عنوان المادة الأصلي باللغة الإنكليزية: | THE DECAY OF THE SYRIAN REGIME IS MUCH WORSE THAN YOU THINK |
اسم الكاتب | توبياس شنايدر TOBIAS SCHNEIDER |
مصدر المادة الأصلي | War on the Rocks |
رابط المادة | http://warontherocks.com/2016/08/the-decay-of-the-syrian-regime-is-much-worse-than-you-think/ |
تاريخ النشر | 31 آب/ أغسطس 2016 |
المترجم | فاتن شمس |
توبياس شنايدر، تخرج حديثًا من كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز، ويعمل بشكل مستقل كمحلل عسكري، مختص في الشؤون العسكرية في الشرق الأوسط، وقد أمضى سنوات، داخل بلاد الشام وخارجها، يتتبع عن كثب الديناميات بين النظام، والقوى الموالية، وحلفائهم في سورية.
المحتويات
ثانيًا: الجريمة والعقاب: قوات النمر في حماة
مقدمة
في مقابلة لصحيفة فورن بولسي، أجراها–مؤخرًا- آرون ديفيد ميلر مع روبرت مالي، أحد أكثر مستشاري الرئيس الأميركي ثقة في شؤون الشرق الأوسط، عدَّد مالي –مجددًا- أولويات السياسة الأميركية المتنافسة في سورية: ضرورة الموازنة بين الهواجس الإنسانية، والرغبة في “الحفاظ على مؤسسات الدولة”، وتجنب حدوث فراغ في السلطة، بحيث لا تنزلق البلاد إلى فوضى عارمة.
على مدى السنوات الثلاث الماضية تحديدًا، لم تكن هذه الحجة دعامة أساسية لأولئك الذين يدعمون سياسة أميركية محدودة، ومحسوبة بدقة، في سورية، بما يتماشى مع الإدارة الحالية، وإنما حجة لعدد من المعلقين الذين يكتبون، سواء بشكل صريح أم ضمني، دفاعًا عن دمشق. في مقالتين تحريفيتين نشرتا مؤخرًا على مدونة “حرب على الصخور”، يقدم كاتب باسم مستعار نظام الأسد على أنه نظام لا يرحم، لكنه نظام علماني، وتعددي على الأقل، والأهم من ذلك، أنه آخر معاقل السلطة المركزية المدنية، في الشرق الأوسط المضطرب. وبينما يصوغ إميل هوكايم الذي لا يكلُّ، ردًا بليغًا بشأن الديناميات الطائفية في بلاد الشام، فإن سؤالًا بالقدر نفسه من الأهمية قد طُرح في المقالة، ويتطلب الإجابة: ما الذي تبقى –حقًا- من الدولة المركزية السورية؟
أوّلًا: حالة من الإنكار
بعد الانهيار السريع لقواته في معركة إدلب، في العام الماضي، ألقى الرئيس بشار الأسد كلمة، بتغطية إعلامية واسعة، اعترف فيها أن قوات النظام المسلحة تعاني نقصًا شديدًا في العناصر البشرية، وأن عليها الانسحاب من بعض الجبهات. وقبل أشهر عدة، كانت الصحف قد نشرت تقارير حول المساعي اليائسة للتجنيد الإجباري، والطوعي، في جميع أنحاء البلادـ وفي أواخر تموز/ يوليو، بدا الأسد منهارًا تحت الثقل المتراكم لسنوات من الاستنزاف البطيء، والانشقاقات، ما تطلَّب تدخلًا مشتركًا، روسيًا وإيرانيًا، في محاولة لقلب الموازين لمصلحة النظام. وبحلول شباط/ فبراير من هذا العام، اتفق محلّلون من داخل الحكومة، وخارجها، على أنهم نجحوا في مسعاهم إلى حد بعيد.
