ملف أعدّه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات/ فرع باريس، نُشر باللغة الفرنسية، وقام مركز حرمون للدراسات المعاصرة، بالاتفاق مع المركز العربي، بترجمته إلى العربية.
دفعنا الرحيل المؤلم لصديق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ميشيل كيلو، على فتح صفحاتنا لأصدقائه وللصحافيين وللدبلوماسيين الذين التقوه والذين أرادوا أن يرسلوا لنا كلماتهم حول هذا الإنسان المناضل من أجل الديمقراطية والحرية. نشكرهم جميعًا بحرارة على تحياتهم ونحيّي ذكرى هذه الشخصية الكبيرة في المعارضة السورية.
إلى الأبد في تاريخ سورية
بسمة قضماني
باحثة في علم السياسة
هو رجل ذو مظهر بدنيٍّ مهيب، لا بسبب قوامه فحسب بل خصوصًا بفعل تعبير وجهه. نظرة ثقيلة تحت حاجبين كثيفيْن. في الفضاء العام، يُظهِرُ سيماء قاسية. إذ يبدو حاملًا ثقل الألم واللعنة الذي ينصبّ على السوريين منذ خمسين سنة، ثقل أن يُحكَموا من قبل أسرة جلادين. حين يتحدث أمام الجمهور، فإنه يتحدث بسلطة قوية من دون أن يعِظ تبعًا لذلك. إنه يجهد في العثور بدقة شديدة على الكلمات التي تستهدف أن تصف الصراع بدقة في أبعاده كلها والنهج الشرير لبشار الأسد، ثم يلتقط أنفاسه كي يحدد في جُملٍ قصيرة عدّة، موقع الرعب في لا إنسانيته الأكثر عمقًا.
كان ميشيل يكتب من دون توقف حين انتزعه الفيروس الشرّير من الحياة. فهو محللٌ سياسي -وفي الوقت نفسه فيلسوف وعالم اجتماع- وروائي أيضًا. إذ من خلال أعماله القصصية إنما نُقِلتُ حرفيًّا إلى جحيم بلد يجري اغتيال روحه يوميًا على أيدي قادته.
ملايين السوريين تألموا وضحّوا بأنفسهم. وكان ميشيل أول من كرَّمهم. ولكن حيث كان النظام يريد خلق الالتباس في الأذهان بتأليفه حكاية تستهدف إلغاء ذاكرة السوريين، وجعلهم يشكّون في مبررات نضالهم، واجَهَ ميشيل بالكلمات المثالية القادرة على أن تضمن، من أجل التاريخ، صوابَ ثورتنا وحقيقة معركتنا المطلقة من أجل الحرية. وفي هذا إنما كان فريدًا.
كان الأسد مقتنعًا -شأن الطغاة كلهم- بأن أكاذيبه غير المفهومة ستكون كافية لتشويه الحقيقة لصالحه. على أننا نعلم، نحن، أنه إذا كان على كتب التاريخ أن تستشهد ببعض الأسماء في مواجهة اسم الأسد الدكتاتور، فإن اسم ميشيل كيلو سيكون بين أوائل هذه الأسماء. وفي يوم قريب، كما آمل، إذا انتهى الشعب السوري باستعادة حريته، سوف يحكم ميشيل سورية بفكره وبقيمه وبنزاهته. هذا هو الحلم السوري. وسنبقى بلا عزاء نتيجة رحيله، على الأقل حتى ذلك اليوم الذي ستنتصر فيه الديمقراطية في سورية. لماذا لم أقل له ذلك حين كان حيًّا؟
سورية تودِّع ابنَها البار
برهان غليون
أستاذ علم الاجتماع السياسي ورئيس مركز الدراسات العربية في جامعة السوربون الجديدة ــ باريس 3، وكان رئيس المجلس الوطني السوري بين عامي 2011 و2012.
في 26 نيسان/ أبريل، ودّع سوريو باريس واحدًا منهم، الإنسان الكبير: المثقف، والسياسي المرهف، والكاتب، والصحفي والمناضل بلا كلل من أجل الحرية وبوجه خاص عبقري التواصل وسيِّد الكلمة.
كان ميشيل كيلو، بلا مبالغة، قوة من قوى الطبيعة مع ميزاته العديدة التي كان أكثرها دلالة تقاسمه كل شيء مع صحبه: الودّ والألم، الحلم والأمل، السعادة والحزن. وكان ذلك يؤدي إلى كثرة من المعجبين به، لكنه كان يؤدي أيضًا إلى الغيارى والمنافسين.
