عنوان المادة الأصلي باللغة الإنكليزية: | Assad’s Broken Base: The Case of Idlib |
اسم الكاتب | ARON LUND |
مصدر المادة الأصلي | The Century Foundation |
رابط المادة | https://tcf.org/content/report/assads-broken-base-case-idlib/ |
تاريخ النشر | 14 تموز/ يوليو 2016 |
المترجم | وحدة الترجمة في مركز حرمون – فاتن شمس |
آرون لوند، كاتب سويدي مختص بشؤون الشرق الأوسط، وزميل غير مقيم في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، وزميل في مركز الدراسات السورية.
المحتويات
رابعًا: الميليشيات الموالية للأسد في إدلب
خامسًا: ربيع عام 2015: استيلاء “الثوار” على إدلب
أولًا: مقدمة
لا تزال الحرب في سورية، في حالة كرٍّ وفرّ، ولكن منذ تدخل روسيا وإيران في الحرب الأهلية في سورية، في خريف عام 2015، استقر موقف الرئيس بشار الأسد، نوعًا ما. وعلى الرغم من التدهور الاقتصادي المستمر في حكومته؛ فقد تمكن جيش الأسد من عكس بعض الخسائر السابقة، والاستيلاء على مناطق رئيسة من أعدائه، ولاسيما المناطق المحيطة بحلب. ومنذ آذار/ مارس عام 2016، حدَّت روسيا من دعمها للأسد، ممتثلة –على مضض- لهدنةٍ تمّ التفاوض فيها مع الولايات المتحدة، ولكن؛ إن تكاتف الروس والإيرانيون –بشكل حاسم- مجددًا، كما فعلوا في كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير، فمن المرجّح أن يتمكنوا من ترجيح كفة الميزان لمصلحة الأسد.
ليس ثمة شك في أن الأسد لا يزال يأمل، في استعادة الحكم البعثي بأكمله، حيث تعهد مؤخرًا، في حزيران/ يونيو الماضي، “تحرير كل شبر من سورية”، غير أن ابتلاع أرض جديدة شيء، وهضمها شيء آخر؛ فإن حُكمَ سكان ناقمين، في خضم حرب أهلية، مهمة مكلفة، وتعتمد اعتمادًا كبيرًا على العنصر البشري. وبالفعل، فإن الأسد يعاني نقصًا حادًا في الجنود، واختلالًا متزايدًا في الهياكل الإدارية، وتضاؤلًا في الموارد، وإذا ما استعاد الأراضي التي خسرها؛ فمن الممكن أن يقع في مشكلة تزويدها بما يكفي من الجنود، والشرطة، والإداريين لحكمها. وإذا ما أُجبر “الثوار” على التراجع أكثر، فمن المرجح –أيضًا- أن يتحولوا إلى تكتيك حرب العصابات، والتخريب، والتفجيرات، ما يجعل حُكم الأراضي المستعادة حديثًا، أمرًا أكثر صعوبة.
جوهريًا؛ يصطدم طموح الأسد، بإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل عام 2011، بالتغييرات الهائلة التي أحدثتها الحرب؛ فلم يكن الرئيس السوري، في كثير من المناطق، قادرًا على تعويض نقص العنصر البشري عنده، إلّا من خلال الاعتماد على الفاعلين المحليين، ممن يرتبطون بعلاقات تعود إلى عقود مع نظامه، ولكن ما إن كسب “الثوار” الأرض؛ حتّى اختفى أولئك المؤيدون تمامًا؛ إذ تحوَّل بعضهم إلى الطرف الآخر، وفرَّ البعض الآخر، أو قُتل، وتفتّت العلاقات القديمة، والشبكات، التي استُخدمت لمصلحة الحكومة، إلى حد يتعذر إصلاحه.
ويدرس موجز السياسات هذا، عاصمة الإقليم الشمالي الغربي، إدلب –إلى جانب الرقة المسيطر عليها من قبل الجهاديين، وهي أكثر المدن التي استولى عليها “الثوار” أهمية حتى اليوم، لاستكشاف كيف تمكن الأسد حكمها سابقًا، من خلال تكليف وكلاء محليين بمهمات أمنية، واستكشاف السبب وراء عدم إمكانية استمرار ذلك.
لا يمكن لحالة إدلب أن تُنذر بمن سيربح الحرب في سورية في نهاية المطاف، إذ لم يكن ثمة رابح، كما لا يمكنها أن تنذر –حتى- بوجهة المدينة نفسها، لكنها تظهر –بالتأكيد- أن نظام الأسد الأساسي في السيطرة على السكان، قد تدمَّر مع خسارته للمدينة عام 2015، وربما إلى حدٍّ حيث لا يمكن استعادته أبدًا. وهذا ما يعطينا لمحة قاتمة عن البدائل المعروضة، ويشير إلى أن مستقبل سورية، تمامًا كحاضر إدلب، سيكون –على الأغلب- خليطًا من الإقطاعيات المحلية العنيفة، وغير المستقرة، بدلًا من بلد موحد، قادر على شفاء جراحه. ونظرًا إلى أنه من المستبعد –كما يبدو- أن يكون الأسد قادرًا، على إعادة فرض سيطرته الكاملة على نصف سورية، حيث اقتلعت “الثورة” نظامه من جذوره، فإن أيًا من منافسيه، لا يبدو في وضع أفضل، يمكِّنه من القيام بذلك.
