المحافظون الجدد ماتوا، وصدقية الليبرالية العالمية تُنازع.. ربما حان الوقت للعودة إلى أفكار أحد أعظم الواقعيين في القرن الماضي
(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
يمكنك أن تكره هنري كيسنجر وأن تعتقد أنه شرير، ولكن ما لا يمكنك فعله هو تجاهله، خاصة في هذا الظرف. هكذا يجادل باري جوين، في بحثه الجديد في التاريخ الفكري حول كيسنجر وزمنه: حتمية المأساة. في الواقع، لا يمكن تجاهل رجل دولة من الطراز القديم (بلغ في أيار/ مايو 97 عامًا) بل إننا في حاجة إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى. وبالتحديد نحن بحاجة ماسة إلى أفكار كيسنجر ومواهبه، بخصوص كيفية تجاوز الفوضى التي في طريقنا، في عالم ندرك أنه لا يعمل جيدًا، وربما لن يعمل بشكل جيد دائمًا.
لا بدّ من وجود كيسنجر في العالم ثانيةً، على الأقل بالنسبة إلى واشنطن. لقد انتهت الحملات الصليبية الأميركية، أو هي في أفضل الأحوال تتآكل وتتداعى داخل مؤسسات منسية؛ فالحملة الصليبية لويلسون التي حوّلت احتواء الحرب الباردة المعقولة إلى معركة عقيمة ومضللة، ضد أسطورة الشيوعية الموحدة، انتهت بشكل رهيب في فيتنام؛ ثم استيقظت هذه الحملة الصليبية في حقبة ما بعد الحرب الباردة، كدعوة جديدة من ريغان، لإنهاء الأنظمة “الشريرة” التي انتهت بطريقة مأسوية في العراق، استنفدت هذه الحملات نفسها، ولم يعد هناك من يريد أي شيء يتعلق بتغيير العالم بعد الآن، حتى إن الأميركيين وضعوا أنفسهم في عزلة جديدة وصريحة، إذ أتوا بدونالد ترامب إلى البيت الأبيض كي يتمكن من إغلاق البلاد عن العالم.
أدت أزمة وباء فيروس كورونا (coronavirus) إلى تسريع أجندة ترامب، وسبّب ذلك موجة جديدة من الانعزالية بسبب شعار “أميركا أولًا”، كما جادل ممثل ترامب التجاري، روبرت لايتهايزر، في مقاله الأخير[1]، حيث دعا إلى إيقاف الاقتصاد الخارجي الأميركي، ردًا على سياسات الصين التجارية والاقتصادية الافتراسية، وخداعها حول أصول الوباء. حتى إن إدارة ترامب تحاجج بتحالفات القوى في العصور السابقة، وتفكر في إنشاء “شبكة ازدهار اقتصادي” [2]، للبلدان ذات التفكير المماثل التي من شأنها أن تفصل نفسها عن الصين. مع السباق الرئاسي لعام 2020، حتى الديموقراطيون باتوا يتصرفون مثل فرسان الحرب الباردة تجاه الصين، فالديمقراطيون مع مرشحهم المفترض، جو بايدن، ينتقدون ترامب لإشادته من حين لآخر بالرئيس الصيني تشي جين بينغ، وينتقدون عمل تلك المؤسسات الدولية الليبرالية التي ظهرت كنتيجة لأفكار الحزب، بسبب تزايد الشعور بالظلم، نتيجة استغلال الصين قواعد منظمة التجارة العالمية التي حرمت الأميركيين من الطبقة الوسطى من وظائفهم.
