“…أن تشعر بالشرق كما تحبّ فرنسا…”

  السفير بول مارك هنري

باتريك باسكال

ترجمة: بدر الدين عرودكي

(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة

“لا يمكن لهذا الرأي الذي يتناول عشرين عامًا من تطور العلاقة مع سورية أن يلزم الإدارة التي كنتُ في خدمتها ولا الأشخاص المذكورين فيه”

صارت سورية بالنسبة إلينا بعيدة وعسيرة على الفهم بعض الشيء، بما في ذلك في فرنسا التي سبق لها مع ذلك خلال عهد الانتداب أن فضَّلت في الأصل التحرر التدريجي للعلويين والتي احتلَّت بدمشق، قبل زمن ليس ببعيد، المقام الأول.

بعد أن عشتُ في دمشق، إذ كنتُ أشغل منصبًا دبلوماسيًا، في لحظة ملائمة وواعدة للعلاقة الفرنسية السورية، وكذلك في ذروة تدهور هذه العلاقة؛ أشعرُ اليوم بالحاجة إلى الحديث عن سورية. سيقودنا ذلك إلى إنعام النظر على ما هي عليه في العمق، وإلى أن نتساءل عن أسباب ابتعادنا، وإلى أن نفكر في الطرق والوسائل الممكنة، وإن بدا ذلك اليوم بعيد المنال، من أجل عودة إلى مزيد من الاستقرار في منطقة جوهرية لمصالحنا.

* * *

كانت العلاقة بين فرنسا وسورية، قبل عشرين عامًا، في أوجها. كان الرئيس جاك شيراك قد استقبل بشار الأسد في باريس، قبل وفاة أبيه. وكان تعميده على هذا النحو قد أضفى على الرئيس القادم شرعية قبل حلول وقتها؛ وكان الرئيس شيراك رئيس الدولة الغربية الوحيد الذي جاء في حزيران/ يونيو عام 2000 لحضور جنازة حافظ الأسد. ولقد أُخذ عليه ذلك خارج سورية، لكنه كان قد عزز الروابط التاريخية القوية جدًا مع هذا البلد. كان السوريون ينظرون إلى فرنسا من دون تفضيل متحزب. وكانت زيارة الرئيس فرنسوا ميتران عام 1984، وهي الأولى لرئيس الدولة الفرنسية منذ استقلال البلد في عام 1943، قد أثرت في الأذهان. فمنذ وصوله إلى دمشق، كان الرئيس ميتران قد أوجز موقفنا الثابت مصرِّحًا بأن “لا شيء (يمكن) أن يُنْجَزَ في الشرق الأدنى، من دون مساعدة سورية”.

بُعَيْدَ انتخاب بشار، كان ثمة “ربيع دمشق” القصير الذي أحيا كثيرًا من الآمال لدينا. وكان ذلك قد ترجم بغليان خلّاق في أوساط الإنتلجنسيا وبالتشجيع على بعض الإصلاحات. كانت مرحلة نشوة بالنسبة إلى العلاقة الثنائية، لأن خريطة طريق كانت قد رسمت. ولكيلا نستشهد إلا بإحدى الورشات (التي دشنها الرئيسان) التي كانت تستهدف تحديث الإدارة الحكومية، أنشئت على غرار المدرسة الفرنسية، مدرسة قومية للإدارة، سورية. هذا التطور، الذي اعتبر في الخارج جنينيًّا جدًا، كان أيضًا قد أحبط بفعل الاضطرابات في المنطقة.

ولكن لكي نفهم على نحو أفضل طبيعة الجمهورية العربية السورية، لا بد أيضًا من ذكر المكانة التي تحتلها الأديان، والأقليات، والثقافة. على هذه الأرض المسيحية منذ أوائل القرون الميلادية، والتي صارت ذات أكثرية مسلمة سنية، ثمة أحد عشر دينًا مسيحيًا كانت موضع اعتراف رسمي من قبل دمشق.

