عنوان المادة الأصلي باللغة الإنكليزية: | Pessimism of reason and optimism of will The Arab World the day after tomorrow |
اسم الكاتب | فاسيلي كوزنيتسوف Vasily Kuznetov |
مصدر المادة الأصلي | The world in 100 years P: 125-130 ISBN: 978-5-9906577-8-6 |
تاريخ ومكان النشر | موسكو 2016 |
المترجم | وحدة الترجمة والتعريب في مركز حرمون |
العالم العربي بعد غد
وجهة نظر روسية
أصدر مجلس العلاقات الخارجية الروسية كتابًا باللغة الإنكليزية، بعنوان “العالم بعد مئة عام”، أعدته مجموعة من الخبراء الروس، وضعت فيه تصوراتها للعالم بعد مئة عام، تناولت فيه حزمة من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد تناول الباحث فاسيلي كوزنتسوف تصوره للعالم العربي مستقبلًا.
الكتاب -في مجمله- يعكس وجهة نظر روسية إلى العالم، وكيف سيكون بعد مئة عام. ونحن في العالم العربي تصلنا -عادةً- أبحاث كثيرة، تعكس وجهة النظر الغربية، ولكن قلّما تصلنا وجهة النظر الروسية، وهذا عائد إلى أسباب عدة، منها قلّة عدد الدراسات الروسية المتعلقة بالعالم العربي، من جهة، وضعف حركة ترجمة ما يصدر لديهم في هذا الخصوص، من جهة أخرى. ويتجه مركز حرمون للدراسات المعاصرة إلى إصدار الكتاب كاملًا بالعربية في حال أُنجز اتفاق مع الجهة التي أصدرت الكتاب؛ وهي المجلس الروسي للعلاقات الخارجية.
وفي ما يلي ترجمة الجزء المتعلق بالعالم العربي:
تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة
بقلم: فاسيلي كوزنيتسوف.
بطبيعة الحال، فإن السنوات المئة المشار إليها في عنوان هذا المشروع استعارة أدبية فحسب. في الواقع، يمكن أن نتحدث بدرجة من اليقين عن أفقين في المستقبل القريب فحسب: أحدهما سيأتي خلال خمس أو عشر سنوات. لنفترض أنّ جهةً معينة ستفوز قريبًا جدًا وتخسر الجهة الأخرى في “الحروب الأهلية” المستعرة في الشرق الأوسط، ولنفترض -كذلك- أن الصراعات التي تمزق هذا العالم ستسوّى، أو -في الأقل- تُجمّد غدًا، أو في غضون عام. بعد ذلك؛ ستحتاج كل دول المنطقة إلى نحو خمس سنوات فقط لاتخاذ قرار حول المعالم الرئيسة للتكوين الإقليمي والقطري الجديد.
لكن؛ إذا لم تتغير الأمور غدًا أو في السنة المقبلة، ولم يعد الوضع في سورية والعراق إلى طبيعته، ولم يُبذل جهد جاد لوقف العنف، وتعزيز قيام الدولة في ليبيا، ولم يُستأنف الحوار الوطني في اليمن، باختصار، إذا بقيت الأمور على ما هي عليه اليوم، واستمرت الحروب في هذه البلدان، فإن التحول الإقليمي سيحتاج إلى عشر سنوات أُخَر، في أقل تقدير.
هذا يعني أن الصراعات الراهنة إذا انتقلت إلى عدد أكبر من البلدان، بما في ذلك الدول المقاومة للصدمات نسبيًا، مثل دول الخليج والأردن والجزائر، ومصر التي يبدو أنها بدأت تستقر بعد “ثورتين”، وجميع البلدان التي بقيت نسبيًا بمنأى من الاضطرابات، فإن الاضطرابات ستستمر لفترة أطول.
الأنظمة التي ستخرج في نهاية هذه المرحلة (نحو 2030) ربما ستوجد لعدة عقود (من 30 إلى 50 سنة) قبل أن يغرق الشرق الأوسط في حال من الفوضى مرة أخرى، وسوف تتحمل الأجيال الجديدة تبعات ما يحدث.
هكذا؛ فإن المتوسط التقريبي للتنبؤ في المدى الطويل يمكن أن يقع في ما بين 2030 و2070.