الولايات المتحدة ليست مستعدة لأي من هذا. بالتأكيد إن الدبلوماسيين الأميركيين لم يجدوا مخرجًا منه. من المؤكد أن النظام الدولي الليبرالي ونظام التحالفات الذي انبثق من الحرب العالمية الثانية منذ ثلاثة أرباع القرن الماضي، لحسن الحظ، لا يزال مستمرًا ويمكن الاستفادة منه. لكن عدم الثقة بين الحلفاء عال، والتعاون غير موجود تقريبًا، ويبدو أن كل بلد يميل إلى السير في طريق الوطنية الضيقة. أصبحت للمؤسسات العالمية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، علاقات متواضعة ضعيفة على الطاولة، تتوسل الدفاع عن أدواتها السياسية، بينما تتصارع واشنطن وبكين وموسكو على مقعد الرئاسة. انتهى الصراع على الأيديولوجيات الكبرى بين الدول، أو على الأقل هو في سبات عميق. على مدار القرن الماضي، تقريبًا، شهدنا زيف المَلَكية، والاستبداد، والفاشية، والشيوعية، والشمولية، بالتجربة؛ كلها تقود إلى الدمار. والآن، إلى حد ما، نشهد أيضًا إخفاقات للديمقراطية، التي يبدو أنها في العديد من الأماكن تتجه نحو الشلل، كما هي الحال في واشنطن، التي تغرق في شائعات التضليل وتتسلل إليها قوى خارجية خبيثة، مثل روسيا. لقد رأينا أيضًا كيف أثبتت الرأسمالية التي وجدناها أفضل من شيوعية الحرب الباردة، من حيث ملكية وسائل الإنتاج، أنها في اختبار إنتاج العدالة الاجتماعية غير متساوية تمامًا. النظام المختار في العالم عرضة للانهيار المستمر.

وبالقدر نفسه، فإن الهيبة والعظمة الأميركية أقلّ بكثير مما كانت عليه في الذاكرة الحية، خاصة بعد فترة ترامب الأولى الانقسامية والاستقطابية، التي بلغت ذروتها أخيرًا في الإدانة الدولية لنهجه الوحشي تجاه الاحتجاجات التي اندلعت بعد مقتل رجل أسود على يد الشرطة في مينيابوليس. وثمة ما هو أبعد من ذلك، إن هوس الرئيس الشوفيني، والاستجابة المتعثرة لفيروس كورونا، أكملا الطريق إلى الخراب الذي بدأ في عهد الرئيس جورج دبليو بوش. من الصعب الآن أن نتذكر كيف كانت الهيبة الأميركية العظيمة، كقوة أحادية القطب بعد الحرب الباردة، قبل 10 أيلول/ سبتمبر 2001، تلك اللحظة الفاصلة التي خرجت أميركا عن مسارها لدرجة قال عنها مؤرخ جامعة ييل، بول كينيدي، إن القوة العظمى الوحيدة قد تجاوزت حتى روما القديمة في انحرافها عن مسارها. فمن المحتمل أن يكون هذا أسوأ توجيه خاطئ استراتيجي في تاريخ الولايات المتحدة، عندما حوّل بوش ومحرضوه من المحافظين الجدد (الذين يختبئون جميعًا الآن، من الناحية المفاهيمية) ما كان ينبغي أن يكون صراعًا موحدًا عالميًا، ضد المخلفات الإجرامية المتبقية للمجتمع الدولي، الإرهابيين الإسلاميين، إلى استنفاد لعبة الغزو الإمبريالي، كما في لعبة (اضرب الخلد[3]*)، فضحت تلك العملية أسوأ نقاط ضعف أميركا على الأرض وفي الجو. ثم تسبب بوش في أضرار مماثلة على الاقتصاد الأميركي، وانتهى بانهيار (وول ستريت) والركود العظيم. في هذه الأثناء، قامت الصين بتوسيع ونشر نفوذها الأحادي في جميع أنحاء العالم، بينما قام فلاديمير بوتين بالتخطيط والتآمر، وذهب فيكتور أوربان ونارندرا موديس وجاير بولسوناروس في طريقهم الخاص. والأميركيون، الذين يشعرون بالاشمئزاز من مدى سوء خداعهم، ردّوا أولًا بانتخاب عضو مجلس الشيوخ الجديد (باراك أوباما) الذي برز من خلال وصفه العراق بأنها “حرب غبية”، ثم تردد لمدة ثماني سنوات حول تدخل الولايات المتحدة في الخارج، وأخيرًا باحتضان أميركا الشعبوي الأول.
كل هذا يعيدنا مباشرة إلى كيسنجر، وإلى الواقعي العظيم هانز مورغنثاو (مرشده)، والحاجة الجيوسياسية الملحة إليه الآن. فالفوضى العالمية، والتنافس بين القوى العظمى المتكاثرة، تحتاج إلى دبلوماسية إستراتيجية حكيمة وعنيفة من النوع الذي تصوره مورغنثاو نظريًا، ويتقنها كيسنجر عمليًا. يبدو أن هذه هي الرسالة الرئيسة لكتاب غوين، الذي لا بد من قراءته، خاصة في الوقت الذي يتصاعد فيه رهاب الصين، وتعود بكين إلى ما كانت عليه. يكتب جوين، بالنسبة إلى الصين اليوم، هو “أباتصور [نوع من الديناصورات] في الغرفة”.