بعمله وبحياته نفسها، جسَّد ميشيل مأساة السياسة والسياسيين في سورية في ظل نظام الأسد العشائري: الإمكانات الكبيرة والحطام الهائل.
براعة السوريين، وميلهم إلى المصالحة والتسوية، واستعدادهم لكل تضحية من أجل بناء مستقبل من السلام والأخوة لأنفسهم ولأولادهم، قُضي على كل ذلك بإرادة “ملك”، وصل إلى السلطة على ظهر الدبابات في ظروف استثنائية، كي يديم “عهده”، كما يقول أحد شعاراته، حتى الأبد، أي سلطة استثنائية، ودولة استثنائية، ونظام لا قانون له ولا دين.
وبسبب فوضى السلطة هذه التي يُدافعُ عنها بالسلاح وتُطهَّرُ بخيانة رجال الدين الخانعين، وبأمل العثور على مخرج من هذه الهاوية، انطلق السوريون بتشجيع من زملائهم التونسيين والمصريين في البحث عن حريتهم. وما كان لميشيل كيلو، شأن معظم المثقفين السوريين، البقاء جانبًا دون أن يخون نفسه. كان من بين أوائل الذين استجابوا للنداء. وبعد عشر سنوات من معارك متعددة الأشكال، وانتفاضات وثورة، سينتهي نظام الأسد، الذي بدأ باستئصال السياسي، مستقويًا بدعم حماته الإيرانيين والروس، إلى شنّ حرب إبادة جماعية، وإلى تدمير الدولة وخراب البلاد.
الحداد الذي اختص به السوريون مواطنَهم المخلص ميشيل كيلو، يؤلف جزءًا من الحداد الوطني الكبير الذي تعيش فيه سورية نفسها، بعد أن تخلى عنها إخوانها العرب والمجموعة الدولية، مستغرقة في حالة موت مستمرة.
لم يشعر أحد بعدم جدوى السياسة السورية في التدمير المنهجي لشروط تحقيقها، وغرق البلد المعلن تحت نظام الأسد مثلما أدركه ميشيل كيلو. حاول حتى النفس الأخير، على غرار سيزيف، أن يرفع حتى أعلى الهضبة صخرته التي لن تتأخر عن الهبوط مجددًا قبل أن يبلغ القمة، وهكذا، إلى ما لانهاية. لكن الأكثر عبثًا في هذه الأسطورة ليس التكرار الأبدي لفعل لا يمكن على كل حال أن يبلغ غايته، بل القانون الذي يولد هذه العبثية، أي، خلق مجتمع سياسي بلا سياسة. هذا هو في الواقع المصير الذي اختُصَّ به الشعب السوري بأكمله، محكومًا عليه أن يكرر حمل صخرة سيزيف، وأن يقدم التضحيات وعلى أن يقع من جديد في الهوّة ذاتها منذ أكثر من نصف قرن.
لنأمل أن تتمكن سورية التي تودع اليوم ميشيل كيلو، مضحيَة مرة أخرى بواحد من أبنائها المخلصين، من أن تتغلب على منطق العبث هذا، وأن تتحد من أجل التخلص من سوء الطغيان هذا، “مهما حصل وبكل قوة التصميم الممكنة”، كما حثَّ ميشيل كيلو في رسائل وداعه الأخيرة!
خسارة كبيرة للسوريين
ميشيل ديكلو
دبلوماسي وسفير فرنسا في سورية من 2006 إلى 2009
كنت قد استطعت أن أقدر بدمشق بين 2006 و2009 مدى هيبة ميشيل كيلو في العديد من الحلقات، بما في ذلك في الأوساط الرسمية. أمكنني أن أعجب أيضًا بشجاعته في مواجهة سجّانيه، وبمهارته في التحليل السياسي، وبتصميمه على متابعة القتال.
حين وصوله إلى باريس عام 2011، كان قد رغب في زيارتي بمنزلي. شعرت والحق يُقال بأني أتشرف بذلك. قصَّ عليَّ خلال هذه الزيارة حديثه مع بطريرك كنيسته: “دكتور ميشيل، أنت الذي يعرف السياسة، ما هو الموقف الواجب اتخاذه في مواجهة الانتفاضة الشعبية؟ -يا صاحب الغبطة، لو عاد ربنا، مع أي جهة تظن أنه سيكون؟”. كان آخر حديث متبادل بيننا في ربيع 2020، في مقهى باريسي. بين هذين اللقاءين، كان ميشيل قد أتقن اللغة الفرنسية على نحو كامل؛ كان قد راكم خيبات الأمل حول مصير الثورة؛ ومع ذلك كان يفيض بالمشاريع ويحتفظ بإيمانه الدائم بالنصر النهائي وبالحرية في بلده. أما الحرية، وكان على يقين من ذلك، فسوف تأتي مع المواطنة، مواطنة متساوية للجميع وضامنة لحقوق الجميع. وربما كان هذا المفهوم عن المواطنة هو الذي كان وراء ارتباطه بفرنسا. كانت السنوات تمضي، لكننا كنا نستمر في استدعاء ذكرى صديق مشترك استثنائي، فلاديمير غلاسمان، الذي كان طوال زمن طويل حلقة الوصل بيننا.
