كيف تُدخل العقوبات ضد النظام السوري البلاد عنوة في المجاعة!
(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
فرّ أيمن البالغ من العمر ثلاثين عامًا من دمشق، إلى بيروت، في بداية الحرب الأهلية السورية. ومع انهيار الاقتصاد اللبناني، العام الماضي، صار من الصعب عليه العثور على عمل، وبدا له أن الصراع في الوطن في طريقه إلى الانحسار، فاتّصل بكثير من أصدقائه، وجميعهم يعيشون في مناطق سيطرة النظام، للاستفسار عن أحوال البلد وعن إمكانية العودة. تحدث أيمن مشترطًا عدم الكشف عن هويته لدواعٍ أمنية، وقال: “كانوا واضحين جدًا، إذ قالوا: ابقَ حيثما أنتَ، لن تجد ما يكفي لتناول الطعام هنا”.
طوال الحرب الأهلية المستمرة منذ تسعة أعوام، دُمِّر جزء كبير من البنية التحتية في سورية، بسبب القصف العشوائي للنظام وحلفائه الروس، فضلًا عن القتال على الجبهات. انخفض إنتاج الغذاء وتوليد الطاقة وغيرها من الصناعات إلى درجة كبيرة، وتعثّر الاقتصاد السوري لارتباطه بالاقتصاد اللبناني. وفي وقتٍ مبكّر من هذا العام، مع تفكّك السياسة النقدية في لبنان وفرض قيود على رأس المال لتجنب التهافت على البنوك، حُظرت ودائع بمليارات الدولارات لرجال الأعمال السوريين وشركاتهم. ويزعم بشار الأسد (الرئيس السوري) أن البنوك اللبنانية تحتفظ بما لا يقلّ عن 20 مليار دولار من أرباح السوريين، وأن الوصول إليها سيحلّ الأزمة الاقتصادية السورية دفعة واحدة. وتراجعت عملات جيران لبنان بالتزامن مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية في سورية، بأكثر من 200 في المئة. وأصبحت الحياة صعبة على اللبنانيين، لكنها ظلّت على السوريين الذين دمرتهم الحرب أصعب.
غمرت وسائل التواصل الاجتماعي صورٌ لمئات السوريين، وهم يصطفون أمام المخابز للحصول على خبز بالسعر المدعوم، ويقفون ساعات متتالية في محطات الوقود. واشتكى السكان من أسوأ أزمة غذاء ووقود عرفتها بلادهم. وقال أحد أصدقاء أيمن من دمشق: “انقطاع التيار الكهربائي يجعل عمل الشركات مستحيلًا. الوقود مكلف للغاية، ولا يمكن تشغيل المولدات”.
وفقًا لبرنامج الغذاء العالمي، هناك (9,3) مليون سوري غير متأكدين من أن بإمكانهم الحصول على وجبتهم التالية، بمعدل زيادة قدرها (1,4) مليون، في الأشهر الستة الأولى من العام. ويضاف إلى ذلك أن شمال شرق سورية (سلة خبز البلاد) يخضع لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، التي يهيمن عليها الأكراد، حلفاء الولايات المتحدة التي لم تتوصل بعد إلى اتفاق مع النظام، بشأن إمدادات الحبوب.
سورية، التي كانت ذات يوم مصدّرة للقمح، أمست تعتمد جزئيًا على الإمدادات من روسيا، لكن تلك المساعدة فشلت، عندما خفضت موسكو مبيعات الدقيق إلى الخارج، للحفاظ على الاحتياطات في الداخل في الأوقات غير المستقرة بسبب وباء فيروس كورونا. وأكثر من ذلك أن العقوبات الأميركية على النفط والغاز تعني أن الخام الإيراني فقط هو الذي يجد طريقه إلى سورية. وقد كان لنقص هذا المورد الأساسي تأثيرٌ مضاعف على قطاعي الزراعة والطاقة، وعلى الشركات المحلية.
يعيش أكثر من 80 في المئة من السوريين الآن تحت خط الفقر. ومع اليأس من أجل تغطية النفقات، ارتفعت معدلات الجريمة. حيث تتفشى عصابات تهريب البضائع المهربة والأسلحة والمخدرات، فضلًا عن اختطاف الأشخاص من أجل الحصول على فدية، في مناطق عدة من البلاد.
