفرض الهيمنة المطلقة على الأكراد في سورية، لم يتردد في ممارسة التنمر في هذه المرحلة؛ إذ إن هذا الحزب القائم على الفكر اليساري الماركسي أيديولوجيًا هو مناهض للثقافة والبنية العقائدية الكردية. وبسبب ذلك ينظرُ إلى قيم ومعتقدات وأفكار الناس على أنها عناصر رجعية تجب محاربتها، واتخذ فكرة اضطهاد وسحق المكونات التي لا تتبنى فكره والقضاء عليها، كاستراتيجية طبيعية له.

وقد صرّح رديف مصطفى، نائب رئيس الرابطة السورية المستقلة (Kombenda Serbixwe Yên Sûryê)، موضحًا اضطهاد حزب العمال الكردستاني/ وحدات حماية الشعب للأكراد، بأنه لم يقم أي تشكيل آخر بإلحاق الضرر بالكرد في سورية، كما ألحقه الاتحاد الديمقراطي (PYD) بهم. وأكد أن الاتحاد الديمقراطي/ وحدات حماية الشعب جنّد بالقوة فردًا واحدًا من كل عائلة، وزج بهم في ساحات المعارك كمرتزقة. وأضاف أن الحزب أثقل كاهل الناس بضرائب عالية جباها منهم، وصلت إلى 40% تقريبًا في المناطق التي يسيطر عليها.

منذ أن اتبع نظام البعث الحاكم في سورية سياسة تعريب جميع المكونات العرقية في البلاد، عمل على تطوير العديد من المشاريع العنصرية تجاه الأكراد، وتنفيذ سياسة للاحتواء المنهجي ضدهم أيضًا. ومع كل هذا الإرث المظلم الظاهر للعيان، لم يكن من الصعب على حزب الاتحاد الديمقراطي/ وحدات حماية الشعب، في سبيل مصالحه البراغماتية، التصالح مع نظام البعث. ويبدو أن حزب الاتحاد الديمقراطي، بدلًا من العمل على رفع مستويات معيشة الأكراد في سورية وبناء مستقبل أفضل لهم، قد غامر بأن يكون بيدقًا بيد أميركا من أجل تحقيق مصالحه السياسية الفاسدة.

وقد ساهمَت التطورات التي حدثت منذ عام 2019، وبالأخص في شمال سورية، ودور حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة في إضعاف (داعش)، في إيصال صوت الحزب إلى المجتمع الدولي، وسهّل ذلك إنشاء فضاء للحوار بين المجموعات والفصائل الكردية المختلفة. والتقى المجلس الوطني الكردي السوري، في عام 2019، مسؤولين من العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، في محاولة لتوحيد الصف الكردي والحركات الكردية في شمال سورية. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2019، أُعلِن التوصّل إلى اتفاق في هذا الخصوص، ومن المعروف أن ثمة ضغوطات كبيرة مورست من أجل عدم تعطيل هذا الاتحاد المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية؛ إذ عُدّ إطلاق مظلوم عبدي لسراح العديد من السجناء أعضاء المجلس الوطني الكردي السوري، في أواخر عام 2019، إحدى نتائج هذه الضغوط.

وقد عقد ويليام روباك، مستشار المبعوث الأميركي الخاص لسورية، اجتماعين مهمّين في نيسان/ أبريل 2020، أولهما كان مع حزب الاتحاد الديمقراطي وحركة الديمقراطيين الكرد؛ والثاني انعقد بمشاركة رئاسة المجلس الوطني الكردي ومظلوم عبدي ممثلًا عن “قوات سوريا الديمقراطية”. وبحسب التصريحات التي أُدلي بها بعد الاجتماع، فقد اتّفِق على إمكانية إنشاء قيادة مشتركة للقوات العسكرية ورسم خريطة لانتشار المقاتلين في مناطق معينة، على أن يتم توزيع الأدوار بين قوات سوريا الديمقراطية (المدعومة من التحالف الدولي بقيادة واشنطن)، وبين قوات “بيشمركة روجآفا” (المدعومة من إقليم كردستان العراق).

