إيزابيل مايوت/ ترجمة: بدرالدين عرودكي

(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة

القاضية الفرنسية تدير الآلية الدولية، غير المنحازة والمستقلة، وهي منظمة كلفتها منظمة الأمم المتحدة بجمع البراهين على التجاوزات التي اقترفها نظام بشار الأسد. هدفها: مساعدة المحاكم في وضع لوائح الاتهام ضد مجرمي الحرب.

كاترين مارشي ـ أويل في مقر منظمة الأمم المتحدة بجنيف، في 25 أيار/مايو 2021.

في مقر الأمم المتحدة بمدينة جنيف، تستقبل القاضية كاترين مارشي ـ أويل في حديقة الشتاء الخاصة بفيلا فخمة أُعِدَّت لاستقبال الوفود الدولية. “هذا يختلف عن حاويتي في البوسنة”، كما أسرّت تلك التي قادتها حياتها الدبلوماسية الطويلة إلى العمل بين أماكن عديدة في البلقان، ورواندا وكمبوديا.

 هذه المرة، بعيدًا عن البلد المعنيّ، ومنذ آب/ أغسطس 2017، إنما تدير الفرنسية الآلية الدولية، غير المنحازة والمستقلة (Mécanisme international impartial et indépendant, MIII) المكلفة بتسهيل التحقيقات حول أخطر انتهاكات القانون الدولي المرتكبة في الجمهورية العربية السورية منذ آذار/ مارس 2011 والمساعدة على محاكمة المسؤولين عنها.

وأقل ما يمكن قوله أنها لم تكن تتوقع شيئًا من الانتخابات الرئاسية في 26 أيار/ مايو التي كان بشار الأسد يسعى فيها لولاية رابعة (نجح فيها بنسبة 1ر95 % من الأصوات، حسب النتائج المعلنة غداة الانتخابات)، وهي الانتخابات الثانية منذ بداية الحرب.

ذلك أن أجندتها قضائية. قبل سنة تمامًا قامت المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلانز بألمانيا، ببدء إجراءات دعوى تاريخية: هي دعوى إياد الغريب، أحد موظفي دوائر المخابرات السورية سابقًا، ودعوى أنور رسلان، الكولونيل السابق، وكلاهما يحاكمان بتهمة ارتكابهما جرائم ضد الإنسانية. وهذا، في جزء منه، بفضل أعمال حفظ وتحليل البراهين الذي أنجزته الآلية الدولية، غير المنحازة والمستقلة. أدين الأول في نهاية شهر شباط/ فبراير، وهو ما جعل المحكمة الألمانية أوّل محكمة في العالم تصدر حكم إدانة حول الجرائم التي ارتكبها نظام بشار الأسد.

مليونان من الملفات

حتى هذا اليوم، تلقى الفريق المؤلف من خمسين شخصًا -من محققين، ومحللين، وقانونيين، واختصاصيين آخرين في إدارة البرهنة- الذي تديره كاترين مارشي ـ أويل أكثر من مئة طلب مساعدة صادرة عن اثنتي عشرة سلطة قضائية أوروبية بصورة جوهرية. وفي الوقت الذي يتجاوز فيه هذا الصراع عشرة أعوام في آذار، كان هذا التعاون الدولي الوثيق يبدأ في تقديم ثمراته.

توضح كاترين مارشي ـ أويل: “الآلية هي أداة تيسير للعدالة. لسنا مضطرين إلى أن نحقق العدالة نحن أنفسنا، لأننا لسنا محكمة، ولا نستطيع الملاحقة مباشرة. لكننا بالمقابل نتدخل كداعمين لهذه الهيئات التي تملك القدرة على الملاحقة“.