ثانيًا: الجذور المحلية للنظام
كثيرًا ما نُبذت حكومة الأسد، بوصفها نظام طائفي ضيق، يستند إلى الأقلية العلوية التي ينحدر منها الأسد. وقد كان الجانب الطائفي –بالتأكيد- مهمًا، وأصبح أكثر أهمية من ذلك كثيرًا، منذ عام 2011، غير أن هذا تبسيط شديد؛ فعلى الرغم من أن النخبة الأمنية في جوهر النظام، مسيطر عليها بقوة من قبل العائلات العلوية، إلا أن رأس الشجرة كان –دائمًا- مختلفًا عن جذورها.
عندما بدأ الصراع في عام 2011، سيطرت عائلة الأسد على شبكة واسعة من جهات الاتصال المحلية، والعملاء، والتابعين، ورثتها عن نصف قرن من حكم حزب البعث؛ فلم تكن الحكومة تحكم المحيط الريفي لسورية، من خلال إيفاد ضباط، يحملون السكان على الخضوع بالسوط، وإنما من خلال إدماجهم في شبكة مؤسساتها، وشبكات عملائها، ومن خلال إغراء الزعماء بعلاقات ربحية متبادلة مع الدولة. في كل مدينة، أو حيٍّ، أو قرية صغيرة، كان للحكومة المركزية عملاؤها، ممن يعملون لحساب وزارة، أو الجيش، لحساب محافظة، أو بلدية، أو الشركات الحكومية التي تسيطر على كثير من الاقتصاد، أو لحساب حزب البعث، ومنظماته الشعبية. كما أبقت مكاتب الاستخبارات، على مستوى المحافظات، وغيرها –أيضًا- على شبكات غير رسمية، من العملاء والمخبرين، تتدخل بلهجتها الأقسى –فقط- عندما تفشل اللهجة الناعمة. كما كان للعلاقات الشخصية أهمية كبرى؛ إذ غالبًا ما عمل الوسطاء، على هيئة كوادر بعثية، وضباط متقاعدين، ورجال دين، وأصحاب أعمال، أو شيوخ عشائر، كحلقة اتصال ومزودي خدمات، يوظفون تأثيرهم الشخصي على القرى، والعائلات، والعشائر، والشركات، والمنظمات الخيرية، أو حتى الجريمة المنظمة، كله في خدمة علاقاتهم مع الحكومة المركزية.
وفي أوائل عام 2011، دُعيت شبكة الاتصالات هذه للقيام بحفظ النظام –وحماية نفسها- من المد المتصاعد للمعارضة، وأصبح أتباعها نواة للجان الشعبية، وهي حركة منوعة موالية للأسد، تدير نقاط التفتيش، وتخبر عن المنشقين، وتهاجم التظاهرات، لدعم الجيش وأجهزة الاستخبارات، وقد تحول العديد من هذه اللجان الشعبية، إلى قوات عسكرية شبه مسلحة، وأصبحت جزءًا من المنظمات الجامعة، التي ترعاها الدولة مثل، قوات الدفاع الوطني، أو كتائب البعث. وكان الذي أنقذ الأسد، عندما تعثر نظامه في عام 2011؛ قدرته على الوصول إلى أبعد من حدود إستراتيجية طائفية بحتة، والتسلِّح بخمسة عقود من السيطرة الاجتماعية.
بعد خمس سنوات، كان الأسد قد بدد كثيرًا من رأس المال البشري هذا، وأفقدته الحرب الأمن المادي، والموارد، والشرعية اللازمة لإعادة إنتاج آلياته من أجل السيطرة المحلية، ومع اندفاع “الثورة” السُّنِّية في سورية نحو الريف، تمزقت هذه الشبكات المحلية، المزروعة بمشقة –والتي كانت تنضوي على جيلين أو ثلاثة من العائلة نفسها- بسبب الخسارة المفاجئة للسيطرة الأمنية، والاستقطاب السياسي والطائفي، والاقتصاد المتهالك، وعنف “الثوار”. وقد قوَّض التدمير الوحشي، وربما النهائي، لشبكات المحسوبية القائمة منذ عقود، قدرة الحكومة المركزية على حكم المناطق النائية.