يرى جوين أن الإجابة على مستقبل العلاقات الأميركية الصينية، والسلام والاستقرار العالميين، تكمن في الماضي. ليس من قبيل المصادفة أن كيسنجر وفلسفته كانا يحظيان بلحظة تحت أشعة الشمس في وقت ضعف الولايات المتحدة، خلال حرب فيتنام، والاضطرابات المدنية، وفضيحة ووترغيت، وركود السبعينيات، عندما كان على الدبلوماسيين أن يجدوا أرضية مشتركة وتوازنًا بين القوى الكبرى. لأن واشنطن الضعيفة والمضطربة ربما تكون في وضع مماثل اليوم في مواجهة الصين، وهي لعبة كيسنجر المفضلة ومحور أعظم انتصاراته الدبلوماسية. خاصة أن واشنطن تحتاج إلى العودة إلى السياسة الواقعية المجربة والمختبرة التي ستكون ماهرة بما يكفي لتحويل التنافس بين القوى العظمى إلى طريقة مستقرة وسلمية.
كتب رئيس الوزراء الأسترالي السابق كيفين رود، وهو باحث في الصين راقب نهضة بكين عن قرب، في مقال أخير عن وباء فيروس كورونا في فورين أفاريس[4]: “الحقيقة غير المريحة هي أن الصين والولايات المتحدة من المرجح أن يخرجا من هذه الأزمة، وقد ضعفتا بشكل ملحوظ. فلا القيادة الآسيوية ولا القيادة الأميركية سوف تبعثان من تحت الأنقاض، وبدلًا من ذلك، ستضعف كلتا القوتين، في الداخل والخارج. وستكون النتيجة انجرافًا بطيئًا وثابتًا نحو الفوضى الدولية”.
ومع ذلك، فإن مجرد احتمال الضعف المتبادل بين القوتين العالميتين العظيميين هو الذي يمكن أن يوفر مخرجًا. تبدأ الإجابة بالاعتراف وقبول ما نواجهه اليوم، وهو عالم رمادي دائم. هذا أمر يصعب قبوله بالنسبة إلى الأميركيين، الذين اعتادوا لعدة أجيال منذ الحرب العالمية الثانية وفي أعقاب الحرب الباردة، على الهيمنة العالمية بلا منازع. ولكن هذا العالم الفوضوي في القرن الحادي والعشرين الذي وصفه مورغنثاو في دراسة، منسية يهتم بها في الأوساط الأكاديمية فقط، بعنوان الواقعية السياسية الحديثة بين الأمم (ur-text of modern realism) قبل أكثر من 70 عامًا، والتي تألق بها كيسنجر في حياته الدبلوماسية، كما يوثق جوين ببراعة في كتابه.
توقع مورغنثاو الانهيار الحالي في الإيمان حول تقدم المجتمع البشري، عندما قال إن العقلانيين الذين يتطلعون إلى الكمال في الحكم البشري والمجتمع نفوا موضوع “حتمية المأساة” الذي اختاره غوين عنوانًا لكتابه. ما يعرفه كل رجل دولة عظيم أن “الخيارات التي يواجهها لم تكن بين الخير والشر… ولكن بين السيئ والأقل سوءًا”. كتب غوين، مقالة منذ أمد بعيد في مدونة عرض الكتب في نيويورك تايمز. يصف هذا الكتاب كثيرًا من مسيرة كيسنجر المهنية، ومن ذلك مسألة الانفتاح على الصين، هدنة عام 1973 في الشرق الأوسط، النهاية الفوضوية والدموية لحرب فيتنام وآلاف الأرواح المفقودة التي يجب أن تكون قد أفقدت كيسنجر وعيه.
