ترجمة علي كمخ

(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة

شهدت المنطقة في الآونة الأخيرة حركةً دبلوماسية نشطة، في سبيل إنهاء الأزمة الخليجية التي بدأت عام 2017. حيث ظهرت إشارات قوية، في وسائل الإعلام المحلية والدولية، حول تحقيق نتائج إيجابية من المفاوضات التي جرت، بوساطة كويتية، بين الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية وقطر. ومن المشكوك فيه أن يساعد حل الأزمة في تخفيف حدة الرياح الباردة التي تهبّ على المنطقة، منذ ذلك التاريخ؛ ذلك بأن العديد من الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمة ما زالت قائمة، ومن الممكن لمس آثار عمق أزمة الثقة بين الأطراف، عند الوقوف على النقطة التي وصلت إليها هذه الأزمة ومراقبتها عن كثب.

في الحقيقة، ظهرت أسس أزمة الثقة هذه في المرحلة التي أعقبت ثورات الربيع العربي التي بدأت في تونس عام 2010، ثم تطايرت شرارتها وامتدت لتصل إلى مصر وليبيا واليمن وسورية، حيث إن الموقف القطري (الداعم للتغييرات والحركات الاجتماعية) كان قد أزعج فعليًا بعض الأطراف، وفي مقدمتها الإمارات العربية المتحدة. وقد دعمت تلك الأطراف عملية استبعاد الرئيس المدني لمصر وعضو حركة الإخوان المسلمين الرئيس محمد مرسي وإطاحته، وبذلك أرسلت في الحقيقة رسالة تحذيرية إلى دولة قطر أيضًا. إذ إن دعم قطر المتواصل لمسار الثورات العربية، وسعيها الدؤوب لإقامة تحالفات تعرقل نهوض صرح الاتفاقات التي أسستها الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل -وهي اتفاقات قد تُلحق الأضرار بالوضع الإقليمي- كان من الأسباب الرئيسية للامتعاض من قطر وعدم الرضا عنها، وعلى ذلك؛ كان تقارب الدوحة في هذا السياق، بداية من الرئيس محمد مرسي، ومن ثم من رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان، بمنزلة تجاوز للخطوط الحمراء، بالنسبة إلى تلك الدول.

استهداف السياسات الحازمة والمستقلة لقطر

نتيجة عدم التغير في الموقف القطري ومواصلتها نهج التقارب مع تركيا، بعد إطاحة محمد مرسي، أقدمت السعودية والإمارات والبحرين على سحب سفرائها من قطر، بقرار مشترك بين هذه الدول الثلاث، في آذار/ مارس 2014. وكان من دعاوى القرار الزعمُ بتورط قطر وتدخلها في “الشؤون الداخلية” لهذه الدول. وقد فتح هذا الوضع البابَ أمام أزمة غير مسبوقة بين دول الخليج، وكشف أن عُمق الخلافات قد يؤدي إلى أضرار لا يمكن إصلاحها. غير أن الأزمة في ذلك الوقت انتهت قبل أن تتسع، إذ قررت الدول السالفة الذكر إعادة سفرائها إلى قطر، بعد التوصل إلى تفاهم في قمة مجلس التعاون الخليجي التي عقدت في الرياض في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014. في الواقع؛ كانت هناك محاولة توجيه تحذير شديد إلى قطر، عبر هذه الأزمة، لكن قطر التي أرادت الحفاظ على قرارها المستقل، في سياستها الخارجية، لم تعمد إلى إجراء أي تغيير في سياساتها ومواقفها الحازمة.

الردّ القطري على هذه الرسائل كان بناءَ تحالف أقوى مع تركيا، حيث استضاف أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الرئيسَ أردوغان في الدوحة، في كانون الأول/ ديسمبر 2014، ووقع البلدان اتفاقية رفعت درجة العلاقات بينهما، إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية. حيث سمحت قطر بهذا الاتفاق (الذي تمت المصادقة عليه في آذار/ مارس 2015) لتركيا، بإنشاء قواعد عسكرية في البلاد. لكن هذه المنشأة التي كانت أول قاعدة عسكرية تركية في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، كانت مصدر إزعاج للإمارات العربية المتحدة، على وجه الخصوص. حيث قامت تركيا بزيادة عدد أفراد قواتها في ثكنة طارق بن زياد، تدريجيًا، وتبنت مسؤولية الدفاع عن قطر، ضدّ أي تهديد محتمل قد تتعرض له.

من الجانب الآخر، كان من النتائج التي أظهرتها الأزمة الخليجية 2014، رفض كل من دولتي الكويت وعمان الخضوع لمحاولات الهيمنة السعودية-الإماراتية، بهذا الخصوص. وفي الواقع، حافظت هاتان الإدارتان على حيادهما، في الوقت الذي كان من المتوقع فيه منهما سحب سفرائهما من قطر، وقد وضع ذلك حدودًا للتحالف الذي تقوده السعودية والإمارات في السياسة الخليجية بعد ذلك. لكن هذه الدول [السعودية والإمارات] كانت أقل من أن تدرك هذا الوضع، إذ بادرت بهجمة مماثلة ضد قطر عام 2017.

