ترجمة بدر الدين عرودكي

(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة

ترى المؤرخة ليلى داخلي أن من العسير تحليل هذه الحركات بمفردات النجاحات أو الإخفاقات. لقد بيَّنت أنه كان من الممكن بناء أنظمة مضادة في بلدان كان الوضع السياسي فيها يبدو مجمَّدًا كليًّا.

نسَّقت ليلى داخلي وأدارت برنامج جمع وبحث حول الثورات العربية. وقد أدى هذا العمل إلى نشر كتاب تحت عنوان: روح الثورة، أرشيف وأحداث الثورات العربية L’Esprit de la révolte. Archives et actualité des révolutions arabes (منشورات سوي Seuil 2020، 320 صفحة) وهو كتاب جماعي حافل بالصور يهتم بـ “كيف” بدلًا من “لماذا”).

هل أخفقت الثورات العربية؟

ليست المسألة مسألة الحكم بنجاح أو إخفاق حركة ثورية شعبية. لا عودة إلى الوراء، حتى حين أمكن للعنف والقمع أن يستفحلا بفعل اللجوء مجدّدًا إلى العصا بعد ثورات 2010 – 2011. فالثورات المضادة والحرب ترافق غالبًا الحركات الثورية، وهو ما يعقِّد تحليل انتفاضة شعبية بوصفها محض فشل أو نجاح. فالانتفاضة تنهض حرفيًا بالمجتمع، وتنتج سلسلة من ردات أفعال عسيرة على التوقع، لا يمكن أن تنسبَ جميعها إلى المتمردين.

سقط قليل من الأنظمة، فما الإنجاز الرئيس لهذه الثورات؟

إن أول إنجاز هو دخول النموذج الثوري في التاريخ الاجتماعي والسياسي لهذه الدول المستقلة. بل إن فكرة الثورة نفسها تخلصت من الثياب التي كانت تلبسها من قبل، رابطة إياها بالنضال المناهض للإمبريالية، كفكرة جمال عبد الناصر في مصر. صارت الثورة شخصية الانتفاضة الشعبية، تنسب إلى “الشارع العربي”. إنها فضاء إعداد أشكال سياسية جديدة تتوجّهُ إلى الأنظمة الاستبدادية والسلطوية (في عامي 2010 – 2011)، وكذلك إلى دول فاشلة ينخرها الفساد (في لبنان وفي العراق، مثلًا، في عام 2019).

تنقل الثورة عددًا من الحدود، وفي المقام الأول منها حدود اللعبة السياسية، التي كانت تحوِّلُ المجتمعات إلى ميدان لعب واسع للزبائن، وإلى سلسلة من ضروب العبوديات المتعاقبة في الفضاء العام والخاص. هذه الثورات جذرية لأنها تقلب هذه السلسلة من التبعية والإذلال والاستعباد، باسم الكرامة.

ألم يكن غياب الزعامة في هذه الحركات، في النهاية، عائقًا؟

لا يبدو لي أن الزعامة قضية مركزية. موضوع الخلاف هو قدرة القوى السياسية و/أو النقابية و/أو المجتمع المدني على دعم الحركات الشعبية؛ فحيث لم تكن البنى التحتية المناضلة قد دمرت كليًا، وحيث استطاعت أن تقدم الدعم، لعبت دورًا حاسمًا من دون أن تحلَّ محل الحركة الشعبية في تنوعها. وهو، كما أرى، المعنى العميق لجائزة نوبل التي منحت للرباعي التونسي (أربع منظمات قامت بتنظيم المفاوضات بين الأحزاب السياسية بهدف تأمين الانتقال نحو نظام ديمقراطي) في عام 2015. ليست هذه أفعال “من الظل”، أي أنها يمكن أن تكون سريّة أو مُخجلة؛ إنها أفعال دعم. يذكر كتّابنا أشكالًا عملية جدًا لضروب الدعم هذه، مثل تزويد المتظاهرين بالخيام أو بالمواد الضرورية لتظاهراتهم. ذلك يجري على مختلف المستويات. ففي البلاد التي قلصت الدكتاتورية فيها كل شيء إلى العدم، وجد الثوريون أنفسهم بلا حماية، ومن دون توسط، في مواجهة العنف المحض الذي يقوم به النظام أو قادة الحرب.

