يوسف منيّر/ ترجمة أحمد عيشة
(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
بينما يجوب الإسرائيليون الهمج في الشوارع مهاجمين الفلسطينيين، وبينما ترمي الطائرات الحربية الإسرائيلية القنابل على غزة، من الضروري أن نفهم كيف وصلنا إلى هذه اللحظة!
أحاول التفكير في اللحظة منذ عام 1948، عندما تعرض عدد كبير جدًا من الفلسطينيين لمستوى كبير من العنف الإسرائيلي مثلما يتعرضون إليه في الأيام القليلة الماضية، ولا أعتقد أنني أستطيع.
ففي المدن في مختلف أنحاء إسرائيل، يتعرض الفلسطينيون للضرب والإرهاب من قِبَل الغوغاء؛ أحد الرجال يُجَرّ من سيارته ويعامَل بوحشية، في مشهد يصفه كثيرون بأنه قتل تعسفي. وفي الضفة الغربية، يشن الجيش الإسرائيلي غاراتٍ على الفلسطينيين، ويطلق النار عليهم ويقتلهم. وفي القدس، تتعرض الأسر الفلسطينية، التي تواجه التهديد المستمر بالطرد، لمضايقات من المستوطنين ومن الجيش بالطريقة نفسها. وفي غزة، تلقي الطائرات الحربية الإسرائيلية قنبلة بعد قنبلة، مدمّرة مباني سكنية بأكملها. كثيرون لقوا حتفهم، ويصاب أكثر منهم. إذا تمكنوا من البقاء على قيد الحياة، فسيشهدون مجتمعهم محطمًا عندما ينجلي الدخان.
إن أصول هذه اللحظة واضحة بقدر ما هي مؤلمة، لكنها تستحق الشرح وإعادة التفسير لعالمٍ يفشل في كثير من الأحيان -بل يرفض في الواقع- في رؤية الظروف الحقيقية للمعاناة الفلسطينية.
كي نفهم كيف وصلنا إلى هذه اللحظة، من الضروري أن نبدأ بقصة “الشيخ جراح”. لعل ذلك الجيب الصغير في القدس، الذي تعرضت منه أسر فلسطينية عدة لخطر الطرد، هو أقرب أسباب هذه الأزمة الأخيرة. وهي أيضًا آخر عملية طرد تستهدف الفلسطينيين من جانب إسرائيل، على أنها جزءٌ من عملية مستمرة منذ أكثر من 70 عامًا.
منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967، اتبعت الحكومة الإسرائيلية سياسات مختلفة تهدف إلى هندسة مدينة القدس من الناحية الديموغرافية، مرة أخرى، وكل ذلك بقصد ضمان هيمنتها الدائمة على المدينة. ومن بين هذه السياسات بناءُ المستوطنات غير القانونية حول المدينة، لعزلها عن بقية السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية؛ وتقييد التنقل لحرمان الفلسطينيين من الوصول إلى دائرة المدينة نفسها وإلى داخلها؛ وإلغاء وضع الإقامة للفلسطينيين، وهو ما يعادل الطرد؛ وهدم منازل الفلسطينيين. ويطرد الإسرائيليون الفلسطينيين من ديارهم، كما نشهد في الشيخ جراح، حتى يتسنى لهم تسليمها إلى المستوطنين الإسرائيليين.
وقد خلقت هذه السياسات مجموعة فريدة من التهديدات والإهانات والمظالم التي تستهدف الفلسطينيين في القدس. ومع ذلك، فإن ما يحدث في الشيخ جراح لا يتعلق بالقدس فحسب، بل يعكس أيضًا التجربة الفلسطينية برمتها. منذ بداية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، كان الهدف هو توسيع نطاق السيطرة على الأراضي ببطء وبصورة مطردة، وإجبار السكان الأصليين على الخروج في عملية مستمرة من الاستبدال. وكانت الحلقة الأكبر من هذه العملية هي نكبة عام 1948، التي أفرغت خلالها الميليشيات اليهودية، ثم دولة إسرائيل، مئات المدن والقرى من سكانها، وجعلت ما يقرب من ثلثي السكان العرب الفلسطينيين لاجئين، ورفضت فيما بعد عودتهم، أولًا بالقوة العسكرية، ثم بقوة القانون. لكن العملية لم تتوقف عند هذا الحد. ففي العقود التي تلت ذلك، تقدمت عملية المستوطنين الاستعمارية في القدس والضفة الغربية وغزة، من خلال بناء المستوطنات، وسرقة الأراضي، والقوة العسكرية الوحشية.
