ترجمة أحمد عيشة
(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
تشكل الحركة التي قادها غاندي اليوم معيارًا لدعاة المقاومة غير العنيفة. ولكن وجهة النظر التقليدية تتغاضى عن القيود التي تفرضها فلسفة غاندي السياسية، وعن أهمية الصراعات التمردية التي عارضها في الكفاح من أجل استقلال الهند.
في عام 1959، سافر الدكتور مارتن لوثر كينغ الابن إلى الهند، من أجل تكريم مؤسسها، موهانداس كارامشاند غاندي. وقال كينغ إن غاندي يمتلك القدرة على “تعبئة وحشد مزيدٍ من الناس في حياته أكثر من أي شخص آخر في تاريخ العالم”. كان هذا تصريحًا جريئًا، ولكنه ليس تصريحًا غير معقول، خاصة عندما ننظر إلى الأبعاد العابرة للوطنية لإستراتيجية غاندي في العصيان المدني التي ألهمت بوضوح كينغ نفسه.
كان الاختبار الأول لإستراتيجية غاندي في جنوب أفريقيا، حيث عاش أكثر من عشرين عامًا، وقاد كفاحَ الهنود في ناتال ودولة أورانج الحرة [1]من أجل الحقوق المدنية والسياسية. وقد اكتسب نيلسون مانديلا (الذي حصل على جائزة غاندي الدولية للسلام) الإلهام من غاندي، حيث رأى أنه “ثوري وجوديّ مناهض للاستعمار”، وأنه “لم يكن زعيمًا عاديًا، إنه ذو إلهام رباني”.
كان مانديلا محقًا في التأكيد على أهمية فترة غاندي في جنوب أفريقيا لتطوره السياسي، حيث خاطب ذات يوم جمهور من الهنود: “لقد أعطيتمونا إياه موهانداس، وأعدناه إليكم مهاتما” [2].
عندما عاد غاندي إلى الهند، التزم مئات الآلاف بالعصيان المدني الجماعي في الكفاح من أجل الاستقلال تحت قيادته. وشملت حملة عدم التعاون The Non-Cooperation التي امتدت من (1920 -1922) مقاطعة واسعة للسلع البريطانية [3]. في أعقاب ذلك، انخفضت قيمة الواردات من القماش الأجنبي إلى النصف تقريبًا بين ذلك العامين. ونفذ الهنود عام 1921 حوالي 396 إضرابًا، شارك فيها 600 ألف عامل بخسارة سبعة ملايين يوم عمل، وهجر الطلبة المدارس والكليات.
في عام 1930، أطلق غاندي حركة العصيان المدني، وزجّت السلطات البريطانية أكثر من 60 ألف شخص في السجن، لعدم دفعهم ضريبة الملح الاستعمارية [4]. وفي عام 1942، قام المسؤولون الاستعماريون باحتجاز وسجن أكثر من 100 ألف هندي، ردًا على حركة المطالبة باستقلال الهند.
سُجِن غاندي أربع مرات في جنوب أفريقيا، وخمس مرات أخرى في الهند، وقضى ما يقدر بـ (2,338) يومًا في السجن طوال حياته. ومع ذلك فإن كل موجة من حملاته الانتخابية كانت تشعل مزيدًا من التعبئة الجماعية وتستنزف إرادة البريطانيين في التمسك بأغلى “جوهرة في التاج” [الهند].
ساتياغراها (Satyagraha) [5]
كانت حياة غاندي مليئة بالمفارقات: حَواريّ مسالم تعرّض لرصاصة قاتلة عام 1948؛ وشخص متدين بعمق، قاتل بشغف من أجل الوحدة الهندوسية الإسلامية، فقط لرؤية الهند حرّة غير مقسمة؛ والرجل الذي سجنته السلطات الاستعمارية تسع مرات كمخرّبٍ خطير، الذي كان على كل نائب لملك بريطانيا أن يتعامل معه منذ عام 1916 فصاعدًا؛ وشخصية “قديسة” لم تشغل منصبها قط، وظهرت كأنها تترفع عن الأعمال المروعة لتجارة الخيول السياسية [6]، وأيضًا شخصية داهية تزن كل كلمة وكل عمل بطريقة محسوبة.