وقد كثفت الولايات المتحدة لقاءاتها مع الفصائل السياسية الكردية في سورية، ابتداءً من أيار/ مايو، بغية إقامة إدارة مشتركة وهيئة كردية موحدة في شمال سورية. وأشار مظلوم عبدي، في تصريح أدلى به بعد اجتماعه مع حزب الاتحاد الديمقراطي في 1 أيار/ مايو، إلى إمكانية تحقيق انفتاح بين الحركات السياسية الكردية قريبًا. غير أن الأمر الأكثر إثارة للغرابة في الموضوع هو اللقاء الذي أجراه مظلوم عبدي في 4 أيار/ مايو مع المسؤولين الروس في مدينة القامشلي، فقد تناول هذا الاجتماع، بحسب Basnews، مسألتي تطوير الحوار بين المجموعات الكردية الموجودة في الشمال وبين الإدارة في دمشق، والتعاون والتنسيق معها في المجال الأمني. وبالمقابل، كان قد أُعلن أن الفرنسيين عقدوا اجتماعات مع الأحزاب السياسية في “روجآفا” في الفترات نفسها. وفي تصريحاته عقب هذه المحادثات، اكتفى منسق الاتحاد الكردي عبد الكريم سكو بالقول: إن الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا اتخذت مواقف تدعم وحدة الأكراد. غير أن عضو المجلس التنفيذي لحزب الاتحاد الديمقراطي عبد الكريم ساروحان قال، في حديث إلى روداو في 7 أيار/ مايو: إن حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي توصّلا إلى اتفاق، وتم إعداد مشروع من أجل 100 عام قادم للمنطقة، وينبغي على الكرد أن يكونوا جزءًا من هذا المشروع.

وبينما طالب ويليام روباك المجلسَ الوطني الكردي صراحة بالانسحاب من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة المدعومة من تركيا، وفق خبر لـ رووداو في 10 أيار/ مايو، صرّح المبعوث الأميركي الخاص لسورية جيمس جيفري، لوكالة الشرق الأوسط، بوجوب خروج القوى الأجنبية كافة من سورية ومن بينها تركيا.  وبالمقابل قال مولود جاويش أوغلو مقيّمًا التطورات في بيان له في 16 أيار/ مايو: لن نسمح بإنشاء ممر للإرهاب هنا.. ولا بشرعنة الإرهابيين، فالإرهابي.. إرهابي! في إشارة إلى عزم تركيا وردة فعلها حول هذه المسألة.

وفي بيان مشترك لـ 25 فصيلًا سياسيًا في مدينة القامشلي بتاريخ 18 أيار/ مايو، كانوا قد اجتمعوا لتوحيد الفصائل الكردية في شمال سورية، أوضح المجتمعون ببذل جهود مشتركة تحت مسمى “أحزاب الاتحاد الوطني الكردي” لمتابعة التطورات باسم وحدة الكرد، وبأنه سيتم تمثيل هذا الكيان من خلال لجنة لمواصلة اللقاءات والاجتماعات عبر ممثلي الأحزاب المعنية. وهكذا، تسارعت العملية بتدخل الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وفرنسا في هذا الاتحاد، وأُعلن في 18 أيار/ مايو إبرام الاتفاقية. وبهذه الخطوة، يمكن القول إن فرنسا بدأت العمل على استعادة هيبتها التي فقدتها في البحر الأبيض المتوسط، ​​عبر شمال سورية، واقتربت الولايات المتحدة خطوة أخرى من إنشاء كيان حليف لها في المنطقة. ومن المتوقع أن تغدو أيدي الفصائل الكردية مع هذه الوحدة أقوى في محادثات سلام مسار جنيف.