مع رحيل ميشيل كيلو، يفقد السوريون نبيلًا كبيرًا. من الممكن أن تكون مواقفه السياسية اليومية موضع نقاش؛ لكنه كان في أساس الأمور على حق بصورة عميقة.
المناضل الدؤوب
جان ـ بيير فيليو
أستاذ تاريخ الشرق الأوسط المعاصر، معهد العلوم السياسية، باريس
ما أصعب الاختيار، بين كل المبادرات الشجاعة التي قام بها ميشيل كيلو طوال حياته، تلكَ التي يجب ذكرها بعد رحيله. والحرج كبير ما دام هذا المناضل الدؤوب لم يتوقف عن الانخراط، وعن تعريض نفسه للمخاطر، وعن المخاطرة باسم رؤيته لسورية الديمقراطية. سورية محررة من استبداد نظام الأسد، التي سيتحرر فيها النساء والرجال أخيرًا من انتمائهم إلى طائفة إثنية – دينية، لأن هذا التحرر هو شرط المواطنة نفسه.
ولذلك، من بين أفعال ميشيل كيلو الشجاعة كلها، لأنه كان لا بد من الجرأة من أجل الصمود في مواجهة الكثير من الأحكام المسبقة، سوف أذكر فعلًا واحدًا: وساطته في شهر شباط/ فبراير 2013 في رأس العين، التي سمحت بإعادة الهدوء إلى المدينة المُحَرّرة من النظام قبل ثلاثة أشهر، لكنها الممزقة منذئذ بالمواجهات بين الميليشيات. فحيث لم يجرؤ مبعوثو منظمة الأمم المتحدة على المغامرة في ميدان وقف إطلاقات النار المحلية مباشرة، مفضلين ضفاف بحيرة ليمان لكي يثرثروا حول السلام، جمع ميشيل كيلو من ناحيته المتقاتلين وتفاوض معهم خلال اثني عشر يومًا. هو، المسيحي العلماني، الفخور بعروبته، حمل على الجلوس على الطاولة ذاتها، القوميين الأكراد من وحدات حماية الشعب، وجهاديي جبهة النصرة، ومقاتلي الجيش السوري الحر. واعتمادًا على سلطته المعنوية، هو الذي كانت نزاهته قد فرضته على كل الأحزاب، كان قد توصل خلافًا لكل التوقعات إلى وقف إطلاق النار مع انسحاب مختلف الميليشيات إلى خارج المدينة.
صحيح أن وقف إطلاق النار هذا لم يصمد إلا خمسة أشهر، قبل أن تستأنف قوات حماية الشعب الهجوم وتتأكد من السيطرة على المدينة. ولكن، هل نعرف حالة أخرى لرجل وحيد نجح في وقف العنف خلال خمسة أشهر في سورية هذه التي انتهكت فيها مختلف ضروب الهدنة ما إن يتم الإعلان عنها؟
كان ميشيل كيلو على قناعة، وقد برهن على ذلك في رأس العين، بأن الإرادة السياسية لا يجب أن تستسلم أبدًا أمام ابتزاز السلاح.
رحيله هو أكثر ما يستدعي الأسف بفعل ذلك كله.
سوري استثنائي
بدرالدين عرودكي
كاتب ومترجم
سوري أولًا، لكنه فلسطيني أيضًا ولبناني، وبإيجاز عربي. كان ميشيل كيلو إنسانًا نبيلًا، إنسانًا استثنائيًا بكل ما تطويه الكلمة من معان.
منذ البداية، وعى ضرورة تجاوز كل الشروط، الاجتماعية والثقافية والأيديولوجية والدينية، التي كان يمكن لها أن تسجنه أسير مبادئها وأوهامها الخاصة بها.
لقد تجاوز جدران الدين والطائفة والانتماء القومي وخصوصًا جدران الأيديولوجية الشيوعية التي كان قد انضوى في شبابه تحت رايتها؛ ومنذئذ، وقف في وجه المستبدين، مدنيين وعسكريين، الذين كانوا، اعتبارًا من آذار/ مارس 1963، قد استحوذوا على سورية.