هذا يعني أن الأفق الثاني الذي نتوقعه -هنا- سيكون في 2050 تقريبًا. على الرغم من الغموض الذي يتلبس الحديث عن المستقبل البعيد، هناك بعض الأشياء التي تمكن مناقشتها بدرجة معقولة من اليقين.
المحددات الاجتماعية والاقتصادية
في غضون بضعة عقود، ستفقد الدول المصدرة للنفط المزايا التي تتمتع بها -اليوم- في سوق الطاقة العالمية. لقد مرت هذه الدول -بالفعل- في ذروة إنتاجها النفطي، ومن ثَمّ؛ فإنها إما أن تطور مصادر بديلة للطاقة (الطاقة الشمسية قبل أي شيء آخر)، أو تعيد هيكلة اقتصاداتها جذريا وتنويعها والابتعاد عن الاقتصادات المعتمدة على الطاقة. دول الخليج الصغرى، والبحرين مثالًا، باتت بالفعل على هذا الطريق. ولكن السؤال الأهم: ما إذا كان الآخرون مستعدون لأنْ يحذوا حذوها.
إذا لم تتمكن هذه الدول من التكيف مع الأوضاع الجديدة، سيكون في انتظارها تجارب خطِرة، من تدهور اقتصادي، وتفاقم الصراع، وتراجع نحو نظم اجتماعية بدائية (وهي تقليدية جدًا حتى الآن) والتطرف السياسي، بالطبع البلد الأكثر عرضة للخطر هو المملكة العربية السعودية التي قد تضطر إلى التعامل مع المشكلة حتى قبل حدوثها. تحتاج المملكة اليوم إلى أسعار نفط عالية نسبيًا (دخلت المملكة عام 2016 بميزانية تحت خط الخطر، وذلك للمرة الأولى منذ سنوات عديدة)؛ من أجل الوفاء بالالتزامات الاجتماعية.
في غضون بضعة عقود، ستفقد الدول المصدرة للنفط المزايا التي تتمتع بها اليوم في سوق الطاقة العالمية. |
إذا أثبتت النخبة السياسية، والمؤسسات، والمجتمع، في السنوات المقبلة، مرونة نسبية في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وواصلت الطبقة الحاكمة عملية التحديث ونقلها إلى المجالات الاجتماعية والسياسية، فهناك فرصة لأنْ تكون المملكة قادرة على تحويل نفسها بنجاح، ومن ثَمّ؛ سوف تحتل مكانة جديدة في النظم الاقتصادية والسياسية العالمية.
مع ذلك؛ هناك نوعان من العقبات التي تمنع هذا السيناريو المتفائل من أن يصبح حقيقة واقعة؛ فالمؤسسات السياسية البدائية الباقية على قيد الحياة، في سياق التحديث الاجتماعي، تجعل من النظام السياسي أكثر تخلفًا وبطئًا، وأقل قدرة على مواجهة التحديات الداخلية؛ في حين أن غياب المؤسسات المدنية الحديثة يؤدي إلى شعور المجتمع بالبعد عن الحكومة. الجمع بين هذين العاملين يحرم الطبقة الحاكمة من دافع التغيير الذي تعدّه -في الأصل- مصدرًا للتهديد، بدلًا من أن تكون فرصة لتعزيز النظام.
بالنسبة إلى دول شمالي أفريقيا، وخاصة المغرب، تلعب ديناميّات علاقاتها مع أوروبا دورًا رئيسًا. ففي أوضاع مواتية، يمكننا التنبؤ بزيادة التفاعل الاجتماعي والاقتصادي والتكامل الاقتصادي؛ وحتى تكامل اقتصادي جزئي حتميًا. أما السيناريو غير الملائم (بما في ذلك تعميق الأزمة داخل الاتحاد الأوروبي) يشير إلى أن المغرب يواجه خطر الارتداد في التنمية الاجتماعية والسياسية، ومن شأنه أن يزيد من حدة التوتر الاجتماعي، وربما التدهور السياسي أيضًا.