ليس كيسنجر رجلًا سهلًا لإنعاش الرأي العام الجيد، كما يشرح جوين بتفصيل كبير. أشرف كيسنجر وريتشارد نيكسون على الحملة الوحشية لإجبار هانوي على الطاولة، حيث أسقطوا قنابل على كمبوديا أكثر من جميع القنابل التي أسقطها الحلفاء في الحرب العالمية الثانية[5]، ما خلّف مئات الآلاف من القتلى الأبرياء. ساعدت هذه السياسة، إلى جانب عدم مبالاتهم بالإبادة الجماعية في عام 1971 في بنغلاديش والدعم الواضح للانقلاب في تشيلي، في إثارة جيل من الليبراليين البارزين من سيمور هيرش إلى كريستوفر هيتشنز، ليصفوا كيسنجر بأنه مصاب بجنون العظمة ومجرم حرب. لطالما كانت هناك ازدواجية في معتقداته ويحجب دوافعه، كان يعلم أن الأميركيين “لن يقاتلوا للحفاظ على توازن القوى”، على حد قوله. (يشير جوين إلى أن كيسنجر قد خلص في وقت مبكر من عام 1965، بعد زيارة إلى فيتنام، إلى أنه لا يمكن الفوز، ولكنه استمر في دعم الحرب). يحاول غوين وضع كيسنجر في سلالة المفكرين اليهود الألمان الذين فروا من المحرقة، وطاردهم فشل ديمقراطية فايمار [جمهوية فايمار الألمانية]، جنبًا إلى جنب مع ليو شتراوس وحنا أرندت، على الرغم من أنه ليس مقنعًا تمامًا هنا، نظرًا لأن بعض أفكار شتراوس الغامضة غالبًا ما ألهمت المحافظين الجدد واللاجئين الأوروبيين الآخرين من هتلر، مادلين أولبرايت (مادلين كوربيل أولبرايت)، وانتهى الأمر بشغف ويلسون للسلطة.
إن أفكار كيسنجر لها صدى الآن، لأننا في وضع مشابه للضعف الأميركي كما في السبعينيات، عندما لم تكن النخبة في السياسة الخارجية تفكر في الانتصار بل في البقاء فحسب، وأيضًا المشاكل الداخلية الأميركية مقلقة ومشابهة لتلك الفترة. ولعل أكبر خيبة أمل في كتاب جوين هي أن المؤلف، من بعد إنفاق مئات الصفحات في الخوض في مصادر السيرة الذاتية والتاريخية لواقعية كيسنجر الدقيقة التي طاردها هتلر، لا يطبق تلك الواقعية كثيرًا على الحاضر، ولا يقايسها مع الصين. لأنه لا يوجد تبرير أكبر لواقعية كيسنجر أكثر مما حدث في الصين، خلال العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين. بعد ربع قرن، أصبح من المألوف في واشنطن التفكير في أن إشراك الصين في نظام ما بعد الحرب الباردة في الأسواق العالمية والديمقراطيات الناشئة سيدفع هذا البلد تدريجيًا نحو معايير التنوير. وهو ما أطلق عليه كيسنجر يومًا ما اسم “الحلم الأميركي القديم في تحقيق السلام عن طريق هدي الخصوم”. لقد تلاشت مثل هذه الأوهام. كل ما تبقى لدينا هو قوة عظمى ناشئة تتناسب مع رؤية كيسنجر الراسخة لبلد زاره حوالي 100 مرة، تعود إلى محادثاته الأولى مع ماو تسي تونغ. وإذا كان تحليل كيسنجر صحيحًا -وهو كذلك على الأرجح- فإن بإمكان للولايات المتحدة والصين العثور على أرضية مشتركة تعملان فيها، مع الحفاظ على الحد الأدنى من الوعظ.

كتب جوين إن ما لم يفهمه المنتصرون، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، هو أننا واجهنا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي “عالمًا بلا أيديولوجية، حيث لم تكن الوصفات المتعالية للديمقراطية إجابات على المشاكل المطروحة”.
والواقع أن الأمر أصبح أسوأ بكثير من ذلك. يجب أن نواجه بصراحة حقيقة أن الدعوات لما بعد الحداثة لم تحقق جميع الآمال في الحكم وكمال المجتمع؛ لم يعد هناك أي سبب عظيم لبدء ثورة. لقد انتهت “دورة الحرية” التي أطلقها توماس جيفرسون، وكان الأميركيون يتوقعون في السابق أنها ستستمرّ بلا توقف في جميع أنحاء العالم، ورُميت على قارعة الطريق. توثق تقارير الأمم الأخيرة في مجلة ترانزيت لفريدوم هاوس[6] “انهيارًا ديمقراطيًا مذهلًا”. يشير التقرير بشكل خاص إلى حالات الفشل في وسط وشرق أوروبا وآسيا الوسطى قائلًا إن “عدد الديمقراطيات في المنطقة اليوم أقلّ من التي كانت في أول تقرير سنوي تم إطلاقه في عام 1995. “سوف يتدحرج التاريخ، وستستمر الدول الأفغانية الضعيفة في الفشل، وستظل الديمقراطيات والأوتوقراطيات مثل الولايات المتحدة والصين في نزاع مع بعضها البعض. ولكن لا ينبغي لأحد أن يخدع نفسه بعد الآن، بأن صدام الإرادة هذا سوف يُسفر عن بعض النتائج الغائية الكبرى. يؤدي إلى شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي على شكل آخر.
