وصف الناشطون القضية، التي تنطوي على اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في المراحل الأولى من الحرب الأهلية السورية، بأنها خطوة أولى محدودة نحو العدالة.

بعد اعتقالها بسبب الاحتجاج ضد الحكومة في سورية عام 2011، وصلت نوران الغميان إلى مركز استجواب سيئ السمعة، وحُبست في زنزانة منفردة صغيرة الحجم لدرجة أنها لم تستطع الاستلقاء فيها.

توسلت نوران (28 عامًا) لرؤية قائد المركز، أنور رسلان، وطلبت منه نقلها إلى زنزانة عادية؛ فسخر منها وأهانها وأعادها إلى زنزانتها. وقالت، عبر الهاتف من سويسرا، حيث حصلت على حق اللجوء السياسي: “إنه مجرم، ويجب أن يُحاكم”.

يوم الخميس 22 نيسان/ أبريل، نالت ما تمنته، عندما قُدّم السيد رسلان وضابط أمن سوري سابق آخر إلى المحاكمة في ألمانيا، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في الأيام الأولى من الحرب الأهلية السورية.

ووصف ناشطون قانونيون القضية في المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز بأنها انطلاقة للجهود الدولية لمحاسبة الجناة على الانتهاكات الواسعة التي ارتُكبت أثناء الصراع.

كانت معظم الجهود لمقاضاة المسؤولين السوريين في أوروبا إما اتهامات رمزية إلى حد كبير لشخصيات رفيعة المستوى لا تزال في سورية أو محاكمات لجنود من رتب دنيا.

لذلك يبرز السيد رسلان، كعقيد سابق في أحد أجهزة المخابرات السورية لحكومة الرئيس بشار الأسد الذي يرفض المحاكمات في المحاكم غير السورية، بوصفها محاكمات لا معنى لها. السيد رسلان هو أول مسؤول رفيع المستوى يُحاكم بمثل هذه التهم الخطيرة، والإجراءات ضده هي الأولى في العالم التي تتعامل مع التعذيب الذي ترعاه الدولة في سورية.

أنور البني، المحامي السوري الذي اعتقله السيد رسلان عام 2005 وسُجن مدة خمسة أعوام، بسبب عمله في مجال حقوق الإنسان، قال: “من المهم أن نبين أن المجرمين سيُحاكمون، حتى الرتب العليا منهم. هذا الرجل ليس مسننًا في الماكينة [شخصًا عاديًا]، إنه محرك [من قلب] في هذا الجهاز الشيطاني”.

بناء متضرر في بلدة النيرب التي يسيطر عليها المتمردون في سورية هذا الشهر. خليل عشاوي/ رويترز

لكن القضية تثير تساؤلات صارخة حول حدود العدالة لسورية، ومن سيُحاسب فيها، وأين. بعد تسعة أعوام من الحرب الوحشية التي أودت بحياة مئات الآلاف من الناس وشتت اللاجئين في جميع أنحاء العالم، ليس هناك ما يشير إلى إحالة قضية سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وهي الهيئة التي أُنشئت للتعامل مع مثل هذه القضايا. ويعود ذلك إلى أن روسيا، الحليف السوري، تستخدم مقعدها في مجلس الأمن للاعتراض على مثل هذه الخطوة.

حتى الآن، هناك رجلان فقط قيد المحاكمة في ألمانيا، بعيدًا عن المكان الذي يقول فيه متهموهم إن الجرائم وقعت، في حين أن العديد من كبار الجناة، ومن ضمنهم الأسد، ما يزالون في السلطة.

ما يزيد من تعقيد حالة رسلان هو انشقاقه عام 2012، بعد أقل من عام على بدء الحرب، وانضمامه عام 2014، إلى وفد المعارضة في محادثات السلام التي رعتها الأمم المتحدة في جنيف؛ حيث يخشى بعض المدافعين القانونيين من أن محاكمة شخص مثل رسلان يمكن أن تثني مسؤولين سوريين سابقين آخرين عن العمل كشهود من الداخل، للمساعدة في بناء قضايا أخرى، لأنهم قد يخشون من مواجهة المحاكمة. ويخشى آخرون من أن عددًا صغيرًا من المحاكمات المماثلة يمكن أن يسمح للحكومات الأوروبية أن تشعر بأنها تفعل ما يكفي، وتثنيها عن الجهود الأوسع لمحاسبة الأسد ومرؤوسيه.

محمد العبد الله، مدير مركز العدالة والمحاسبة السوري، الذي يراقب المحاكمة قال: “إنها خطوة أولى جيدة ومهمة، لكنها لن تكون كافية لتلبية مطالب العدالة للشعب السوري”.

بالنسبة إلى ألمانيا، أصبحت المحاكمة هي الأكثر أهمية من بين عدة ملاحقات قضائية منذ عام 2002، وفق مبدأ الولاية القضائية العالمية، التي بموجبها يمكن للمحاكم الوطنية أن تنظر في قضايا جرائم الحرب من أي مكان آخر من العالم.

تعاملت المحاكمات السابقة الجرائم التي ارتُكبت في رواندا أو يوغوسلافيا السابقة، لكن القضية السورية هي الأولى التي تنطوي على جرائم ضد الإنسانية، تُرفع ضد مسؤولين من حكومة لا تزال في السلطة. وتعود فكرة هذه الإجراءات إلى محاكمات نورمبرغ، التي نظمها الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية لمقاضاة الأعضاء الناجين من النظام النازي.

وولفغانغ كاليك، أحد الأعضاء المؤسسين للمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، الذي يمثل الضحايا في محاكمة كوبلنز، قال إن هذه المحاكمات كانت فريدة في تحليلها الشامل للأدوار التي لعبها الأفراد في القمع النازي، من الأطباء إلى الجنود والدعاة.