كذلك قد تتفاقم مشكلة النقص في المياه، وهي -في الأصل سبب للصراع في جميع المستويات، من المستوى المحلي، إلى الحكومي الدولي. فدول شمالي أفريقيا لديها بعض الموارد للتعويض عن العجز (على سبيل المثال، باستخدام المياه الجوفية)، مثلما هو الحال في دول أخرى، لكن من غير الواضح كيف يمكن استخدامها واقعيا إذا استمر الاضطراب السياسي. وإذا لم تُحلّ مشكلة المياه، يمكننا التنبؤ بازدياد الصراعات، في الأقل علاقات مصر والسودان وسورية وإسرائيل، وسورية وتركيا والسعودية واليمن والسعودية والأردن وفلسطين والأردن وإسرائيل.
بالنسبة إلى دول شمالي أفريقيا، وخاصة المغرب، تلعب ديناميّات علاقاتها مع أوروبا دورًا رئيسًا. |
عند معاينة المجال الاجتماعي، يمكننا أن نقول -بكل ثقة- في غضون 40 سنة سيواجه العالم العربي أزمة سكانية جديدة؛ فأولئك الذين في سن ال 25 الآن، سيكونون قد بلغو سن التقاعد، هذا هو الجيل الذي يشكل ما يسمى بـ “شوكة الشباب”، حيث كانت مشكلة عمالته واحدة من أسباب الربيع العربي في تونس ومصر وغيرها من البلدان. وهكذا، فإن العبء المالي على السكان النشطين اقتصاديًا في المنطقة سيزيد؛ ما قد يؤدي إلى توترات اجتماعية كبرى.
أيضًا قد تتفاقم مشكلة النقص في المياه، وهي -في الأصل- سبب للصراع في جميع المستويات |
هناك عامل اجتماعي آخر يؤثر مباشرة في وضع المنطقة وهو نظام النوع الاجتماعي والعلاقات الجنسية. إذا كان الاتجاه الحالي يستمر في التحرك نحو بنية اجتماعية بدائية تحركًا متزايدًا، بما في ذلك أفكار محددة حول الدور الاجتماعي للمرأة (على الرغم من أن هذه الظاهرة لم تكن سمة من سمات أغلبية المجتمعات العربية سابقًا)، والأفكار التي تدين بكثير إلى الخطاب السلفي، والأفكار حول العلاقات بين الجنسين، ستشهد السنوات المقبلة استمرار الإحباط بين الشباب العربي على هذا الأساس؛ إذ إن عدم القدرة على أن يعيش جيل الشباب حياة جنسية “عادية” قبل الزواج، إلى جانب ارتفاع في سن الزواج (في المقام الأول لأسباب اقتصادية)، وزيادة الفصل بين الجنسين، يؤجج التوترات الاجتماعية والعدوان الاجتماعي.
أخيرًا، ينبغي أن نذكر التحوّل المحتمل للدور الاجتماعي للدين؛ فهو يلعب دورًا مهمًا اليوم، وفي ما يبدو سوف يستمر في لعب هذا الدور في المستقبل.
إلا إذا تشكلت عقيدة جذابة جديدة في المنطقة (والأرجح أن ذلك لن يحدث، لأسباب عالمية، وليست إقليمية، مثل تراجع دور الأيديولوجيات في العالم الحديث عمومًا)، وسيبقى الخطاب الديني والهويات العقيدية المصدر الرئيس للإلهام وإنتاج المعاني للنخبة الفكرية. ومن المرجح أن تزيد الاختلافات بين التفسيرات للنصوص الدينية.
يمكننا أن نقول -بكل ثقة- في غضون 40 سنة، سيواجه العالم العربي أزمة سكانية جديدة. |
على العموم، فإن التحول الديني يعتمد على التحول الاجتماعي.
في البلدان التي قطعت مسافة أطول على الطريق نحو التحديث، “أبواب الاجتهاد” (الحق في تفسير النصوص المقدسة في حرية) سوف تنفتح أكثر فأكثر؛ ما يؤدي إلى جعل الدين مسألة فردية (individualization of religion)؛ وحتى في خصخصته (privatization) إلى درجة معينة.
سيبقى الخطاب الديني والهويات العقيدية المصدر الرئيس للإلهام وإنتاج المعاني للنخبة الفكرية. ومن المرجح أن تزيد الاختلافات بين التفسيرات للنصوص الدينية. |
هكذا، ستطور تونس (في ظل أوضاع مواتية) التقاليد الوطنية للإسلام المعتدل التي وضعتها المدرسة الصديقية في القرن التاسع عشر.
