مسؤول سابق في أحد سجون النظام، أنور رسلان الذي كان قد لجأ إلى ألمانيا، يمثل الآن أمام المحكمة بسبب الانتهاكات التي ارتكبها نظام بشار الأسد منذ 2011
توماس فيدر

(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
عند ملتقى نهري الراين وموزيل، تبدو مدينة كوبلانس القديمة كما لو أنها بطاقة بريدية. حتى السوّاح كانوا، يوم الإثنين 18 أيار/ مايو، يعودون للاستفادة من إعادة فتح المقاهي على الأرصفة أو للنزهة وهم يتناولون البوظة في هذه المدينة البورجوازية الواقعة في غرب ألمانيا. من الصعوبة بمكان أن نتصوَّرَ تباينًا أكثر إدهاشًا بين هذه اللامبالاة وهذا الذي كان يدور في اللحظة ذاتها وراء النوافذ الزجاجية الكبيرة للمحكمة الإقليمية، حيث يمثل فيها ضابط سابق في دوائر المخابرات السورية، متهمًا بجرائم ضد الإنسانية، ويتكلم للمرة الأولى.
حتى ذلك الوقت، لم يكن أنور رسلان إلا مجرَّد وجه. وجهُ رجلٍ جسور في السابعة والخمسين من عمره بشاربٍ أسود وأبيض وحواجب كثيفة، بقي صامتًا منذ بداية محاكمته، في 23 نيسان/ أبريل، ضمن مقصورته من الزجاج الشبكي بسبب جائحة فيروس الكورونا، كوفيد ـ 19. محاكمة تاريخية، بالمعنى الكامل للكلمة، نظرًا لأن ضابط أمن الدولة السابق هذا هو أول مسؤول سوري رفيع يمثل أمام العدالة بسبب الانتهاكات التي ارتكبها نظام بشار الأسد منذ 2011، السنة التي شهدت بداية الحرب التي اجتاحت البلد.
التعذيب والصدمات الكهربائية

كانت جلسة الإثنين، وهي الجلسة الخامسة منذ افتتاح القضية، موضع ترقب شديد. إذ أن أنور رسلان رفض الكلام خلال الجلسة الأولى التي قرئت خلالها لائحة الاتهام. في ذلك اليوم، رسم النائب العام صورة تقشعر لها الأبدان للمتهم الذي وصل إلى ألمانيا بوصفه طالب لجوء، في أيلول/ سبتمبر 2014، واعتقل في شباط/ فبراير 2019، بفضل أحد ضحاياه الذي تعرف عليه في أحد منازل لاجئين ثم في متجر كبير ببرلين.
ما الذي سيجيب به أنور رسلان بعد أن استمع إلى النائب العام يتهمه بأنه مسؤول عن موت ثمانية وخمسين شخصًا وعن ضروب التعذيب التي مارسها بحق أربعة آلاف شخص آخر في مركز الخطيب بدمشق، الذي كان مسؤولًا عنه بين نيسان/ أبريل 2011 وأيلول/ سبتمبر 2012؟ ما الذي سيقوله عن ضروب الإساءات التي بلغت حدّ استخدام الصدمات الكهربائية التي كان يحمل مساعديه على استخدامها من أجل “الحصول على الاعترافات وعلى المعلومات حول المعارضة” للنظام؟ أية كلمات سيجدها كي يبرر شروط الاعتقال “غير الإنسانية” التي كانت تسود “داخل زنزانات مساحة كل منها خمسين مترًا مربعًا يوضع فيها مائة وأربعون سجينًا في جو خانق من شدّة الحرارة“، دون أية إمكانية للجلوس أو التمدد، كما ذكَّرَ بذلك النائب العام؟
“إنكار كامل”
يوم الإثنين، جاء الجواب إذن حين ردّ المتهم: “لم أرتكب الجرائم التي اتهمتُ بها“، بصوت محامييْه الإثنيْن اللذين تناوبا على قراءة إفادة من أربعين صفحة كان قد أعدّها. كما أكد: “لم أتصرَّف أبدًا بطريقة غير إنسانية“، مُقسمًا أنه، على العكس، “ساعد على الإفراج” عن العديد من المعتقلين المتهمين بالمشاركة في الانتفاضة عام 2011، قبل أن يُحرَمَ من سلطة القيام بذلك، مؤكدًا أن ذلك جرى ضد إرادته.
ولأنه أيضًا كان سيختلف مع توجه النظام إنما قرر أنور رسلان الهرب من سورية، في نهاية عام 2012، كي يصل إلى أوربا. “لقد صرتُ لاجئًا لأنني لم أؤيِّد ولم أكن أريد أن أؤيِّد” الانتهاكات المرتكبة من قبل النظام، كما فسَّرَ، قبل أن يُعبّر عن “أسفه وتعاطفه” مع ضحايا هذه الحرب.
من وجهة نظر الجمعيات التي تطالب منذ سنوات بتحقيق العدالة بالنسبة لهذه الجرائم، لم تقنع هذه الكلمات أحدًا. “لا نعتقد على الإطلاق أن دوره كان دورًا ثانويًا“، كما علق فولغانغ كاليك، الأمين العام للمركز الأوربي للحقوق الدستورية والإنسانية، وهو منظمة غير حكومية تدعم الناجين من المعتقلات السورية في متابعة الإجراءات القانونية التي يقومون بها، ومنهم السبعة الذين رفعوا الدعوى.
“إنه إنكار كامل للمسؤولية، مسؤولية رجلٍ كان في السلطة لكنه يزعم أنه لم يكن يملك أية سلطة“، كما صرح من ناحيته المعتصم الكيلاني، من المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، وهو منظمة غير حكومية أخرى. ولكن الجوهري ليس هنا، عند هذه المرحلة. “ما نسجله من بداية هذه المحاكمة، هو أنها خلقت سابقة قضائية، وأن إجراء المحاكمة نفسها يمكن أن يسمح بتمهيد الطريق لمحاكمات أخرى في أوربا“، كما يرى السيد الكيلاني، الذي يتوقع الكثير من الجلسات المقررة في الأسابيع القادمة، حيث سيكون من الممكن الاستماع إلى حوالي عشرين شاهدًا.
الولاية القضائية العالمية