المرحلة التي مهّدت لأزمة عام 2017

كان هناك تطوران مهمان، في المرحلة التي مهدت لأزمة 2017، إلا أن أيًا منهما لم يكن مرتبطًا ارتباطًا مباشرًا بمنطقة الخليج. لكن هذين التطورين كانا في جوهرهما الحدثين اللذين مهدا الطريق لأزمة الخليج. أول هذين الحدثين كان المحاولة الانقلابية التي وقعت في تركيا عام 2016، ففي سيناريو مشابه لما حدث في مصر، تم التخطيط لانقلاب في تركيا لإطاحة حكومة رئيس الجمهورية أردوغان، وقد اضطلعت العديد من القوى الداخلية والخارجية بأدوار فاعلة ونشطة فيه. وبينما تعالت الصيحات في وسائل الإعلام الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بوقوع العملية الانقلابية في تركيا، خلقت الهجمات الإرهابية بيئة لفوضى خطيرة داخل البلاد، وقامت وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة، في السعودية والإمارات، ببث أخبار نجاح العملية الانقلابية لحظة وقوعها، في ليلة الـخامس عشر من تموز/ يوليو عام 2016، من دون متابعة حقيقية لمسار الحدث، وكان ذلك كافيًا لكشف نيّات هذه الدول ومواقفها. ويضاف إلى ذلك تصريحاتُ كلّ من الرئيس أردوغان ووزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، بقيام إحدى الدول الإسلامية العربية (دون تحديد اسمها) بتمويل عملية المحاولة الانقلابية، بمبلغ 3 مليارات دولار، وقد فسّر كثيرٌ من الأوساط هذه الإشارة، بأن تلك الدولة هي دولة الإمارات العربية المتحدة، وليس سواها. لذلك كانت الإمارات الدعامة الأساسية في عملية إطاحة مرسي (المدعوم من قطر) أولًا، ثم بدأت بمحاولات استهداف حكومة أردوغان التي دخلت في علاقات متينة مع قطر أيضًا. غير أن الإمارات التي نجحت في محاولتها الأولى فشلت في موضوع تركيا.

أما التطور المهم الآخر الذي سبق المرحلة التي مهدت لأزمة عام 2017، فكان جلوس دونالد ترامب على كرسي الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية. حيث تمكنت السعودية والإمارات من إقناع ترامب، بعد مجيئه إلى السلطة، بالتقارب منهما، سواء من خلال اللوبي الإسرائيلي أو عبر استخدام مواردهما المالية، وضمنتا التزام واشنطن الصمت حيال أي عملية قد يقومان بها ضد الدوحة… وهو ما حدث! إذ إن أول زيارة خارجية لترامب، بعد توليه مهام الرئاسة، كانت إلى الرياض، وقد كشف فيها أنه سيمنح الأولوية لتحالف يضم السعودية والإمارات، ومعهما مصر. وفي الواقع، ولم يكد يمضي وقت قصير بعد زيارة ترامب للرياض، حتى قررت السعودية والإمارات والبحرين ومصر تجميد علاقاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية مع قطر، وفرضت حظرًا جويًا وبحريًا وبريًا شاملًا على هذا البلد. وفي تغريدة لترامب على منصة (تويتر) بعد الحصار، قال إن “على قطر وقف دعمها للجماعات المتطرفة”، واقعًا -بمعنى ما- في شباك ومصيدة أبو ظبي والرياض، ليدعم علنًا الحصار المفروض على قطر، بشكل يتعارض ويتنافى مع مصالح الولايات المتحدة.

وبالمقابل، كشفت مطالب دول الحصار في سياق الأزمة عن دوافعها الحقيقية. فلما كانت المذكرة المؤلفة من 13 بندًا، التي أعدتها دول الحصار لحل الأزمة ورفع الحصار، تستهدف سياسات قطر الخارجية التي استقلت عن دول مجلس التعاون الخليجي، كان المطلوب في الجهة الأخرى سدّ الطريق على جبهة التحالف القطري مع تركيا. إذ إن هذه المطالب التي اشتملت على بنود تتعلق بوقف بث قناة الجزيرة، وتضييق حدود العلاقات مع إيران، وإغلاق القاعدة العسكرية التركية في البلاد، لم تكن تهدف إلى الاستحواذ على سياسة قطر الخارجية، بل كانت تحمل في الوقت ذاته هدف محو سيادة هذا البلد، والقضاء عليها أيضًا. وبالفعل، توقّع العديد من الخبراء والمختصين أن المرحلة المقبلة من الأزمة ستكون تدخلًا عسكريًا ضد قيادة تميم بن حمد آل ثاني في قطر. غير أن هذا الاحتمال أُحبط تمامًا، بسبب إظهار تركيا تضامنها الكامل مع قطر، عبر تحريك وحشد قواتها العسكرية على وجه السرعة، واستعدادها للرد بقسوة ضد أي تدخل عسكري محتمل قد يستهدفها. حيث إن مجلس الأمة التركي الكبير [البرلمان] عقد اجتماعًا طارئًا عقب الحصار مباشرة، وصادق على إرسال قوات عسكرية إضافية وجديدة إلى قطر، ليضمن سلامة الأمن القومي للدوحة بذلك.