ووفقًا لمتابعتي الشخصية، ودراستي لوضع قوات النظام المسلحة منذ سنوات، فإنني أختلف معهم في الرأي؛ فبقدر ما جَهِدَ المراقبون في محاولات تقدير قوة النظام، لا تزال محاولتهم تعاني نقصًا تحليليًا؛ إذ أعطوا أهمية كبيرة لعدد الجنود المرسلين إلى المعارك، وكذلك للأميال المربعة من مساحة الأراضي تحت السيطرة (الأسود أقل، الأحمر أكثر – سيطرة داعش أقل، سيطرة الجيش العربي السوري أكثر) بدلًا من تدابير حكومية أكثر ليونة، للامتداد والسيطرة، من قضايا الحكم، والقضايا الاقتصادية، إلى التمايز النوعي للقوات. مع تدهور النظام، تتدهور هيكلية قواته، ومع ذلك، وإن كانت مجازفتنا في بناء الدولة في العراق وأفغانستان قد علّمتنا شيئًا، فقد كان علينا ألَّا ننخدع بالمظاهر الشكلية لمؤسسات الدولة الضعيفة، ونتجاهل خرائط برموز لونية، موضوعة بمقاييس مغلوطة.
في جوهرها، تكاد تكون الحرب الأهلية –دومًا- خلافًا على المبادئ الأساسية للحياة المجتمعية، والمؤسسات التي ترسم هيكليتها، وعلى هذا النحو، لا تقل ديناميات الحكومة الداخلية أهمية عن النجاحات الميدانية، وحركة الخطوط الأمامية. وبالتالي، وما لم تستنفد سورية –سريعًا- الذكور ممن هم في سن التجنيد، والأسلحة الصغيرة، وشاحنات البيك أب، فمن الأفضل لنا أن نبدأ في الاهتمام بالديناميات الهيكلية، التي يقوم عليها صراع محتدم لأكثر من خمس سنوات حتى اليوم.
وفي الواقع، وبعد خمس سنوات من الحرب، فإن هيكلية قوات النظام اليوم، لا تختلف –في المطلق- عن هيكلية ميليشيات المعارضة؛ فعلى الرغم من إمدادات بنية خدمات الجيش العربي السوري اللوجستية القائمة حتى الآن، تتألف قوات الحكومة المقاتلة –اليوم- من مجموعة مذهلة من الميليشيات شديدة الانتماء المحلي، المتحالفة مع كل الفصائل، والرعاة المحليين والأجانب، وأمراء الحرب المحليين. وتقدم اللمحات الموجزة حول الميليشيات الموالية، في مدونة أيمن التميمي، رؤية حول خلفياتهم المتنوعة؛ فمن بين تلك الجماعات، لم يتبق إلّا حفنة قادرة على فعل شيء يشبه العمل الهجومي، وإن كانت القيود الطائفية، أو الديموغرافية، سببًا لهذا التشرذم، فإن سببه المباشر، والأكثر تأثيرًا، هو تداخل الضغط الاقتصادي، المحلي والوطني، وضغط إدارة الحكم. ومع ضمور ما كانت يومًا دولة مركزية شمولية في سورية، اكتسبت مكوناتها –سواء، أكانت طائفية، أم ريعية، أم مجرّد بهيمية متوحشة- درجة صاعقة من الاستقلال السياسي والاقتصادي، عن مركز النظام في دمشق. وخلافًا لما يدّعيه آخرون، لم يعقد نظام الأسد صفقة كبرى مع شريحة كبيرة من السكان السُّنَّة في المدن السورية، إنما على العكس، رفع إلى السلطة أكثر العناصر وحشية في البلاد، وضاعف استثماره في الميول الطائفية، والقبلية، والعُصابية.
واليوم، وبينما تُظهر خرائط الإحاطة لونًا أحمر محكمًا، يشمل محافظات سورية الغربية، فلا بد من تمييز عشرات، وربما مئات، من الإقطاعيات الصغيرة الموالية اسميًا –فقط- للأسد. وفي الواقع، تؤدي قوات الأمن الموالية، في معظم أنحاء البلاد، مهمة أشبه بمخطط ابتزاز ضخم: يشكل –في آن واحد- سببًا ونتيجة لانهيار الدولة على المستوى المحلي.