هكذا استطاع أن يخرج على مواطنيه مناديًا بالحرية بوصفها مبدأً أساسًا من أجل التحرر، لا من الإرث الاستعماري فحسب، بل خصوصًا من الاستبداد وأثقاله. استبدادٌ كان قد تجذر في سورية طوال خمسين عامًا، جاعلًا من البلد ملكية عائلية ومن حياة السوريين جحيمًا مستمرًّا.
قادته سنوات من الإعداد إلى لحظة الحقيقة، حين عبر عن الموقف الذي اتخذه بشجاعة وبلا لف ودوران ذات يوم في صيف 1979، مواجهًا بخطاب الحقيقة سلطة فرضت نفسها بالقوة وبالقمع. على هذا النحو رأى فيه كثير من السوريين ناطقًا يعبّر عن آلامهم وآمالهم. كان ذلك خلال اللقاء الذي دعا إليه ممثلو السلطة الاستبدادية نخبة من المثقفين، في محاولة لاحتوائهم بعد مجزرة مدرسة المدفعية بحلب التي ارتكبها الإخوان المسلمون. في ذلك اليوم، لم يفت ميشيل كيلو أن يقول عاليًا وبقوة ما كان ملايين السوريين يفكرون به حول واقع الحوكمة السياسية والاجتماعية. لقد صار منذ ذلك اليوم في آن واحد نموذج المثقف الحر والملتزم، وكذلك هدف المستبد وقمعه.
كانت الحرية والديمقراطية هدفيْه الأساس، من أجل الحفاظ على ضمانات مواطنة متساوية في المستقبل، لا غنى عنهما في الفسيفساء الرائعة من الإثنيات والأديان التي تؤلفها سورية. قاده هذان المبدآن منذ سنة 2000 بطبيعة الحال نحو العمل على إحياء لجان المجتمع المدني التي كان أحد مؤسسيها.
استطاع هذا الرجل، طوال السنوات العشرين الأخيرة، أن يبرهن بصورة عفوية على إمكان مماهاة النظرية والممارسة في سلوكه الشخصي الذي صار نموذجًا نادرًا للمثقف الملتزم في سورية المسحوقة بالاستبداد.
في القرن الماضي، عرفت سورية وقدَّرَت إنسانًا استثنائيًا كبيرًا: فارس الخوري. لكن سورية استطاعت أيضًا منذ عام 1979 أن تكتشف وتعرف وتقدِّرَ إنسانًا استثنائيًّا آخر: ميشيل كيلو.
مُدافع عن التعددية في المعارضة السورية
فرنسوا بورغا
عالم سياسي، مدير البحث في المركز القومي للبحث العلمي
حتى وإن كنت قد حظيت بلقائه، لا أستطيع أن أعتبر نفسي من أصدقائه ولا حتى من القريبين من ميشيل كيلو. ومع ذلك، أرى بوصفي باحثًا عاكفًا على فجر الصراع السوري اللامحدود، وكذلك بوصفي مواطنًا مهمومًا بالصدوع المتفاقمة في عالمنا، أن ميشيل كيلو احتلَّ ولا يزال يحتل حتى هذا اليوم مكانة متميزة جدًا. لقد جسَّدَ في الواقع ما يحتاج إليه المجتمع السوري كثيرًا، بل العالم كله أيضًا، وبصورة خاصة فرنسا عصرنا. منذ بداية الثورة السورية، نجح ميشيل كيلو في أن يبقى بهدوء على اتصال مع كامل طيف المعارضة السورية المتعددة والعابرة للطوائف. كان ميشيل كيلو يملك منذ ثقافته المسيحية قدرة نادرة الحضور في أيامنا على أن يقيم علاقة “منزوعة الطائفية”، وسياسية بصورة نبيلة، مع هذه القوى التي يعمل عالَمٌ ما -العالم الذي يحتكر مع الأسف نسبة ساحقة من وسائل الإعلام الكبرى، وليس في أوروبا وحدها- على تشويه سمعتها بوصفه إياها بـ “الإسلاموية”.