الخلافات بين أبو ظبي والرياض

أسهم خروج قطر من الحصار بعد مضي ثلاث سنوات، “ببياض الوجه”، في تعميق التعاون الإستراتيجي القائم بينها وبين تركيا. ففي الوقت الذي عززت فيه قطر علاقاتها مع تركيا، ومع الجهات الفاعلة الأخرى (بينما تعرضت فيه السعودية والإمارات لفشل ذريع، في كل حملات السياسة الخارجية)، كسبت في الطرف الآخر دعمًا دبلوماسيًا كبيرًا وحقيقيًا على الصعيد الدولي. وإلى جانب ذلك، دخلت قطر في عملية بناء قدرات مهمة في إطار مكافحة الأخطار التي قد تستهدفها، من خلال تحديد التهديدات المحدقة بأمنها القومي بشكل أكثر وضوحًا. وبهذا، فقد كانت السعودية والإمارات أكبر الخاسرين من هذه الأزمة الخليجية.

إن انتهاء العملية المستمرة منذ ثلاث سنوات التي ألحقت ضررًا بدول الحصار، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، أكثر مما لحق بقطر، يُعدّ انتصارًا للتحالف التركي-القطري، في إطار سياسات المنطقة؛ إذ إن الإمارات التي تعدّ المنافس الرئيس لهذا التحالف لم تحقق أي نتيجة تذكر في الأعوام الأخيرة من سياسات العداء التي انتهجتها ضد تركيا وقطر. بل على العكس من ذلك، يمكن القول إن الإمارات باتت أكثر عزلة، وأنها تحاول القضاء على مخاوفها الأمنية المحتملة في المستقبل، من خلال التعاون مع إسرائيل. وما مساعيها لتعميق علاقاتها مع إسرائيل، في الوقت الذي التزمت فيه الصمت حيال مسار حلّ أزمة الخليج، إلا مؤشر صريح على هذه العزلة. هذا الوضع يجعل الخلاف الملاحظ منذ مدة بين السعودية والإمارات أكثر معنًى؛ ويمكن تفسير حوار السعودية مع قطر، حول حل الأزمة، على أنه إضافة جديدة لخلافات الرأي التي تزايدت حديثًا بين إدارة أبو ظبي والرياض، وهما المسببان الرئيسيان للأزمة الخليجية. فالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة (يمكن تشبيههما بشريكين يواصلان حياة زوجية قسرية) اللتان تشهدان خلافات في الرأي، حول كل قضية تتحركان فيها معًا تقريبًا (وخاصة في اليمن)، هما حاليًا على وشك التناثر كل منهما إلى جهة مختلفة.

وقد ظهرت الخلافات في وجهات النظر بين السعودية والإمارات، في الآونة الأخيرة، في قضايا كاليمن والعلاقات مع إيران والسياسات تجاه تركيا على وجه الخصوص. إذ إن الإمارات التي تركت السعودية وحيدة في مسألة اليمن، في محاولة لإنشاء دويلة مستقلة سعيًا وراء مصالحها الخاصة، بحثت عن طرق للتعاون مع إيران أيضًا.

من ناحية أخرى، تعدّ بعض الخطوات التي خطتها المملكة في سبيل التقارب مع أنقرة، وانتهاجها دبلوماسية الباب الخلفي، بالرغم من الإصرار الإماراتي في عدائها لتركيا، تعبيرًا عن إظهار ردات الفعل ضد الإمارات العربية المتحدة في سياساتها الإقليمية.

أخيرًا، حتى إن أعيدت العلاقات الدبلوماسية بين الأطراف، فلن يكون من الواقعي الاعتقاد بأن قطر ستتعامل بليونة ومرونة بهذه السرعة مع جيرانها الذين اتبعوا سياسات معادية ضدها. لذلك، فإن عدم وصول تداعيات الحصار (الذي ظل بعيدًا عن تحقيق أهدافه) إلى أبعاد أكثر دمارًا، يرتبط بمراجعة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لسياساتهما الخارجية، وإنهاء السياسات العدائية تجاه قطر بالدرجة الأولى، ومن ثم تبنيهما لمواقف بناءة في نطاق السياسات الإقليمية.

اسم المادة الأصليKüçük Ülke, Büyük Mücadele: Katar’ın Ablukayı Kırma Stratejisinin Anatomisi
الكاتبإسماعيل نعمان تيلجي- İsmail Numan Telci
المصدر وتاريخ النشرمركز أبحاث الشرق الأوسط (orsam) 10.12.2020
رابط المادةhttps://bit.ly/3r5eMr7
عدد الكلمات1400- 1612
المترجمقسم الترجمة- علي كمخ