ثالثًا: إدلب أنموذجًا
وهنا، تعدُّ مدينة إدلب مثالًا مثيرًا للاهتمام؛ قبل عام 2011، كانت إدلب إحدى المدن المعزولة في السياسة السورية، بوصفها بلدة مركزية، في محافظة سنِّية عربية، ريفية وفقيرة. ولأسباب المصادفة التاريخية، كان لعائلات إدلب الكبرى، علاقات مشحونة –بشكل خاص- مع النظام في دمشق، ولم تمتلك –مطلقًا- تمثيلًا جيدًا، في التحالف العسكري-الريفي، الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة في سورية، في ستينيات القرن الماضي. وقد كان هناك تناقض صارخ، بين هذه المنطقة، وبعض المناطق النائية الأخرى، ذات الأغلبية السُّنِّية، مثل درعا ودير الزور، اللتين قدمتا أعدادًا كبيرة من الضباط والسياسيين، للأنظمة البعثية المتعاقبة (على الرغم من أن خيبة أملهما في دمشق بدأت في النمو، من تسعينيات القرن الماضي، وما بعدها). وهكذا، لم تتلق إدلب اهتمامًا يُذكر من دمشق، ما عدا فترة الاضطرابات أوائل ثمانينات القرن الماضي، عندما أرسل حافظ الأسد، الرئيس في ذلك الوقت، الجيش السوري للقضاء على المتمردين الإسلامويين في المناطق المحيطة بها، وبكثير من الوحشية، على الأغلب.
وفي موجة التحرر الاقتصادي، في العقد الأول من الألفية الثالثة، وصل بعض الإدلبيين إلى مناصب نافذة، لكن غالبًا ما وجدوا أنفسهم، غير قادرين على منافسة الشبكات ذات العلاقة الوطيدة مع النظام، والمؤلفة من العائلات العلوية، أو من سليلي البرجوازية التجارية الدمشقية، التي ازدهرت في ظل حكم الأسد الأصغر. ومن الأمثلة المعروفة، الإعلامي المعروف، غسان العبود؛ الذي كان نجمًا صاعدًا في وسط الأعمال السوري، حتى اختلف، في بداية الألفية الثالثة، مع أحد أبناء عمومة بشار الأسد، ليأخذ التدخل البيروقراطي بتقزيمه، ومنذ ذلك الحين، تابع –من منفاه- عمل شبكته الفضائية، محطة أورينت، القائمة في دبي، لتصبح محطة دعائية مؤيدة للمعارضة. وأيمن أصفري، إدلبي آخر، أصبح فاحش الثراء، بوصفه أحد أقطاب النفط، ولكن –فقط- بعد أن وطد نفسه في المملكة المتحدة؛ وأصبح –هو أيضًا- يدعم قضايا المعارضة.
خريطة منطقة إدلب في كانون الثاني/ يناير عام 2015، DESYRACUSE (@DESYRACUSE). سيطرة الحكومة باللون الأحمر، وسيطرة المتمردين باللون الأخضر.
رابعًا: الميليشيات الموالية للأسد في إدلب
في إدلب، كما في الريف السوري كله، كانت الأجهزة الأمنية وحزب البعث، يسيطران على السياسات المحلية؛ وكان لكل من أجهزة الاستخبارات المركزية، بما فيها إدارة الاستخبارات العسكرية، وأمن الدولة، وإدارة الأمن السياسي، مكاتب فرعية إقليمية منتشرة في المدينة، حيث تعتمد هذه المكاتب –بدورها- على شبكة من أعضاء الحزب، والمخبرين المحليين، والعائلات الصديقة للنظام، ورجال الأعمال، ممن هم في حاجة إلى تصاريح حكومية، وموظفي البلدية، ليبقوا على اطلاع على شؤون المدينة، وللتأثير في سياساتها. وقد تمركزت وحدات من قوات الجيش النظامي، والقوى الجوية، في قواعد في المناطق الريفية المحيطة، مع بعض المرافق داخل إدلب، إلا أنه لم يكن لها دور كبير في المحافظة على أمن المدينة، أو حكمها.
عندما بدأت الاحتجاجات عام 2011، قُمعت التظاهرات الأولى في إدلب من قبل الشرطة، وسرعان ما بدأت الأجهزة الأمنية، الاعتماد على اللجان الشعبية لتعزيز أعدادها، وتجنب تعرض ضباطها للخطر. وكانت اللجان الشعبية من تنظيم شخصيات موالية للأسد؛ بعضهم ممن يحرص على إثبات ولائه، وبعضهم الآخر ممن يستجيب –ببساطة- للأوامر، أو المغريات المادية. وقد أقامت اللجان، التي عادة ما تكون غير نظامية، ومتمركزة في الأحياء، نقاط تفتيش، ونظمت دوريات في الأحياء، كما كان يتم استدعاؤها لقمع التظاهرات، ومهاجمة مسيرات أيام الجمعة، الموالية للمعارضة، بالعصي والهراوات. وتطلق المعارضة على اللجان اسم “الشبيحة”، وهو مصطلح تحقيري، ذو أصول معقدة.
