تناولت الأبحاث السابقة[1] تدخّل روسيا الهادئ/ الناعم في سورية، من خلال استخدامها للمساعدات الإنسانية. على عكس أعمالها العسكرية العنيفة التي نفرت كثيرًا من السوريين منها، استخدمت موسكو المساعدات كحافز لشراء الولاء السياسي وتحسين صورتها[2]. عن طريق رسم خريطة لما قدمه مركز المصالحة الروسي في سورية عن العمليات الإنسانية[3]، على مدى 18 شهرًا (بين 2018 و2020)، يمكن تشكيل صورة لتكتيكات القوة الناعمة الروسية في سورية. حيث تشير النتائج إلى أن الجهود الروسية ضحلة ورمزية، ولكنها توفر طرقًا في كيفية المشاركة.
شراء الأصدقاء والنفوذ
من خلال شبكة تضم نحو ثلاث عشرة منظمة، تطور نفوذ روسيا في المجال الإنساني في سورية باطراد، منذ عام 2016[4]. بعض هذه المنظمات، مثل البعثة الإنسانية الروسية[5]، ترتبط بالحكومة الروسية، بينما ترتبط منظمات أخرى، مثل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية[6]، ارتباطًا دينيًا، بالكنيسة في روسيا.
كان مركز المصالحة بين الأطراف المتعارضة في سورية (CRCSS) أحد أنشط الكيانات الإنسانية في روسيا، وهو يرتبط بوزارة الدفاع مباشرة، وقد اشتُهر هذا المركز بالوساطة في صفقات الاستسلام مع جيوب المعارضة حول دمشق[7] وحمص[8] وجنوب سورية[9]. وتنطوي النشرات اليومية للمركز على عمله الإنساني[10].
تشير البيانات الصادرة عن مركز المصالحة إلى أنه أجرى 735 “مهمّة إنسانية”، في 244 موقعًا في سورية، في الفترة من تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 إلى نيسان/ أبريل 2020. وإذا أخذنا بالظاهر، فإن الرقم يبدو كبيرًا، لكن الواقع يدل على أن مكان تقديم المساعدة، والفئات التي قُدّمت لها، مرتبطان بالاهتمامات السياسية.
من تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 إلى تشرين الأول/ أكتوبر 2019، تم تركيز (224 مهمة) من مجموع 443 مهمة، في منطقة دير الزور (الشكل 1).

يمكن القول إن روسيا أعطت الأولوية للمساعدة الإنسانية، هنا، لأن الاحتياجات كانت شديدة بعد أكثر من ثلاث سنوات من محاصرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) للمدينة، وكذلك هدفَ تركيز المساعدة الإنسانية في هذه المنطقة إلى تقويض الجهود العسكرية الأميركية في المنطقة[11].
من تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 إلى نيسان/ أبريل 2019، تركز ثلث المهمات (نحو 82 مهمة) من إجمالي 257 مهمة، في المناطق التي استولت عليها الحكومة السورية أخيرًا، أو قربها.

وشملت هذه المناطق جنوب سورية، والمناطق المحيطة بدمشق وريف حمص الشمالي، وكذلك المناطق الواقعة جنوب مدينة حلب. في إهانة مباشرة للمبادئ الإنسانية المتمثلة في الحياد والنزاهة، كان هذا الكيان الذي قدم المساعدة الإنسانية لهذه المجتمعات محفزًا رئيسًا في استسلامهم بالعنف[12]. أجبر مركز المصالحة الروسي -من خلال المشاركة في عملية المصالحة- المواطنين السوريين على البقاء تحت سيطرة الحكومة[13]، وباتوا الآن تحت رحمة نزوات الأجهزة الأمنية[14].
ولكن من نيسان/ أبريل إلى تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ذهبت 13 بالمئة فقط (أي 25 مهمة) من إجمالي 186 مهمة، إلى مناطق المعارضة السابقة الذكر، ويمثل هذا انخفاضًا كبيرًا.