أما بالنسبة إلى مصر، فإذا حُلَّتْ بعض المشكلات الاقتصادية، وسُرِعَ التحديث، قد يُرجع إلى تراث محمد عبده، وغيره من المصلحين في أوائل القرن العشرين.
ربما سيشهد التطور الديني للمغرب تطوير المدارس الصوفية التي تتحدى السلفية القديمة، ومع ذلك؛ فإن العكس ممكن أيضًا، إذ إن “السلفية الحديثة” (مستوحاة من مصلحي أوائل القرن العشرين) يمكن أن تتحدى الصوفية التي “عفا عليها الزمن”.
بغض النظر عن الإصدارات المحددة للتنمية (اعتمادًا على خصائص البلاد) في جميع المجتمعات العربية التي تُجري التحديث على نحو رتيب، قد يؤول الإسلام في نهاية المطاف إلى احتلال مكانة الدين نفسها التي في البلدان الأنكلوسكسونية؛ ونتيجة لذلك، تكون هذه المجتمعات قد انفصلت عن تعاليم “المنطق الإسلامي” التي وصفها محمد أركون، وتحولت إلى تقليد “الفردية الإسلامية”.
الخطر الأساس هو أن فهم الدين بهذه الطريقة يتوقف عن أن يكون على أساس القيم المشتركة؛ ما يهدد الانحلال في المجتمعات، وانتشار الانقسامات الاجتماعية.
في الوقت نفسه، سيبقى دور الهوية الدينية مهمًا جدًا في البلدان التي تواجه مهمة إعادة التأهيل الشاقة في مرحلة ما بعد الصراع، ويمكن أن يشكل الدين أساس إعادة خلق الدولة ونظام العلاقات الاجتماعية أيضًا. من المرجح أن ترى هذه البلدان تطور الإسلام السلفي الذي يركز على المجتمع، وعلى التعزيز والتعبئة بفاعلية، وليس إضفاء معنى عال على الوجود الدنيوي للإنسان فحسب، وإنما الاستثمار مع قيمة اجتماعية أعلى كذلك. وفي حين أن هذه التفسيرات الدينية قد تلبي حاجة ملحة في المرحلة الأولى من وجود مجتمعات ما بعد الصراع، إلا أنها قد تبدأ تدرّجًا في إعاقة التنمية الاجتماعية.
الاتجاه الذي سوف يستمر في المنطقة كلها هو التجانس الديني للمجتمعات، وطرد الأقليات الدينية. ولكن لن يكون نتيجة أحداث عام 2050، ولكن نتيجة السمات المحددة للصراعات الحالية.
ديناميّات الصراعات والتمايز بين الدول
ستكون ديناميّة التطور عاملًا آخر في تحديد تطور منطقة الشرق الأوسط. فمن الواضح أنه في ظل أي سيناريو، سينجو كثير من العقد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية، وغيرها من عقد التناقضات واختلالات التطوير في الدول العربية؛ ما يجعلها عرضة للتحديات الداخلية والخارجية خاصة، و يزيد وجودها من احتمال الأزمات الاجتماعية والسياسية، فضلًا عن تضارب -بدرجات متفاوتة من الشدة- في معظم البلدان في المنطقة، بما في ذلك البلدان التي تبدو مستقرة اليوم، مثل الجزائر ومصر والمملكة العربية السعودية… إلخ، ومع ذلك، على الرغم من أنه لا معنى لتوقع ظهور صراعات جديدة، وديناميّات الصراعات الحالية، في ليبيا وسورية واليمن، وغيرها من البلدان التي تُعدّ أقل شدة، من المحتمل أن تؤثر في خريطة المنطقة وطابع تطورها في السنوات المقبلة.
كل من الصراعات قد تتبع بواحد من السيناريوهات الثلاثة الآتية:
في السيناريو الإيجابي؛ تستعاد الدولة وحكم المؤسسات في جميع أنحاء الدولة.
في السيناريو معتدل السلبية؛ سنرى تفتيتًا واقعيًا للدول، بما في ذلك من فدرلة أو كونفدرلة شكلية، ونظرًا إلى المؤسسات الضعيفة، أو غير الفاعلة، سيؤدي إلى فقدان مركز الدولة المتحكم بالأطراف، وتُشكَّل -تدرُّجًا- مراكز حكم انفصالية هناك.