ثانيًا: الجريمة والعقاب: قوات النمر في حماة
يعرف أولئك المتابعون للحرب الأهلية السورية عن كثب، التشكيلين المتنقّلين المسؤولين عن معظم مهمّات النظام الصعبة؛ فهما ما يطلق عليهما “قوات النمر”، و”صقور الصحراء” -إن تتبع ميليشيات النظام أصبح، حقًا، تمرينًا في التصنيف، فهي على الأغلب من فصيلتي الطيور والقطط الكبيرة- وهما اللذان يعملان حاليًا في حلب واللاذقية، على التوالي. ويعمل عناصر هاتين الوحدتين كفوج إطفاء مسلّح: يندفعون عبر البلاد، يخمدون الحرائق المحلية، وهجمات “الثوار”، بينما يشنون هجماتهم الخاصة أحيانًا. وفي تلك الحالات، وبطريقة المعارضة نفسها، يحشدون تشكيلة عجيبة من أمراء الحرب المحليين، وفلول النظام، والدعم الخارجي، في تحالفات موقّتة، وغرف عمليات.
كمدخل إلى التعرف إلى قوات النمر، نعود إلى الوصف المتملق لقائدهم سهيل الحسن، الذي عَنون به روبرت فيسك مقالته “مقابلة مع النمر […] جندي بشار الأسد المفضَّل”. الحسن، هو أحد ضباط إدارة الاستخبارات الجوية مرهوبة الجانب، وإلى جانب قيادته لما يقال أنها الأقوى بين قوات النخبة الحكومية المقاتلة، يُعتقد أنه أحد مهندسي حملة الأرض المحروقة، والبراميل المتفجرة، التي قام بها الأسد، ويحظى الحسن بشعبية تصل حد العبادة، بين مؤيدي النظام.
ليس من إبهار يُذكر في القصة الحقيقية لقوات النمر، إلا أنها تثير اهتمام أولئك الذين يحاولون فهم النظام حقًا؛ فخلال الأيام الأولى للانتفاضة ضد الأسد، عمل الحسن على تنسيق عمليات قمع التظاهرات في حماة، معتمدًا على مجموعة من الشبيحة، وضباط القوات الجوية، والزعماء القبليين، وكانت فعاليته تكمن في قدرته على حشد الدعم المحلي، بدلًا من الاعتماد على مؤسسات الدولة المتداعية بالفعل. وفي الوقت الملائم، تطورت شبكة المرتزقة هذه لتصبح ما يسمى اليوم بقوات النمر، ومع أن الوحدة قد طوّرت -منذ ذلك الوقت- نواة أكثر استقرارًا، من الجنود شبه الدائمين، لا يزال مُوالو النمر –اليوم- ينحدرون من شبكة واسعة من الميليشيات، والمجرمين، والمهربين، تمتد عبر مناطق وسط سورية، ومحافظة حماة، الأكثر إستراتيجية، كما يزعم. وقد اشتهر كثير من أتباعه بسوء السمعة في البلاد بأكملها، بسبب ما يقومون به من سرقة، وتهريب، وأعمال خارجة على القانون؛ ففي وقت سابق من هذا العام، تمادى عليالشلي، وهو مجرم نافذ من بلدة تل سلحب، ويتبع تبعية مباشرة للحسن، في اعتداءاته إلى حد أوصل النظام –أخيرًا- إلى اعتقاله وسجنه، ولكن، لم تكن إلّا أيام حتى أُطلق سراحه، وأُعيد إلى الجبهة.