لقد أشار غاندي إلى فلسفته السياسية، بمصطلح ساتياغراها: ساتيا(satya) تعني الحقيقة، وغراها (graha) تدلّ على الإصرار أو القوة. وتترجم الكلمة كلها بـ “قوة الحقيقة” على أنها مقاومة غير عنيفة، وكثيرا ما تكون “مقاومة سلبية”. ومع ذلك، لم يكن هناك شيء سلبي في فهم غاندي لفلسفته ساتياغراها (satyagraha)، وهو ما يعني بالنسبة إليه المشاركة النشطة لمقاومة القوانين غير العادلة، باستخدام أساليب غير عنيفة.
بالنسبة إلى غاندي، لم تكن ساتياغراها (satyagraha) “الخضوع المخزي لإرادة الشرير. وتعني وضع روح المرء ضد إرادة الطاغية”. وقال إن سياسة اللاعنف تمثل قوة أخلاقية ضد نظام غير عادل. واستتبع هذا رفض التعاون مع السلطات، والاستعداد للخضوع لمعاناة من أجل تحقيق أهداف المرء.
إن سياسة المعارضة من خارج البرلمان المقترنة باللاعنف هي السمة المميزة للساتياغراها؛ فالعالم الذي أصابه الرعب -المرض المعدي، وتغير المناخ والحرب والعنصرية- يصرخ من أجل إستراتيجية سياسية فعالة. وعندما يبدو أن عالم السياسة التقليدية قد فشل، يلجأ الناس إلى أساليب غير دستورية.
أشار غاندي إلى نفسه بأنه “ثوري غير عنيف”. وهو لا يزال يتمتع بسمعة عالمية، باعتباره النصير العظيم لمثل هذه الإستراتيجية، الذي يرفع اللاعنف إلى مستوى المبدأ والغاية في حد ذاتهما. ولكن هل يمكن وضع هذه الإستراتيجية لتنجح عمليًا؟
من سياسة النخبة إلى السياسة الجماهيرية
كيف لهذا الرجل الصغير القادم من مدينة صغيرة في الهند -المحامي الذي تدرّب في لندن ولديه ولع بالخطابة، وفصول الرقص واللغة الفرنسية- أن يهيمن أولًا على السياسة الهندية في النصف الأول من القرن العشرين، ثم يُلهم مجموعة متنوعة من الحركات الاجتماعية ونضالات التحرير التي تكشفت منذ ذلك الحين؟
وُلد غاندي عام 1869، وهو ينحدر من أسرة من الطبقة المتوسطة. لم يكن أرستقراطيًا، بل كان علمانيًا ناطقًا باللغة الإنكليزية، وشخصية مثقفة تعلّم في أوكسفورد وكامبريدج (أوكسبريدج)، مثل جواهر لال نهرو، حليفه المستقبلي، أو محمد علي جناح، مؤسس الرابطة الإسلامية، ولكن خلفيته كانت مريحة بالرغم من ذلك.
لم يكن غاندي من النخبة ولا تابعًا لها، فقد بدأ في رؤية أوجه القصور لدى القوميين الأوائل المتجمعين حول المؤتمر الوطني الهندي، الذي تم تشكيله في عام 1885. وقد طالب هؤلاء الزعماء من الطبقة العليا بتمثيل الهنود، ولكنهم اكتفوا بمجرد الكلام عن فكرة تمكين بقية سكان الهند.
كان غاندي متشككًا في السياسة الدستورية، ولم يكن يرغب -وفق شروطه الخاصة- في إحلال وجوه بنيّة (ملونة) في القمة محلّ الراج البريطاني [7]. وعلى الرغم من أنه لم ينحدر من الجماهير الهندية، فقد فهم أن نجاح أي حركةٍ يوجب أن تكون واسعة اجتماعيًا، مطلقًا قوة التعبئة الجماهيرية من القاعدة.
تناقضات اللاعنف
كانت الحركة القومية التي تكونت حول حملات غاندي حاسمةً لتحقيق الاستقلال الهندي في نهاية المطاف عام 1947، غير أن صعود هذه الحركة يطرح بانتظام مشكلات لبرنامجه الخاص بعدم العنف. في نيسان/ أبريل 1919، فتحت القوات الاستعمارية البريطانية النار على تظاهرة في أمريتسار، وقتلت مئات المدنيين. في أعقاب المذبحة، ألغى غاندي إضرابه الاحتجاجي وصام تكفيرًا عن ذلك (عقابًا لنفسه).