أوضح كيسنجر ذات مرة أن “كل حالة تقريبًا هي حالة خاصة”. وكتب عن الصعود الجديد للقومية: “قد تسعى كلّ هوية وطنية أو إقليمية إلى المواجهة مع الولايات المتحدة”. هذا ما فعلته صين تشي، في الواقع يتصرف العديد من القوميين اليوم مع واشنطن، كما فعل السوفييت ذات مرة: تعزيز سيطرتهم الوطنية من خلال اللعب على التهديد من الخارج. يجب التعامل مع الحداثة القومية في جميع أنحاء العالم بالطريقة التي أوصى بها جورج كينان ضد الاتحاد السوفيتي: الحد من التهديد المتصور من الولايات المتحدة، ومن المرجح أن تذبل الأنظمة الاستبدادية مثل الصين من تلقاء نفسها. (حتى الآن، قد يواجه شي تحديًا داخليًا خطيرًا؛ يرى رود، في مقاله في فورين بوليسي، أن استجابة شي تجاه وباء فيروس كورونا “فتحت انشقاقًا سياسيًا كبيرًا داخل الحزب الشيوعي الصيني، حتى إنها أثارت انتقادات مخفية لأسلوبه القيادي شديد المركزية”. وكما يلاحظ جوين، لاحظ كيسنجر في كتابه لعام 2011، حول الصين، أن ماو، الثوري الماركسي المسؤول عن وفاة الملايين من الصينيين، لم يكن أيديولوجيًا مثل لينين، بل كان قوميًا “الصين أولًا”، ومثّل دولة لديها إحساسها الخاص بالعزلة الاستثنائية -مثل الولايات المتحدة- ولكن على عكس الأميركيين، لم يرَ النظام الصيني حاجة إلى الحماس التبشيري لأسلوبها، نوعًا ما. تشتري الصين اليوم نفوذًا في كل مكان، ولكن إنشاء ما يسمى (مستعمرات الديون) في جميع مناطق العالم لا يصل إلى التهديد الحقيقي عن طريق الغزو المباشر.
الحل ليس في المبالغة في ردة الفعل. يكتب جوين أن الخيار صارخ لكلا البلدين. بطريقة أو بأخرى، إما من خلال التطور الفكري الذي يقبل الحدود والمساومة الدبلوماسية، أو من خلال سفك دماء الملايين، سيتعين عليهم التخلي عن استثنائية عزيزة لنظام ويستفاليا للتنوع الدولي وتوازن أكثر تواضعًا”. علاوة على ذلك، ستحتاج واشنطن وبكين إلى دعوة قوى عالمية أخرى لقبول توازن القوى الجديد هذا.
كتب جوين أن كيسنجر، قبل عقود، توقع كثيرًا من هذا الواقع الحالي. توقع أن حقبة ريغان ونهاية الحرب الباردة لن تثبت بداية جديدة للرأسمالية الديمقراطية الليبرالية على الطريقة الأميركية، كما كان المحافظون الجدد والأميركيون الليبراليون يأملون، فالأمر أكثر “من رؤية غروب الشمس الخلاب”. أيضًا توقع كيسنجر أن مثالية ويلسون ستستمر في رسم السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فقد كتب أنه حتى في الانتصار في الحرب الباردة -حيث لعب ويلسون على قضية حقوق الإنسان في النقاشات مع الكتلة السوفياتية – سيتعين على قادة الولايات المتحدة صياغة توازن جديد للقوى، “للحفاظ على التوازن في العديد من مناطق العالم، ولا يمكن اختيار هؤلاء الشركاء دائمًا على أساس الاعتبارات الأخلاقية وحدها”.