لا ينبغي النظر إلى حوادث كهذه، على أنها مجرد اقتتال داخلي بيروقراطي بسبب الفساد؛ فوفقًا للمقابلات التي أجريتها، فإن أمراء الحرب الموالين للحسن، يُعرفون -على نطاق واسع- بتهريب الأسلحة، والأشخاص، والنفط، إلى داعش ومناطق سيطرة المعارضة، ما يقوِّض أي جهد حربي يقوم به النظام، لكن ما من خيار أمام الحكومة المركزية، إلا الوقوف عاجزة. وبحسب تقارير في حوزتي، يسرد تقرير من الشهر الماضي، لمجلس الأمن الإقليمي في الجيش العربي السوري، تفاصيل حادثة حيث ضُبطت شاحنة محملة بأسلحة مهربة، مخبأة تحت أكياس من الطحين، تقودها قوات الشلي، التي خرجت من الحادثة دونما توقيف، أو عقوبة تُذكر، بعد تبادل إطلاق نار مطوَّل مع قوات الأمن الحكومية. وقد يتساءل المرء عن السبب، إلا أن الإجابة غاية في البساطة: ففي هذا الوقت، ما من قوة موالية لدمشق، تتمتع بالقوة الكافية لوضع حد لهؤلاء اللصوص. وبعد أيام من ذلك، قتل خمسة جنود من الاستخبارات العسكرية، في كمين نُصب لهم في منطقة عصابة الشلي، في جنوب سهل الغاب، وقد حاول عدد من مؤسسات الدولة احتواء قوات النمر، لكن من دون جدوى، ويُشاع أن واحدة على الأقل، من محاولات اغتيال الحسن المتعددة، قد دُبّرت في مقر الاستخبارات العسكرية.
ثالثًا: تأثير النفط
إلى جانب القليل المتبقي من أعمال الزراعة، أصبح الإتجار بالنفط، والسلاح، والأشخاص، شكلًا سائدًا للنشاط الاقتصادي في جميع أنحاء سورية، الأمر الذي تنتفع منه الميليشيات الموالية، بالطبع؛ فسرعان ما تعلمت الجماعات المسلحة، التي يُزعم أنها تعمل تحت راية الأسد، استغلال اختناقات الاقتصاد المحلي لتحرير أنفسهم من وصاية دمشق –ولا سيما عندما يتعلق الأمر بأكثر السلع القابلة للاستبدال: النفط. في حادثة وقعت هذا الصيف، في حماة، ضبطت قوات الجيش السوري عددًا من شاحنات الصهاريج، التي تهرب النفط إلى أراضي الدولة الإسلامية (داعش)، وخوفًا من ردّ انتقامي من طلال دقاق، وبدلًا من مصادرة النفط، وتوزيعه بحسب القوانين، أسرع الضباط إلى تسليمه لمديرية الاستخبارات الجوية في المنطقة، حيث اختفى النفط هناك مجددًا، بحسب مصدر محلي في حماة.
ليست سورية دولة نفطية، غير أن مبيعات النفط كانت تمثل أكثر من خمس وعشرين في المئة، من إيرادات الحكومة قبل الحرب، كما كانت مسؤولة عن جزء كبير من احتياطات النقد الأجنبي في البلاد. لكن، وبعد سنوات من الحرب، انهار اقتصاد النظام الموجه الرسمي تمامًا، ولا سيما في قطاعي النفط والغاز، وفي هذا الصيف، فجّر مسلّحو الدولة الإسلامية (داعش) آخر منشآت الغاز الكبرى العاملة في البلاد، ما أدى إلى تفاقم الضعف الموجود –أصلًا- في البلاد؛ إذ لم يؤدّ الانهيار الاقتصادي والمالي المتسارع في سورية، إلى نفاد المدخرات، وتقليص الأجور، وبالتالي، إلقاء الملايين في براثن الفقر فحسب، إنما ساهم في تدهور متسارع للعملة أيضًا، بحسب متابعتي لأسعار صرف العملة في السوق السوداء في سورية.