من وجهة نظر الحكومة، فقد كانت هذه الإجراءات كافية، حتى اتخذت الاحتجاجات طابعًا مسلحًا، خلال صيف 2011؛ حيث بدأ نشاط العصابات المسلحة في إدلب بالنمو سريعًا، من حزيران/ يونيو وما بعدها، وعندما بدأت قبضة الأسد على المدينة، تتداعى بخطورة أكبر، أوائل عام 2012، استُدعي الجيش لقمع نشاط “الثوار”، وبعد تطهير الجيش لمدينة إدلب، وتمركز القوات هناك، في آذار/ مارس 2012، بقيت عاصمة الإقليم -نفسها- هادئة نوعًا ما. ومع ذلك، تصاعدت “الثورة” بشكل مطرد في المناطق المحيطة، وذلك بفضل الإمدادات الآتية عبر الحدود التركية، واستيلاء “الثوار” على معبر باب الهوى، المعبر الحدودي الرئيس بين سورية وتركيا، في تموز/ يوليو 2012، ما زاد من تيسير نمو “الثورة”. ومع تزايد استنزاف الجيش السوري، بالقتلى والانشقاقات، لم يتبق للجيش من وقت لحفظ أمن مدينة إدلب، فبدأ بتوكيل المهمات الأمنية للعملاء المحليين، من ذوي الخبرة في المعارك.
وبحسب رواية المعارضة السورية، والتي تبنّاها -من دون تدقيق- كثيرٌ من المؤسسات الإعلامية الغربية الكبرى، عام 2011، صُوِّر “الشبيحة”، على أنهم عصابات إجرامية من العلويين. وبالتأكيد، كان للأقليات –بالفعل- دورٌ كبيرٌ في العديد من هذه المجموعات، ولا سيما في المناطق المختلطة دينيًا، لكن التركيب الدقيق للمجموعات، يختلف باختلاف التركيبة السكانية المحلية؛ ففي منطقة القصير، القريبة من الحدود اللبنانية –على سبيل المثال- اعتمدت الأجهزة الأمنية على بعض العائلات المسيحية من الروم الأرثوذوكس؛ وفي القامشلي ذات الأغلبية الكردية، على المسيحيين السريان، وأفراد قبيلة طيء، العربية السُّنِّية؛ وفي مدينة حلب الكبيرة، على بعض القبائل العربية السُّنِّية من الضواحي والريف المحيط، فضلًا عن الفلسطينيين؛ وفي مدينة حمص، ذات الأغلبية السُّنِّية، على العلويين، بشكل رئيس.
وفي حالة إدلب، فإن الأغلبية السائدة فيها، هم العرب السُّنَّة، ممن يمتاز بالقيم الدينية المحافظة، فضلًا عن قوة الهويات الأسرية، والقبلية، والقروية. وكما في كثير من الأجزاء الأخرى، الواقعة –اليوم- تحت سيطرة “الثوار”، كانت إدلب، منطقة أزهرت فيها “الثورة” بشكل طبيعي، حيث اضطرت الحكومة إلى الاعتماد على حلفاء، من داخل السكان الموالين للمعارضة، من أجل المحافظة على السيطرة.
وللتأكيد، فإن الأقليات غير السُّنِّية، موجودة –بالفعل- في منطقة إدلب؛ إذ يوجد في العاصمة الإقليمية مجموعة سكانية صغيرة من المسيحيين، والتي كانت -عمومًا- على علاقة جيدة مع الحكومة، إضافة إلى قريتي، الفوعة وكفريا، المجاورتين، ويسكنهما المسلمون الشيعة، وإلى الشمال، هناك جيب درزي صغير، حول قرية قلب اللوزة. وليس مستغربًا، أن تفضِّل الأقليات الشيعية المبتدعة، حكومة الأسد على “الثورة” السُّنِّية؛ نظرًا إلى أن الجماعات “الثائرة” المهيمنة في إدلب، هم من الإسلاميين المتشددين، الذين ينظرون إلى المعتقدات الدرزية والشيعية، على أنها ارتداد عن الدين الإسلامي، يستحق الموت، أو -بأفضل الأحوال- شكل من أشكال الهرطقة، يجب قمعه سياسيًا. وقد تعرضت القرى الدرزية، حول قلب اللوزة، إلى حملات تحويل دين قسرية، وتدمير للمعابد، منذ أن استسلمت لـ “الثورة”، في حين لم تنج قريتي الفوعة وكفريا، الشيعيتين، من هذا المصير، إلا بتحويل قريتيهما إلى معاقل ميليشاوية مدججة بالسلاح، يحوطهما مدن سُنِّية من كل الجوانب. (وقد أصبحوا –منذ ذلك الحين- جزءًا من ترتيب معقد لوقف إطلاق النار).