وبدلًا من ذلك، أعيدَ توجيه 30 بالمئة (55 مهمة) من المهام إلى معاقل الحكومة في اللاذقية وطرطوس، والمناطق الغربية من محافظتي حمص وحماة، وأيضًا المناطق الغربية من مدينة حلب. حتى هذه اللحظة، تتجاهل وكالات الإغاثة الدولية العديد من هذه المناطق، لأنها شهدت آثارًا ضئيلة نسبيًا من النزاع. كان التحول المفاجئ في التركيز من قبل مركز المصالحة هو السعي لشراء الولاءات في تلك المجتمعات المحبطة من نقص خدمات الحكومة السورية[15]، ومن الأسعار المرتفعة للسلع والخدمات الأساسية، وساعدت عمليات التوزيع في هذه المناطق، في تعزيز صورة روسيا بين الناس المحليين، مقارنة بقبول ضعيف في بداية تدخلها في سورية[16].
بعد أن أصبح الوصول إلى المنطقة التي تهيمن عليها القوا ت الكردية، في شمال شرق سورية[17]، متاحًا في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، انفجر نشاط مركز المصالحة في المنطقة المدعومة من الولايات المتحدة. فمن بين 290 مهمة في الفترة التالية، تركزت 77 في المئة (أي 223 مهمة) من نشاط المركز، على محافظتي الرقة والحسكة، إضافة إلى منطقة عين العرب في حلب، في وقت اقتصرت النسبة المتبقية من مهماتها على كل سورية. فقد كانت فرصة لا تفوّت في شراء الولاء وعرض جهود القوة الناعمة الروسية، على حساب تضاؤل النفوذ الأميركي في الشمال الشرقي.
تقويض المشهد الإنساني
يبدو أن 735 مهمة إنسانية في 244 مجتمعًا، من تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 إلى نيسان/ أبريل 2020، عدد كبير، ولكن عند الفحص والتحليل، يظهر أن الإجراءات الروسية كانت ضحلة جدًا. فقد كان ربع بعثات مركز المصالحة، وعددها 190 مهمة، خلال تلك الفترة (18 شهرًا) بمعدل زيارة مرة واحدة. في حين كانت 139 مهمة أخرى محدودة، وهذا يعني أن مركز المصالحة قد زار هذه المجتمعات المحلية أقلّ من 10 زيارات. ومن جانب آخر، قام مركز المصالحة في هذه الآونة بزيارة 98 بالمئة (239) من أصل 244 موقعًا زيارة رمزية فقط، (الشكل 2). في حين كانت حلب ودير الزور الموقعين الوحيدين اللذين شهدا جهود توصيل المساعدات المستمرة من مركز المصالحة CRCSS.

وعلى الرغم من أن دولًا أخرى، منها الولايات المتحدة، تعزز أيضًا نفوذها في سورية من خلال تقديم المساعدة، فإن هناك درجة من التقسيم. على سبيل المثال، يتم توجيه ميزانية الوكالة الأميركية للتنمية الدولية للمساعدة في سورية[18] من خلال العديد من وكالات الأمم المتحدة (UN) والمنظمات الدولية، وليس من طرف الجيش. إضافة إلى أن الكيانات التي تتلقى تمويلًا من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مسؤولة أيضًا أمام إداراتها وإجراءات المراقبة الخاصة بها، ويضيف ذلك مراقبًا آخر عليها. في المقابل، يتم تمويل مركز المصالحة CRCSS وتوجيهه من طرف وزارة الدفاع، وهي مسؤولة فقط أمام الدولة الروسية.