ومن بين الأقليات الأخرى، يمكن أن نشير إلى الأرمن المستقرين في سورية منذ زمن طويل، بما أن قيليقية كانت جزءًا من مملكة أرمينيا في القرن الثاني والأول قبل الميلاد. وثمة أسرٌ استقرت خلال القرن الخامس عشر في حلب، حيث كان يقيم قسم كبير من الأرمن. على أن التدفق كان قد تضخم مع مذبحة الأرمن عام 1915 التي جرت في جزء كبير منها في منطقة الفرات، حول مدينة دير الزور. ينتمي العلويون -كما الدروز- إلى الإسلام الشيعي، إلا أنه كان من الصعوبة إدراك البعد الديني بصورة واضحة لهذه الطائفة. ثم إن الرئيس الأسد، على أنه علوي، كان قد تزوج امرأة سنية، بريطانية من أصل سوري وُلدت في لندن. كما أن علاقات البلد مع الوهابية السعودية كانت تبدو آنئذ هادئة، في حين أن الأمير عبد الله ولي العهد، والملك القادم، كان مقترنًا بامرأة سورية من قبيلة شمر، المنتشرة في نجد وفي دول أخرى في المنطقة.

في قلب دمشق، وفي نهاية الطريق المستقيم الروماني، هناك حيث اعتنق القديس بول الطرطوسي المسيحية، يوجد الحي اليهودي. كان هذا الحي قد تقلص إلى كنيس وعدد من البيوت، وتبعثرت الطائفة، ولا سيما بعد حرب الأيام الستة وحرب يوم الغفران. لكن أيًا من تلك البيوت لم يدنس، وكان السوريون يقولون إن البيوت ستبقى محفوظة على الدوام بانتظار عودة ما. في المتحف الوطني بدمشق، كانت اللوحات الجدارية التصويرية التي تعود إلى القرنين الثاني والثالث أجملَ القطع، ولا تزال فريدة من نوعها حتى اليوم، وهي آتية من أحد أقدم الكُنُس القديمة المعروفة. هذا المبنى الهائل، الغائر في عمق الأرض -وهو ما حماه طوال قرون عديدة- على طول أسوار مدينة دورا أوروبوس على نهر الفرات، “بومبئي الشرق”، التي كانت قد اكتشفت عام 1930 ورممت في عهد الانتداب.

ومن جانبهم، كان الأكراد يثورون باستمرار في ما يسمى “منقار البطة”، في أقصى الشمال الشرقي من البلد. لكن الوضع كان يظل تحت السيطرة، لأنهم كانوا يتمتعون باستقلال ذاتي نسبي. كان الفلسطينيون يؤلفون جالية كثيرة العدد. وكانوا يتمتعون بوضع لم يكونوا معه يواجهون ما يحول دون عملهم. وأخيرًا، الشيعة الذين لم يكونوا يُميَّزون بصورة واضحة بوصفهم كذلك، باستثناء مجموعات واسعة من الإيرانيين الذين كانوا يُصادَفون في المطار خصوصًا، والذين كانوا يأتون إلى ضاحية دمشق، للحج حيث مقام السيدة زينب، حفيدة النبي.

كان تعاوننا مع سورية متعدد الأشكال، وخصوصًا على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية. على أن تعاوننا العسكري كان -مع ذلك- شديد التواضع. كان يُنظّم كل عام في يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر، خارج دمشق في المقبرة العسكرية الفرنسية بمدينة الضمير (التي كانت تضم 4000 قبر ويضم جزء منها مربعًا إسلاميًا) احتفال من أجل تكريم ضحايا حرب قليقلة في عامي 1920 ـ 1921، وعمليات جبل الدروز في عامي 1924 ــ 1925، ومعارك الحرب العالمية الثانية. وكانت دوائرنا المختصة، المعتمدة رسميًا، تؤدي دورًا جوهريًا من المقام الأول في النضال ضد الإرهاب. كان هدفنا، في النهاية، أن نسهم في المحافظة على استقرار المنطقة، وهو ما كان يتعلق على نحو واضح بمصلحتنا الحيوية، كبلد يقع على البحر المتوسط نفسه.

