ترجمة أحمد عيشة
(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
يحمل الوجود الأميركي في الشرق الأوسط تكاليف مخفيّة وأخطارًا غير معروفة، وفوائد رمزية في الحفاظ على الوضع الراهن. فرض “التحوّل إلى آسيا”، في ظل إدارة أوباما، تحقيق موازنة تأمين المصالح الأميركية في الشرق الأوسط بموارد أقلّ. يجب أن تفكر الولايات المتحدة في تصرفات الماضي، وتحديدًا الثقل الإستراتيجي الذي تراكم على مدى أعوام من الالتزامات العسكرية المتزايدة. وهذه إحدى دراسات الحالة الرئيسة عن الثقل الإستراتيجي في سورية.
يشير “الثقل الإستراتيجي” إلى التزام عسكري يتجاوز فائدته. ويحدث هذا عندما يكون تصوّر التكاليف، بشكل عام، إما مرتفعًا للغاية، والفوائد منخفضة جدًا، أو عندما تكون الأخطار كبيرة إلى درجة تعذّر الاستمرار. يؤثر تراكم الثقل في الخيارات الأخرى، من حيث الأولويات والأهداف العالمية وتوزيع القوات العسكرية. وبهذه الطريقة، فإن ذلك يعوق قدرة أميركا على اتخاذ خيارات إستراتيجية للمضي قدمًا، لأننا مرتبطون بالماضي، ولا يمكننا مسح الصفحة والبدء من جديد.
بينما تحاول الولايات المتحدة التركيز على منافسة القوى العظمى، لدينا ثقل في الشرق الأوسط يجب أن نتركه. على سبيل المثال، غالبًا ما تبدو الأهداف الإستراتيجية للولايات المتحدة في سورية مرتبكةً، والدور العسكري غير واضح. الجنرال كينيث ماكنزي، بصفته قائد القيادة المركزية، قال: “ليس هناك حلٌّ عسكري قابل للتطبيق، للصراع في سورية”. ومع ذلك، من دون سياسة واضحة للمصالح الأميركية -والأهم من ذلك، من دون مسار واقعي للمضي قدمًا- سنبقى أمام التزام عسكري مفتوح على الإجابات المختلفة. وفي محاولة لتحقيق التوازن بين المصالح الإقليمية والعالمية المتنافسة، ينتهي بنا الأمر إلى الحفاظ على الوضع الراهن. ومن الأمثلة على هذا النوع من المواقع الإستراتيجية التي يجب التخلص منها، حامية التنف في سورية. في هذه المرحلة، التنف هي ثقل إستراتيجي، لأن الحفاظ عليها يفوق معظم الفوائد الإقليمية، ويؤثر في توفّر الأصول/ الموجودات العسكرية للبعثات الأخرى.
التبريرات المقترحة للحفاظ على التنف
التنف هي موقع متقدّم صغير، بالقرب من منطقة الحدود الثلاثية في جنوب شرق سورية، على طول الطريق السريع بين بغداد ودمشق. وهناك وجود عسكري أميركي رمزي إلى جانب قوة شريكة: مغاوير الثورة (التي كانت تُعرف سابقًا باسم الجيش السوري الجديد). في الأصل، كانت المنطقة تحت سيطرة تنظيم (داعش)، لكن القوات الصديقة احتلتها في أوائل عام 2016. وفي صفقة مع الروس، كانت هناك منطقة خفض تصعيد، بطول 55 كيلومترًا، حول الحامية التي يحرسها الأميركيون وشركاؤهم.
حاليًا، هناك ثلاث مبررات على الأقلّ لاستمرار الوجود الأميركي في التنف: اعتراض فلول (داعش)؛ وتعطيل الاقتصاد السوري والنفوذ الإيراني؛ والتأثير السياسي في المفاوضات.
أولًا: بفضل نجاح التحالف، نجحت عملية “العزم الصلب” في مهمتها بهزيمة (داعش) وطرد المجموعة من المنطقة. ونتيجة لتقييد حرية التنقل بسبب الوجود العسكري الأميركي، اندمج أعضاء (داعش) الباقون مع (100) ألف من البدو والمهجرين السوريين الذين يعيشون في منطقة عدم الصراع أو خفض التصعيد هذه.
ثانيًا: يفرض تعطيل حركة النقل على طول الطريق السريع بين بغداد ودمشق، نظريًا، ضغوطًا اقتصادية على النظام السوري، ويحرمه من أحد الجسور البرية الثلاث المحتملة بين إيران والبحر الأبيض المتوسط. واعترف الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية السابق، بوجود “تأثير غير مباشر” في تقييد الأعمال الإيرانية. حتى مع الأخذ في الحسبان مصلحة الولايات المتحدة في مساعدة أمن إسرائيل، فإن الوجود الأميركي ليس قيدًا كبيرًا. ولو كان للوجود الأميركي تأثير أكثر أهمية، فلن تكون هناك حاجة إلى إسرائيل لزيادة ضغطها على النشاط الإيراني في سورية. الفريق غادي آيزنكوت، رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي السابق، قال إنه حصل على موافقة بالإجماع من حكومته، في كانون الثاني/ يناير 2017، للرد على إيران. وكانت النتيجة أن الهجمات الإسرائيلية “أصبحت أحداثًا شبه يومية”، حيث قامت إسرائيل برمي 2000 قنبلة في عام 2018 وحده. وعلاوة على ذلك، تتنقل القوافل بشكل روتيني في الصحراء المفتوحة (وإن كان ذلك أبطأ) لتتجاوز بشكل فعال منطقة خفض التصعيد.