هل تفكرين في ليبيا وسورية؟

نعم. كانت الشروط أكثر صعوبة بالنسبة إلى الثوريّين في هذين البلدَين. وبفعل ذلك، كان من الأهم العكوف على التجارب التي جرت فيهما: إنها إعادة ابتكارات السياسة. هذا هو ما نجمعه في كتاب يحمل عنوان: “إنتاج هيئة سياسية”. كانت اللجان المحلية السورية على هذا النحو مختبرات مثيرة، ومن المهم ألا يعاد تغطيتها كليًا بالعنف الذي أودى بها.

كيف انتقلت الأفكار من بلد إلى آخر، ومن ثورة إلى أخرى؟

ليست هذه الانتقالات مشابهة لكتب مدرسية عن الثورة، يمكن أن تنتقل من يدٍ إلى أخرى. كل ثورة لها رسوخها المحلي القوي، وربما كانت تلك هي النقطة المشتركة الكبرى فيما بينها. لكنها تستخدم دوافع متشابهة بين بلد وآخر. فالشعارات والصور استعيدت وكيِّفَت، بدءًا بعبارة “الشعب يريد…”، المتبوعة غالبًا بـ “إسقاط النظام”، وكذلك أيضًا بمطالب أخرى. إنها تتضمن تجسيدًا جديدًا وتفسيرًا جديدًا لشخصية الشعب، المأخوذة من قصيدة الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، التي يعرفها كثيرون في العالم العربي، لأنها تُعَلَّمُ في المدارس. في هذه الحالة، يقوم التبادل على العناصر المشتركة التي تنتقل باللغة. والشعارات التي تلت شعار “إرحل!” التونسي انتقلت إلى مختلف اللهجات العامية، مع نبرات مختلفة؛ من نبرة حيادية “إرحل!” السورية، إلى حركة وضع حذاء في اليد، كما يحدث حين يطرد المرء كلبًا، أو بنبرة جماعية “ينتهوا ” (“فليرحلوا جميعًا”) الجزائرية.

معرفة هذه الانتقالات هي فهم العالم المشترك الذي ترسمه الثورات. إنها تقول مجموعة الخبرات التي تكتسبها الشعوب العربية وربما سواها. أكثر من ذلك أيضًا، إنها تبني، بالتجربة الثورية، ممرات جديدة. حين تكلم اللبناني، والسوداني، والعراقي عن ثورة 2019، أعادوا تنشيط سجلّ 2011.

ينطلق كتابك من افتراض أن اللحظة الثورية العربية لم تبدأ عام 2011 بل قبل ذلك: متى؟ وهل انتهت؟

بوصفنا باحثين وباحثات في العلوم الاجتماعية، نلاحظ الظواهر، ونحاول رسم طرقها التاريخية. فحركات 2011، التي هي حركات الانبثاق الثوري، يمكن أن تربط في الواقع بالحلقات التاريخية السابقة عليها: بعض أشكال النضال والخطاب التي سمعت عام 2011، تحمل على استعادة النضالات التي سبقتها. إننا لا نبحث عن أصلٍ/ سببٍ لها، بل عن صلة نسب. إنها تمتح من الأشكال والأشكال المستعادة التي أعقبت استقلال البلدان العربية. فميثاق ما بعد الاستعمار، الذي يقوم على فكرة التحرر وعلى فكرة ما عن الدولة الحامية، قد انهار. والخطاب المعادي للإمبريالية تجمَّدَ في لغة خشبية، وغالبًا ما تحول إلى تنازلات مختلفة، وخصوصًا في مواجهة القضية الفلسطينية التي باعتها الدول العربية. لكن فكرة الدولة الحامية خصوصًا هي التي انهارت. فقد كان بوسعها أن تستوعب شكلًا من الأبوّة السلطوية، لكن الليبرالية الاقتصادية والطريقة التي استحوذت بها النخب التي اختارتها السلطات على الثروات قوّضت تدريجيًا أسس هذا الاستيعاب.

وهنا إنما يجب توجيه الانتباه من أجل تقدير مدى هذا الانهيار (الاجتماعي والسياسي) الذي يحمل في صميمه قدرة الشباب العربي على أن يرى نفسه في مستقبل ما. ولسياسات الهجرة (الأوروبية أو في بلاد الخليج) دورها في هذه القصّة. شأنها شأن سياسات التكيف البنيوي التي فرضها صندوق النقد الدولي ابتداءً من نهاية سنوات السبعينيات. وكذلك بالطبع هيمنة الحكومات وحلفائها على الثروات والسلطات. والقول بأن عدم المساواة في ازدياد لا يكفي. لقد أوجدت هذه النظم مجتمعات ممزقة على العديد من المستويات، حيث الأوضاع الاجتماعية محددة بالوصول الممكن: إلى العمل، والأموال، والعناية الطبية، وإلى التعليم ذي المستوى الجيد، وإلى اجتياز الحدود، واختيار رفيق أو رفيقة حياته…

أما بالنسبة إلى معرفة اللحظة الثورية العربية هل انتهت أم لا، فإني لا أغامر في التوقعات، لكن انتفاضات 2019، في الجزائر والعراق ولبنان والسودان، بيَّنت أن الرغبة في الثورة لا تزال حيَّة. ذلك أن أسباب الثورة لا تزال حاضرة.