دروس من التاريخ

يُعدّ الأكراد الذين يشكلون أكبر الجماعات العرقية في الشرق الأوسط، بعد العرب والفرس والترك، من المجتمعات التي حملت لواء الإسلام الذي قبلوا به منذ عهد عمر رضي الله عنه، لمئات السنين. لكن الكرد الذين عاشوا على شكل إمارات كردستانية تابعة للدولة خلال الفترة العثمانية، انقسموا بموجب معاهدة قصر شيرين لعام 1639 إلى قسمين، حيث بقي قسم قليل منهم في إيران، فيما بقيت الغالبية العظمى داخل حدود الإمبراطورية العثمانية. وبعد انهيار الدولة العثمانية وما تلاه من أحداث الحرب العالمية الأولى، قامت فرنسا وإنكلترا بمجموعة من المساومات والاتفاقات، أدت من حيث النتيجة إلى توزيع التراب الذي يعيش عليه الكرد على حدود أربع دول مختلفة.

وعندما رُفضت المطالب الكردية بالحكم الذاتي، إبّان عهد الانتداب الفرنسي الذي بدأ في عام 1920 في سورية، بدأت المرحلة التي دخل فيها الكرد إلى حالة من الصمت. لكن تمرّد الشيخ سعيد الذي حدث في شرق تركيا في عام 1925 كان إيذانًا ببدء حقبة جديدة، بالنسبة إلى كلّ من تركيا وسورية على السواء. حيث غادر زعماء عشيرتي ميللي وميران الكرديتين الذين انخرطوا في التمرد، تركيا متوجهين إلى منطقة الجزيرة في شمال شرق سورية. وفي إطار خطة إصلاح المشرق التي أطلقتها الحكومة عام 1927، أُجبر ما بين 20 ألف و25 ألف من كرد تركيا على الهجرة إلى منطقة الجزيرة. وهكذا باتت منطقة الجزيرة الواقعة على الحدود الشمالية الشرقية لسورية من المناطق التي يعيش فيها السكان الأكراد المهاجرين من تركيا بكثافة.

وفي الفترة التي شهدتها تركيا من حركات؛ كـ ساسون والشيخ سعيد وكوجيري ودرسيم وأغري (أرارات) وغيرها من حركات التمرد الكردية، قامت جمعية “خويبون” التي تأسست في بيروت عام 1927 بجمع القوميين في مراكز عدة، كالجزيرة ودمشق وحلب، في إطار الجهود المبذولة لإحياء الحركة في سورية. وكان من بين الأسماء المؤسسة لجمعية “خويبون” بعض من الأعضاء السابقين في جمعية “تعالي كردستان”، وأبناء الشيخ سعيد، وأحفاد الأمير بدرخان أمير بوطان، وجميل باشا زادة وغيرهم. فقد كانت الجمعية التي تهدف إلى إقامة الدولة الكردية المستقلة الموحدة، فاعلة ومؤثرة في التمرد الذي حصل في مدينة أغري بين عام 1927 وعام 1930 أيضًا. لكن تفكك حركة “خويبون” وعجز ممثلي الحركة السياسية الكردية عن تحقيق الوحدة المنشودة، في نهاية الأربعينيات، شجّع الميل نحو الحزب الشيوعي السوري لتتواصل الأنشطة الكردية بعد ذلك تحت مظلة هذا الحزب.