بموجب هذا السيناريو، يمكن أن تتقسم ليبيا إلى دولتين أو ثلاث، (وعلى الأرجح اثنتين)، واليمن إلى دولتين، وسورية -في الحد الأدنى- إلى ثلاث دول، على الرغم من أن بعض الخبراء يتوقع دويلات أكثر عددًا من ذلك بكثير.
علما أن بعض الدويلات التي ستتشكّل من انفراط الدول، يمكن أن تنضم إلى دول قائمة حاليًا، فبرقة يمكن أن تنضم إلى مصر، و”كوردستان السورية” إلى “كردستان العراق”.. وهكذا.
وفي النتيجة، ينجم عن التقسيم دويلات ضعيفة، غير قابلة للحياة، من ناحية افتقارها إلى الموارد الاقتصادية اللازمة. إضافة إلى أن نقص الموارد، وضعف مؤسسات الحكم، من شأنه أن يقود إلى تفاقم النزاعات في أوساط النخب، وربما إلى إشعال نزاعات جديدة واحتمال مزيد من التفتت.
أخيرًا، السيناريو الثالث، – وهو أكثر سلبية – من شأنه أن يرى استمرار الصراعات لسنوات، والتدهور الكلي في مؤسسات سلطة الدولة، ونكوص اجتماعي نحو البدائية.
السيناريوهان الأخيران يعنيان إمكانية كبيرة لانتقال الصراعات المسلحة إلى بلدان الجوار، كالأردن ولبنان وتركيا والمملكة العربية السعودية، والمنطقة عمومًا، وصولًا إلى إيران، ومن تونس والجزائر؛ لتشمل المغرب برمته. ومع ذلك؛ تبدو هذه النتيجة أقل احتمالًا هنا؛ لأسباب جغرافية محض (الأراضي الشاسعة، ذات الكثافة السكانية المنخفضة في شمالي أفريقيا، يقلل من تركيز التهديدات).
لكن، حتى في أفضل السيناريوهات، فمن الواضح أن التعافي الاقتصادي للبلدان التي يمزقها الصراع لن يأخذ سنة أو سنتين فحسب، بل سيحتاج من عشرة إلى عشرين سنة في أفضل الأحوال.
نتيجة لذلك، وعلى المدى البعيد سنرى، وفي كل الأحوال، المجتمعات “البدائية” (archaic societies) تبني هياكلها الاقتصادية والسياسية من الصفر.
إذا سادت الاتجاهات الإيجابية، أو في الأقل ليس الأسوأ منها- سيكون هناك تمايز اقتصادي واجتماعي وسياسي أكبر بين الدول في المنطقة.
حتى في أفضل السيناريوهات، فمن الواضح أن التعافي الاقتصادي للبلدان التي يمزقها الصراع لن يأخذ سنة أو سنتين فحسب بل سيحتاج من عشرة إلى عشرين سنة في أفضل الأحوال. |
في تلك البلدان التي كانت محظوظة بما يكفي لتجنّب الانجرار إلى دوامة الصراعات، أو أولئك الذين تمكنوا من الخروج منه بسرعة نسبية، ودون تكبد كثير من الخسائر، استمر فيها تطوير مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والتحديث الاجتماعي. هناك ثلاثة مرشحين رئيسين لهذا السيناريو: المغرب وتونس ومصر، إضافة إلى الجزائر ودول الخليج الصغرى، في المقام الأول البحرين والإمارات العربية المتحدة، وربما الكويت.
بطبيعة الحال، فإن عملية التحديث ستستمر في كل من هذه البلدان، وكل بطريقته الخاصة، وستستمد بلدان المغرب العربي -في الأرجح- خبرة التحديث الأوروبي، مع الحفاظ على السمات الخاصة بها.
حتى الآن، تقدمت تونس في التحديث على غيرها، فهي تعمل -بالفعل- على تطوير المجتمع المدني والمؤسسات الديمقراطية التي تعمل على أرض الواقع، في حين أن العناصر التقليدية في نظام العلاقات السياسية والاقتصاد والبنية الاجتماعية، أقل وضوحًا مما هي عليه في بلدان أخرى. وعلى الرغم من التقلبات الحالية في الوضع السياسي الداخلي في البلاد، فالأصالة والجذور العميقة للمؤسسات المدنية تبشر بالخير لنجاح التنمية، وذلك في حال توفر الأوضاع الإقليمية الملائمة، وغياب التهديدات الخارجية.