هل ترين أن هذه الثورة العربية تستمر بصوت خفيض في البلدان التي قمعت فيها بقسوة، مثل مصر، والبحرين؟ أو في الإمارات الخليجية التي لم تحدث فيها؟

حدثت الثورات العربية في المناطق أكثر مما حدثت في البلدان التي أدت فيها إلى ثورات كثيفة، إن لم يكن إلى قلب الحكومات أو النظام. لقد نشأت جماعة ثورية، مع رغبة في التغيير الجذري الذي يعني المغاربة والأردنيين، والفلسطينيين… بلدان لم تكن معنية بـ”الموجة الأولى” انتفضت. والسجلات الاحتجاجية ازدادت في العديد من المناطق، وخصوصًا في الخليج، حيث كان يعتقد أنه صار طيِّعًا بسبب ثرواته ومكانته في الجغرافيا السياسية العالمية. أُخمدت الثورة البحرينية، وخصوصًا مع المساعدة السعودية، بقوة مفرطة وقمع هائل، لكن أيًا من القضايا التي طرحتها لم يُحَلّ. وانطلقت مصر، على غرار النموذج السعودي، في سياسة قمعية مماثلة. من المفهوم أن النظم العربية قد استخلصت دروس عام 2011: عدم التنازل عن شيء، المحافظة على العشيرة في السلطة بأي ثمن، وإن كان “حرق البلد” على طريقة عشيرة الأسد في سورية. لقد فهمت كذلك أن من الممكن تشويه سمعة حركات التحرر بسهولة، أمام الرأي العام الدولي، إن حُمِلَت على العنف، أو إن جرت مماهاتها مع الحركات الجهادية.

 أسباب الثورة دائمًا -أو تقريبًا- موجودة كلها أمام أعيننا. والشروط التي تجعل الثورةَ ممكنةً تحولت، لكن سجلها متاح ويُعاد تنشيطه بصورة منتظمة، بصخب أو بهدوء. ففي تونس، حيث لم يتمكن تغيير النظام حتى الآن من تحقيق تغيير اجتماعي حقيقي أو تغيير في الممارسات، الاحتجاجات عديدة، وهناك حركات تدّعي التراث الثوري، سواء جمعت الشباب غير المستقر، كما هو الأمر في الجنوب، أو أصوات المجتمع المدني، تقوم من أجل تطبيق كامل وكلي للدستور الجديد.

ما الذي علمته الثورات العربية لبقية العالم؟

يبدو أن باقي العالم قد “استعار” من الثورات العربية، الطريقة في احتلال الفضاء العام وفي تعرُّف المنظومة. لكن هذه الطريقة تستطيع هي ذاتها أن تظهر بوصفها صدًى لما رأيناه في شوارع الأرجنتين منذ عام 2002! إنه الأمل في أن الثورات العربية قد أحيت وأسهمت. لقد برهنت أن كلّ شيء يمكن أن يُبتكرَ “محليًا”، وأنه كان من الممكن بناء السياسة، ظاهريًا، اعتبارًا من لا شيء وفي أوضاع انسداد واسع. كان الأفق الثوري حتى ذلك الحين متروكًا للأحلام وللأهداف البعيدة، لبعض الأحزاب الماركسية المرهقة، إن لم يكن المنهارة؛ لقد وُجد ذلك الأفق، وأعيد تأويله بصورة فريدة ومتعددة الأصوات وشعبية. تظهر الثورة بوصفها ممارسة، وتجربة مشتركة. وبدلًا من تصور التواجد في آفاق ثورية، اختارت اليوم حركات عديدة في العالم التطبيق العملي لطريقة في الاحتجاج أو العيش. وفي ذلك، إنما تقوم بصوغ نظم مضادة.

عنوان المادة: Leyla Dakhli : « Les révolutions arabes ont ravivé l’espoir »

أجرى اللقاء: كريستوف عياد Christophe Ayad

المترجم: بدرالدين عرودكي

مكان وتاريخ النشر: 16/ 01/ 2021  Le Monde

رابط المقال:   http://bit.ly/3rEgChW

عدد الكلمات: 1960