الصورة: القاضي ديفيد ري (رئيس المحكمة)، والقاضية جانيت نوسوورثي، والقاضية ميشلين بريدي، في جلسة للمحكمة اللبنانية المدعومة من الأمم المتحدة، لإصدار حكم في قضية أربعة رجال حوكموا غيابيًا على تفجير عام 2005 الذي أدى إلى مقتل رفيق الحريري (رئيس وزراء لبنان السابق) و21 شخصًا آخر، في لايدشندام بهولندا، 18 آب/ أغسطس 2020. رويترز / بيروشكا فان دي وو/ بول.

ترجمة: أحمد عيشة

(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة

غالبًا ما تعلمنا أن نعتقد أن المساءلة القضائية الدولية هي الحلّ النهائي للجرائم المرتكبة. ومع ذلك، بعد أحد عشر عامًا من جلسات المحاكمة، وإنفاق ما يقرب من مليار دولار من قبل مختلف أصحاب المصلحة؛ أظهر حكم المحكمة الخاصة بلبنان في 18 آب/ أغسطس أن العدالة لن تأتي بالضرورة من خلال المحاكم الدولية. في الواقع، مثل معظم الهيئات والآليات الدولية، يمكن أن تكون المحاكم عرضة للأهواء السياسية والعقبات القانونية والبيروقراطيات التقنية والعرقلة والإجراءات المطولة والتكاليف الباهظة. في حالة المحكمة الخاصة بلبنان، أفرغت هذه العقبات ولاية المحكمة، وأوصلتها في النهاية إلى حكم ناقص غير قادر على التأثير في مشكلات لبنان الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتزايدة.

كونها أول محكمة دولية تُنشأ للحكم في الجرائم الدولية المرتكبة في الشرق الأوسط، فستكون بلا شك كنقطة مرجعية لأي آلية قضائية دولية مستقبلية. ومع ذلك، بالنسبة إلى كثير من السوريين الذين شهدوا بعضًا من أفظع انتهاكات حقوق الإنسان، فإن النتائج التي توصلت إليها المحكمة الخاصة بلبنان (التي اقتصرت على إدانة فرد واحد) ليست نتيجةً مرحبًا بها. تقدم أوجه القصور في المحكمة الخاصة بلبنان دروسًا متعددة للمساءلة المستقبلية في سورية، فلا بد من عزل الآليات القضائية عن التدخل والضغط السياسيين، فالعدالة تتطلب مقاربة متعددة الأوجه، والأهم من ذلك أن العدالة الانتقالية هي شرط مسبق ضروري لجهود المساءلة اللاحقة.

المحكمة الخاصة بلبنان

على عكس المحكمتين الجنائيتين الدوليتين ليوغوسلافيا السابقة ورواندا، اللتين تعاملتا على نطاق واسع مع جرائم الحرب، فقد تمتعت المحكمة الخاصة بلبنان بصلاحيات محدودة لإجراء محاكمات للأشخاص المتهمين بتنفيذ هجوم شباط/ فبراير 2005، الذي أسفر عن مقتل رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني السابق، وواحد وعشرين شخصًا آخر. بالإضافة إلى ذلك، كانت للمحكمة صلاحية النظر في سلسلة الهجمات الإرهابية ضد السياسيين اللبنانيين: مروان حمادة، جورج حاوي، إلياس المر، التي وقعت بين تشرين الأول/ أكتوبر 2004 وكانون الأول/ ديسمبر 2005، من حيث إنها “قضايا مرتبطة” بهجوم شباط/ فبراير 2005.