* * *

حدث تدهور علاقاتنا مع سورية اعتبارًا من عام 2004 ــ 2005. كانت علاقاتنا من قبل قد عرفت أدنى مستوياتها، ولا سيما خلال أعوام الثمانينيات أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، لكن مصلحة الدولة كانت قد تغلبت، وقادتنا إلى إعادة التواصل مع نظام حافظ الأسد. يمكن لتضافر عوامل عدة أن يقدم تفسيرًا لهذا “الانعطاف الكبير”: لم يكن بوسع الرهان على الشباب وعلى الإصلاح أن يكون رابحًا بضربة عصا سحرية، كما أن نفاد الصبر استحوذ على العقول؛ فالصراعات في أعلى قمة الدولة اللبنانية بين الرئيس إميل لحود المعروف بقربه من سورية (الذي كان يحاول الحصول على ولاية ثالثة، وهو ما لا يسمح به دستور بلاده) ورئيس الوزراء رفيق الحريري (تشرين الأول/ أكتوبر 2000 ـ تشرين الأول/ أكتوبر 2004) يجب أيضًا أن تُؤخذ بالحسبان؛ وأخيرًا، وربما بوجه خاص، فرنسا التي كانت قد قالت (لا) للولايات المتحدة الأميركية من أجل حرب جديدة في العراق، بصوت دومينيك دو فيلبان في مجلس الأمن. ففي نظر فرنسا، لم يثبت أن العراق يملك أسلحة الدمار الشامل، وأعمال منظمة الأمم المتحدة المعمقة (انظر لجنة باتلر Butler؛ أزمة القصور الرئاسية) لم تكن أكثر حسمًا. وبطريقة شبه مصاحبة للعملية العسكرية التي دامت عشرين يومًا، حتى سقوط بغداد في الأشهر الأولى من عام 2003، ازداد الضغط الأميركي على سورية، المتهمة بإيواء مسؤولين عراقيين كبار مناصرين لصدام حسين. وقد وضعَنا هذا الوضع الجديد في موقف حرج.

أيًا كان المسؤولون، الذين لم يُعرفوا بوضوح قط (كان هنا عضو مفترض من حزب الله قد حكم عليه غيابيًا بعد سنوات من قبل محكمة الأمم المتحدة)، كان اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في شباط/ فبراير 2005، قد أثار صدمة وأدّى إلى قطيعة تامة. وبفعل الشكوك والضغوط الدولية، سحبت دمشق قواتها من لبنان. واتخذت الجريمة بعدًا خاصًا في فرنسا، بسبب روابط الصداقة بين الرئيس جاك شيراك ورفيق الحريري.

التتمة، اعتبارًا من ثورات آذار/ مارس 2011، على إثر الربيع العربي، كانت هبوطًا عميقًا في جحيم سورية: فعتبات بعض آلاف الضحايا، ثم عشرات ألوف الضحايا، وأخيرًا مئات ألوف الضحايا، قد تم تجاوزها واحدة بعد الأخرى. كما تجاوز عدد الأشخاص النازحين في الداخل واللاجئين إلى الخارج حاجز ملايين الأشخاص (هناك 5ر1 مليون شخص اليوم في لبنان وحده يعيش 90% منهم تحت خط الفقر).

كانت الفكرة السائدة في صيف 2012 هي أن النظام لن يتمكن من المقاومة زمنًا طويلًا. كنا قد أتينا على إغلاق سفارتنا بدمشق -لا على قطع العلاقات الدبلوماسية- بسبب مخاوف ذات طبيعة أمنية بوجه خاص. صحيح أن سفراء بعض الدول الغربية كانوا قد ظهروا في أولى التظاهرات الكبرى ضد النظام، وخصوصًا في حمص، وأن ذلك لا يمكن إلا أن يثير صدمة قاسية بالمقابل.

كانت سنة 2013 سنة محورية في المأساة السورية الرهيبة (100.000 ضحية حسب التقديرات المعتمدة في ذلك التاريخ) التي عبرت آنئذ درجة إضافية في الرعب. وبالتوازي مع استفحال العنف على الأرض، كانت تبذل أيضًا جهود دبلوماسية تستهدف بصورة رئيسة التعرّف إلى شخصيات من المعسكرين، من أجل إقامة الحوار. لكن معلومات مثيرة للقلق كانت تصل إلى السفارات حول استخدام وسائل كيمياوية قاتلة، كانت في البداية بكميات صغيرة، من دون التعرف إلى أصلها.