ومع ذلك، لا يبدو أن الميليشيات الشيعية كانت –على الإطلاق- جزءًا من الهيكل الأمني للنظام، داخل مدينة إدلب، كما لا يبدو أن العائلات المسيحية، قد أدّت دورًا مهمًا هناك (على الرغم مما كان لها –على ما يبدو- من بروز في الأعمال التجارية، والإدارة المدنية). وبدلًا من ذلك، اعتمدت الحكومة على جهات اتصالها المحلية، من الأغلبية السُّنِّية العربية في المدينة، لتأليف لجان شعبية، وتشغيل شبكات المخبرين، وقمع التظاهرات، ومتابعة مخابئ المشتبه فيهم من “الثوار”، ومخابئ الأسلحة. وفي المقابل، تلقى قادة اللجان الشعبية، الأموال، والأسلحة، والتدريب، وأطلقَ لهم العنان لمزاولة أعمالهم الخاصة. ويبدو أن هذا الأمر، قد انطوى على كثير من الوحشية الخارجة على القانون، والفساد، وتصفية الحسابات، غير أن مرافقيهم من أجهزة الاستخبارات، لم يبدوا أي اعتراض –وبأي حال، لم يكن لديهم أحدًا آخر يلؤون إليه.
ووفقًا لمقابلات أجريت مع ناشطين موالين للمعارضة، من إدلب، فضلًا عن، مواد جُمعت من الحملات الدعائية لـ “الثوار” وللحكومة، ومواد من وسائط التواصل الاجتماعية، فإن عددًا قليلًا من الشبكات الميليشاوية الموالية للأسد، ظهرت منذ عام 2012، وكان جميعهم تحت قيادة حلفاء النظام القدامى، وجميعهم من الأدالبة السُّنَّة، الذين جُبلوا من طينة “الثوار” أنفسهم. والشخصيات الرئيسة الثلاث منهم:
أولها؛ خالد غزال، وهو رجل أعمال بعثي، يتمتع بعلاقات قديمة مع أجهزة الاستخبارات السورية. ويُحكى أن غزال قد عمل مع النظام، في ثمانينات القرن الماضي، في تحديد هوية المتعاطفين مع الإخوان المسلمين، وتصفيتهم، خلال فترة التمرد الإسلاموي بين عامي 1979 و1982. وعلى الرغم من إقامته لفترة طويلة في الخارج، إلا أنه رد على احتجاجات عام 2011، من خلال جمع الأموال لدفعها إلى اللجان الشعبية، التي تتكون من أقاربه، ومن البعثيين، وغيرهم من سكان إدلب. ومع استمرار الحرب، تسلَّم ابنه محمد (ويُعرف –أيضًا- باسم أبو سعيد) قيادة ما تطوَّر لاحقًا ليصبح “كتيبة المهمات الخاصة”، وهي وحدة شبه عسكرية، تعمل إلى جانب الجيش. وتذكر التقارير شخصيات أخرى مهمة، في شبكة غزال، بمن فيهم، أديب قبيشو، وجميل أصفري، الملقب بـ “جوليان”، وينحدر من عائلة المليونير السوري البعثي، أيمن أصفري، نفسها.
ثانيها؛ جمال هرموش، وهو أحد أقارب المقدم حسين هرموش، الذي كان من أوائل الضباط الذين انشقوا على الجيش السوري. في عام 2012 أو 2013، ويبدو أن فصيل هرموش، من اللجان الشعبية، وقد تمّ تبنيه من قبل قوات الدفاع الوطني، وهي هيئة جامعة، ومدعومة إيرانيًا، للميليشيات المرتبطة بالقيادة المركزية في دمشق؛ لكن في الممارسة العملية، بقي –بطبيعة الحال- فصيلاً محليًا أساسيًا.
وأما ثالثها؛ فهو جمال سليمان، ويعرف أيضًا باسم أبو سليم، والذي كان يدير مجموعة أمن أهلية، حتى أُعطيت صفة اللجان الشعبية، من قبل الأجهزة الأمنية، عام 2011. وتزعم بعض التقارير، أنه كان سجينًا قبل الحرب، ولكن أطلق سراحه في صفقة مع الحكومة. ومع تقدم الحرب، زُوّدت هذه القوة المتنامية بأسلحة ثقيلة، واتخذت دورًا عسكريًا أكثر تقليدية، في حفظ أمن المدينة وضواحيها، وتحول سليمان –شخصيًاً- إلى “بعبع”، بالنسبة إلى المعارضة، بعد نشر مقطع فيديو على شبكة الإنترنت، عام 2012؛ حيث يظهر سليمان ورجاله –في الفيديو- يستجوبون عائلة محلية، يشتبه في تأييدها لـ “الثوار”، مهينين الزوجين المروَّعَين بوضوح، لفظيًا وجسديًا، أمام أطفالهما، ومجبرين المرأة على خلع حجابها، كما قاموا بقص شعر الزوجين بعنف.