بعد ذلك، أوقف حركة عدم التعاون في عام 1922 بعد ثورة عنيفة اندلعت بين المابيلا المسلمين، في ولاية كيرالا في آب/ أغسطس 1921 [8]. وكان الدافع وراء توجيهات غاندي هو الحادث الذي وقع في قرية تشوري تشورا، وهي الآن جزء من أوتار براديش، في شباط/ فبراير 1922. حيث قتل حشد غاضب عددًا من ضباط الشرطة، بعد أن أطلقت الشرطة النار على ثلاثة أشخاص وأردتهم قتلى.
وفي كل هذه الحالات، ألقى غاندي باللوم على الجماهير الهندية، زاعمًا أنها ليست “مستعدة” لعدم العنف. وعلى الرغم من وجود تفاوت كبير في أرقام الإصابات من كيرالا (2,339 وفيات بين المابيلايين التي تسببت فيها القوات البريطانية، مقارنة مع 43 من المسؤولين الحكوميين الذين قتلوا على يد المتمردين) فإن المتمردين هم الذين اتهمهم غاندي بأنهم يتمتعون “بمزاج ناري”. وبعد حادثة تشوري تشورا، قدّم قادة المؤتمر تعاطفهم مع عائلات رجال الشرطة، متصرفين وفقًا لتعليمات غاندي، وأشاروا إلى شعبهم بوصفه “غوغاء”.
تُبرز هذه الأمثلة بعض التناقضات والتعقيدات التي تكمن بين نيّات غاندي الأصلية والنتائج العملية للحركات التي بدأها؛ حيث إن موقفه يشي بـنوع معين من النخبوية التي تعدُّ الجماهير غير متعلمة وخرقاء وتحكمها مشاعر غير عقلانية، بينما تصور الناس المتعلمين من الطبقة المتوسطة على أنهم قادة طبيعيون.
الاحتواء
ظهر المثال الصارخ على ذلك في شباط/ فبراير 1946 مع التمرّد البحري الهندي، الذي تطور بشكل مستقل عن قيادة غاندي. كانت هناك إضراب شامل سرعان ما تحول إلى تمرد من قبل البحارة الهنود على متن السفن والسواحل على حد سواء في بومباي. وانتشر التمرد من نقطة البداية إلى جميع أنحاء الهند التي تحكمها بريطانيا، من كراتشي إلى كالكوتا ومدراس، ورفع شعارات “أَضْرِب من أجل بومباي” و “فلتحيا الهند”. وقد شارك في الإضراب 78 سفينة، و 20 قاعدة على الشاطئ و 20,000 من البحارة.
وحدّت هذه الحركة بين البحارة الهندوس والمسلمين حول مجموعة من المظالم التي شملت سوء الحصص الغذائية، والعقبات أمام التقدم الوظيفي، والعنصرية التي تعرضوا لها على أيدي ضباط البحرية البريطانية. في عرض رمزي للوحدة الوطنية، أنزل المتمردون علم بريطانيا من سفنهم، ورفعوا أعلام المؤتمر، ورابطة المسلمين، والحزب الشيوعي الهندي. الآلاف من الناس جلبوا الطعام للمتمردين وتآخوا معهم. وشنَّ العمال في بومباي إضرابًا عامًا تضامنيًا، احتشد فيه نحو 30,000 من الناس، في حين امتدت الاحتجاجات أيضًا إلى كراتشي.
ولكن في الثالث من آذار/ مارس 1946، انتقد غاندي المتمردين، متهمًا إياهم بأنهم “طائشون وجاهلون”، ويفتقرون إلى “التوجيه والتدخل” الضروري من جانب “الزعماء السياسيين” ذوي الكفاءة والخبرة. وأعلن أن “سواراج swaraj [حكم الوطن/ الاستقلال] لا يمكن الحصول عليه، من خلال ما يجري الآن في بومباي وكالكتا وكراتشي”، وهذا الأمر يوضّح مفهومه للحرية.
وعلى هذا، فإن الزعامة الأيديولوجية لغاندي كثيرًا ما كانت تقوم بدور المكابح للمبادرة الشعبية والنزعة القتالية من الجمهور (من القاعدة). فهو مناصر لمطالب الفلاحين وينظمهم طالما كانوا مسالمين، ومحترمين تجاه ملاك الأراضي، ويقبلون أساليبه. ومن ناحية أخرى، إذا كان لديهم الجرأة للمطالبة بمصادرة الممتلكات الخاصة، فقد يعدّهم غاندي جاحدين وغير جديرين بدعمه.