وعلى الرغم من أن كلّ هذه النتائج مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعقود من الفساد وسوء الإدارة والسحق الوحشي للمناطق التي يسيطر عليها المتمردون، يقول بعض النقاد إن الأزمات هي أيضًا نتيجة للعقوبات القطاعية الأميركية. ويتم إجراء مقارنة مقلقة: هل تحققُ العقوبات القاسية -كما كانت في العراق قبل عقدين- وحدها الهزيمة في سورية؟! الأرقام متنازع عليها، لكن إحدى الدراسات تقول إن نصف مليون طفل ماتوا في العراق، نتيجة العقوبات التي قادتها الولايات المتحدة، ومع ذلك، ظلّ صدام حسين دكتاتوريًا كما كان دائمًا، ولم يسقط حكمه، بعد أعوام من المعاناة، إلا عندما هاجمته الولايات المتحدة بجيشها.
إن الهدف من عقوبات قيصر هذا العام (التي سُمّيت على اسم المنشق عن الشرطة الذي فرّ من سورية ومعه أدلة على مقتل آلاف السوريين في سجون تديرها الدولة) هو إجبار النظام السوري على تغيير سلوكه تجاه شعبه، من “القاتل” إلى سلوك أكثر لطفًا. قال دبلوماسيون غربيون كبار لمجلة (فورين بوليسي) في مناسبات عديدة: إن العقوبات هي آخر وسيلة ضغط للغرب ضد الأسد، للإفراج عن السجناء السياسيين، وضمان العودة الآمنة للاجئين، والموافقة على المصالحة السياسية التي يعني تنفيذها التام في النهاية رحيل الأسد عن السلطة. ويصرون على أن دفع تكاليف إعادة الإعمار في سورية، ومن ضمنها البنية التحتية مثل محطات الطاقة وأنظمة الري الضرورية للأمن الغذائي والحياة اليومية للبلاد، ستؤدي إلى تقوية قمع النظام. ويقولون إنهم لا يعتزمون السماح للأسد بالنجاح في ذلك، على الأقل، ما لم يقدّم تنازلات كبيرة. وعلاوة على ذلك، يشعر الغرب بالقلق من أن الأسد قد يسرق الأموال ببساطة، كما يُزعم أنه فعل بجزء كبير من المساعدات الإنسانية التي أُرسلت بالفعل إلى المنكوبين بالحرب.
لكن آخرين يقولون إن العقوبات لا يمكن أن تُصلح دكتاتورًا لا يمكن إصلاحه، وإنها محض عقاب للشعب السوري. ويفترضون أن السكان السوريين، كما في العراق، يتحملون وطأة العقوبات، بينما لا يواجه الأسد وأعوانه نقصًا في الغذاء والوقود. ويؤكدون أن من السذاجة أن تتوقع الولايات المتحدة أن يحاسب الأسد مجرمي الحرب، حيث لا يمكن أن يتوقع منه أن يدين نفسه. وحجتهم هي أن الولايات المتحدة يجب أن تعكس سياسة الضغط الأقصى، وأن تضع إعفاءات تدريجية عن العقوبات التي ستكون مستعدة لتقديمها مقابل مطالب أكثر واقعية.
بينت شيلر Bente Scheller، رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤسسة (هاينريش بول)، قالت: ليس هناك خلاف على العقوبات التي تستهدف أصدقاء الأسد، لكن العقوبات الأميركية القطاعية كان لها تأثير سلبي على الناس العاديين.. “إن العقوبات تستند إلى منطق (الضغط الأقصى)، وهذا هو السبب في أنها تشمل عقوبات قطاعية، بينما في الخطوة الثانية فقط استهدفت الأفراد. كما استهدفت عقوبات [الاتحاد الأوروبي] إلى حد كبير: فهي تشمل حظر السفر على مسؤولي النظام ووكلائهم، بناءً على دور كل منهم في انتهاكات حقوق الإنسان. العقوبات القطاعية، مثل تلك المفروضة على المصارف السورية، تحد من قدرة النظام على شراء البضائع من الخارج. ومن الواضح أن السلع الإنسانية والطبية مستثناة، لكن المجتمع المدني السوري أشار إلى أن الإفراط في الامتثال يؤثر عليهم”.