كان على هذا النحو بمعنى ما أحد مكتشفي وأحد رواد “الإسلاموية اليساروية” هذا، موضوع يجري شجبه كثيرًا في فرنسا اليوم. يشجبه كل الذين لم ينجحوا بعد في أن يلمحوا القاعدة المشتركة والعالمية للنضالات التي يخوضها قسم واسع من التيارات القانونية لكنها المقوقعة مع ذلك بتسميتها “إسلاموية”. وبخلاف عدد لا بأس به من زملائه السوريين وكثير من المراقبين الغربيين، نجح بفعل ذلك في ألا يقع في الفخ الذي نصبته له المناورات الفظة للطاغية الدمشقي الذي سارع، من أجل التفرقة بين معارضيه وتشويههم في عيون الغربيين، إلى جعلهم كلهم “من السنة” وإلى تجذير الانتفاضة الشعبية الواسعة التي كانت تهدده. عناد نادر وشجاع حمل له أحيانًا ضروبًا من السخرية في معسكره.
أول لقاء مع ميشيل كيلو
جان بيير بيران
صحفي
ليس من السهل على صحفي في ظل حكم استبدادي أن يطلب موعدًا من معارض. والخوف هو إرساله إلى السجن بنشر أحاديثه أو أن يطلب إليك ألا تذكر اسمه، وهو ما ينزع عنها بالطبع قيمتها. كان ميشيل كيلو قد أجاب على الهاتف فورًا: “نعم، بالتأكيد. ولكن من الأفضل أن تأتي بالباص لا بالتكسي”. بالباص؟ “نعم، من السهل الوصول إلى بيتي. تأخذ الباص رقم.. ثم تغير في …”. كان ذلك أول لقاء لنا.
أنا مدين إذن إلى ميشيل كيلو بتجوالي للمرة الأولى بالباص في دمشق. لم تكن تجربة ابتدائية، على العكس، بل كانت رغم ذلك أكثر غنى من السير على القدمين أو ركوب التكسي، حتى وإن كان جماعيًا. وبالانتباه إلى ألا يكون المرء ملاحقًا، فإنه يلقي نظرة ثاقبة على الذين يحيطون به. ويسجل على هذا النحو كمية من التفاصيل الصغيرة، ذات الطرافة ولا شك لكنها كما يقول آرثر كوستلر، “: التاريخ، هو أيضًا النادرة الطريفة”.
حين لقائنا في أيار/ مايو 2001، لم يبخل ميشيل كيلو بكلماته.
كان قد انتهى قبل أشهر عدة من ذلك ما سمي “ربيع دمشق”، هذا الربيع غير المتوقع الذي حدث غداة موت حافظ الأسد وتتويج ابنه بشار في السلطة. ربيع منير أيضًا، لا مثيل له في تاريخ سورية الحديث، بما أنه حرر فجأة الكلام الأسير منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وولَّد عشرات المنتديات التي كان الناس يجرؤون فيها على المطالبة بمزيد من الديمقراطية والحرية وتحقيق المجتمع المدني.
لكن الثامن من شباط/ فبراير 2001، كان الشتاء الذي عاد كي يُجمِّد سورية. في مقابلة صحفية مع جريدة الشرق الأوسط، لمح رئيس الدولة الشاب إلى أن الحريات المأخوذة يجب أن تستعاد. وجاء خطاب شديد القسوة ألقاه نائب الرئيس عبد الحليم خدام بعد أيام عدة من ذلك، في جامعة العاصمة، والاتصالات الهاتفية من قبل البوليس السري بمثقفين كانوا في الخط الأول للتأكيد على أن الأيام الجميلة قد انتهت.
استمر مع ذلك قليل من الأمل لدى المعارضين، ومنهم ميشيل كيلو الذي لم يكن ذا طبيعة متشائمة. “بقي الاقتصاد هو نفسه، وطريقة الحكم أيضًا، وكذلك البوليس السري. ومع ذلك، فالجو العام تغير قليلًا. هذا كل شيء لكنه كان كثيرًا في سورية”، كما أسرَّ لي يومئذ.
ولكن بعد أشهر عدة من ذلك، سوف يُستأنَف التنمر ضده. وفي أيار/ مايو 2006، كان يتواجد في السجن.
يحدث لي، منذ هذا اللقاء، أن أستخدم الباص في بعض العواصم العربية، وخصوصًا في بغداد. أما الآن، فسوف يكون ذلك في ذكراه.
__________
عنوان المادة: Florilège d’hommages à un ténor de l’opposition syrienne
الكاتب: Bassma Kodmani, Burhan Ghalioun, Michel Duclos, Jean-Pierre Filiu, Badr Eddine Arodaky, François Burgat, Jean-Pierre Perrin.
المترجم: بدرالدين عرودكي
مكان وتاريخ النشر:CAREP, le 03 mai 2021
رابط المقال: https://bit.ly/3bfql8R
عدد الكلمات: 2934