وعلى الرغم من توثيق تأثير التضخم على التجنيد العسكري، على نطاق واسع، يبقى لانخفاض قيمة العملة تأثيرات ثانوية أخرى: ففي معدلات أسعار الصرف الحالية، أصبحت واردات السلع الأساسية باهظة التكاليف، وفي الوقت نفسه، أدى ضبط الحكومة للأسعار، واحتكارات المنتجين، إلى توقف المنتجين المحليين عن العمل، وتحفيز المهربين للإتجار ببعض السلع المهربة عبر الحدود، ما أفضى إلى ارتفاع في الأسعار، ونقص في المواد، وتقنين؛ حيث أضرّ هذا الوضع البلاد بأكملها، ودفع بعض الرجال، ممن يمتلكون الدراية والعضلات اللازمة، لجمع ثروات هائلة.
ومن الأمثلة، نأخذ صقور الصحراء، ثاني أهم تشكيلات النظام الهجومية، والمنافس الشرس لقوات النمر. وقد أسس هذه الوحدة الأخوان محمد وأيمن جابر، اللذان يجسدان صعود المهربين إلى السلطة؛ فقد جمع الأخوان ثروتهما الأولى من منجم الإثراء الإجرامي، في تهريب النفط العراقي مقابل الغذاء في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وبحكمة، استثمرا ثروتهما المحدثة في الاحتكارات التي منحتها الدولة على الساحل السوري، خلال موجة الخصخصة الأولى في عهد بشار. وفي شهر آب/ أغسطس عام 2013، وتحت ضغط العقوبات الخارجية، وتقدم “الثوار”، أصدر الأسد مرسومًا يقضي بالسماح لرجال أعمال القطاع الخاص بتأسيس ميليشياتهم الخاصة للدفاع عن أصول رأس مالهم. وهكذا، وبجرّة قلم، سلَّح النظام عصابة الفساد في حكمه [كليبتوقراطيّيه خواصّه”. (كليبتوقراط: حكم اللصوص)]. وعلى مدى السنوات الثلاث التالية، أدار الشقيقان عمليات تهريب النفط، وغسيل الأموال، عبر العراق ولبنان، وحماية المنشآت النفطية، وأسّسا –في خضم ذلك- واحدة من أكثر تشكيلات النظام شراسة: صقور الصحراء. وعلى الرغم من إعلان ولائهم لدمشق، إلا أن صقور الصحراء مستقلين –عمليًا- عن التسلسل القيادي لسورية، وعن التمويل، والتجنيد، وحتى عن عمليات الشراء؛ إذ يدفع الصقور ما يصل إلى ثلاثة أضعاف أجور الجيش النظامي، ويديرون منشآت تدريبية خاصة، وينتجون مركباتهم القتالية الخاصة، وقد يؤدي هذا القدر من الاستقلالية إلى احتكاك في أرض المعركة، كما حصل في هجوم تدمر، في آذار/ مارس الماضي، الذي حظي بتغطية إعلامية واسعة، حيث احتدت التوترات بين الصقور وغيرهم من الموالين، بعد اتهام جابر قوات النمر بإطلاق النار –عمدًا- على أحد مواقعه، حيث قُتل تسعة من مقاتليه، وجُرِح عشرات آخرون. ووفقًا لمصادر متعددة، بما فيها حسابات على وسائط الإعلام الاجتماعية، حُذفت منذ ذلك الحين، فإن رجال الميليشيا رفعوا أسلحتهم في وجه رجال الحسن، في تهديد ليرحلوا. وفي النهاية، أرسلت دمشق وفدًا رفيع المستوى للتوفيق بين أمراء الحرب، وإعادة الهجوم إلى مساره، ومنذ ذلك الحين، لم تتشارك الوحدتان (الصقور والنمور) في جبهة واحدة.