اليوم، تقوم الصين أيضًا في حوار ذاتي بالبحث حول المدى الذي يمكن أن تمضي به إلى الهيمنة العالمية، والتاريخ الطويل للحذر الجيوسياسي للبلاد (على الأقل الأفعال، إن لم يكن دائمًا بالكلام) مشجّع. وسط كل هذا الشك الذاتي والجس المتبادل لـ “حدود” -وهذي إحدى كلمات كيسنجر المفضلة- تكمن إمكانية وجود أرضية مشتركة، وإن انفصل الاقتصادان من حيث سلاسل التوريد والاعتماد المتبادل المالي. لأنه بدون دبلوماسية ذكية وعنيفة لإيجاد توازن جديد للقوى، هناك احتمال لخطأ كارثي، يصل إلى نهاية العالم. خاصة أن كيسنجر (ربما يكون هو الطالب الذي درس بعمق في السلام الذي استمر طوال القرن الذي بدأ مع مؤتمر فيينا وانتهى في آب/ أغسطس 1914) يخشى من الانزلاق إلى العداوة التي كانت قبل الحرب العالمية الأولى، وهو احتمال مخيف في عصر الأسلحة النووية. وكتب كيسنجر، مثل كثيرين في واشنطن وبكين اليوم: كان قادة أوروبا في ذلك الوقت يعتقدون بغموض أن “المجازفة كانت أداة دبلوماسية فعالة”.
تصف بكين الآن جيوشًا من الروبوتات[7] ومليارات الدولارات ضد الديمقراطية الأميركية، ويدعو كثيرون في واشنطن بتهور إلى حرب باردة جديدة، لمواجهة “الإمبرياليين في بكين” الذين “يشكلون تهديدًا لجميع الشعوب الحرة”، على حد تعبير السيناتور ميسوري جوش هاولي، النجم الصاعد في الحزب الجمهوري. حيث قال هاولي في خطاب ألقاه في 20 أيار/ مايو: إن المهمة الأولى لهذه الأجندة الجديدة الخطيرة هي الانسحاب من منظمة التجارة العالمية التي بموجبها “عزمت الصين وأساءت وخرقت قواعد النظام الاقتصادي الدولي لمصلحتها الخاصة”، وكلفت 3 ملايين وظيفة أميركية.


يصعب على الأميركيين استيعاب حل المشاكل بين واشنطن وبكين، ولكن في أساسياتهم بسيطة إلى حد ما: يقول كيسنجر إن الجانبين بحاجة إلى الاتفاق على الاختلاف حول بعض المعتقدات الأساسية. لن يتخلى الأميركيون أبدًا عن التزامهم بحقوق الإنسان والحرية الشخصية، ولن يتوقف الصينيون أبدًا عن التركيز، في الغالب، على الحفاظ على الاستقرار بين جماهيرهم الشاسعة، وبالتالي هم لا يتجاهلون حقوق الإنسان والحرية على أساس أخلاقي وثقافي، هذا جمود لا يمكن التوفيق فيه. ولأسباب اقتصادية أيضًا، لا يوجد سوى احتمال للتسوية الدبلوماسية. سرقت الصين جهارًا الملكية الفكرية الأميركية، واستغلت الأسواق الأميركية المفتوحة، من خلال إغراقها بالمنتجات الرخيصة المدعومة من الدولة.
كان الفشل الكبير الآخر لإدارة جورج دبليو بوش هو إهمال التذرع[8] بقواعد منظمة التجارة العالمية “مكافحة الإغراق” لتخفيف ذلك، ولم تحقق الحرب التجارية لترامب أي تقدم ضد مثل هذه الممارسات. فهل نمضي قدمًا؟ أنبحث عن مخرج، أم نفعل كما قال كيسنجر: ابحث عن “مفهوم براغماتي للتعايش”، لا يختلف عما حدث في حقبة الحرب الباردة، عندما عانت أميركا من حربها في فيتنام، ومن الركود الاقتصادي، ولم يعد بمقدورها شن حملات صليبية أيديولوجية، وبدلًا من ذلك دخلت إلى الفراش مع بكين، بينما كانت تفاوض بشأن ضبط الأسلحة مع موسكو. استمر في الضغط على الدبلوماسية، ولكن تهرب من القضايا الأساسية، كما فعل الدبلوماسيون الأذكياء دائمًا. لأن البديل -الصراع المستمر والحرب في بحر الصين الجنوبي التي يمكن أن تصبح نووية- لا يمكن التفكير فيه. قال كيسنجر: “الغموض هو أحيانًا شريان الحياة للدبلوماسية”.