كان لحكم الانتداب الفرنسي الذي حكم سورية بين أعوام 1920-1946، وخلال 26 عامًا من وجوده هدفان رئيسيان: الأول هو تحقيق أقصى استفادة اقتصادية من الأراضي الواقعة تحت حكمها، كما فعلت كل الدول الاستعمارية في ذلك الحين؛ والهدف الثاني إنشاءُ كيان يقف سدًا في وجه التهديدات التي قد تنشأ ضد إدارة الانتداب. ولهذا الغرض، عمل الفرنسيون على موازنة قوة العرب السنّة القوميين، من خلال منح نوع من الحكم الذاتي للأقليات الدينية في سورية، لكيلا تشكل القومية العربية المؤيدة للاستقلال خطرًا وتهديدًا على حكم الانتداب. وانطلاقًا من ذلك، أعرب أكراد سورية عام 1928عن مطالبهم الذاتية، في الطلب الذي تقدموا به إلى إدارة الاحتلال الفرنسي، حيث تضمنت طلباتهم تطبيق التعليم باللغة الأم، وتعيين مسؤولين كرد في المناطق الكردية، والاعتراف باللغة الكردية لغة رسمية في هذه المناطق.

وعلى الرغم من أن فرنسا منحَت بعضَ الأقليات الدينية حكمًا ذاتيًا، فإنها رفضت قبول المطلب الكردي بهذا الخصوص؛ إذ كان انتشار السكان الكرد وعيشهم مشتتين في العديد من المناطق، وافتقارهم إلى القوة التي تمكنهم بما يكفي للدفاع عن هذه المطالب بفاعلية، كان محددًا في عدم تحقيق مطالبهم للنتائج المرجوة منها. إضافة إلى أن انتماء الكردِ إلى قبائلهم أكثر من ارتباطهم بهويتهم العرقية، والنزاعات القبلية التي لعبت دورًا مهمًا في تفرقهم، لم تُتح للأكراد إمكانية تشكيل حركة قوية، فضلًا عن أن دعم الإنكليز للكُرد في مواجهة العراق وتركيا، من أجل تعزيز هيمنتهم ونفوذهم الإقليمي، كان سببًا في انزعاج فرنسا ورفضها لمطالب الكرد في حكم ذاتي، ومن ثمّ تقديمهم الدعم لتركيا.

وكانت الدولة السورية قد أعلنت بعد الحرب العالمية الثانية استقلالها عام 1946، مع انسحاب فرنسا من المنطقة. ومع هذا الاستقلال، توالت الانقلابات العسكرية في سورية التي عانت حالة عدم استقرار سياسي واقتصادي عميق، وأنشئ نظام قومي عربي اشتراكي في البلاد مع انقلاب البعث عام 1963. وفي هذه الفترة، نال الكرد أيضًا (كما المجتمع السوري بأسره) نصيبهم من سياسات القمع والممارسات القومية العربية التي أدت إلى عزل وإقصاء المكونات العرقية كافة بطريقة منهجية. وبدأت الضغوط على القومية الكردية، منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وتحوّلت ابتداء من الستينيات إلى اعتداءات على الحقوق الأساسية لجميع الأكراد. فالنظام السوري الذي خوّن الكرد وأعلنهم انفصاليين، بذريعة ارتباط القومية الكردية بالإمبريالية الغربية والصهيونية، تعامل حتى مع عامة الشعب من منطق الشعور بعدم الثقة. وبالرغم من دوام حالة عدم الاستقرار في الستينيات، نفذ النظام السوري مشروعين كبيرين في المنطقة الكردية؛ فكانت عملية الإحصاء السكاني التي جرت في مدينة الحسكة عام 1962 بغية تحديد الأكراد (الذين غادروا تركيا والعراق ودخلوا سورية بطرق غير شرعية وسجلوا أنفسهم كسوريين عن طريق أقاربهم وعشائرهم في المنطقة) وسحب الجنسية منهم، إلى درجة كبيرة، جزءًا من سياسة التعريب القائمة في سورية. ووفق مزاعم للدولة السورية، فإن أكراد تركيا بدؤوا التسلل إلى محافظة الحسكة، واستقروا مع مرور الوقت بطرق غير شرعية في المنطقة على طول الحدود، ابتداءً من عام 1945. وقام معظمهم بقيد نفوسه في السجلات المدنية بشكل غير قانوني، حتى إنهم استحصلوا على بطاقات هوية سورية، من خلال أقاربهم وعشائرهم. وأنهم لم يفعلوا ذلك إلا من أجل الاستقرار والتملك هنا، مستفيدين من توزيع الأراضي وخاصة بعد المباشرة بتطبيق قانون الإصلاح الزراعي. وفي هذا السياق، تم تجريد 120 ألف كردي ممن لم يتمكنوا من إثبات إقامتهم في سورية قبل عام 1945 من جنسيته، بعد انتزاع بطاقات الهوية السورية منهم، ومع ذلك استمر تجنيد من بلغ منهم سن الخدمة العسكرية. وتشير التقديرات إلى أن عدد الأكراد عديمي الهوية [البدون] الذين يعيشون اليوم في سورية يراوح ما بين 270 ألف و300 ألف شخص.