رابعًا: اقتصاد الحصار
بدلًا من محاولة الاستيلاء على احتكارات الموارد، قامت بعض الجماعات المسلحة باستغلال معاناة السكان بشكل مباشر؛ فعلى سبيل المثال، تخضع بلدة التل الواقعة شمالي العاصمة دمشق –تقنيًا- إلى اتفاقية هدنة مع النظام، حيث يُؤوي هذا التجمع المعارض الصغير مئات الآلاف من النازحين، الذين فرَّوا من المناطق المحيطة بالعاصمة. وعلى الرغم من الضمانات المقدمة من الحكومة، بدأت الميليشيات الموالية المكلفة بحراسة نقاط التفتيش في المنطقة، بفرض خوَّات (ضرائب) مؤخرًا، تصل إلى مئة ليرة سورية على الكيلو الغرام الواحد من المنتجات الغذائية المدخلة إلى البلدة، وحتى تقدير متحفظ، يؤكد أن العائدات الشهرية لضريبة كهذه، تصل إلى ملايين الدولارات الأميركية، وهو ما يكفي لإطعام وتزويد آلاف المقاتلين الذين يحرسون منطقة الحصار، وعائلاتهم كذلك. وبحسب مجموعة المراقبة “ووتش سيج”، فإن عدد المدنيين المحاصرين من جانب قوات النظام يزيد على ثمانمئة وخمسين ألف شخص في جميع أنحاء سورية، وقد تضاعفت تكلفة المعيشة في هذه المناطق المنكوبة، بتفاوت ما يختلسه حراس الاختناقات. وبعبارة أخرى، ومع عدم قدرة دمشق على تمويل، وإطعام، عائلات رجال ميليشياتها الموالية، أصبح الحصار وفرض الخوّات على المدنيين، ضرورة اقتصادية للنظام، ليبقي على معظم قوات خطوطه الأمامية مكتفية، وسعيدة.
ليست غاية السرد هذا، تبيان فساد النظام السوري أخلاقيًا فحسب، وإنما تسليط الضوء على نقطة أكثر أهمية، تكمن في حقيقة أن الأجور العامة لا تكاد تكفي إطعام المجندين أنفسهم، وبالتالي، فإن رجال الأسد قد بدؤوا، ومنذ وقت طويل، يعتاشون على الأرض والمدنيين؛ فاليوم، لم يعد القسم الأكبر من التشكيلات الموالية المقاتلة يعتمد على النظام بالنسبة إلى معظم دخله، ومعداته، ومجنديه. وعلى الرغم من أهمية الحصار بالنسبة إلى الأسد، إلّا أنّ المؤكّد، وفي أيّ حال من الأحوال، أن النظام لم يعد قادرًا على دعم عدد من الحصارات القائمة، ولا سيما في ريف دمشق، وحمص، وجبال القلمون، وقد أخبرني مصدر محليّ، يتنقل بانتظام بين دمشق والغوطة عن طريق أنفاق التهريب، عن كتائب لـ “الثوار” يديرها ضباط الجيش العربي السوري. ومع استمرار تعثر اقتصاد البلاد، ومؤسسات حكمه، عاد هؤلاء “الشبيحة”، كما يطلق السوريون بالعاميّة على المجرمين الموالين للنظام، ليلازموا من هم في السلطة، وعلى الرغم مما تشير إليه الخرائط الملونة من “مناطق سيطرة”، لم يتبق للأسد من صلاحيات مهمة على جزء كبير من الأراضي التي يفترض أنه يحكمها، ومع تقدم الحرب، ستؤدي هذه الديناميات –حتمًا- إلى تباعد في المصالح بين المقاتلين المحليين والنظام، وكذلك بين دمشق وداعميها الخارجيين.