التصدي لجهود القوة الناعمة الروسية في سورية
هناك خياران عمليان لمواجهة جهود القوة الناعمة لروسيا في سورية: الأول هو الضغط على مركز المصالحة CRCSS لنقل أعماله الإنسانية إلى الجهات الفاعلة المدنية، وهي تلك الكيانات التي تشترك في المبادئ الإنسانية المقبولة، وتمتلك خبرة في العمل ضمن نظام منسق في سورية، ويمكن أن تكون هذه هي الأمم المتحدة التي لديها، إضافة إلى قضاياها العديدة، واحدة من آليات التنسيق الأكثر قوة التي أنشئت لتقديم المساعدة الفاعلة. والخيار الثاني -وهو الأفضل- تسليم جهود CRCSS إلى المنظمات غير الحكومية الدولية الواحدة والثلاثين المتنامية التي تقوم بعمليات إنسانية في المناطق التي يسيطر عليها النظام. تتمتع هذه الكيانات بقبول من الأمم المتحدة، وهي تستفيد من تنسيقها ودعمها، ويمكن أن توفر خيارًا فاعلًا لمواجهة نظام المساعدة على الظل في روسيا.
يمكن أن تكون نقطة الانطلاق نحو هذه الخيارات واحدة من الكيانات الإنسانية الروسية الثلاثة عشر الأخرى التي تعمل بالفعل في سورية. إن بعض المنظمات الروسية ذات الطابع الديني لديها استقلالية جيدة وهي بعيدة نوعًا ما من سيطرة الدولة، ويمكن أن تجد مسارًا ضمن نظام الأمم المتحدة. سيكون من الصعب على البقية، مثل البعثة الإنسانية الروسية أو مؤسسة أحمد قاديروف (Akhmat Kadyrov Foundation)، التنسيق مع نظام الأمم المتحدة، نظرًا لصلاتها الواضحة بالدولة [الروسية].
ومع ذلك، فإن هذه الاقتراحات لا تأتي على ذكر الفيل الذي في الغرفة. حيث يسيطر نظام بشار الأسد دائمًا على المشهد الإنساني في سورية. إن أي إعادة تشكيل للعمليات الإنسانية في موسكو يجب أن تمرّ بهذا النظام المعقد. ونظرًا لعلاقة روسيا الفريدة بسورية، يمكن أن يكون لها أثر إيجابي على المشهد الإنساني في سورية. فمن خلال الاستفادة من علاقة روسيا الوثيقة مع النظام، يمكن أن تلعب موسكو دورًا داعمًا رئيسيًا للوكالات الإنسانية في عدد من المجالات.
يمكن لروسيا أن تساعد في قضايا الوصول الإنساني في سورية، من خلال الضغط على الحكومة لتبسيط عمليتها المرهقة حاليًا في تسجيل المنظمات غير الحكومية الدولية. كما يمكنها أيضًا استخدام موقعها المتميز في الدفاع عن حرية وصول المساعدات الإنسانية داخل سورية، وخاصة المساعدة التي تركز على الصحة والتعامل مع أزمة فيروس كورونا الحالية[19]. وكذلك يمكن أن تساعد موسكو أيضًا في حل الاختناقات اللوجستية، من خلال توفير معدات مساعدة متخصصة مطلوبة، خاصة لإزالة الألغام وإزالة الذخائر غير المنفجرة.
هناك حاجة إلى حلول مبتكرة في سورية، اليوم أكثر من أي وقت مضى، بالنظر إلى الحالة الاقتصادية الرهيبة[20] وتنفيذ قانون قيصر من قبل حكومة الولايات المتحدة في حزيران/ يونيو[21]. فإذا رغبت روسيا في المساعدة الإيجابية، فإن بإمكانها أن تسهم في تحسين حياة الشعب السوري، مع الاستمرار في تحقيق أهدافها السياسية في البلاد. وسيؤدي هذا في النهاية إلى تحصيل إرث دائم لروسيا في سورية، لم يكن مبنيًا فقط على الموت والدمار.
العنوان الأصلي للمادة | Mapping Russia’s soft power efforts in Syria through humanitarian aid |
الكاتب | Marika Sosnowski and Jonathan Robinson |
المصدر | المجلس الأطلنطي 25 حزيران/ يونيو 2020 |
الرابط | https://bit.ly/3062TnR |
المترجم | وحدة الترجمة- محمد شمدين |
ماريكا سوسنوفسكي: محامية وباحثة مشاركة في المعهد الألماني للدراسات العالمية ومناطق متخصصة في الشرق الأوسط.