كل هذا يمكن أن يكون كافيًا ليشعل الوضع في هذه اللحظة، لكنه يحدث أيضًا في سياق فوري أوسع نطاقًا، سياق حيث تُحكم فيه قبضة الكماشة للجناح اليميني المتسارعة، والقومية الثيوقراطية في مختلف أنحاء إسرائيل. فقد جلبت الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة إلى البرلمان الكاهانيين الصرف، وهم اليهود المتطرفون الثيوقراطيون الذين يسعون إلى إنكار أي حقوق للفلسطينيين، ويتبنون سياسة التطهير العرقي. يهيمن أيديولوجيو اليمين منذ فترة طويلة على الكنيست، ولكن مع تحول السياسة الإسرائيلية إلى اليمين على الدوام، وتمكنها بضمان دولي من الإفلات من العقاب، هناك الآن حيز سياسي متزايد لعنصرية صريحة ومباشرة أكثر من كل التي شهدناها من قبل (وبالتالي، لا ينبغي لنا أن نفاجأ بفيضها إلى الشوارع في هيئة الغوغاء القتلة).
لقد تزامنت هذه الأعماق الجديدة من السفالة مع احتمال أن يخاطر حزب الليكود، الذي سيطر زعيمه بنيامين نتنياهو على السياسة الإسرائيلية لفترة أطول من أي حزب آخر، بفقدان السلطة. وهذا لا يعزى إلى تحدٍ من جانب من هم على يساره، بل إلى من هم على يمينه، الذين يسعون إلى استبداله.
إن ما يجعل التهديد الذي يهدد قبضة نتنياهو على السلطة خطيرًا بصورة خاصة هو أنه ربما يكون السياسي الإسرائيلي الأكثر خبرة وتمرسًا، عندما يتعلق الأمر بإثارة العنف من قِبَل أتباعه في لحظات الاضطراب السياسي. إنه تكتيك كثيرًا ما يستخدمه، وربما كان معروفًا أكثر قبيل اغتيال إسحاق رابين، منافسه السياسي، على يد أحد اليمينيين الإسرائيليين عام 1995. منذ الانتخابات التي جرت في آذار/ مارس، صعّد هؤلاء المتطرفون العنيفون هجماتهم على الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية، وهاجوا في القدس، وهم يرددون “الموت للعرب” في أثناء مسيرتهم في المدينة القديمة. وتصاعدت حدة هذه الهجمات أكثر -وقد تسامحت معها الدولة بالكامل إن لم تكن دعمتها دعمًا صريحًا ومباشرًا- خلال شهر رمضان المبارك، وبلغت ذروتها أولًا مع جهود الحكومة الإسرائيلية لإغلاق بوابة دمشق، ثم في نهاية المطاف، مع الغارات الوحشية التي شهدناها هذا الأسبوع من قبل الجيش الإسرائيلي داخل المسجد الأقصى.