قضية أخرى توقعها كل من كيسنجر ومورغنثاو هي أن الديمقراطية كلما أصبحت أكثر شعبوية، أصبحت أقل قدرة على إدارة سياسة خارجية موثوقة. مورغنثاو، الذي انفصل فيما بعد عن كيسنجر بسبب معارضته لحرب فيتنام، رأى بشكل خاص تأثير الديمقراطية الشعبية على الدبلوماسية المهنية -وهو تأثير واضح تمامًا في إدارة ترامب، ولكنه أثر أيضًا في إدارات أوباما وبوش المتداعية. اختار كيسنجر هذا الموضوع في كتابه لعام 2001: “هل تحتاج أميركا إلى سياسة خارجية؟”، وفي مقال له عام 2018 في (ذا أتلنتيك)، الذي يصفه جوين [هذا للمقال][9] بأنه “درسه الأخير كمعلم إلى الجمهور الأميركي”.
في تطور تقنيات الفضاء، تصوّر كيسنجر، على غرار طبيعة مذهب هوبز: “حدوث فوضى متنامية في العالم، يضعف فيها النظام العالمي أكثر من أي وقت مضى …، وبحسب رأيه [رأي كيسنجر] شجعت حوسبة العالم على نوع من التفكير غير المسؤول، أضر بالحكم العقلاني، في أحسن الأحوال، وكان كارثيًا في أسوأ الأحوال”.

في إجراء هذا التقييم، كتب غوين، لقد كشف كيسنجر عن جانب من شخصيته التي لن يصدقها منتقدوه، وهو: كيسنجر الإنسان. لقد هددت الخوارزميات وتراكم البيانات في الفضاء السيبراني (بعضها سليم، ومعظمها ليس كذلك) بتقويض أو حتى تدمير الحس السليم. لدرجة دفعت كيسنجر قائلًا: “إن النجاح في مطالب السياسة الخارجية يحتاج إلى قدرة بديهية على الشعور بالمستقبل والسيطرة عليه”. إن توقع المزالق المستقبلية، والاعتماد أكثر على الحس السليم البراغماتي، بدلًا من العناية الإلهية، هو أمرٌ يجب على الأميركيين الاستمرار في إعادة تعلمه. حتى إن المؤسسين الأوائل رأوا العناية الإلهية إلى جانبهم، ولاحقًا اعتقد القادة الأميركيون، مثل رونالد ريغان، أنهم ينفذون إرادة الله. أعجب كيسنجر بريغان على موقفه المبدئي ضد السوفييت، لكنه أشار بسخرية أيضًا باستخدامه لاقتباس من الواقعي الأولي الذي كان معجبًا به للغاية، أوتو فون بسمارك قال: “أفْضل ما يمكن أن يفعله رجل الدولة هو الاستماع إلى خطى الله، والإمساك بأطراف عباءته والمشي معه بضع خطوات على الطريق”. وكتب جوين أن كيسنجر لم يوجه نداءً إلى الله، بل إلى “التواضع الميتافيزيقي”، وهي “فهم أن الناس العاديين لن يعرفوا كل ما يحتاجون إلى معرفته أثناء مشاركتهم في اللعبة الخطيرة للشؤون الدولية”.
ويبدو أن هذا الافتقار إلى اليقين أمرٌ بائس، ولكن الأسوأ من ذلك هو أن تكون صعب المراس ومتغطرسًا. حيث إن الغطرسة، ونقص التواضع، والإفراط في المواعظ، أدت إلى أسوأ الكوارث في تاريخ السياسة الخارجية الأميركية الحديثة: غزوات في فيتنام والعراق. يمكن رؤيتها في المراجعات التي ناقشت ما حدث في فيتنام، والتي قدّمها جوين بشيء من التفصيل، وفي عرض تفاصيل غزو العراق، التي تكشف عن المدى المؤسف للثقة المفرطة، بين صانعي السياسة الأميركيين بأن الهبة التي قدّمها الله لأميركا (العبارة الشائنة التي قدم بها بوش قضيته الأخيرة لغزو العراق كانت “الحرية التي نمنحها ليست هبة أميركا للعالم، إنها هبة الله للبشرية”).