المبرر الأكثر أهميّة هو إمكانية استخدام التنف في التفاوض على نتيجة مقبولة في سورية. فالتمسك بالأرض هناك يعقّد الخطط الروسية والإيرانية والسورية، حيث تريد الجهات الثلاث جميعها طرد الوجود الأميركي، من أجل الحصول على حرية أكثر لتوسيع النفوذ.
بينما يعتقد البعض أن الوجود العسكري في التنف ضروري لتقويض الاقتصاد السوري، وتعطيل الخطط الروسية والإيرانية، وإبقاء باب النفوذ الدبلوماسي مفتوحًا، فإن هذا يفترض أن تكون التكاليف والأخطار منخفضة، وأن هناك مزايا أمنية وسياسية في هذا النوع من الترتيب مفتوح النهايات، لكن هذه التبريرات قد ولّت.
التكاليف
هناك تكاليف مادية وأخرى غير ملموسة للحفاظ على الوجود الأميركي والبقاء في التنف. تبلغ الميزانية المطلوبة لهذا العام لتدريب وتجهيز قوة لمكافحة (داعش) 200 مليون دولار. وهناك حاجة إلى جزء صغير فقط من هذا المبلغ، لدعم العمليات والقوة الشريكة في التنف. ومع أن هذه صفقة، فإن التكاليف الحقيقية للحفاظ على التنف أكثر تعقيدًا.
يستدعي تأمين التنف عددًا أكبر من العدد القليل الموجود من القوات. أولًا، يجب أن تكون القوات قادرة على حماية نفسها بقوة ردة فعل سريعة، ودعم مدفعي، وقدرة طبية، وجهد استخباراتي قوي لاكتشاف التهديدات. ثانيًا، يجب أن تكون لديهم قوة نيران قريبة أو تحت الطلب، للردع، وإذا لزم الأمر، للرد على العدوان. إن احتمال استخدام القوة الجوية للتحالف للدفاع عن العلم الأميركي فوق التنف هو الرادع الحاسم. لكن هذا يفرض أن تكون الطائرات في الجو، وأن تُزوّد بالوقود، وأن تكون جاهزة للقتال في أي لحظة.
التكلفة العسكرية النهائية والأقل تقديرًا هي كيفية قيادة هذه القوة واستدامتها. هناك مستويات قيادة متعددة تحتاج إلى موظفين للتنقل في البيئة الدولية المعقدة والحساسة. من الناحية اللوجستية، لا توجد طرق معبدة إلى التنف، أو مطارات، لذلك تصل جميع الإمدادات تقريبًا عبر قوافل عبر الصحراء. وأخيرًا، هناك ثلاث إلى أربع وحدات في الوطن في مراحل مختلفة من التحضير للانتشار لدعم الوجود الأميركي المستمر. لذلك، فإن أي أثر مطلوب في المسرح السوري، لدعم العمليات في التنف، يجب أن يتضاعف بمعدل من ثلاثة إلى أربعة لتغطية التكلفة الإجمالية للوجود المستمر. حتى مع وفورات الحجم [وهي مزايا التكلفة التي تحصل عليها الشركات بسبب حجم عملها، فتتناقص تكلفة إنتاج وحدة إضافية من السلعة، كلما زاد حجم الإنتاج] من خلال توحيد أنشطة الدعم، ومن ضمنها المتعاقدون، فإن نسبة الدعم والموظفين للحفاظ على وجود القوات المنتشرة حوالي أربعة إلى واحد. عند تطبيقها في جميع أنحاء المنطقة، يتناقض إجمالي الدعم المطلوب لـ “كامل العملية” بشكل حاد، مع فكرة أن الوجود الفعلي للقوات منخفض. وكحال أي وجود أميركي منتشر، ليست “القوات البرية” سوى قمة جبل الجليد.