كانت القضية المرفوعة ضد أنور رسلان، الذي يقف إلى جانبه أحد مرؤوسيه السابقين، إياد الغريب، وهو في الثالثة والأربعين من عمره، متهم بالمشاركة في التعذيب ضد ما لا يقل عن ثلاثين متظاهرًا اعتقلوا في دوما، قربَ دمشق، في خريف 2011، ممكنةً لأن ألمانيا قررت اللجوء إلى مبدأ “الولاية القضائية العالمية”، الذي يجيز لدولة ما أن تلاحق مرتكبي الجرائم الخطيرة خصوصًا، أيًّا كانت جنسيتهم وأيًّا كان المكان الذي ارتكبت فيه الوقائع. وهو مبدأ لجأت إليه فرنسا أيضًا، مما سمح في شباط/ فبراير 2019 بتوقيف مساعدٍ آخر لأنور رسلان، في إطار تحقيق أوَّلي افتتحه النائب العام بباريس حول “أفعال تعذيب، وجرائم ضد الإنسانية وتواطؤ في هذه الجرائم”، المرتكبة في سورية بين 2011 و 2013.
حتى الآن، كانت الجهود التي تستهدف محاكمة مرتكبي الجرائم وشركائهم التي ارتكبها نظام بشار الأسد تواجه عقبتيْن. الأولى، هي أن سورية لم توقع على نظام روما، أي النص المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية، مما يحول دون هذه الأخيرة وأن تقرر القيام بالملاحقة بمبادرة منها. والثانية، هي المتمثلة في الفيتو الروسي في مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة، الذي يمنع أية محاولة لإحالة الملاحقة إلى محكمة العقوبات الدولية، بما أنها هيئة تنفيذية من هيئات منظمة الأمم المتحدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عنوان المادة: A Coblence, les dénégations d’un Syrien jugé pour crimes contre l’humanité
اسم الكاتب: Thomas Wieder
المصدر وتاريخ النشر: صحيفة اللوموند، 19 أيار/مايو 2020
المترجم: بدرالدين عرودكي
عدد الكلمات: 1122