كانت سورية تفيض في الحقيقة بأسلحة من هذا النوع -“سلاح الفقراء النووي”- في حوالي عشرين مخزنًا رئيسية كانت مدرجة في سجل خاص.. إلا أنه كان يجب أيضًا الاعتماد على إمكانية تحضير وسائل قاتلة انطلاقًا من مركبات غير مؤذية وهي منفصلة -مثلًا بعض المنتجات المخصصة للزراعة- لكنها تؤلف مجتمعة ما يسمى أسلحة “ثنائية”. ونظرًا للخطر الكبير، ألم يكن يجب على المجموعة الدولية (التي حازت المشكلة لديها على الإجماع) أن تتولاها؟ ألم تكن ثمة فرصة أن يجري تحدي النظام، الذي يملك قدرات هائلة في هذا المجال، بطريقة تحمله على تدمير مخزونه منها وينضم إلى الاتفاقيات الدولية ذات الصلة؟

 في ربيع عام 2013، لم تعتمد مثل هذه الخطوة؛ كانت الغاية مشتركة، إلا أن الوسائط وقبول نتائج المشروع الممكنة لم تكن كذلك. ففي نظر البعض، كان التحدي يقتضي بالتعريف إعادة التواصل مع النظام، وهو ما كان سيعيد منحه المشروعية من جديد؛ ومع ذلك، فهذه الدول نفسها وجدت بعد أسابيع عدة من ذلك في جنيف مع المعارضة، في مواجهة ممثلي النظام. وفي نظر البعض الآخر، لم يكن ذلك ممكنًا، لأن ذلك كان سيعني فورًا التخلي عن المعارضة، وهو همٌّ كان من الواضح أنه يسود في نظرهم على كل اعتبار آخر. أما المعارضة فإنها كانت قد انتهت، وإن كان ذلك مع ممانعة قصوى، إلى القبول بأفق عملية دبلوماسية، لكنها كانت مع ذلك تطرح شرطًا أوليًا: رحيل بشار الأسد. كان ذلك يعني بصورة واضحة عدم الموافقة.

المعارضة، التي ستظهر فيما بعد بوصفها الضحية الرئيسة لهذا النوع من الأسلحة (التي كان استخدامها مع ذلك محرّمًا منذ اتفاقية جنيف عام 1925)، لم تكن آنئذ تبدي نفسها معنية بوجه خاص بالمسألة. لكن من كانت المعارضة؟ كان البعض قد عثر على صيغة للتمييز بين “معارضة الفنادق” ومعارضة “الخنادق”.

في 21 آب/ أغسطس 2013، انفجر خبر الهجوم الكبير مع الأسلحة الكيمياوية، في غوطة دمشق الشرقية، وهي منطقة معمورة في ضواحي شرق دمشق، حيث لم تتم السيطرة على التمرد فيها حتى ذلك الحين من قبل القوات الموالية. وبحسب جيش التحرير السوري، كان هناك أكثر من 1800 ضحية وحوالي 10000 جريح، خصوصًا بين السكان المدنيين. وقد نسبت مسؤولية المأساة على الفور إلى النظام، من قبل أكثر البلدان عداءً له مشيرة إلى أنها تمتلك “حزمة من الأدلة”. هذه الاتهامات، الصادرة عن منظمة تحريم الأسلحة الكيمياوية، بما في ذلك ضد “الدولة الإسلامية” والجماعات المتطرفة الأخرى، لم تكن الأخيرة وجرى تكرارها على امتداد الصراع. وإلى جانب منع استخدام مثل هذه الأسلحة، المقرر باتفاقية جنيف عام 1925، أضيفت اتفاقية تحريم الأسلحة الكيمياوية لعام 1992 التي كانت تستهدف بصورة خاصة امتلاك مثل هذه الوسائل القاتلة، وكانت هذه الاتفاقية تنص على أن تدمير ترسانات هذه الأسلحة يجب أن يجري خلال مدة تمتد من 10 إلى 15 سنة، بعد التوقيع على هذه الاتفاقية. وقد حصلت منظمة تحريم الأسلحة الكيمياوية في تشرين الأول/ أكتوبر 2013 على جائزة نوبل للسلام، لقيامها بتنفيذ برنامج واسع في سورية لتصفية المخازن المفروض على هذه الدولة.