خامسًا: ربيع عام 2015: استيلاء “الثوار” على إدلب
في ربيع عام 2015، تغيرت شروط اللعبة في إدلب؛ فبعد شهور من الحرب الدائرة في المحافظة كلها، تكاتف فصيلا “الثورة” الأقوى في المنطقة -جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة، وحليفها السلفي، أحرار الشام- إلى جانب حفنة من الفصائل الأصغر، وشكلوا تحالفًا عُرف باسم “جيش الفتح”، كما أدى دخول موجة من الدعم، بتنسيق خارجي غير مسبوق، عبر الحدود التركية، إلى تيسير تقدم “الثوار”، وفي آذار/ مارس 2015، بدأ هجوم متعدِّد المحاور على إدلب، شارك فيه آلاف المقاتلين.
متمردون سوريون يقاتلون ضد ميليشيات الأسد في ضواحي مدينة معرة النعمان، في الشمال الغربي، إدلب، سورية. المصدر: فريدوم هاوس
وعلى الفور، قرر الجيش خفض خسائره، متراجعًا إلى مواقع أكثر دفاعية جنوبي المدينة، في قرية المسطومة، وقاعدة عسكرية تُعرف باسم “معسكر القرميد”، ومن هناك، خاضت قوات الأسد قتال شرس، على الرغم من أنه تم الاستيلاء على الموقعين كلاهما، لاحقًا. وواصل “الثوار” قطع خطوط إمداد الجيش، والاستيلاء على جيب من الأراضي، تسيطر عليه الحكومة حول إدلب، والذي حارب الأسد مدة أربع سنوات –بشدة- للمحافظة عليه. وعبر أريحا، تابع “الثوار” باتجاه باقي مواقع الجيش جنوب جسر الشغور، والتي تم الاستيلاء عليها في غضون شهرين. وقد كانت هزيمة نكراء للأسد، أضافت ضغطًا على مناطق النظام الجوهرية، في اللاذقية وحماة، ويبدو أنها كانت السبب الرئيس للتصعيد الروسي-الإيراني في ذلك الخريف.
سقطت مدينة إدلب نفسها، فور خروج الجيش فعليًا، وتدفقت قوات “الثوار” إلى المدينة في 28 آذار/ مارس. وقد كان كثير من إدارة المحافظة أجلي –بالفعل- إلى جسر الشغور، ما يشير إلى تسليم النظام باحتمال خسارة إدلب، ما إن رأى جيش الفتح يجمع قواته في القرى المحيطة. كما يبدو أن معظم الأجهزة الأمنية انتقلت مع الإدارة المدنية، أو تراجعت مع الجيش، الأمر الذي ترك اللجان الشعبية تائهة؛ فمن غير ساستهم من الاستخبارات، لفرض الانضباط، أو الجيش العربي السوري، لتزويدهم بالقوة النارية الثقيلة، والحماية، انهارت شبكة الميليشيات المحلية، والمخبرين، والمنفذين. ويبدو أن العديد من قادة اللجان الشعبية، فرَّوا مع مموليهم، بينما تُرك الآخرين، إما غير راغبين، أو غير قادرين، على الهرب، على الرغم من اتساع الوقت لذلك.
سادسًا: تطهير إدلب
ما إن ضمن جيش الفتح السيطرة على إدلب، في آذار/ مارس 2015، حتى أقام قادته محاكم شرعية، لمعالجة الشؤون القضائية، وفقًا للتفسير المحافظ، للشريعة الإسلامية السُّنِّية، ولحكم المدينة، وإدارة العلاقات المتوترة –أحيانًا- بين الجماعات الإسلاموية الكبرى. وفي الواقع، يبدو أن العديد من “الثوار” حاولوا التصرف بطريقة براغماتية، للمحافظة على المؤسسات المحلية، وتحقيق الاستقرار في المدينة، غير أن موجة من عمليات النهب والعنف الداخلي، بما في ذلك إعدامات لمشتبه فيهم في التعاون مع النظام، ضربت المدينة –مباشرة- بعد خروج الجيش. ويبدو أن العديد من عناصر جيش الفتح، قد شاركوا في أعمال العنف، على الرغم من تجاوز بعض المجموعات غيرها في العنف، وقد تم تصوير فصيل جهادي، يعرف باسم “جند الأقصى”، بأنه من تولى قيادة المهمة.
دبابتان مرَّتا قبل أن يفجر المقاتلون القنبلة. كان الانفجار الكبير، الذي أخطأ هدفه، إشارة إلى الآخرين للانخراط مع الدبابتين ببنادقهم، وانفجر الحي الهادئ في إدلب بتراشق الرصاص. المصدر: فيردوم هاوس.