وفي أعقاب التعداد (الإحصاء) السكاني الذي جرى عام 1962، أطلق في المنطقة ذاتها (الحسكة) مشروع “الحزام العربي”، وكان الهدف منه إسكان وتوطين العرب على الحدود مع تركيا، لمنع توحيد القبائل الكردية الموجودة في تركيا وسورية، والإبقاء على سورية بعيدة عن الحركة الكردية التي بدأت في تركيا والعراق، واحتواء السكان الكرد في المناطق التي يشكلون الغالبية فيها عبر تشتيتهم وتمزيقهم. وفي هذا السياق تم إدراج خطة عمل مؤلفة من 12 مادة، في تقرير بعنوان “الجزيرة بجوانبها الوطنية والاجتماعية والسياسية”، أعدّه رئيس شرطة منطقة الجزيرة محمد طالب خليل عام 1963. وقد اتخذت بموجب هذه الخطة قرارات تشمل؛ تعريب المنطقة، وتوزيع الكرد على مناطق أخرى، وإعادة الكرد الوافدين من تركيا، وحرمان الذين لا يتكلمون العربية من حق التصويت.. وما إلى ذلك من قرارات. غير أن الخطة، بسبب عدم اكتمال إجراءات تسجيل الأراضي والتحديد والتحرير، ورفض الأكراد مغادرة المنطقة، والاضطرابات التي شهدتها البلاد، لم ترَ النور ولم توضع في التطبيق إلا بعد عام 1973.

وقد أسس حافظ الأسد الذي وصل إلى السلطة بانقلاب عام 1970، في سبيل تعزيز سلطته ونفوذه والحيلولة دون عودة البلاد إلى أيام عدم الاستقرار، نظامًا قمعيًا استبداديًا، وسحق بشدة الجماعات التي حاولت معارضة نظامه وسياساته. ثم واصل نظام الأسد مشروع “الحزام العربي” الذي أطلقته حكومات البعث السابقة، وتدخل في تغيير التركيبة الديموغرافية للمنطقة من خلال إنشاء 40 “قرية نموذجية” عام 1973 في الأماكن التي كان يعيش فيها 120.000 كردي من الذين انتُزعت ممتلكاتهم وجردت جنسياتهم. وقام بتوطين 7000 عائلة عربية في القرى التي أنشئت، واستبدل الأسماء الكردية (أماكن وأشخاص) بأسماء عربية. وقد سعى الأسد الذي دخل في مشكلات كبيرة مع كل من العراق وتركيا، إلى منع تأثير الكرد الموجودين هناك على أكراد سورية.