وأيًّا كان الأمر، وبما أن الرئيس أوباما كان قبل سنة قد وضع “خطًا أحمر” على اللجوء المحرم إلى مثل هذه الأسلحة، فقد ارتسمت بسرعة حتمية التدخل العسكري الذي استعد له بلدنا. إلا أن الرئيس الأميركي عدل في النهاية بتاريخ 30 آب/ أغسطس 2013، في الوقت الذي رفض مجلس العموم بتاريخ 28 آب/ أغسطس السماح للحكومة البريطانية بالعملية. هذا التصويت الصادر عن برلمان “عتيق”، لكي نعارض تعبيرًا شهيرًا، أثر على وجه التأكيد في صدور القرار، إذ إن رئيس الولايات المتحدة الأميركية لم يكن من ثَمَّ واثقًا من حصوله على موافقة الكونغرس.

التردد، ثم عدول واشنطن النهائي، كان لهما أسبابهما الأميركية المحضة. وأول هذه الأسباب أن باراك أوباما كان قد انتخب كي يضع حدًّا لانخراط بلاده في العراق وفي أفغانستان، وأنه لم يكن يريد الدخول في صراع ذي نتائج لا يمكن التنبؤ بها.

كان الاشتباه الذي طال النظام السوري هائلًا في قضية الأسلحة الكيمياوية، لكن الأدلة القاطعة كانت عسيرة الجمع؛ إذ لا يمكن للاشتباه أن يساوي إدانة نهائية، ولا تزال سابقة كولن باول في مجلس الأمن عام 2003 ماثلة في الأذهان. وكما جرى في عام 2003، لم تكن الشرعية الدولية حاضرة، وكان الأمر سيقتصر على تدخلٍ من طرف واحد، يفلت من حالة الدفاع المشروع المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق منظمة الأمم المتحدة. وأخيرًا، كان يمكن أن يكون أوباما قد خشي أن تؤدي العملية العسكرية نفسها إلى تدمير كبير دون أن تنتهي بالاستئصال الكامل للترسانات المجرَّمة، إن لم تستدع نشرها. بحسب هذه الفرضية، سيكون المنتصر في الظاهر قد هزم. ما الذي كان يمكن أن يكون عليه حجم الضربات؟ هل كانت سوف “تفتت” سورية، أم أنها كانت ستقتصر على تدمير القصور الرئاسية بدمشق وباللاذقية؟ أم أيضًا، بعد أن اهتزت بما فيه الكفاية الصناعات وبنى ومؤسسات الدولة، ألم يكن سيتحقق منعطف إستراتيجي على الأرض يسمح للقوى الأكثر تطرفًا بأن تنتصر؟ من كنّا ندعم في الواقع؟ وما الذي كنا نريده حقًا؟

* * *

إن رؤية سورية على النحو الذي كانت عليه، وبذل الجهد من أجل فهم ما جرى وصولًا إلى تهديد وجود شعوب وطوائف بأكملها، والمسّ بصورة خطيرة بمصالحنا في المنطقة، ليس بأي حال من الأحوال تمرينًا ماضويًّا. المقصود هو استخلاص الدروس من أجل اليوم ومن أجل الغد.

لو أننا عدنا مجدَّدًا خطوة إلى الوراء، لوجدنا أن تاريخنا في المشرق لم يكن يومًا “نهرًا طويلًا هادئًا”. ففي حقبة كانت تعتبر مع ذلك زمن الانتصار والمجد، لم يترك الجنرال غورو ذكريات طيبة قط؛ إذ إن قمع ثورة 1925 في جبل الدروز التي انتقلت إلى دمشق كان شرسًا. والصدمة التي نتجت عنه بقيت حيَّة حتى اليوم ولا تزال جدران العاصمة تحمل آثارًا منها.