خامسًا: النظام المحاصر
قد تكون حادثة وقعت في شباط/ فبراير من هذا العام، مثالًا على ما ستؤول إليه الأحداث مستقبلًا؛ فخلال انخراطه في اشتباكات عنيفة ضد “الثوار”، قرب بلدة “حربنفسه”، طلب أحمد إسماعيل، قائد إحدى الميليشيات، العون من أمير حرب زميل له في بلدة “بعرين” المجاورة، إلا أن قائد قوات بعرين المسلحة، فادي قريبش، رفض طلبه بفظاظة، فما كان من إسماعيل في اليوم التالي، وخلال هدنة وقف إطلاق للنار، إلا أن صوب أسلحته نحو قريبش ردًا على ما عدّه خيانة، ولم يمض وقت طويل حتى انضم إليه منشقون من الاستخبارات الجوية في حماة، لدعم عميلهم المفضل، وسحق الميليشيا المتمردة، لكن قريبش استطاع صد هجومهم بنجاح، وأقام حواجز تفتيشه الخاصة على طول الطريق في المنطقة، قاطعًا أمام إسماعيل طرق التهريب إلى مناطق “الثوار”؛ ومنذ ذلك الوقت، لم يجرؤ النظام على مضايقة بلدة “بعرين”.
ويبدو أن النظام أضعف كثيرًا من أن يجبر هذه الميليشيات على العمل تحت رايته، كما يمنعه عجزه الاقتصادي من رشوهم، ولذلك، فقد سعى الأسد إلى ربط أتباعه بنظامه في دمشق مستخدمًا السياسة وسيلة؛ إذ تشير “الانتخابات” البرلمانية لشهر نيسان/ أبريل الماضي، إلى تحول في هيكلية النظام، من دولة مركزية إلى خليط فضفاض من أمراء الحرب، فقد فيه عدد من البعثيين القدامى، والوجهاء المحليين، وأعمدة المنظومة الريعية التقليدية للنظام، مقاعدهم لصالح مهربين جدد، وقادة ميليشيات، وزعماء قبائل. وقد لاحظ الحرس القديم ذلك، فبعد إعلان النتائج، أرسل عملاء النظام المُستبدَلون في حماة، وفدًا مستعجلًا إلى العاصمة لتحذير دائرة الأسد الضيقة من طبائع ونزعة من اختيروا لتلك المناصب، لكن، ومع غياب البدائل، لم يكن أمام الأسد غير الإبقاء عليهم في كنفه.
وقد يسبب بعض أولئك إشكالية أكثر من غيرهم؛ فقد أسس أقرباء الأسد من آل مخلوف، شبكة ميليشيا خاصة بهم، من خلال جمعية البستان، وهي مؤسسة خاصة أنشئت قبل الحرب، لتقديم المعونات الإنسانية، والجماعات المسلحة كذلك، حيث يطال نفوذها مناطق سيطرة النظام بأكملها، وتخرج –تمامًا- عن سيطرة النظام. وفي الوقت نفسه، عاد الحزب السوري القومي الاجتماعي، الخصم السياسي القديم لحزب البعث، إلى المشهد مجددًا، بعد أن تغلغل بنجاح في التجمعات المسيحية الأرثوذكسية، والدرزية، ليشكل بتجنيدهم جناحه العسكري. ونظرًا إلى الدور التاريخي لآل مخلوف في الحزب السوري القومي الاجتماعي، يقلق كثيرون في دمشق من قوى خارجة عن المركز ستؤدي إلى تمزيق النظام أكثر كثيرًا.
ومن جانب رعاة الأسد الخارجيين، ما من مساعدة تُذكر؛ فإيران تبدو راضيةً تمامًا عن الوضع المضطرب على الأرض، بعد استثمار كثير من الموارد لإنشاء شبكتها الخاصة من العملاء في البلاد، وفي الوقت نفسه، تبدو روسيا، أكثر المهتمين –كما يفترض- باستقرار النظام، غافلة عن الوضع برمته؛ إذ تظهر الصور جنودها -بانتظام- يختلطون بالعديد من الميليشيات القبلية والطائفية، ويقاتلون إلى جانبهم، وفي أحد الأمثلة، ظهرت صورة لجنود روس يقاتلون إلى جانب أفراد ما تعرف بـ “كتيبة الجبل”، وهي فرقة علوية صغيرة، تصدرت عناوين الصحف في السنة الماضية، عند إعلانها تشكيل أول فرقة انتحارية موالية.