إذا بدأت إصلاحات حقيقية في المستقبل القريب، فإن الجزائر سيتبع المسار التونسي نحو التحديث، ولكن بإجراءات مشابهة لتلك التي في مصر، حيث تعقدت المشكلات المرتبطة بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية (ارتفاع نسبة الأمية، والفقر، والمؤسسات الاجتماعية التقليدية القوية، وما إلى ذلك). نظرًا إلى التشابه في النظم السياسية في مصر والجزائر (دور الجيش والخدمات الخاصة، مركزية عالية في الحكم، وما إلى ذلك)، سوف تستمر كلتا الدولتين في التطور، بوصفها جمهوريات رئاسية، في حين سيكون العنصر المحافظ أكثر وضوحًا مما هو عليه في تونس.
أخيرًا، في ما يتعلق بالمغرب، فإنه من المحتمل أن نرى استمرار تكليف البرلمان والحكومة بصلاحيات الملك، وسيؤدي ذلك إلى تحول العناصر التقليدية للسلطة العلوية إلى عناصر شكلية للنظام السياسي، وسوف تستمر القواعد القانونية في ذلك البلد بالتوجه لنهج المعايير الأوروبية، وقد يؤدي في نقطة معينة إلى زيادة التوترات الداخلية. الأوربة التدريجية للنظام السياسي، وتطوير المجال الاجتماعي، ينطويان على تحديث المجتمع. ونتيجة لذلك، لأول مرة، سيفقد نظام الحكم بالتدريج طابعه المقدس، وتتضاءل سلطة العائلة الملكية. وثانيًا، فإن المجتمع يطالب بمزيد من المشاركة في العملية السياسية. في الوقت نفسه، في اللحظة التي يضع فيها التحديث مصالح النظام الملكي تحت التهديد، وهو لا يرغب في التخلي عن مصالحه الاقتصادية وغيرها، سوف تضطر الملكية إلى اتخاذ موقف متحفظ، ووضع نصابها على الأسس التقليدية لقوتها؛ كل هذا قد يفاقم احتمال نشوب صراع في المستقبل بشكل خطِر.
في دول الخليج الصغرى، فإن العملية ستمضي قدمًا بطريقة مختلفة نوعا ما لأن النفوذ الأوروبي هناك ضعيف ونقطة انطلاق التحديث الاجتماعي والسياسي منخفضة. بالطبع، فإن النخبة الشابة المتعلمة في الغرب التي بدأت -بالفعل- شغل مناصب السلطة في هذه البلدان، قادرة على أن تكون محرك هذا التقدم. ويمكن أن تستخدم المزايا الاقتصادية التي لا تزال تتمتع بها؛ لتسريع عمليات التحديث، وأن تسعى لعدة أمور، منها تعزيز مؤسسات الدولة و(في الأغلب أقل احتمالًا)، وتطوير مؤسسات المجتمع المدني؛ إذا حدث هذا، فانه في غضون 40 سنة، أي بنحو 2056، ستنجو الملكيات في هذه الدول بحياتها، ومع ذلك، سيكون دور السلطة التشريعية والمجتمع المدني أكبر. في الوقت نفسه، ستشعر عناصر الحكم والقيم التقليدية بقوة أكبر مما هي عليه في المغرب، على سبيل المثال.
على الرغم من أنه قد تتحقق سيناريوهات مختلفة في الدول العربية المختلفة، من الموجب إلى السالب جدًا؛ فإن ذلك سيجعل المحافظة على الوحدة الإقليمية لمنطقة معينة من العزلة التامة للبلدان، أو المناطق، شبه مستحيلة؛ لذلك، فإنه من المستحيل التكهن بأن هذا السيناريو أو غيره، سوف يتحقق في شكله النقي.
منظور إقليمي
إذا ما نظرنا إلى المنطقة عامةً، فإننا نلاحظ أوضاعًا أُخَر تؤدي وظيفةً في تحديد طبيعتها المستقبلية، وتتمثل -قبل كل شيء- بالعمليات التكاملية بين دول الإقليم. يوجد اليوم ثلاثة من العمليات التكاملية شبه الإقليمية محتملة في المنطقة: الخليج “الفارسي”، بلاد الشام والعراق، والمغرب العربي.