مخيم للمهجرين داخليًا بالقرب من “قاح” بمحافظة إدلب، سورية، 21 نيسان/ أبريل. عمر الحاج قدور/ وكالة الصحافة الفرنسية – صور جيتي

وقال السيد كاليك إن قسم جرائم الحرب لدى المدعي العام الاتحادي الألماني يتخذ مقاربة مماثلة تجاه سورية، وقد جمع مجموعة من الأدلة تساعد في فهم الأعمال الداخلية لحكومة الأسد، على أمل أن تسهل إجراء محاكمات أخرى لمسؤولين سوريين في أوروبا. وأضاف: “يجب أن نكون قادرين على القول إن هذه هي الطريقة التي تعمل بها السلطة السورية، وعلينا استهداف أعمدتها الأخرى”.  

وصل السيد رسلان إلى ألمانيا في تموز/ يوليو 2014، بينما وصل إياد الغريب، المتهم معه، في نيسان/ أبريل 2018. واعتقلت السلطات الألمانية الرجلين، في شباط/ فبراير 2019، بانتظار محاكمتهما.

ساهم في لائحة الاتهام هذه أعوام من العمل لشبكة فضفاضة من المنظمات والناشطين السوريين الذين جمعوا أكوامًا من الوثائق، وتعقبوا الضحايا السوريين، واستكشفوا طرق إحالة قضاياهم إلى المحاكم الأوروبية.

القضية المرفوعة ضد السيد رسلان، على سبيل المثال، تعتمد جزئيًا على الوثائق التي جُمعت داخل سورية وتحدد دوره في الأجهزة الأمنية. وجاء اعتقاله بعد أن رصده المحامي السوري أنور البني في الشارع بألمانيا، حيث كان كلا الرجلين لاجئًا هناك. تعقب السيد البني فيما بعد الشهود السوريين الذين أمضوا بعض الوقت في مركز الاستجواب الذي أشرف عليه السيد رسلان.

وبحسب بيان للمحكمة بشأن المحاكمة صدر الشهر الماضي، فإن السيد رسلان متهم بالضلوع في الجرائم ضد الإنسانية “في سياق هجوم واسع ومنهجي على السكان المدنيين”. وذكر البيان أنه كان يشغل منصب رئيس أحد أفرع التحقيق في المخابرات السورية المسؤولة عن الأمن في العاصمة دمشق وحولها، وله سجنه الخاص. وإن ذلك أعطاه الرقابة والإشراف على تعذيب ما لا يقل عن 4,000 معتقل، بأساليب شملت “العنف الوحشي من الضرب والركل والصدمات الكهربائية”، وحالة واحدة على الأقل من الاغتصاب والاعتداء الجنسي. وحُرم المعتقلون من الرعاية الطبية، وقُدم لهم طعام غير صالح للأكل، وحُشروا في زنزانات مزدحمة لدرجة أنهم لم يتمكنوا من الاستلقاء.

وقال البيان إن 58 شخصًا على الأقل لقوا حتفهم بسبب سوء المعاملة، خلال فترة رئاسة رسلان للفرع المذكور. كما أن السيد إياد الغريب، المتهم الآخر، عمل لدى السيد رسلان، وهو متهم بالمساعدة في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية والتحريض عليها. واعتقل السيد الغريب ما لا يقل عن 30 متظاهرًا ونقلهم إلى مركز الاستجواب، وذكر بيان المحكمة أن الكثيرين تعرضوا للضرب في الطريق وللتعذيب في داخل الفرع.

اعترف خبراء قانونيون دوليون يراقبون المحاكمة بأنها لا تتوافق -بأي حال من الأحوال- مع حجم العنف الذي ارتكبته الحكومة السورية خلال الحرب، حيث قامت بسحق المتمردين الذين يسعون إلى طرد الأسد من السلطة، ودمرت قواته الأحياء المدنية واستخدمت الأسلحة الكيمياوية وبنت أرخبيلًا من السجون ومراكز التعذيب في جميع أنحاء البلاد.

لكن المدافعين القانونيين يأملون في أن توفّر المحاكمة، التي من المتوقع أن تستمر من عامين إلى ثلاثة أعوام، طريقًا لطيّ صفحة القتل، وتمهد الطريق لمحاكمات مستقبلية، وتحذّر المسؤولين في سورية والدول القمعية الأخرى من أن دورهم في قفص الاتهام آتٍ لا محالة.

ستيفاني بوك، مديرة المركز الدولي للأبحاث والتوثيق لمحاكمات جرائم الحرب في جامعة ماربورغ في ألمانيا، قالت: “إن الرسالة المهمة لجميع أعضاء النظام في سورية وجميع أنحاء العالم هي أنه لا يمكنكم أن تكونوا آمنين. إذا كنتم متورطين في بعض الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فهناك دائمًا خطر بأنكم ستُحاسبون يومًا ما. قد يكون الخطر صغيرًا، ولكنه قائم”.  

اسم المقالة الأصليGermany Takes Rare Step in Putting Syrian Officers on Trial in Torture Case
الكاتببن هبارد، Ben Hubbard
مكان النشر وتاريخهنيو يورك تايمز، New York Times، 23 نيسان/ أبريل 2020
رابط المقالةhttps://www.nytimes.com/2020/04/23/world/middleeast/syria-germany-war-crimes-trial.html?utm_source=dailybrief&utm_medium=email&utm_campaign=DailyBrief2020Apr23&utm_term=DailyNewsBrief
عدد الكلمات1202
ترجمةقسم الترجمة والتعريب/ أحمد عيشة