ومرة أخرى، كانت هذه الأحداث، بحد ذاتها، كافية لتوصل المنطقة إلى هذه اللحظة المتقلبة والسريعة التحول. ومع ذلك، كانت هناك أيضًا أحداث أخرى وتحولات أخرى -لعل أبرزها تمزق تجربة في سياسات المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وتصدّعها. كانت القائمة المشتركة، التي جمعت أحزابًا عدة أصغر حجمًا حصلت ذات مرة على 15 مقعدًا في الكنيست الإسرائيلي، قد تفككت هذه المرة، بعد أن أبدت بعض الأحزاب استعدادها لدعم حكومة نتنياهو مقابل ثمن مناسب. كان فشل هذه التجربة هو فشل فكرة أن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل يمكن معالجة مظالمهم، من خلال المشاركة في الحكومة الإسرائيلية. ومع تعثر آليات التمثيل المحدودة هذه، صار الناس مهيئين للنزول إلى الشوارع. وكما كانت الانتخابات تجري، احتشد الآلاف من المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل في مدينة أمّ الفحم، وهم يحملون أعلامًا فلسطينية، ويتغنون بوطنهم الحبيب، إيذانًا بكثير من الأحداث في الأيام الأخيرة.
ولم يكن الفلسطينيون فقط في إسرائيل يبتعدون عن المؤسسات التي خذلتهم. وفي أواخر نيسان/ أبريل، حرِم الفلسطينيون في مختلف أنحاء الضفة الغربية وغزة والقدس من فرصة التعبير عن رأيهم، بخصوص زعمائهم/ قادتهم في السلطة الفلسطينية، عندما أرجأ محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، الانتخابات الفلسطينية إلى أجل غير مسمى. كانت الانتخابات التي أعلنت في كانون الثاني/ يناير ستكون الأولى منذ 15 عامًا. ولكن عباس ألغى الانتخابات، لأنه كان من الممكن أن تشكل تحديًا خطيرًا وجديًا لحزبه وحكمه، لأن إسرائيل لن تسمح للفلسطينيين في القدس بالمشاركة في التصويت. ومما لا شك فيه أن الحرمان من هذه الفرصة المحدودة للتعبير السياسي أسهم في التعبئة الجماعية التي نشهدها.
إن الوسائل التمثيلية للفلسطينيين، في جميع أنحاء فلسطين، قد انهارت بشكل لا يمكن إصلاحه. ولكن ذلك قد لا يكون أمرًا سيئًا، لأن تلك الوسائل قد دفعتهم فعليًا إلى طريق مسدود يتسم بمزيد من التشرذم والاحتلال. وبينما توصل كثيرون إلى هذا الاستنتاج منذ فترة طويلة، فإن التعبئة الجماعية التي بدأنا نراها منذ أيام في الشوارع، من القدس، إلى حيفا، والناصرة، واللد، وأم الفحم، ورام الله، وغزة، وفي مخيمات اللاجئين، وفي الشتات في جميع أنحاء العالم، أظهرت أن جيلًا جديدًا لا يدرك ذلك فحسب، بل إنه بدأ يعمل عليه. وتظهر هذه التعبئة الجماعية التي وحدت الفلسطينيين فهمًا مشتركًا لكفاحهم، بل ربّما تظهر الشكل الجنيني لجهد موحد ومنسق ضد الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي بجميع مظاهره.
إن النضال من أجل الحرية هو رحلة مستمرة، مع وقفات تستدعي الأمل واليأس على طول الطريق. ولئن كانت الأيام القليلة الماضية قد أعطتني أسبابًا لا تحصى لليأس، فإن إمكانية بذل جهد فلسطيني موحد لاحت في هذه الأيام القليلة الماضية هي التي رأيت فيها شعلة من الأمل. عندما تأتي الحرية، وعندما يكتب تاريخ النضال من أجل هذه الحرية، آملُ أن تثبت هذه اللحظة أنها مرحلة تحولٍ جذري. وتحقيقًا لهذه الغاية، علينا جميعًا أن نؤدي دورنا، ويتعين على المؤمنين بالعدالة أن يتضامنوا مع الفلسطينيين اليوم، إلى أن تنتهي الرحلة.
(*) – الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز
اسم المقال الأصلي | A Nightmare of Terror Across the Landscape of Palestine |
الكاتب | يوسف منيّر، Yousef Munayyer |
مكان النشر وتاريخه | The Nation، 13 أيار/ مايو 2021 |
رابط المقال | https://bit.ly/33XcYG7 |
عدد الكلمات | 1208 |
ترجمة | وحدة الترجمة/ أحمد عيشة |