خاتمة
خلال السنوات الثلاث الماضية، وعلى الرغم من الدعم والتسليح الخارجي، استمر نظام الأسد في الضمور بوتيرة متزايدة، وإذا ما استمر هذا الاتجاه؛ فسيجد الرئيس السوري نفسه عاملّا مشتركًا رمزيًا، بين نظراء مختلفين فحسب، يحتشد حوله اتئلاف فضفاض من اللصوص والإقطاعيات. وهكذا، ومع التفسخ البطيء لما كانت يومًا دولة، وجيشًا، ومؤسسة حزبية قوية، سيصبح شخص بشار الأسد نفسه، يجسد آخر الأعمدة المتبقية لـ “نظام”، وليس دولة، ولحربه الوحشية ضد مواطنيه.
واليوم، معظم القوات في سورية، ولا سيما الأقليات الموالية للأسد، تخوض حربًا موضعية لحماية مجتمعاتها الخاصة، ولولا استمرار النظام –مجسّدًا بالأسد- لما ارتبطت هذه الأهداف الدفاعية برؤية وطنية عدائية، والتي نعلم أنها غير مقبولة عند معظم السوريين، وكارثية على داعميها، وغير واقعية عسكريًا. ومن الممكن أن يؤدي إسقاط الطاغية إلى اقتتال داخلي بين أمراء الحرب المتبقين، إلا أنه من غير المرجح أن يؤدّي إلى انهيار قواتهم، وسلخ قراهم؛ فليس من يحمي اللاذقية عناصر الأسد من “الفرقة الرابعة” التابعة للجيش السوري، كما هو متصوَّر، وإنما يحميها محمد جابر ورجاله من صقور الصحراء. وإن لم يكن هناك –بالفعل- طبقة قوية، بيروقراطية وعسكرية، قادرة على إنقاذ الدولة وإحيائها، وإن كانت الميليشيات الموالية قد وصلت إلى درجة كبيرة من الاستقلالية والاعتماد على النفس، فإن الوضع –في االتأكيد- مخالف لما يفترضه صنَّاع القرار في الغرب، ولم تعد التضحية بالرئيس السوري لمصلحة البلاد الحل الأمثل فحسب، وإنما يجب عدّها العقبة الأخيرة المتبقية، أمام عملية سلام أساسها وقف العمليات القتالية، وإعادة النازحين إلى موطنهم ومجتمعاتهم.
ومن هنا، فإن تلك الدعوات التي تُسمع في العواصم الغربية، وفي موسكو أيضًا، للمحافظة على مؤسسات الدولة السورية، مجرد دعوات فارغة؛ فكل هذا العناء للمحافظة على ماذا بالضبط؟
إنها رواية وهمية لنظام قومي قاده الأسد، نظام دفع نحو أسوأ انتهاكات في هذه الحرب، وأجبر الأطفال العلويين من جبال الساحل، وسهول حماة، على قتال أبناء بلدهم في أركان بلد تفتت إلى إقطاعيات خارج سيطرة الدولة. يجب على الولايات المتحدة ألا تكون شريكة في هذا الادعاء؛ فقد انتهت الدولة السورية، وإلى الأبد، وهنا ربما يكون القطع السريع لرأسها أفضل من الانتظار الطويل لانهيارها.
عندما ثار السوريون بدايةً، لم يطالبوا بإسقاط بشار الأسد فحسب، وإنما بإسقاط “النظام” أيضًا، ما يعني إسقاط “المنظومة” بأكملها؛ فإن المعاناة الإنسانية في سورية، وفشل الدولة، والإرهاب أيضًا، ليست هواجس تتطلب موازنة، وإنما هي أعراض مرض وحيد: فساد حكم بشار الأسد، وزبانيته، والمقربين منه، وصغار المجرمين الذين رُفعوا إلى السلطة.