هل ربح ريغان الحرب الباردة، كما يعتقد العديد من المحافظين؟ حتى كيسنجر اعترف بأن نهج المواجهة الذي يتبعه ريغان، وليس الانفراج، “كان كثيرًا ما يوصي به”. لكن ريغان كان محظوظًا بشكل رئيسي. فقد كان هو الرجل الجالس في الغرفة، بعد أن آتت 40 سنة من الصبر الاستراتيجي -سياسة الاحتواء- أُكلها. (يجب أن يكون ريغان نفسه قد عرف أنه كان محظوظًا، حين كان يحاول يائسًا التفاوض على تقليص الأسلحة مع موسكو، الأمر الذي أثار وقتها ذعر المتشددين في ولايته الثانية، حتى عندما كان النظام السوفييتي ينهار داخليًا). توقع كيسنجر نفسه، وكذلك الآخرون، أن الثابت والهادئ سيفوز بالحرب الباردة. كينان، والد/ معلم “سياسة الاحتواء”، قال إن كيسنجر “يفهم وجهات نظري أفضل من أي شخص آخر في [وزارة الخارجية] على الإطلاق”.
في النهاية، الاختيار أمامنا ليس صعبًا كما نعتقد. وأعرب كيسنجر عن أسفه لتجاوزات ويلسونية، لكنه اعترف بأنها لا تزال تشكل حجر الأساس للسياسة الخارجية الأميركية. وسيكون الإجماع ممكنًا إذا كان ويلسون قد قبل أن السيادة الأميركية والقوة الخشنة ستكون دائمًا مقدسة، ويقر أصحاب نهج (أميركا أولًا) أن النظام الدولي الليبرالي الذي أنشأته الولايات المتحدة، بعيوبه، سيبقى هو المدافع الرئيس ضد أي خصم، وليس امتلاكَ واشنطن قوة عسكرية تمنع المنافسين المحتملين مثل بكين وموسكو من تشكيل كتل قوى بديلة.
كتب[10] كيسنجر إن الصراع العلني من أجل الهيمنة الأميركية لن يجدي نفعًا، لأنه لا يمكن لأي نظام دولي أن يستمر، إذا لم يُنظر إليه على أنه مجرد، وقال: “إن الاتجاه السائد في التفكير في السياسة الخارجية الأميركية يجب أن يكون تحويل السلطة إلى إجماع، حتى يكون النظام الدولي مبنيًا على اتفاق بدلًا من القبول المتردد”. على الرغم من هيمنتها، فإن الولايات المتحدة، بصفتها الباني الرئيس لهذا النظام الدولي، لا تزال لها اليد العليا. أو كما كتب كيسنجر[11]: “يجب أن يكون هدفنا بناء إجماع أخلاقي، يمكن أن يجعل العالم التعددي مبدعًا وليس مدمّرًا”. إن المهمة أكبر اليوم.
العنوان الأصلي للمادة | Welcome Back to Kissinger’s World |
الكاتب | Michael Hirsh |
المصدر | فورين بوليسي، 7 حزيران/ يونيو 2020 |
الرابط | https://bit.ly/3e3mfQD |
المترجم | وحدة الترجمة- محمد شمدين |
[1] The Era of Offshoring U.S. Jobs Is Over: https://nyti.ms/3eNbFNS
[2] The Great Decoupling: https://bit.ly/2VpkTIj
[3] لعبة اضرب الخلد: لعبة في ممر التسلية حيث يستخدم اللاعبون مطرقة لضرب لعبة حيوان الخلد، التي تظهر بشكل عشوائي، تعود إلى ثقوبهم. [المترجم]
[4] The Coming Post-COVID Anarchy: https://fam.ag/2BNRuRg
[5] https://fam.ag/2BNRuRg
[6] Dropping the Democratic Façade: https://bit.ly/3g1RZGa
[7] Chinese Agents Helped Spread Messages That Sowed Virus Panic in U.S., Officials Say: https://nyti.ms/2ZhLTuK
[8] The Untold Story of How George W. Bush Lost China: https://bit.ly/2YH8KRd
[9] How the Enlightenment Ends: https://bit.ly/2Nzyfh4
[10] Answering the ‘Axis’ Critics: https://wapo.st/2YH8PnZ