واجهت المحكمة الخاصة بلبنان التي تأسست في عام 2010، وكذلك التحقيق الذي قادته الأمم المتحدة الذي سبقها، عددًا لا يحصى من المشكلات، من ضمنها عدم تعاون الأجهزة الأمنية اللبنانية، التي كان يهيمن عليها نظام بشار الأسد في ذلك الوقت، والأحزاب السياسية المكونة لتحالف الثامن من آذار الذي تهيمن عليه جماعة حزب الله اللبنانية. وتعرّض كل منهما (المحكمة والتحقيق) للعراقيل القضائية المستمرة، وعانيا افتقار الأمم المتحدة إلى الإرادة السياسية لإصدار لوائح اتهام، كما حدث عندما حذر كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، ديتليف ميليس، المدعي العام الألماني، من أنه “لا يريد نقطة ساخنة أخرى”. ولكن الأكثر إثارة للقلق هو وقوع اغتيالات متعددة لشخصيات أمنية وسياسية لبنانية، إلى جانب محاولات اغتيال أخرى مزعومة، وقد أدى ذلك إلى استقالة ميليس المبكرة. حدث هذا بعد أن وضع قائمة تشمل ما يقرب من عشرين مشتبهًا به، تضم مسؤولين لبنانيين وسوريين رفيعي المستوى.

نتيجة لهذه التحديات، قصرت المحكمة حكمها بالإدانة على “سليم عياش”، وهو ناشط غير معروف، لكنه رفيع المستوى في حزب الله. في بناء قضيتها ضد عياش، اعتمدت المحكمة الخاصة بلبنان على أدلة تفصيلية لسجلات الهواتف المحمولة التي كشفت عن محاولات لتتبع تحركات رفيق الحريري. وسام عيد، كبير محققي الإرهاب في لبنان في ذلك الوقت، الذي كشف عن روابط الاتصالات مع عملاء حزب الله عام 2006، اغتيل لاحقًا في عام 2008 من قبل الأشخاص الذين اغتالوا الحريري.

وبينما لمّحت المحكمة إلى حقيقة أن نظام الأسد وحزب الله ربما كانت لهما دوافع للقضاء على الحريري وحلفائه السياسيين، فقد فشلت في إيجاد صلة مؤكدة جازمة بسبب الافتقار المزعوم إلى الأدلة، ولكن بواقعية أكثر، بسبب الافتقار إلى الإرادة السياسية. في الواقع، تم إنهاء الإجراءات ضد مصطفى بدر الدين، القائد العسكري لحزب الله، قبل الوصول إلى حكم قضائي بسبب وفاته في سورية عام 2016. ومع ذلك، بينما حاولت المحكمة محاكمة بدر الدين، فشلت في توجيه اتهامات إلى كبار المشتبه بهم اللبنانيين والسوريين الآخرين الذين حددهم المدعي العام (وكيل النيابة).

دروس لسورية

حتى الآن، فشلت المحاولات السابقة لإحالة الوضع في سورية إلى المحاكم الدولية، على الرغم من وقوع أبشع الجرائم، من ضمنها استخدام الأسلحة الكيمياوية، والتهجير الجماعي لأكثر من 12 مليون شخص، والتدمير الشامل لمناطق كبيرة من البلاد. وبينما لا يُتوقع أن نرى محكمة دولية لسورية في وقت قريب، فإن المحكمة الخاصة بلبنان تقدّم دروسًا مهمة، يجب على السوريين والمجتمع الدولي أخذها بالحسبان في مساعيهم المستمرة لتحقيق العدالة والمساءلة.

عزل المحاكم عن التدخل السياسي

أحد القيود الرئيسة للمحكمة الخاصة بلبنان هو التدخل السياسي، من جانب الطبقة الحاكمة في لبنان -وبشكل مفترض في سورية- حيث أدى في النهاية إلى فصل العملية القانونية عن السياق السياسي الأوسع الذي أدى إلى إنشاء المحكمة. في مقابلة متلفزة، اعترف شارل رزق، وزير العدل اللبناني السابق، بأن المادة الثالثة من المحكمة الخاصة بلبنان (التي تحدد المسؤولية الجنائية الفردية) جاءت نتيجة مفاوضات مباشرة مع حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله. وبذلك، كانت المحكمة مقيدة -أو كانت معوقة- من خلال تفويضها الفني للبحث عن الجرائم الفردية، من دون جمع الأدلة الكافية للإجابة على الأسئلة الأساسية حول الذي أمر بعمليات القتل ولماذا. وقد أشارت المحكمة، في قرارها المؤلف من 2,600 صفحة، إلى دوافع سياسية أوسع، لكنها افتقرت إلى الأدلة المباشرة لتورط حزب الله أو سورية في الجرائم.