وفي ظل الظروف المتغيرة بحلول الثمانينيات، بدأت سياسة النظام السوري تجاه الأكراد تتغير أيضًا، وبدأ النظام الذي أراد إثبات صداقته الأكراد في هذه المرحلة الجديدة، بإطلاق سراح السجناء السياسيين الكرد، وسمح للأكراد بتشكيل الأحزاب السياسية. وكانت الغاية الأساسية للأسد هي استغلال الكرد كورقة ضد تركيا والعراق اللتين ازدادت العلاقات بينه وبينهما توترًا. وبالفعل، فإن نظام الأسد الذي احتضن حزب العمال الكردستاني ودعمه بكل ما يملك ضد تركيا، لم يدخر جهدًا في تقديم الدعم لمجموعات مختلفة ضد العراق أيضًا. لكن فترة الراحة النسبية هذه، بالنسبة إلى أكراد سورية، كانت قد شارفت على نهايتها مع اندلاع حرب الخليج عام 1991. فبعد فرض منطقة حظر الطيران بقيادة الولايات المتحدة، شمال خط العرض 36، بقصد حماية الأكراد الذين قاتلوا ضد نظام صدام حسين في العراق، وتزايد إمكانية إنشاء الدولة في شمال العراق، والتخبط الذي انتاب الأسد بشأن احتمال ورود طلب مماثل من أكراد سورية على غرار المطلب الكردي العراقي؛ سحب نظام الأسد دعمه عن الكرد في سورية، وعاد إلى ممارسة الضغط عليهم في البلاد مرة أخرى.

وكان الأسد قد استخدم حزب العمال الكردستاني كورقة ضد تركيا، بعد أن قدم كل أنواع الدعم المالي واللوجستي لحزب العمال الكردستاني منذ السبعينيات حتى عام 1998. فقد انتقل عبد الله أوجلان إلى سورية مع زمرته عام 1979، واتفق مع نظام الأسد على بدء التدريبات العسكرية في معسكرات منظمة التحرير الفلسطينية، في وادي البقاع اللبناني الذي تسيطر عليه دمشق. وقد أعفى هذا النظامُ، الذي وفّر الأموال ووثائق السفر والسلاح وكل أنواع الدعم اللوجستي لمقاتلي حزب العمال الكردستاني، جميع العناصر والمقاتلين المنضوين تحت لواء الحزب من أداء الخدمة العسكرية.

وعلى الرغم من البروتوكول الأمني الموقع عام 1987 بين تركيا وسورية، فقد واصل حزب العمال الكردستاني عبوره إلى تركيا مستخدمًا الأراضي السورية، ولم تتخذ حكومة الأسد أي خطوة من شأنها منع تسلل مقاتلي الحزب إلى الأراضي التركية. وواصل أوجلان نشاطه في سورية متلقيًا جميع أنواع الدعم من الدولة السورية، بالرغم من تصفية معسكرات حزب العمال الكردستاني في سهل البقاع عام 1991، بسبب القلق الذي شعرت به دمشق من مسار عملية الحكم الذاتي للأكراد في شمال العراق. ولم تنه سورية دعمها لحزب العمال الكردستاني، إلا بعد نفاد صبر تركيا من هذا الوضع، وحشد قواتها المسلحة على الحدود مع سورية، وإبرام البلدين لبروتوكول أضنة الذي طرد بموجبه عبد الله أوجلان خارج البلاد.

وفي الوقت الذي حظر فيه الأسد كل الأنشطة السياسية والثقافية على الأكراد السوريين، وفق ما تقتضيه أيديولوجية الدولة في سورية، كان في الجهة الأخرى يقدّم كل أنواع الدعم لحزب العمال الكردستاني الذي يهدف إلى إقامة الدولة الكردية؛ إذ إن نظام الأسد الذي أخضع التنظيم للمراقبة والسيطرة عليه بإقحام رجالاته في مناصب عليا داخل حزب العمال الكردستاني، وجّه القوميين الكرد باتجاه تركيا والعراق. أما بشار الأسد الذي ما زال يتولى الحكم منذ عام 2000 إلى اليوم، فقد أظهر اتجاهات مؤيدة للإصلاح في السنوات الأولى من إدارته، وأطلق حرية سياسية ملحوظة في هذه الفترة التي سميت بـ “ربيع دمشق”؛ فقد تشكلت في البلاد مجالس الفكر، وأطلقت المنتديات في المجالات السياسية والثقافية، غير أن بيئة الحرية هذه لم تدم طويلًا. فعلى إثر خروج بيئة الحرية هذه عن السيطرة في النصف الثاني من عام 2002 وتحوّلها إلى غليان قد يؤدي (في معرض المطالبة بالإصلاحات السياسية) إلى إنهاء حكم الأسد، عاودت الحكومة انتهاج سياسات الضغط والقمع مرة أخرى.