القوامة
كانت فلسفة غاندي محشوةً بالمفارقات. وكان معارضًا للتصنيع، وكتب في هند سواراج Hind Swaraj [9] أن “من الحماقة أن نفترض أن روكفلر هندي سيكون أفضل من روكفلر أميركي”. ومع ذلك، قام بتشكيل تحالفات مع الرأسماليين الهنود، واعتمد على دعمهم. وكان هؤلاء هم الناس الذين كانوا يطمحون إلى أن يصبحوا “روكفيلريين هنود”، وهم نخبة حاكمة جديدة في مرحلة ما بعد الاستعمار، لم يكن لديهم أي مؤهلات متعلقة بتبني التقنيات الصناعية أو استغلال العمال.
موّل الصناعيان السير راتان تاتا وغانشيام داس بيرلا عمل غاندي السياسي. في تشرين الثاني/ نوفمبر 1909، قدم تاتا (25,000) روبية إلى غاندي، لدعم حركته في مجال عدم التعاون في جنوب أفريقيا، وهي أول ثلاث تبرعات كبيرة تقدّم إلى عمل غاندي. وأثبت بيرلا أنه أكثر الداعمين الماليين سخاءً للمهاتما.
على الرغم من أن بعض الكتّاب قدّموا بيرلا على أنه نصير ومتعصب لغاندي، فإن العلاقة بين الرجلين يمكن وصفها بشكل أكثر دقة بأنها علاقة تعاون، بدلًا من أنها علاقة إخلاص وتعصب من جانب واحد. إن الموارد المالية الهائلة التي يوفرها بيرلا جعلت حملات غاندي ممكنة. وفي المقابل، استفاد بيرلا من المكانة الاجتماعية والدينية التي منحها له ارتباطه بغاندي، وعزز موقفه الاقتصادي أيضًا. وقدّم غاندي مباركته لثروة بيرلا الوفيرة بتعاليمه حول “الوصاية/ القوامة”. ويؤكد هذا المفهوم أن للأغنياء الحق في تجميع الثروة، ما داموا يستخدمون بعض تلك الثروة لمصالح المجتمع.
“كل الوسائل المتاحة”
يشجب غاندي بصورة خاصة العنف، إذا لجأ إليه الناس العاديون كجزء من الصراع الطبقي ضد الاستغلال والقمع، سواء أكان أجنبيًا أم داخليًا. كان هذا النمط صحيحًا من أيام كان في جنوب أفريقيا، إلى أحداث تشوري تشورا ومابيلا، على طول الطريق إلى حركة استقلال الهند والتمرّد البحري في الأعوام الأخيرة من حياة غاندي. وفي كلّ مناسبة، كان غاندي يوبخ الناس العاديين -التابعين- لعدم استيعابهم مبادئ إستراتيجيته، الساتياغراها، الأمر الذي يعفي أولئك الذين يمارسون سلطة الدولة ويحتكرون العنف، من المسؤولية عن أفعالهم.
ومن خلال التعامل مع فكرة اللاعنف، باعتبارها مبدأ أخلاقيًا مجردًا، ترك غاندي في واقع الأمر الجماهير الهندية عزلاء في مواجهة الوحشية الاستعمارية. ولم يكن هناك مجالٌ في فكره لوجهات نظر شخصيةٍ مثل فرانتز فانون، الذي رفض فكرة أن عنف المظلومين يمكن مساواته، أخلاقيًا أو سياسيًا، بعنف الظالم/ المستبد.
بينما كان غاندي يعظ بفضائل الوفاق الطبقي والتصالح بين الطبقات، مشددًا على الحاجة إلى الخلاص الشخصي من خلال الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي، كان لدى فانون وجهة نظر مختلفة تمامًا بخصوص القضايا الأساسية المطروحة:
الفلاح المحروم والمجوّع هو المستغَل الذي يكتشف عما قريب أن العنف هو الأمر الوحيد الذي يجدي نفعًا. بالنسبة إليه ليس هناك حلّ وسط، لا إمكانية للتنازل. الاستعمار أو إنهاء الاستعمار، فهو ببساطة صراع على السلطة. ويدرك المستغَلون/ المضطهَدون أن تحريرهم يعني استخدام كل الوسائل المتاحة، والقوة هي أولى تلك الوسائل.