ولأنها ضرب من مخزن هائل لكلّ وثيقة تتعلق بكل التجاوزات المرتكبة خلال الحرب الأهلية السورية، تجمع الآلية اليوم قاعدة معلومات مؤلفة من مليوني ملف. وفي مواجهة كمِّ الفيديوهات الموجودة، أتى الفريق على زيادة قدرة التخزين بصورة محسوسة. “يوجد عدد من ساعات الأفلام أكثر من ساعات الصراع“، كما توجز القاضية التي تقدر أن الصراع السوري هو الأكثر توثيقًا منذ الحرب العالمية الثانية.

البوسنة والهرسك، وكمبوديا، وسورية…

كانت كاترين مارشي ـ أويل في البداية مشدودة إلى جانب “التحكيم” في المهنة. فبعد المدرسة الوطنية للقضاء بمدينة بوردو وبداية مسار مهني بوصفها قاضية أطفال، انعطفت نحو حقوق الإنسان عن طريق دورة إعدادية في المحكمة الأوربية بمدينة ستراسبورغ، إذ حين كانت طفلة كانت متأثرة بحكايات صديق لعائلتها، ممن نجوا من معسكر الاعتقال داشو في ألمانيا.

قضت ثلاث سنوات في وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية بين عاميْ 1996 و 1998، ثم التحقت ببعثة حفظ السلام في البوسنة والهرسك: ففي بداية سنوات الألفية الثالثة، لم تكن محكمة الجنايات الدولية قد بدأت العمل كليًا، وكانت المحاكم الخارجية التي تقوم بدور نموذج من أجل إقامة عدالة جديدة على مستوى العالم. وبوصفها واحدة من كبار الموظفين القانونيين في غرف محكمة الجنايات الدولية من أجل يوغوسلافيا، ثم قاضية في الدائرة التمهيدية ضمن الغرف الاستثنائية لدى المحاكم الكمبودية، فقد شاركت كاترين مارشي ـ أويل آنئذ في ضروب التقدم هذه.

قبل أن ترأس الآلية الدولية، غير المنحازة والمستقلة بجنيف، عملت أيضًا كوسيطة في لجنة العقوبات ضد منظمة الدولة الإسلامية والقاعدة. لقد بنت القاضية بهذه التجربة الطويلة أخلاقيات للممارسة: “التزام متبادل” مع المجتمع المدني، الذي تضعه في قلب عملها حول سورية. حماية والتزام، ذلك هو شعارها.

ولهذا فإن سرّية المعلومات هنا جوهرية. توجز القاضية: “يجب علينا أن نتأكد من امتلاكنا إطارًا يسمح بألا نخطئ في إيصال معلومة يجب ألا يجري إيصالها.“. ومن أجل ذلك، تشير إلى تنقيح بعض الوثائق، وكذلك، بالنسبة إلى بعض الاختصاصات القضائية، تشير إلى إمكان الموافقة على إجراءات لحماية الشهود. في دعاوى كوبلانز، على سبيل المثال، كانت وجوه البعض مخفية أو كانوا يضعون شَعرًا مستعارًا، لحماية عائلاتهم التي لا تزال في سورية. ويتحقق الالتزام مع المصادر، وخصوصًا المنظمات السورية غير الحكومية التي يفسر عملها بلا هوادة كمَّ المعلومات التي جمعتها الآلية، من خلال عقد اجتماعات مرتين سنويًا مع ثلاثين منظمة من بينها.

على الرغم من فيتو روسيا والصين

عند إنشاء هذا الجسم الغامض الذي تمثله الآلية الدولية، غير المنحازة والمستقلة، لم يكن ثمة شيء يحمل على توقع طول عمرها أو فعاليتها. والواقع أن الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة اعتمدت قرارًا شديد الإيجاز بإنشائها في كانون الأول/ ديسمبر 2016. ” وثيقة صغيرة جدًا مؤلفة من عدة مقاطع“، كما تتذكر سيسيل آبتيل (Cécile Aptel)، الخبيرة في القانون الجنائي الدولي، التي دعيت على وجه السرعة لكتابة نظام المنظمة الجديدة خلال أسابيع عدة. وتابعت: “كان من الممكن، شأن كثير من القرارات، ألا يؤدي إلى شيء بمثل هذه الأهمية وأن يستمر“.