آرون لوند، المتخصص في الشؤون السورية بوكالة أبحاث الدفاع السويدية، قال إن العقوبات الأميركية والأوروبية استثنت الأنشطة الإنسانية والتجارة المدنية المشروعة. ومع ذلك، كانت الشركات تميل إلى الخوف من أن يكون لها أي علاقة بدولة خاضعة للعقوبات، وذلك ببساطة لأن الأمر كان معقدًا للغاية، لفهم لوائح الحظر، ولأنها لا تريد المخاطرة. وقال: “تتجنب الشركات حتى التجارة المسموح بها، وذلك ببساطة للابتعاد عن المخاطر والمشاحنات القانونية. عندما تقرر المصارف الدولية أو شركات الشحن أن التعامل مع نظام العقوبات لا يستحق العناء، فإنه يجعل الواردات صعبة ومكلفة في جميع المجالات”.
زهراء مطر، وهي امرأة تبلغ من العمر 55 عامًا تُلقب بـ “زهراء الدولار” في العراق، قامت بتهريب الدولارات داخل البلاد في ذروة العقوبات ضد صدام، وتتذكر الأوقات الصعبة. قالت: “بدأ الأطفال يموتون بسبب نقص الأدوية والمستلزمات الطبية في المشافي إبان سنوات العقوبات. باع الناس ممتلكاتهم الخاصة، مثل الأثاث والمعادن، وباعوا كل ما يمكنهم بيعه، من أجل البقاء على قيد الحياة”.
في سورية، حتى السوريون المناهضون للنظام بدؤوا يقولون إن العقوبات القطاعية، في قطاعي النفط والغاز والبناء، تضر بالناس أكثر مما تضرّ النظام. في القنيطرة، جنوب سورية، قال (أبو مشعل) البالغ من العمر 29 عامًا، وهو أبٌ لثلاثة أطفال، إنه نادرًا ما يستطيع شراء وقود الديزل (المازوت)، لذلك كان يحرق القمامة والبلاستيك والروث لتدفئة أسرته هذا الشتاء. جعلت العقوبات البضائع أكثر تكلفة على السوريين العاديين. لا أعتقد أن مسؤولي النظام السوري وعائلاتهم سينامون جائعين أو باردين. “في رأيي، اتّخذ النظامُ والمافيا التابعة له العقوبات ذريعةً، لرفع الأسعار واستغلال الفقراء أكثر وأكثر”.
تواجه الولايات المتحدة، في مواجهة الأسد العنيد والمتصلب، معضلة مستحيلة. لم يكرر باراك أوباما، الرئيس الأميركي السابق، حربًا على غرار حرب العراق التي ستطيح الأسد، لكنها تلزم الولايات المتحدة بدولة أخرى في المستقبل المنظور. ومع ذلك، تظل المسألة السورية من دون حل. بعد تسعة أعوام، يواجه الرئيس المنتخب جو بايدن (الذي كان نائبًا للرئيس أوباما) تحديًا مختلفًا: كيف نوقف المجاعة في سورية، ونساعد الناس على استعادة حياتهم، من دون أن نفيد الأسد. إن الشعور بالذنب عن زملائه السابقين في إدارة أوباما، الذين راقبوا الحرب السورية وهي تتحول إلى حالة من الفوضى، سوف يحثّه على الاهتمام أكثر. فإلى أيّ مدى ستكون سورية على قائمة أولويات الرئيس القادم؟ هذا أمرٌ آخر.
اسم المقالة الأصلي | Assad’s Syria Is Starving Like Saddam’s Iraq |
الكاتب | أنكال فوهرا،ANCHAL VOHRA |
مكان النشر وتاريخه | السياسة الخارجية (فورين بوليسي)، FP، 2 كانون الأول/ ديسمبر 2020 |
رابط المقالة | https://bit.ly/37N5BTt |
عدد الكلمات | 1310 |
ترجمة | قسم الترجمة/ أحمد عيشة |