ترجمة علي كمخ
(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
بات يُطلق على الحقبة الجديدة التي تطور فيها التغيير، تسمية “حقبة صراع وتنافس القوى الكبرى”، وقد تشكلت حول محور الأقطاب الرئيسية الثلاث، المتمثلة بالولايات المتحدة والصين وروسيا.
مع انتهاء الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة الأميركية، بدأت النقاشات المتعلقة بالنظام العالمي والإقليمي تسير بكل ما يمكنها من سرعة. وبصورة عامة، تتأسس النقاشات التي تُطرح في إطار مرحلة ما بعد الهيمنة، على تصورات المرحلة الجديدة وديناميكياتها. وقد اعتبرت الأزمة السورية، وفق بعض الباحثين والمفكرين، أنها بداية هذه المرحلة؛ حيث إن الأزمة السورية أصبحت نموذجًا، فتضاءل تأثير قوى الهيمنة بشكل كبير وواضح، وأصبح لجهات فاعلة مختلفة أخرى دورٌ حاسم ومحدد في القضية. فالمرحلة التي بدأت بالتدخل الروسي في سورية في أيلول/ سبتمبر عام 2015، أثّرت في ديناميكيات سورية، كما أثرت في الديناميكيات الإقليمية والعالمية بشكل مباشر أيضًا. وكان دور روسيا الحاسم، في الأزمة السورية، عاملًا مهمًا في النقاشات حول التغيير على المستويين العالمي والإقليمي. وإلى جانب ذلك، أسهمت أنشطة الصين -على الصعيدين العالمي والإقليمي- منذ عهد أوباما، في تعزيز هذه العملية أيضًا. إذ إن الصين التي عملت على تطوير علاقاتها مع دول الخليج بشكل خاص، تحولت من جهة إلى محطة استثمار وتكنولوجيا عالية لإسرائيل الحليف القديم للولايات المتحدة، ومن جهة أخرى، إلى مصدر للإمداد الخارجي لإيران عدوة الولايات المتحدة، في موضوع الدفاعات العسكرية. وبهذا المعنى، يكون العهد الجديد الذي تنامى فيه التغيير، بدأ يطلق عليه “عصر تنافس القوى الكبرى”، وقد تم صوغه حول محور الأقطاب الثلاثة الرئيسية؛ الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا. ومهما كان هناك اعتقاد بالدخول في حقبة جديدة بعد عهود من الهيمنة، فإن التأثير الإقليمي للولايات المتحدة ما زال مستمرًا ومتواصلًا. وبتعبير آخر: على الرغم من فقدان الولايات المتحدة لقوتها المهيمنة العالمية والإقليمية، فلا يمكن الحديث عن حقبة جديدة مستقلة وبعيدة عن الولايات المتحدة الأميركية. وإن تحديد اسم الحقبة الجديدة، في الدراسات الأكاديمية الأميركية، يمكن تناوله كبعد آخر. وهذا يجلب معه السؤال: هل لدى القوى العظمى الأخرى اقتراحات مفاهيمية لهذه الحقبة الجديدة أم لا؟
إن حقبة تنافس وصراع القوى الكبرى، كما يوحي اسمُها، هي وصفٌ لتسمية السياق الذي تدخل فيه كل التفاعلات المحتملة والممكنة، بين القوى الكبرى، التي تتخذ من صراعات الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا أساسًا لها؛ إذ إن هذه الحقبة تحوي في طياتها تأثيرًا يمكن أن يشكل المركز الرئيسي للتحالفات والاصطفافات العالمية والإقليمية، على المدى القصير والمتوسط.
حقبة التنافس بين القوى الكبرى هي حقبة يتم فيها تضمين التفاعلات، بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، في العديد من المجالات المختلفة، ومن ضمنها المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، وهي المرحلة التي يتم فيها التأكيد على أفعال المجابهة، وكسب المواقع المستندة على الوارد (العائد) الإستراتيجي بين القوى الكبرى. ولو نظرنا من جانب آخر إلى البعد الأيديولوجي للمنافسة بين هذه القوى، لوجدنا أن هذه المنافسة تتمركز بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية. وبالتالي، فإن هذا الصراع والمنافسة هما العاملان الحاسمان في كل من الاصطفافات العالمية والإقليمية. إضافة إلى أن التنافس بين القوى الكبرى هو ظاهرة تبرز في مناطق الصراع، وهو أيضًا عملية يمكن أن تحدث في العديد من المجالات التي تنطوي على مصالح إستراتيجية؛ لأن إدراك المصلحة الإستراتيجية يلعب أيضًا دورًا مهمًا وبارزًا في صياغة وتشكيل مراكز القوى الكبرى. وفي هذا السياق، فإن تصورات القوى الكبرى للمصالح الإستراتيجية، وسلوكها وأفعالها ضد بعضها البعض، تعزز فرضية أن المرحلة يمكن أن تمهد الطريق إلى نزاعات على درجة من القسوة والتطرف.