في الخليج “الفارسي”، نُفذت عمليات التكامل في إطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية (GCC)، وتقدمت أكثر من أي مكان آخر في الشرق الأوسط؛ نظرًا إلى أوضاع التطور الإيجابي في الدول الأعضاء في المجلس، سيستمر هذا التوجه، لكن من غير المرجح – حتى في المدى الطويل – أن تلتزم ببناء مؤسسات سياسية فوق وطنية قوية، وفي الأرجح ستركز الاهتمام على التعاون الاقتصادي والعسكري، وربما القانوني بين الدول، ولكن الخوف من فقدان السيادة السياسية سيستمر بتحديد ماهية نهج عمليات التكامل، لمدة في المستقبل.
أما في بلاد الشام والعراق؛ فإن العمليات التكاملية إذا ما أُطلقت، ستواجه أوضاع ما بعد الصراعات المسلحة، بالغة التعقيد، وعلى خلفية فقدان هذا الإقليم سيادته على الحلبة الدولية، وبينما يبدو التكامل الاقتصادي في هذا الإقليم ضعيف الإمكانيات، فإن بعض البنيات السياسية – من نمط كونفيدراليات شبه إقليمية ضخمة بين بلدانه، من شأنها أن تزيد من فرصه في تخفيض حدة النزاعات بين مكوناته، وتساعد في إعادة تشكيل خريطة المنطقة. عمومًا إذا استمرت أزمة الدول القومية على المستوى العالمي، واستمرت نزعة تبديل هذه بكيانات سياسية أخرى، فإن تنفيذ فكرة الكونفيدرالية الديمقراطية في بلاد الشام قد تكون واعدة إلى حدّ كبير.
وعلى المدى الطويل سوف تستمر المنطقة في الاعتماد على مراكز قوى من خارجها. |
أخيرًا، لا يحمل التكامل بين الشرق والغرب كثيرًا من الأمل في المغرب العربي، حيث النظم السياسية المتنوعة في دول المنطقة، وإلى حد كبير (باستثناء ليبيا) مكتفية ذاتيًا، واقتصاداتها غير مترابطة ترابطًا وثيقًا؛ فمن المرجح أن بعض أشكال التكامل الاقتصادي، سوف تنمو داخل البحر الأبيض المتوسط على طول محور الشمال والجنوب.
يبدو أنه في المدى الطويل أن المنطقة ستظل معتمدة على مراكز القوى من خارجها. إلى حد ما، وسيكون ضعف السيادة أحد نتائج الاندماج، واندماج الدول العربية اندماجًا أعمق في النظام الاقتصادي العالمي، وغيرها من جوانب العولمة. إضافة إلى ذلك، سوف تنشأ حال من التبعية في هذه الدول التي مرت باضطرابات وصراعات عميقة؛ لحاجتهم إلى مساعدات اقتصادية هائلة. وهذا من شأنه أن يثقلهم بالتزامات جديدة تجاه الدول المانحة.
بنتيجة ما سبق كله، ترتسم لوحة مستقبلية للمنطقة، إن لم تكن قاتمة، فهي مقلقة في أقل تقدير، مليئة بالنزاعات والمخاطر الاجتماعية والاقتصادية والاضطرابات السياسية. وأما التغلب على التحديات التي تلوح في الأفق؛ فيتطلب من العالم العربي البحث عن أفكار خلاقة، وإيجاد حلول إبداعية جديدة، وقدرة على استيعاب تجربة التقدم العالمية؛ لتحديث الدولة، والسير في طريق التطور. قد تكون الجاليات العربية القوية المقيمة في الغرب -اليوم- مصدرًا مهمًا لذلك، وكذلك المجتمعات التي يجري تحديثها بسرعة، ولكن التي تحافظ على هويتها التاريخية والثقافية والدينية. مع عودة المحافظين في الغرب إلى مسك زمام الأمور، وزيادة انعزالية العرب في هذه البلدان، فإن فكرة العودة إلى وطنهم قد تنمو في المجتمعات العربية في الغرب، ويمكن أن يصبح هؤلاء العائدون المحرك الحقيقي للتقدم الذي من شأنه أن يؤدي -في الوقت نفسه- إلى تنمية متسارعة في العالم العربي، وإلى تجانسه الاجتماعي والسياسي.