وكان كثيرٌ من العنف موجهًا ضد أعضاء معروفين من اللجان الشعبية، والذين كانوا مكروهين سواء من “الثوار”، أو من الكثير من سكان المدينة؛ إذ كان يُنظر إليهم بوصفهم ممثلين لأسوأ انتهاكات النظام. وأفادت تقارير، أن بعض المقاتلين الموالين للأسد، حاولوا الهرب من إدلب، مرتدين زيًا نسائيًا ونقابًا، إلا أن خطّتهم فشلت، ويبدو أن غيرهم من المقاتلين، ألقي القبض عليه، عندما مشَّط “الثوار” المدينة، فقُتلوا، أو سُلِّموا للمحاكم الشرعية، حتى إنّ ثمة حالات –بحسب مؤيد للمعارضة من المنطقة، التقاه الكاتب بعد سقوط المدينة بفترة وجيزة- قام بها “ثوار”، من مواليد إدلب، بإعدام أقاربهم من موالي الأسد -علنًا- لتبرئة اسمهم، واستعادة شرف العائلة. وبابتسامة حزينة، قال الناشط: “لقد أصبحوا أكثر ذكاء؛ فهم لم يصوروا ذلك في هذه المرة”، وبالفعل، فإن قليلًا جدًا من الأدلة المصوَّرة على عمليات القتل الانتقامية، تنتشر على وسائط التواصل الاجتماعي، بعد سقوط إدلب، ومن ضمن الاستثناءات: صورة لـ “ثوار” مبتهجين، يعلقون ما قيل إنّه رأس جمال سليمان المقطوع، ولعله كان أبغض قادة اللجان الشعبية في إدلب.
بعد أحداث العنف الأولى، سعى “الثوار” لتوطيد أنفسهم، بوصفهم الحكّام الجدد للمدينة، الأمر الذي استدعى عملية تطهير للعناصر الخائنة؛ موظفي الخدمة المدنية، وغيرهم ممن لم يرتبطوا –مباشرة- بقمع الحكومة، لم يتعرضوا –على الأغلب- للأذى، على الرغم من فرار كثيرًا منهم، على أي حال، سواء لأنهم يفضلون الأسد على جيش الفتح، أو هربًا –ببساطة- من القتال، ومن قصف القوات الجوية العربية السورية، لاحقًا، ويبدو أن الموجة الأولى –هذه- من اللاجئين، قد شملت –تقريبًا- أقلية إدلب المسيحية كلها.
وعلى الأغلب، انهارت المؤسسات، المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنظام، مثل النظام القضائي. وعلى الرغم من أن جيش الفتح –ظاهريًا- وضع حراسًا خارج قصر العدل، في إدلب، للحفاظ على السجلات، ومنع أعمال النهب، يبدو أن معظم الموظفين اختفوا؛ حيث ذكرت وسائل إعلام موالية للحكومة، أنه من أصل خمسة وستين قاضيًا، في منطقة إدلب، تمكَّن خمسة عشرة فقط، من الهرب إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة، وربما فرَّ ما تبقى إلى مكان آخر، أو انضم إلى جانب “الثوار”، أو عُزل من منصبه دون تداعيات، إلا أن تقارير أوردت اختطاف العديد منهم، وقتل ثلاثة قضاة في منتصف تموز/ يوليو 2015. وقد استنكر باقي “الثوار” عمليات القتل، وألقوا باللائمة على متطرفي “جند الأقصى”، لكنهم رغبوا عن متابعة هذه المسألة، خوفًا من التسبب بصراع داخلي.
وبعد اقتحام مقارّ الاستخبارات المحلية، وتحرير السجناء الذين بقوا على قيد الحياة، شرع جيش الفتح –أيضًا- بدراسة الوثائق، التي استولى عليها هناك، من أجل التخلص من عملاء الاستخبارات، والمخبرين، وأصدر مجلس حكم الجماعة، في أيار/ مايو 2015، لائحة بنحو 750 اسمًا، من مؤيدي الأسد المطلوبين.
سابعًا: تدمير نظام
ليس مستبعدًا أن يتمكن الأسد من إعادة السيطرة على مدينة إدلب؛ ففي ربيع هذا العام، شقت قواته طريقها عائدة إلى سلسلة جبال اللاذقية، مقتربة –بثبات- من جسر الشغور، والمناطق التي خسرتها في ربيع وصيف عام 2015، وقد خسروا بعضًا من الأرض، منذ ذلك الحين، لكن مع الدعم الروسي-الإيراني القوي، يغدو احتمال تقدمهم أكبر.
“ثوار” يداهمون إدلب، ويدمرون تمثال الأسد، في الساحة الرئيسة، من آذار/ مارس 2015. المصدر: فيديو سكرين شوت VIDEO SCREENSHOT.
ومع ذلك، فإن استئصال الشبكات الموالية للنظام في إدلب، عام 2015، تجعل من تحقيق أمن المدينة واستقرارها، والريف الملحق بها إداريًا، أمرًا في غاية الصعوبة؛ فالرجال الذين قادوا الميليشيات في إدلب، كانوا –جميعًا- مؤيدين موثوقين من النظام لسنوات عدة، لكنهم –الآن- إما لقوا حتفهم، أو تناثروا على مساحة سورية، ومع تدمير شبكات عملاء النظام قبل عام 2011، تفككت اللجان الشعبية، وانتهت أجهزة حزب البعث، وسُحقت السلطة القضائية، وصودرت السجلات الإدارية، أو حُرقت، وكُشفت أسرار الاستخبارات، وفُقدت الذاكرة المؤسسية، وهرب آلاف الموظفين الموالين للحكومة؛ القاعدة الأساسية لحكم الاسد في إدلب، لم تعد موجودة أساسًا.