وفي هذه المرحلة المسماة بـ “ربيع دمشق”، استفاد الأكراد أيضًا من البيئة السياسية المريحة نسبيًا في سورية. حيث استأنفت الأحزاب الكردية عقد اجتماعاتها، وبدأ بيع الكتب والتسجيلات في الأسواق علانية، ولم تقم الدولة بأي تدخل تجاه دورات تعليم اللغة الكردية المفتتحة في البلاد. حتى إن بشار الأسد أطلق عملية انفتاح كبيرة تجاه الكرد في العام الأول من حكمه، إذ أوفد اثنين من كبار المسؤولين في حزب البعث للاجتماع بالتحالف الديمقراطي الكردي الذي شكلته ستة أحزاب كردية غير شرعية، في آب/ أغسطس عام 2001. ولم يكتف الأسد بذلك بل قام في أيلول/ سبتمبر عام 2002 بزيارة إلى محافظة الحسكة وقدم الكثير من الوعود هناك.

لكن الاشتباكات التي اندلعت عقب الشعارات السياسية التي أطلقت في إحدى مباريات كرة القدم التي كانت تجري في مدينة القامشلي المتاخمة للحدود التركية بين فريقين أحدهما كردي، والآخر عربي [ناديا الجهاد والفتوة] في 12 آذار/ مارس عام 2004، كانت سببًا لتدخل الحكومة بطريقة عنيفة، وفي سقوط عشرات الضحايا. وقد أدى انتشار التظاهرات المناهضة للحكومة في جميع المناطق الكردية إلى زيادة مستوى العنف من قبل الحكومة، فاعتقل أكثر من 2000 شخص في هذه العملية. وقد طالبت الحركات السياسية الكردية التي جلست على الطاولة مع النظام، نتيجة ذلك، بالإفراج عن المعتقلين، وانسحاب الجيش من المنطقة، ومنح الهوية للكرد المكتومين، والاعتراف بالأكراد كأقلية في البلاد، لكن النظام لم يلتزم بأي عهد قطعه للكرد باستثناء الإفراج عن المعتقلين. بل عمد فوق ذلك إلى اغتيال بعض القيادات السياسية الكردية في المنطقة، بعد تواصل الأحداث في المناطق الكردية. وعلى الرغم من تشكيل 13 حزبًا كرديًا غير شرعي بقواعد شعبية معينة بين أعوام 2000 و2010، فإن الربيع العربي الذي انطلق عام 2011 خلق حالة غير متوقعة في البلاد، لتبدأ حقبة جديدة في المناطق التي يعيش فيها الأكراد.

ومع الأسف، إن تداعيات هذا الوضع ونتائجه لم تكن جيدة على الإطلاق، بالنسبة إلى كرد سورية؛ إذ إن حزب العمال الكردستاني أحجم -في سبيل الدعم الذي تلقّاه لمواجهة تركيا- عن القيام بأي دعاية (بروباغندا) لمصلحة الكرد في سورية، والتزم الصمت تمامًا حيال سحق النظام للفصائل الكردية المعارضة، باتخاذه مواقف مؤيدة لممارسات النظام وسياساته في المناطق الكردية.

اسم المادة الأصليSURİYELİ KÜRTLERİN PYD/YPG SORUNU
الكاتبمصطفى يلدز – Mustafa YILDIZ
المصدر وتاريخ النشرمركز البحوث الإنسانية والاجتماعية (insamer) 16.10.2020
رابط المادةhttps://bit.ly/39agPU4
المترجمقسم الترجمة- علي كمخ
عدد الكلمات2826- 3524