عندما حاول المؤتمر الوطني الأفريقي اتباع إستراتيجية غير عنيفة ضد الفصل العنصري، ارتفعت التوترات الناجمة عن ذلك إلى عنان السماء في نهاية المطاف. وبالرغم من إعجابه بغاندي، اعترف نيلسون مانديلا بأن الكفاح من أجل تحرير جنوب أفريقيا بلغ مرحلة لم يعد هذا النهج فيها قابلًا للحياة:
لقد اتبعتُ إستراتيجية غاندي أطول فترة ممكنة، وبعد ذلك وصلنا إلى مرحلةٍ في كفاحنا، لم يعد فيها من الممكن مواجهة القوة الغاشمة للظالم بالمقاومة السلبية وحدها. لقد أسسنا الجناح المسلح لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وأضفنا بعدًا عسكريًا إلى كفاحنا. حتى في ذلك الوقت اخترنا التخريب sabotage [10]، لأنه لا ينطوي على خسائر في الأرواح، وهو يوفر أفضل أملٍ للعلاقات العرقية في المستقبل. لقد أصبح العمل القتالي جزءًا من الأجندة الأفريقية المدعومة رسميًا من منظمة الوحدة الأفريقية، في أعقاب خطابي أمام حركة حرية دول أفريقيا شرقها ووسطها عام 1962، الذي قلتُ فيه: “القوة هي اللغة الوحيدة التي يستطيع الإمبرياليون سماعها، ولن تصبح أي دولة حرّةً من دون نوع من العنف”.
شكّل المؤتمر الوطني الأفريقي “رمح الأمة” في عام 1961، بعد مذبحة شاربفيل في العام السابق، عندما أطلقت قوات الشرطة التابعة لنظام الفصل العنصري (الأبارتهيد) النار على 69 من المتظاهرين غير المسلحين. كان حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وحلفاؤه يعتمدون في السابق على الإضرابات والمقاطعة والتحدي الجماعي. غيّرت حادثة شاربفيل الديناميكية بالكامل، الأمر الذي دفع الناشطين مثل مانديلا إلى النظر في الحاجة إلى الدفاع عن النفس.
العين مقابل المخرز
كان لدى غاندي فهمٌ محدود بأن التحرير الاستعماري هو قبل كل شيء “صراع على السلطة”، على حد تعبير فانون. وإن القراءة الموسعة لحياته وعمله، باعتباره من الثوريين المتناقضين، سيكون لها بعض الجدوى. ولكن في التحليل الأخير، لم يكن هدف غاندي تفكيك النظام بل جعله أكثر لطفًا.
وبهذا المعنى، يأتي غاندي من سلسلة طويلة من الإصلاحيين. وقد كان لنزعته الإصلاحية المتنوعة جذورها لدى المحافظين الاجتماعيين الذين سعوا إلى ترويض الرأسمالية بدلًا من إطاحتها. كان متوددًا إلى بعض فئات الطبقة الإمبراطورية الحاكمة في بريطانيا، بتركيزه على المفاوضات التي تستدعي تنازلات من الجانبين، ودعوته إلى إدارة الخد الآخر في مواجهة عنف الدولة. لقد فضّل المحتل التعامل مع إستراتيجية غاندي غير العنيفة، بدلًا من إستراتيجية مقاتلة جماهيرية.
ومع ذلك، كانت التحركات الشعبية القاعدية مثل تمرّد مابيلا عام 1921 والتمرّد البحري عام 1946 قد ساعدت في وضع حد للحكم البريطاني على الهند، من خلال جعل مناطق كبيرة من البلاد غير قابلة للحكم بصورة متقطعة. لم يتخلّ البريطانيون عن الهند لمجرد حملة غاندي غير العنيفة، من دون الضغط الإضافي من جانب هذه الاضطرابات التمردية.
قام أنطونيو غرامشي، الثوري الإيطالي، بتلخيص قيود النزعة الغاندية Gandhism عندما انتقد صعود/ علو “الروحانية” على “المادية” في الفكر السياسي. ويرى غرامشي أن هذا الأمر يمكن أن يؤدي إلى “تبجيل القيم الروحية البحتة، وما إلى ذلك، وإلى السلبية، وعدم المقاومة، وعدم التعاون، ولكنه في الواقع شكلٌ من أشكال المقاومة الواهي والضعيف، وكأننا نطلب من العين أن تصمد أمام المخرز”.
الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز ومواقفه من القضايا المطروحة
اسم المقال الأصلي | Gandhi Led a Mass Movement for India’s Freedom — But He Also Constricted It |
الكاتب * | طلعت أحمد، TALAT AHMED |
مكان النشر وتاريخه | موقع اليعقوبي،JACOBIAN، 19 كانون الثاني/ يناير 2021 |
رابط المقال | http://bit.ly/3pCDb57 |
عدد الكلمات | 2598 |
ترجمة | وحدة الترجمة/ أحمد عيشة |
(*) – طلعت أحمد هو كبير المحاضرين في تاريخ جنوب آسيا في جامعة إدنبرة ومؤلف موهانداس غاندي: تجارب في العصيان المدني.
[1] – ناتال مستعمرة بريطانية في جنوب شرق أفريقيا، منذ 4 أيار/ مايو 1843، أعلنت في 31 أيار/ مايو 1910، مع ثلاث مستعمرات أخرى، تشكيل اتحاد جنوب أفريقيا، كواحدة من مقاطعاته. أما جمهورية أورانج الحرة فهي جمهورية بوير وكانت مستقلة ذات سيادة، في أفريقيا الجنوبية في النصف الثاني من القرن 19، وأصبحت لاحقًا مستعمرة بريطانية ومحافظة في اتحاد جنوب أفريقيا.
[2] – مهاتما تعني بالسنسكريتية “الروح العظيمة”، وهو لقب أطلقه على غاندي الشاعر الكبير طاغور.
[3] – أطلق غاندي حركة عدم التعاون في الرابع من أيلول/ سبتمبر 1920، بهدف الحكم الذاتي والحصول على الاستقلال الكامل مع سحب المؤتمر الوطني الهندي دعمه للإصلاحات البريطانية في أعقاب مذبحة جاليانوالا باغ، وتعد هذه الحركة أول أشكال العصيان المدني في الهند.
[4] – ضريبة فرضها البريطانيون على استخدام الملح، بعد أن احتكرت استخراجه في الهند.
[5] – التمسك بحزم بالحقيقة، أو قوة الحقيقة، وهي شكل معين من أشكال المقاومة اللاعنفية أو المقاومة المدنية. ومن يمارسها يدعى ساتياغراهي satyagrahi
[6] – تجارة الخيول، بمعناها الحرفي، هي عملية شراء الخيول وبيعها. ونظرًا للصعوبات في تقييم مزايا الحصان المعروضة للبيع، فإن بيع الخيول كان يوفر فرصًا كبيرة لعدم الأمانة، وقد أدى ذلك إلى استخدام مصطلح “تجارة الخيول” للإشارة إلى عمليات المساومة المعقدة أو غيرها من الصفقات، مثل تجارة الأصوات السياسية. والمتوقع أن يستفيد بائعو الأحصنة من هذه الفرص، وأن من يتعاملون في الأحصنة يكتسبون سمعة بممارسات الأعمال التجارية غير المرموقة.
[7] – راج بريطاني هو حاكم الهند البريطاني من 1858 إلى 1947. ويسمى أيضًا حاكم التاج في الهند، أو الحاكم المباشر في الهند.
[8] – يشار إلى مسلمي ولاية كيرالا أو مسلمي المالاياليين من شمال ولاية كيرالا عمومًا باسم مابيلايين. وهم ليسوا سوى جماعة من بين كثير من المجتمعات التي تشكل السكان المسلمين في ولاية كيرالا. ووفقًا لبعض الباحثين، فإن المابيلايين هم أقدم مجتمع مسلم مستقر في جنوب آسيا.
[9] – هند سواراج أو الحكم المحلي/ الاستقلال الهندي، هو كتاب من تأليف موهانداس غاندي في عام 1909. ويعرب فيه عن آرائه بشأن الاستقلال، والحضارة الحديثة، والآلية، وما إلى ذلك. حظرت السلطات البريطانية في الهند الكتاب في عام 1910 باعتباره نصًا مثيرًا للفوضى.
[10] – وهو إلحاق الضرر بالمعدات أو الأسلحة أو المباني أو تدميرها لمنع نجاح العدو أو المنافس، وهو أسلوب متبع ومعروف في نضال الشعوب من أجل حريتها، ولربما يكون ما شهدناه، عندما أحرق بعض المهجرين أخيرًا من ريف إدلب وحلب لبيوتهم وأثاثهم قبل دخول قوات النظام وميليشياته في العام الماضي، تطبيقًا لذلك الأسلوب.