علاوة على ذلك، أدى الضغط السياسي إلى خلق سقف يُضرب به المثل، بالنسبة إلى المحكمة، وأدى إلى عدم كفاءة التحقيق وانعدام الإرادة السياسية، لتحديد المشتبه بهم الجدد، أو إصدار لوائح اتهام للمشتبه بهم الذين تم تحديدهم -ومن ضمنهم كبار المسؤولين اللبنانيين والسوريين- وحتى في إطلاق سراح المشتبه بهم المسجونين. في نهاية المطاف، دانت المحكمة عياش غيابيًا فقط، من دون التأكيد على مزيد من العلاقات في التسلسل القيادي.

بالنظر إلى المخاطر الشديدة للتدخل السياسي، يجب على السوريين والمجتمع الدولي العمل على ضمان أن أي آلية مساءلة دولية مستقبلية ستتمتع باستقلالية كافية للتحقيق والمحاكمة، ليس فقط للأفراد، ولكن الأهم من ذلك، الهيئات والأنظمة السياسية التي تقف وراء الجرائم المرتكبة في سورية. لا ينبغي للمساءلة الحقيقية أن تحاسب الجرائم الماضية فحسب، بل يجب أن تساعد في وضع حد لثقافة طويلة الأمد للإفلات من العقاب تسمح بتكرار مثل هذه الجرائم. يمكن أن يحدث هذا فقط عندما لا تُخضَع دعوات العدالة للمصالح والتدخلات السياسية.

العدالة توجب مقاربة متعددة الأوجه

بعد اغتيال الحريري، رئيس الوزراء اللبناني السابق، نزل ملايين اللبنانيين إلى الشوارع في ما عُرف بـ “ثورة الأرز”، مطالبين بالحرية والسيادة والاستقلال. ونتج عن هذا الحراك الشعبي، المقترن بالضغط الدولي، التغيير الأكثر وضوحًا في تاريخ لبنان الحديث: انسحاب القوات السورية من لبنان، بعد تسعة وعشرين عامًا من الاحتلال العسكري. ولدت روح مماثلة من المقاومة الشعبية من جديد، هذه المرة، تدعو إلى إصلاح شامل للنظام الطائفي الذي كان مسؤولًا عن الفساد المستشري، والحكم الطائفي، وانعدام الشفافية.

وبالمثل، خرج السوريون إلى الشوارع، مرارًا وتكرارًا، للمطالبة بالإصلاح السياسي والحرية والعدالة. لعب المجتمع المدني السوري دورًا أساسيًا في تنظيم وتوثيق ومناصرة المساءلة القضائية، ومهّد ذلك الأمر الطريق للمحاكم الأوروبية لتطبيق الولاية القضائية العالمية على القضايا المرتبطة بأنواع قليلة من الجرائم الدولية. وقد أدت هذه الجهود إلى إصدار مذكرات توقيف دولية، بحق كل من علي مملوك، جميل حسن، عبد السلام محمود -بعض كبار مسؤولي مخابرات النظام السوري- ودفعت إلى المحاكمة الجارية ضد ضابطي مخابرات سوريين في ألمانيا.

ومع ذلك، بينما ينظر كثير من السوريين إلى المحاكم الدولية على أنها الرموز المطلقة للعدالة، فإن المحكمة الخاصة بلبنان هي تذكير صارخ بأن المحاكم الدولية تخضع لقيود كثيرة. في السياقات شديدة التسييس، كما هو الحال في لبنان وسورية، حتى المحاكم الدولية، يمكن أن تخضع لتأثيرات سلبية. لا يمكن ولا ينبغي أن تعتمد المساءلة في مثل هذه السياقات على المحاكم والآليات الدولية حصريًا. بدلًا من ذلك ، يجب أن تكون مقاربة المساءلة متعددة الأوجه، وأن تتضمن استخدام الولايات القضائية الأخرى (مثل الولاية القضائية العالمية)، والمناصرة، والمجتمع المدني القوي، وفي نهاية المطاف، تتمثل المهمة الشاقة في توليد ثقافة العدالة الاجتماعية.