كيف سيكون تأثير المنافسة بين القوى الكبرى على الشرق الأوسط؟
يحتل الشرق الأوسط، حيث تجري القوى الكبرى كل مشاريعها، مكانة وموقعًا مهمين للغاية؛ ذلك بأن ثمة دولًا في المنطقة تُعدّ ساحة صراع من جهة، ومركزًا لتصور المصالح الإستراتيجية من جهة ثانية. حيث باتت البلدان ذات المركز الإستراتيجي قاعدةً رئيسة للصراع والتنافس. حتى إن هناك مناطق مهمة جدًا في الشرق الأوسط، في نظر الولايات المتحدة الأميركية؛ لكونها توفر إمكانات كبيرة وثمينة لمصالح الولايات المتحدة في مناطق الأزمات، وتتبنى مسؤولية لعب أدوار وظيفية لمصلحتها في مواجهة القوى الكبرى الأخرى. في هذا السياق، دفعت الأنشطة المتزايدة لروسيا والصين في المنطقة، الولايات المتحدة إلى إجراء تغييرات إستراتيجية من أجل الحقبة الجديدة. وبعبارة أخرى: تشعر الولايات المتحدة بالحاجة إلى إستراتيجيات تناسب ظروف حقبة تنافس القوى العظمى، وتبحث عمليًا عن هذه الإستراتيجيات.
ولهذا السبب، يمكن تقييم إستراتيجية الشراكة كأولوية من الأولويات الحاسمة للولايات المتحدة، من حيث كونها خيارًا يلبي احتياجات السياق الجديد. إذ إن نقطة الانطلاق الرئيسية لإستراتيجية الشراكة، هي ظروف الحقبة الجديدة والدروس المستفادة من السياسات الإقليمية السابقة. لذا، ستعمل الولايات المتحدة في هذا السياق على مواصلة جهودها في البحث عن كسب المواقع، والوقوف في وجه القوى الكبرى التي تتنافس معها إقليميًا، ذلك لأن أهمّ ديناميكيات طبيعة التنافس بين القوى العظمى، هو كون المتنافسين دولًا قوية ذات مشاريع إقليمية وعالمية. وهذا الوضع يكشف عن المتطلبات التي يوجبها تغييرُ إستراتيجية الحرب بالوكالة التي اتبعتها الولايات المتحدة في السابق. لأن القوى الوكيلة التي تُعدّ الأدوات الرئيسية للحروب بالوكالة، غيرُ قادرة على مجابهة القوى العظمى، والظفر بالمواقع التي يُنظر إليها على أنها مصالح إستراتيجية.
وبهذا المعنى، يبدو من المنطقي جدًا القول إن إستراتيجية الشراكة قد حلّت مكان أولوية القوى الوكيلة. وإن التطورات العالمية والإقليمية هي ذات تأثير ينبئ بهذا التغيير أيضًا؛ إذ تشكل محاولات PKK/YPG/PYD في البحث عن موارد مالية ولوجستية جديدة على وجه الخصوص، والتصريح الذي أدلى به المتحدث باسم الخارجية الأميركية لـ Rudaw News، على إثر عملية المخلب- النسر الجوية التي أطلقتها تركيا في شمال العراق ضد مواقع PKK/YPG/PYD، مراجع مهمة للدعوة إلى التعاون المشترك في موضوع القضاء على PKK. وإضافة إلى ذلك، يمكن اعتبار التطورات الإيجابية المتعلقة بإعادة إدراج تركيا مجددًا في برنامج الطائرات المقاتلة F-35، شكلًا من أشكال المخرجات الملموسة الأخرى. وتعدّ التطورات المتعلقة بإبرام اتفاقية التعاون لمدة 25 عامًا بين إيران والصين في المجالات الإستراتيجية، إحدى النتائج الحاسمة لهذه المنافسة أيضًا. وفي تطور ساخن، أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مشروع “التحالف الجديد للديمقراطيات” (New Alliance of Democracies)، الذي أكد بموجبه وجوب تحرك الديمقراطيات والعمل معًا، ضد الأنظمة الاستبدادية. ويعد هذا البيان الذي صدر، كبيان لحقبة التنافس بين القوى الكبرى، أحد أهم الأمثلة العملية على تغيير الولايات المتحدة لإستراتيجيتها، في تحالفاتها العالمية والإقليمية. وعلى ذلك؛ يمكن تناول كل هذه التطورات في ضوء النتائج التي شكلها السياق الذي قدمه صراع وتنافس القوى الكبرى. وبعبارة أخرى، تُظهر هذه النتائج أن صراع القوى العظمى يلعب دورًا حاسمًا ومحددًا في ظهور تغييرات إقليمية واصطفافات جديدة.