وحتى إن كان الأسد قادرًا على حشد القوات اللازمة، لاستعادة السيطرة على مدينة إدلب، فإن حكومة دمشق تفتقر –اليوم- للدعائم الإدارية والقمعية، التي اعتمدت عليها خلال ما يقارب الخمسة عقود، من حكم حزب البعث، وخلال السنوات الأربع الأولى، للحرب الأهلية. وبعد أكثر من سنة من سيطرة الإسلامويين السُّنَّة، مَنْ سيسلم الجيش مقاليد السلطة؟ وأين المؤيدون الموثوقون، الذين يمكنهم العمل مجددًا، واستعادة البيروقراطية، وأجهزة حزب البعث، والوظائف البلدية، التي تعتمد عليها سيطرة الحكومة في إدلب؟ ومَنْ سيرصد تحركات السكان، الآن، وقد فُتِّشت المكاتب الأمنية بدقة، وكُشفت هوية المخبرين؟ مَنْ الذي سيتجرأ ليكون جمال سليمان الجديد؟
ثامنًا: تكلفة الاستعادة
بطبيعة الحال، يمكن إعادة بناء المؤسسات والمنظمات، ويمكن تجنيد مؤيدين جدد؛ فليس ثمة نقص في سورية، في أشخاص يعملون من أجل المال، أو السلطة، أو لمجرد الحماية. كما يمكن تدريب الإداريين، ورجال الشرطة، والبيروقراطيين، ويمكن لبعض الموظفين المحليين، الانتقال إلى الطرف الآخر مجددًا، كما يُفترض أن قلة من الموالين المخلصين للحكومة ما زالوا مختبئين في إدلب، بعد فتح “الثوار”، وربما يعود النازحون الإدلبيون، الموالون للنظام، من مناطق سورية الأخرى، أو ربما من الخارج أيضًا.
ومع ذلك، وحتى في ظل أفضل الأحوال–والتي ليس واضحًا أنها ستسود سورية- ستكون تلك مهمة مكلفة، وتستغرق وقتًا. وفي غضون ذلك، سيتعين على الجيش، والأجهزة الأمنية، القيام بحفظ الأمن المحلي، والإدارة، على الرغم من معاناتهما –أصلًا- نقصًا حادًا في القوة البشرية، والأموال.
في المناطق شديدة الموالاة للأسد، مثل الريف العلوي للاذقية، وحمص، أو حماة، لن يكون تدمير شبكات العمالة، عقبة لا يمكن تذليلها؛ فمعظم السكان المحليين يؤيدون الجيش من القلب، وليس لـ “الثوار” سوى أماكن قليلة للاختباء، وستجد الحكومة، والقوات الأمنية تجنيد الموالين، أمرًا سهلًا؛ لكن، ليست هذه المناطق هي التي فقدها الأسد. وفي الحقيقة، فإن إدلب تمثل رمزًا، لنمط المناطق العربية السُّنِّية، الريفية المحافظة، والتي كانت محركًا للانتفاضة ضد بشار الأسد. وفي هذه المناطق، يعادي السكان الجيش بشدة، وتمتلك “الثورة” فيها، جذورًا محلية، غالبًا ما تكون أقوى كثيرًا من جذور الحكومة.
في أماكن كإدلب، لم تكن المباني، والتماثيل، وجداريات حزب البعث، هي ما استُهدف تدميره، عند خروج الجيش فحسب، إنما الأشخاص أيضًا؛ شبكات المحسوبية، والعلاقات الشخصية، التي شكَّلت مجتمعة، قاعدة حكم الأسد. وأُزيلت عقود متراكمة، من السيطرة الاجتماعية، والنفوذ السياسي، مع المدن ذاتها-في سورية كلها، وما حصل لجمال سليمان إدلب، حصل –أيضًا- لجمال سليمان ريف حلب، والرقة، ودير الزور، ودرعا، والغوطة.
في هذه المناطق كلها، دُمِّرت آلية قواعد أسد سورية الشعبية تمامًا، ويتعين إعادة بنائها، من الصفر تقريبًا، إذا ما كان للنظام البعثي –بشكله الحالي، ومركزيته- أن يعود يومًا إليها. وبالنسبة لحكومة، مستنفزفة تمامًا، من حيث القوى البشرية، والموارد، والدعم، والشرعية، فإن إعادة بناء نظام حكم صلب، في سورية اليوم، بأكملها، يبدو مستحيلًا فعليًا، وربما ما يدعو لقلق أكبر، أنه ما من جهة فاعلة أخرى، ستجد الأمر أقل استحالة.