العدالة الانتقالية: شرط مسبق للمساءلة

على الرغم من انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية قبل ثلاثين عامًا، فإنها ما تزال تؤثر حتى يومنا هذا في لبنان. منح اتفاق الطائف -اتفاق السلام في لبنان- العفو العام والحصانة لأمراء الحرب المسؤولين عن مقتل أكثر من 150 ألف شخص، وتشريد أكثر من ربع إجمالي السكان، وتدمير مناطق كبيرة من البلاد، ومنع أي محاولات لتحقيق العدالة أو المساءلة المهمة. وعزّز الاتفاق المذكور الترتيب الطائفي لتقاسم السلطة في لبنان، وزاد من ترسيخ الفساد المستشري والحكم بطريقة الميليشيات.

نتيجة لذلك، بعد عقود، فشل إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان في تحقيق مساءلة ذات مغزى، أو في المساعدة في تحفيز وضع حد لثقافة الإفلات من العقاب التي سادت لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية. في الواقع، استمرت الاغتيالات السياسية حتى بعد إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان.

مثل لبنان، من غير المرجح أن تشهد سورية أي عدالة انتقالية حقيقية، في المستقبل المنظور. على الرغم من القرارات الدولية وقرارات الأمم المتحدة التي تدعو إلى المساءلة والانتقال إلى دولة تحترم سيادة القانون، لم يتم القيام بشيء لتحقيق هذه المطالب. في الوقت الحاضر، اختُصرت العملية السياسية السورية بالتفاوض على الدستور، وهو نص قانوني لا يمكن أن يضمن انتقالًا سياسيًا حقيقيًا أو عدالة اجتماعية. في الواقع، غالبًا ما رفضت الأطراف الدولية، ووسطاء الأمم المتحدة، الدعوات إلى المساءلة، باعتبارها عوائق أمام عملية السلام وليست شروطًا مسبقة ضرورية. ومع ذلك، من دون هذا الأساس الانتقالي، من المرجح أن تكون أي محاولة مستقبلية للمساءلة الدولية معرضة للخطر وقاصرة، على غرار الحالة اللبنانية.

على حين أن المحكمة الخاصة بلبنان، وللمرة الأولى، قد حدّدت -بشكل مباشر وغير مباشر- مَن يقف وراء واحدة من كثير من الاغتيالات السياسية التي ما زالت تهزّ لبنان منذ عقود، أمل كثيرون في لبنان بكسر حلقة الإفلات الطويلة من العقاب على جرائم القتل السياسي في لبنان. ومن سوء الحظ، أن نتائج المحكمة سلطت الضوء فقط على الفساد المستشري بين الطبقة الحاكمة والميليشيات في لبنان، وكشفت قابلية التأثر الحقيقية للآليات الدولية، لا سيّما في البيئات شديدة التسييس. ومع الأسف، جاء حكم المحكمة الخاصة بلبنان، بعد أسبوعين من الإهمال السياسي الإجرامي الجسيم الذي تسبب في واحد من أكبر الانفجارات التي صنعها الإنسان في التاريخ، وأدى إلى مزيد من الدمار في البلاد المدمرة.

على الرغم من أوجه القصور في المحكمة الخاصة بلبنان، لا يسع المرء إلا أن يأمل في ألا يكون لها تأثير مخيف على الدعوات إلى المساءلة الدولية في لبنان وسورية وغيرهما، في الوقت الحاضر. وبدلًا من ذلك، يجب أن تسلط الضوء على الحاجة إلى إصلاح سياسي واجتماعي حقيقي، وعدالة انتقالية، ومجتمع مدني متمكن، وآلية قضائية معزولة محمية من الضغط والتدخل السياسيين. ومن دون هذه الإجراءات، فإن جهود المساءلة لن تكون أكثر من ضِمادات بسيطة على جروح بليغة.

اسم المقالة الأصليThe limits of the Special Tribunal for Lebanon and what Syrians can learn
الكاتبريم صلاحي وبشار الحلبي، Reem Salahi and Bachar El-Halabi
مكان النشر وتاريخهالمجلس الأطلسي،Atlantic Council، 16 أيلول/ سبتمبر 2020
رابط المقالhttps://bit.ly/3mCMHFf
عدد الكلمات1672
ترجمةقسم الترجمة/ أحمد عيشة