هناك أيضًا تكاليف لسمعة الوجود الأميركي في جنوب سورية. أولًا، مخيم النازحين على الحدود الأردنية السورية في الركبان، على بعد حوالي 35 ميلًا من التنف، يأوي ما يصل إلى 60 ألف شخص. ويعتقد كثيرون في المجتمع الدولي أن مسؤولية العناية بهم تقع على عاتق الولايات المتحدة، لكونها تسيطر بشكل فعال على المنطقة من خلال وجودها في التنف. تعوق المنافسة الجيوسياسية والمخاوف الأمنية المشروعة، والوباء في الآونة الأخيرة، عملية تخفيف المعاناة الإنسانية. وثانيًا، من حيث القانون الدولي، نحن منفتحون على التدقيق المحلي والدولي. بالنسبة إلى بعض الأميركيين، من السخرية أن تروّج الولايات المتحدة لاحترام السيادة، بينما تحتل أجزاء من سورية ضد إرادة الحكومة، من دون تبرير واضح بموجب القانون الدولي، حيث توفر للروس نقاط نقاش كثيرة. وعلاوة على ذلك، أثارت الإجراءات الأميركية هناك مناقشات حول وجودها المتوسع: ألا يزال مبررًا قانونيًا أم لا؟ وكيف يمكن للتجربة أن تؤسس ممارسة الدول لتشكيل معايير قانونية دولية مستقبلية بطرق قد لا تفيد المصالح الأميركية على المدى الطويل؟
أخيرًا، هناك أخطار تصعيدية مصاحبة للوجود العسكري الأميركي المنتشر في التنف. لقد تصرفت روسيا بالفعل بشكل استفزازي ضد قوات التحالف في التنف، في حالتين على الأقل: في حزيران/ يونيو 2016، وأيلول/ سبتمبر 2018. ونجح النظام السوري والوكلاء المدعومون من إيران في تطهير التضاريس خارج منطقة خفض التصعيد هذه التي يبلغ طولها 55 كيلومترًا والتي عزلت القوات في التنف. في أعمال الدفاع عن النفس، قصفت قوات التحالف القوات الموجهة من إيران في ثلاث مناسبات على الأقل، وأسقطت طائرة إيرانية من دون طيار (درون). فهل ستكون الولايات المتحدة قادرة على السيطرة على التصعيد، إذا قُتل أي أميركي؟
الخطر النهائي، وهو الأكبر على الإطلاق، هو خطر عدم الانتباه أو الإهمال. إن قرار عدم التصرف هو فعل بحد ذاته. وإن الحفاظ على هيكل القوة مع تطور الأوضاع على الأرض يؤثر في قدرة أميركا على العمل والتشغيل والتركيز في مناطق أخرى من العالم. هذا هو جوهر الثقل الإستراتيجي. هناك أسباب قليلة لتوقع اتخاذ إجراء بشأن السياسة السورية، نظرًا للأولويات المحلية وقضايا الأمن القومي ذات الأولوية العليا. ببساطة، إن دعم المهمة إلى أجل غير مسمى يشغل الموارد التي يمكن استخدامها في مكان آخر.
للولايات المتحدة دورٌ تلعبه من أجل ضمان بقاء (داعش) ضعيفة، وبقاء الشركاء آمنين، وتلبية الاحتياجات الإنسانية. يمكن لوجود أميركي صغير في شمال شرق سورية أن يواصل الضغط على (داعش) وطمأنة “قوات سوريا الديمقراطية”. ومع ذلك، من دون أهداف واضحة لسياسة الولايات المتحدة داخل سورية، من الصعب الحكم على الفائدة من التنف.
لقد تحمّلت أميركا العبء الإستراتيجي في الشرق الأوسط على مرّ السنين. والتنف هي واحدة من الالتزامات العسكرية العديدة في المنطقة. مقارنة بالمشاركات الأخرى، فإن جهود الولايات المتحدة تحقق عائدات صغيرة من الاستثمار. على سبيل المثال، فإن استمرار الوجود في شمال شرق سورية لمكافحة الإرهاب أمرٌ منطقي، لكن يجب أن نكون أكثر جدية، عندما تتراكم التكاليف والأخطار من دون تحسّن واضح. بالنظر إلى الاهتمام الواضح في واشنطن بتقليص طموحات الولايات المتحدة والوجود العسكري في الشرق الأوسط، يمكن للولايات المتحدة استخدام التنف كوسيلة ضغط في المفاوضات مع روسيا وسورية.
ربما تستطيع الولايات المتحدة سحب قواتها من التنف، لإقناع روسيا وسورية بالانخراط في قرار مجلس الأمن رقم (2254) الذي نال موافقة الجميع، فضلًا عن الالتزامات المضمونة بالسماح للأمم المتحدة بتقديم المساعدة الإنسانية لسكان الركبان والسماح لهم بالعودة إلى منازلهم. يجب علينا أيضًا التفاوض على ممر آمن للقوة الشريكة لطمأنة الآخرين في المنطقة الذين قد يفكّرون في العمل معنا في المستقبل. ويمكن أن يؤدي اتخاذ هذه الإجراءات في الوقت نفسه إلى تخفيف العبء العسكري الأميركي، وإعادة تنشيط الأمل في عملية السلام المخنوقة.
اسم المقالة الأصلي | Al Tanf garrison: America’s strategic baggage in the Middle East |
الكاتب | دانييل ماغرودر، Daniel L. Magruder |
مكان النشر وتاريخه | معهد بروكينغز، Brookings، 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 |
رابط المقالة | https://brook.gs/2JtrXk4 |
عدد الكلمات | 1517 |
ترجمة | قسم الترجمة/ أحمد عيشة |