“ما يمكن أن نأمله هو أن تشارك ذات يوم السلطات القضائية السورية ذاتها في جهد العدالة. لكننا لم نصل بعد إلى هذا. ما زلنا بعيدين”. كاترين مارشي ـ أويل

كان من الممكن أيضًا ألا يرى النور أبدًا. فالانسداد السياسي كان يبدو آنئذ شاملًا: كانت روسيا والصين قد وضعتا الفيتو في مجلس الأمن لمنع نقل الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية. لكن المفاوضات التي قام بها الممثل الدائم لإمارة ليشنشتاين، كريستيان فيناوزر (Christian Wenaweser)، وهو من المخضرمين بين الدبلوماسيين القائمين على عملهم بنيويورك، آتت أكلها وأمكن إنشاء الآلية. “كان ذلك يعطي الإشارة إلى أن أكثرية الدول ترفض من الآن فصاعدًا الانحناء أمام الأمر الواقع“، كما يحلل اليوم جورج سباربر (Georg Sparber, )، مساعده، الذي جرى الاتصال معه هاتفيًا بنيويورك.

وإنما في لحظة أزمة العدالة الدولية إذن، وعلى مسافة سنوات ضوئية من إنشاء المحاكم الخارجية من أجل يوغوسلافيا سابقًا (1993) و رواندا (1994) أو أيضًا محكمة الجنايات الدولية (1998) قد ولد شكلٌ غير مسبوق من آلية حماية البرهان. “وقد جرى نسخه منذئذ“، يتابع جورج سباربر، مشيرًا إلى آلية التحقيق المستقل من أجل ميانمار، التي أنشئت عام 2018 وصارت فعالة في آب/ أغسطس 2019.

العدالة في نهاية النفق

من الممكن أيضًا الاستشهاد بالفريق المكلف بالتحقيق حول جرائم داعش [الاختصار العربي لاسم تنظيم الدولة الإسلامية] في العراق، الذي جُدِّدت صلاحيته في عام 2019. “كان التحدي الكبير يتمثل في العثور للآلية الدولية، غير المنحازة والمستقلة على مكانها الصحيح ضمن المنظومة الدولية الذي لا يمكن اعتبارًا منه لأي دولة أن تتمكن من تجميدها، كما تحلل سيسيل آبتيل، وكان التحدي الآخر يتمثل في إقناع المجتمع المدني السوري بأن هذا النموذج الجديد سوف يسمح بأن تتحقق العدالة“.

 في غياب إنشاء محكمة خارجية من أجل سورية في الوقت الحاضر والإحالة إلى محكمة الجنايات الدولية، كانت خيبة المجتمع المدني السوري إزاء منظمة الأمم المتحدة شديدة. “كان هناك هذا الشعور بأنه على الرغم من تقاسم المعلومات الذي كان يستهدف التعريف بالجرائم، كنا نرى القليل من فرص العدالة“، كما تؤكد كاترين مارشي ـ أويل، التي تشير إلى “مرارة” الأطراف المعنية.

مع هذه الدعوى التاريخية الأولى في كوبلانز، ثمة بعض الأمل في رؤية محاكمة كبار المسؤولين عن هذه الجرائم التي تولد مجدَّدًا. ولمَ لا، أن يكون الأول من بينهم بشار الأسد؟ تخلص كاترين مارشي ـ أويل إلى القول: “ما يمكن أن نأمله هو أن تشارك ذات يوم السلطات القضائية السورية ذاتها في جهد العدالة. لكننا لم نصل بعد إلى هذا. ما زلنا بعيدين“.

عنوان المادة: Catherine Marchi-Uhel, la vigie des crimes en Syrie

الكاتب: Isabelle Mayault

المترجم: بدرالدين عرودكي

مكان وتاريخ النشر: Le Monde, Le 28 mai 2021

رابط المقال: https://bit.ly/2XWYFl9

عدد الكلمات: 1486