ما هي الأسس الرئيسية لإستراتيجية الشراكة؟
إن إستراتيجية الشراكة هي في الحقيقة خيار يمكن اللجوء إليه وتطبيقه في الصراع ضد القوى الكبرى. حيث تحتاج هذه القوى، في السياق الذي تقدّمه حقبة التنافس فيما بينها، إلى أدوات مهمة وإستراتيجية في هذا الصراع، بسبب كون البحث عن كسب المواقع ومواجهة القوى الكبرى، سيغدو توجهًا مؤثرًا ووازنًا. إذ إن التأثير الإقليمي للقوى الكبرى ورغبتها في الهيمنة، يتشكلان من خلال هذا الهدف الأساسي أيضًا. بحيث إن إستراتيجية الشراكة هي وسيلة للحل ظهرت لتلبية الاحتياجات الحالية، من أجل بلوغ الأهداف المحددة. وبهذا المعنى، إذا نظرنا إلى النقاط المحورية لإستراتيجية الشراكة، فإن المعايير الرئيسية هي أن يكون الشركاء أكثر شفافية وموثوقية وأكثر قابلية للمساءلة والقياس. إن الشركاء الأكثر فاعلية وقدرة، لا سيما بالمفهوم الإقليمي، هم أدوات لا يمكن الاستغناء عنها في الإستراتيجية الإقليمية الجديدة. وعلى هذا الأساس، فإن الخصائص التي تنبأت بها الإستراتيجية تشير إلى القوى التي تقوم بتسيير وظائف الدولة وتحافظ على الاستقرار، حتى في فترة النوع الجديد من فيروس كورونا (كوفيد -19)، وتؤكد أيضًا النقاط الإستراتيجية على المستوى الإقليمي في محاربة القوى الكبرى المتنافسة. أي أن الوجود الأميركي الإقليمي لن يتحقق من خلال مهام عسكرية مقيمة باهظة التكاليف، أو عبر قوى وكيلة تحيط بها الإشكالات، بل من خلال جهات فاعلة أكثر قدرة وأكثر قابلية، وتتمتع بخصائص الدولة.
إن الأساس الذي أكده هذا التغيير هو فهم أهمية الوظيفة، لا الأرقام. ولذلك أعلنت الولايات المتحدة حديثًا أنها ستقلص من وجودها العسكري في ألمانيا قريبًا. فهذا القرار المتخذ هو مؤشر ملموس على أن الولايات المتحدة ترغب في الحفاظ على وجودها الإقليمي، من خلال الاعتماد على جهات فاعلة في الدول الوظيفية في المناطق الإستراتيجية التي تم تحديدها كأولويات. إضافة إلى قيامها بتأسيس ضمان الشركاء بناءً على الروابط التي سيتم تشكيلها بين هذه المناطق الإستراتيجية. وببعده هذا، سيقدم النظام المحتمل تحالفات واصطفافات تتشكل عبر ربط النقاط التي تبدو على درجة كبيرة من الأهمية على المستوى الإقليمي في مناطق جغرافية مختلفة، وليس عبر نظام الأحلاف الذي كان سائدًا في سنوات الحرب الباردة. وعلى هذا الأساس، فإن إستراتيجية الشراكة تعطي الأولوية للجهات الفاعلة القادرة على تلبية عناصر الدولة ومتطلباتها، والحائزة على المناطق ذات القيمة الإستراتيجية، بدلًا من الجهات الخارجة عن الدولة، وهي العنصر الأم لحروب الوكالة التي تعدّ نتاج الإستراتيجية الإقليمية القديمة. وهذا الوضع يشكل أحد أهم الفروق بين القوة الوكيلة والقوة الشريكة؛ فمن أجل مواجهة القوى العظمى الأخرى في الصراع على المستوى الإقليمي، هناك حاجة إلى جهات فاعلة أكثر وظيفية يمكنها أداء وظائف الدولة، ولديها قدرة وكفاءة أكثر في المجالات الخاصة. فظهور هذه الاحتياجات يجلب معه فكرة انتهاء أجل القوى الوكيلة، كـ PKK/YPG/PYD. وإضافة إلى ذلك، فإن العبارات التي وردت على نحو إدراج فكرة أنه “إذا تخلينا عن القوى الوكيلة كـ PKK/YPG/PYD، فإن الوكلاء في مناطق جغرافية أخرى قد يواجهون المصير نفسه”، في الحسابات، في الكتاب الذي نشره مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون، بعنوان: (The Room Where It Happened)، يعُدّ مؤشرًا على أن الولايات المتحدة وصلت إلى أعتاب التخلي عن القوى الوكيلة في الشرق الأوسط، مع التفكير بالاحتمالات المتعلقة بمصير قواتها الوكيلة في مناطق أخرى.