جوناثان روبينسون: محلل أبحاث، يركز على تحليل النزاعات، ووصول المساعدات الإنسانية، وأمن عمال الإغاثة في الشرق الأوسط.
[1] Exploring Russia’s Humanitarian Intervention in Syria: https://www.washingtoninstitute.org/fikraforum/view/exploring-russias-humanitarian-intervention-in-syria
[2] Russia tries to win hearts and minds with aid in Syria: https://www.ft.com/content/e034bdde-96f0-11e8-b747-fb1e803ee64e
[3] http://syria.mil.ru/peacemaking_en.htm
[4] Assad regime maintains strangle-hold over humanitarian access in Syria: https://english.alaraby.co.uk/english/comment/2019/1/22/assad-regime-maintains-strangle-hold-over-humanitarian-access-in-syria
[5] Russian Humanitarian Mission: http://rhm.agency/index.php?action_skin_change=yes&skin_name=Eng
[6] Russian Orthodox Church: http://www.patriarchia.ru/en/db/text/5303131.html
[7] Thousands of Jaysh al-Islam militants leave Syria’s Douma, release POWs: https://www.rt.com/news/423644-jaysh-islam-douma-prisoners/
[8] Syrian Rebels Accept Russian-Brokered Surrender Deal In Homs Enclave: https://www.rferl.org/a/syrian-rebels-accept-russian-brokered-surrender-deal-homs-enclave-/29205593.html
[9] South Syrian rebels agree surrender deal, Assad takes crossing: https://www.reuters.com/article/us-mideast-crisis-syria-idUSKBN1JW108
[10] Bulletins: http://syria.mil.ru/peacemaking_en/info/bulletin.htm
[11] Middle Euphrates River Valley, Syria: https://www.crisisgroup.org/trigger-list/iran-us-trigger-list/flashpoints/middle-euphrates-river-valley
[12] Besiege, bombard, retake: Reconciliation agreements in Syria: https://www.middleeasteye.net/opinion/besiege-bombard-retake-reconciliation-agreements-syria
[13] A Year After The Settlement: Who Is In Control Of Daraa? https://english.enabbaladi.net/archives/2019/08/a-year-after-the-settlement-who-is-in-control-of-daraa/#ixzz6R78KfuMA
[14] Lessons from the Syrian State’s Return to the South: https://www.crisisgroup.org/middle-east-north-africa/eastern-mediterranean/syria/196-lessons-syrian-states-return-south
[15] Between Regime and Rebels: A Survey of Syria’s Alawi Sect: https://www.nybooks.com/daily/2019/07/22/between-regime-and-rebels-a-survey-of-syrias-alawi-sect/
[16] Fewer Than Half of Russians Support Syria Campaign, Poll Says: https://www.themoscowtimes.com/2019/05/06/fewer-than-half-of-russians-support-syria-campaign-poll-says-a65494
[17] Turkey-Syria offensive: Kurds reach deal with Damascus to stave off assault: https://www.theguardian.com/world/2019/oct/13/kurds-reach-deal-with-damascus-in-face-of-turkish-offensive
[18] https://www.usaid.gov/sites/default/files/documents/1866/05.12.20_-_USG_Syria_Complex_Emergency_Program_Map.pdf
[19] Syrian Arab Republic: COVID-19 Update No. 12 – 14 June 2020: https://reliefweb.int/report/syrian-arab-republic/syrian-arab-republic-covid-19-update-no-12-14-june-2020
[20] US ‘Caesar Act’ sanctions could devastate Syria’s flatlining economy: https://www.theguardian.com/world/2020/jun/12/us-caesar-act-sanctions-and-could-devastate-syrias-flatlining-economy
[21] H.R.31 – Caesar Syria Civilian Protection Act of 2019: https://www.congress.gov/bill/116th-congress/house-bill/31/text