كذلك، خلال هذا الصراع، ألم “نراهن” زمنًا طويلًا على حلٍّ يمكن أن يأتي من السلاح؟ ألا تجب في النهاية العودة غدًا إلى علاقات أكثر تقليدية بين دولتيْن من دون أدنى تنازل حول حقوق الإنسان، وفي إطار احترام ميثاق منظمة الأمم المتحدة؟ فقضيتا الجولان -مشكلة الشرعية في نظر السلطة السورية- ومن باب أولى لواء الإسكندرون، لا يمكن معالجتهما دفعة واحدة.

بالمقابل، علينا أن نقبل وجود علاقة خصوصية مع لبنان الجار، وهي علاقة مدرجة في الجغرافيا وفي التاريخ. ذلك أن سورية تحتاج إليه بصورة جوهرية أكثر من أي وقت مضى، حيث إن الوصول إلى ميناء بيروت يعدّ رئة اقتصادية لها. يبقى أن مصائب سورية لم تخدم لبنان قط، ولدينا اليوم برهان قاطع على ذلك.

يجب أن نأمل أن سورية، بماضيها الذي يمتد عشرة آلاف سنة، ستبقى بفضل تاريخها الذي يشمل تاريخ مجموع حضارات وشعوب وديانات حوض البحر المتوسط. سوف يترتب عليها أن تحاول الاعتماد آنئذ على بنى دولتها التي كانت فرنسا حاضرة عند إنشائها. ولسوف يتوجب عليها أن تجهد في التحرر من تبعياتها مفرطة القوة والظرفية، ولكن حتى وإن كانت تعرف أنها لا تستطيع الاعتماد إلا على نفسها، فإنها لن تستطيع أن تتجاهل تحولات السياق الإقليمي.

ذلك أنَّ الأزمة الإنسانية، التي لا تكف عن الاستفحال، ستؤلف في الواقع الراهن هدفًا ملحَّا، بالنسبة إلى الأمة السورية، وبالنسبة إلى المنطقة، وبالنسبة إلينا نحن أنفسنا. إذ إن ترسانة العقوبات الدولية موجودة في ميثاق منظمة الأمم المتحدة، بصفتها إجراءات قسرية ذات طابع غير عسكري. ليس المقصود الاعتراض على مبدئها. إلا أنه يجب احترام الإجراءات المنصوص عليها في القانون الدولي بصورة صارمة. إذ إن التحرر منها يعني المسّ بالمنظومة الدولية ذاتها التي نصرح بإرادتنا الحفاظ عليها. ذلك أن نظم العقوبات، المقبولة أكثر حين تستهدف مباشرة بنى القوة -منع نقل الأسلحة؛ تفادي تطوير برنامج عسكري خصوصي؛ تجهيز قوى القمع؛ إلخ- لا تطاق حين يكون أولى ضحاياها السكان غير المحصنين.

 في شهر تشرين الأول/ أكتوبر بروما، أطلق القاصد الرسولي بدمشق نداء بـ “ألا (نترك) الأمل يموت”، أمام الهيئات الدبلوماسية كلها، وبحضور وزير الدولة في الفاتيكان. طريق دمشق ليس مرادفًا للتحول فحسب، إنه يعيدنا ببساطة إلى خط أكثر استقامة، إلى ما نحن عليه بصورة أعمق، إلى ما كان الأب اليسوعي باولو ديل أوغليو، الذي اختفى خلال الصراع، يطلق عليه “الواجب الإنساني والعالمي” sua umaniste ed universale devozione“.

عنوان المادة:La Syrie, vingt ans après
الكاتب Patrick Pascal, ancien ambassadeur
المترجمبدر الدين عرودكي
مكان وتاريخ النشرPerspectives Europe-Monde , le 06/03/2021
عدد الكلمات2982
رابط المقالhttp://bit.ly/3vwVmgY