القوة الوظيفية: تركيا نموذجًا
تتصف الشروط التي قدمها السياق الجديد الذي تم الدخول فيه، بأنها محددات رئيسية للتغييرات الإقليمية. إذ إن الفاعلون يقومون في هذه المرحلة بصوغ إستراتيجياتهم على أساس إنتاج خيارات ذكية بالإشارة إلى هذا التغيير. لأن نجاح القوى العظمى يمكن مشاهدته من خلال الخيارات الإستراتيجية المعقولة. وإن جاز السؤال حول “من يمكن أن يكون مثالًا ملموسًا لتطبيق إستراتيجية شراكة مصممة على أساس نظري؟”؛ فإن تركيا هي واحدة من العينات والنماذج المعقولة في هذه النقطة. وعلى الرغم من أن العلاقات التركية-الأميركية قد تدهورت بعد 15 تموز/ يوليو [عام 2016، تاريخ المحاولة الانقلابية في تركيا]، فإن زيادة تركيا لقوتها وقدراتها، في سياق إستراتيجيات الشراكة وديناميكيات الصراع بين القوى الكبرى، وخاصة ما بعد 15 تموز/ يوليو، وتحقيقها عبر هذه القدرات لنتائج إيجابية في القضايا الإقليمية، في كل من سورية وليبيا وفي شرق البحر الأبيض المتوسط، قد ضمن لها أن تكون قوة وظيفية حقيقية؛ لأن تركيا -بتحويلها القدرات التي تمتلكها إلى نتائج- أصبحت في موقع يجذب انتباه القوى الكبرى إليها، سواء من ناحية الموقع الجغرافي أو من ناحية الكفاءة العسكرية. وهذا ما جعلها واحدة من البلدان المحورية في تنافس القوى الكبرى. وبهذا المعنى، تكون تركيا، بالكفاءة العسكرية التي تملكها، وبوجودها السياسي الحقيقي الذي تجاوزت به كافة الأزمات السياسية، باتت في مكانة لا يمكن الاستغناء عنها بين القوى الكبرى. فالنجاحات التي حققتها تركيا مع عملياتها الأخيرة في سورية وليبيا، من خلال التعريف بقدرة سلاح الطيران بلا طيار والطائرات الموجهة، وفّرت لها هي -كقوة وظيفية- إمكانية حرية الخيار بين القوى الكبرى، لا أن يتم اختيارها والتحكم فيها من قبل هذه القوى. إذ القوى الكبرى التي تسعى للنجاح في حقبة الميول التنافسية المتزايدة، باتت في موقف لا يمكنها معه تجاهل الموقف الحالي لتركيا بعد الآن. ومهما كان الحديث يدور عن تركيا التي وصلت إلى هذا المستوى الحرج والحساس، فإن هذا المقام الرفيع قد يمنحها مناطق خطر جديدة أيضًا.
اسم المادة الأصلي | Ortadoğu’da Büyük Güçler Rekabeti ve Partnerlik Stratejisi |
الكاتب | خورشيد دينجل- Hurşit Dingil |
المصدر وتاريخ النشر | 19.08.2020 مركز الدراسات الإيرانية- İram |
رابط المادة | https://bit.ly/3lde7B2 |
المترجم | قسم الترجمة- علي كمخ |
عدد الكلمات | 1485- 1811 |