المحتويات
الآثار الاجتماعية لاقتصاد الحرب
أسواق جديدة للجهات الفاعلة الجديدة
نُبْل ريفي قديم يرتطم بمنخفض جديد
صعود الأكراد بوصفهم فاعلين اجتماعيين
الميليشيات الشيعية في موقع المسؤولية
عنوان المادة الأصلي باللغة الروسية | Syria’s Society Upended |
اسم الكاتب | ، خالد يعقوب عويسKhaled Yacoub Oweis |
مصدر المادة الأصلي | مؤسسة العلوم والسياسة SWP Comments 27 |
رابط المادة | https://www.swp-berlin.org/fileadmin/contents/products/comments/2017C27_ows.pdf |
تاريخ النشر | تموز/ يوليو 2017 |
المترجم | روزا حاجي |
لقد غيّرت الحرب الأهلية السورية هياكل الأعمال القائمة بعمق، والتوازن الدقيق للقيم الدينية، والعلاقات طويلة الأمد بين المناطق الحضرية والريفية. وقد ظهرت شبكاتٌ، وهوياتٌ، وتراتبيات اجتماعية جديدة بالارتباط مع اقتصاد الحرب، وعسكرة المجال العام، وعلاماتُ التطهير العرقي. ومن غير المرجح أنْ تؤدي أيّ نهايةٍ رسمية للصراع إلى وقف التحول الاجتماعي الشديد. وسيظلُّ التعايش تحديًّا كبيرًا بسبب طبيعة الانقسامات. غير أنَّ وجود نظامٍ سياسي شامل ينهي تهميش الأغلبية السنيّة، ويقبل التنوع، ويحمي الأقليات، هو شرطٌ مسبق، ومطلبٌ أساس لخفض مستويات عدم الثقة العميقة بين مختلف المجموعات المجتمعية.
استخدمتْ أنظمة الشرق الأوسط جميعها تقريبًا أساليب فرقْ تسدْ لإدارة مجتمعاتها قبل ثورات “الربيع العربي”. ومع الأيام، استخدموا أسلوب الترغيب والترهيب (بالعربية بالأصل)، وهو نموذجهم من مقاربة العصا والجزرة. إنَّ حكام الجمهوريات المنحدرين من أقليّةٍ دينية، كما هو الحال في سورية والعراق، يميلون إلى استخدام نموذج أكثر وحشيةً لأنّهم يحتاجون إلى ترويض الطائفة الأغلبية من السكان الذين لا يتمتعون من منظورهم بمشروعيةٍ تُذكر، لا ديمقراطية “تقليدية”، ولا دينية.
إنَّ سقوط صدام حسين في عام 2003، وزوال حكم الأقلية السنيّة في بغداد لم يفعلا شيئًا يُذكر لتغيير استراتيجية النظام العلويّ في دمشق، إذ استولت طائفة الأسد على أجزاءٍ من الاقتصاد، ومنحتْ امتيازاتٍ هائلة لنخبٍ أخرى مرتبطة بها. وكان تعزيز النظام -بصرف النظر عن الأجهزة الأمنية- يجري عبر شراكاتٍ بين الطبقة العلوية العليا، والتجار السنة، وخصوصًا في دمشق وحلب. أخضعَ النظام القبائل السنيّة الأكبر، التي، نتيجةً لذلك تفككت على مرِّ العقود. وفي الوقت نفسه، أعطاهم دورًا في الإدارة العامة، ودُعم الفلاحون قبل التحرير/ اللبرلة الجزئي للاقتصاد في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأسهم رفع الإعانات في حدوث فوضى اجتماعية واقتصادية. عُومل المجتمع الكرديّ معاملةً سيئة، وحُرم من حقوقه، باستثناء دعم النظام على نحوٍ متقطع لحزب العمال الكردي التركي (PKK).
في الوقت الذي اجتاحت الموجة الأولى من الربيع العربي شمال أفريقيا في أواخر عام 2010، حاول بشار الأسد أنْ يستبق الثورة السورية من خلال تقديم التزاماتٍ خطابية لتحسين شعبيته لدى قاعدة النظام غير العلوية، ولكنَّ الصدوع الاجتماعية والاقتصادية قد ازدادت لدرجةٍ أكثر عمقًا بحيث صار من الصعب أن يحتويها النظام، وهو الذي عززّها سابقًا. على سبيل المثال، لم يعدْ النظام قادرًا على إدارة الجهاديين الشباب، وغيرهم من الفاعلين الإسلاميين الذين كان قد رباهم بطريقةٍ ما ذات يوم، من أجل تقديم الأسد وكأنّه البديل الوحيد مقابل الفوضى، وكي يضغط على الغرب لإنهاء مراحل العزلة المفروضة على النظام من عام 2005 إلى 2008.
الآثار الاجتماعية لاقتصاد الحرب
أدتْ آليات الحرب الأهليّة التي تلتْ حملة القمع تجاه ثورة عام 2011 إلى تفتتٍ اجتماعيّ هائل. فقد حطمت التراتبيات الاجتماعية، والاقتصادية، والأسرية، وأججت شبكات الحرب الاقتصادية الجديدة. تبدل توازن القوى بين الجماعات الدينية والعرقية، ولم يعدْ الحراك الاجتماعي يتوقف على وجود رابطٍ مع النظام؛ ونتيجة لذلك، فإنَّ سيطرة جماعة الأسد على نظام الحكم الذي دمج بين المحسوبية، والحكم الطائفي خفَّتْ بشكلٍ حاد.
أسواق جديدة للجهات الفاعلة الجديدة
أضعف فَقْد السلطة المركزية التدريجي الاعتماد على الغنائم الاقتصادية بين الطبقة العليا للنظام، حيث انفتحت أسواقٌ جديدة، أو أكبر للجهات الفاعلة الشابة سابقًا والذين كانوا في عمر الثلاثينيات في مناطق النظام وفي أراضي المتمردين.
ومن بين صفوف الموالين، كانت المسروقات وجزء من السوق السوداء الحوافز الرئيسة لآلاف المجندين في ميليشيات النظام. موظفون برتبٍ بسيطة نسبيًا في جهاز الاستخبارات، كانوا يعيشون على رشاوى صغيرةٍ تقريبًا، ازدادوا ثراءً من خلال فرض رسومٍ مقابل معلوماتٍ عن المعتقلين في سجون النظام، وزنزانات الاستخبارات. كان من الشائع أنْ تبيع العائلات جميع ما تمتلك للحصول على الأموال فقط لمعرفة في ما إذا كان أبناؤهم أحياءً أم أمواتًا. وارتفع آخرون إلى أعلى مراتب الابتزاز في المناطق المحاصرة. إنَّ تزويد أراضي النظام بالوقود، وصفقات الطاقة مع المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة الإسلامية (داعش) أصبحت أعمالًا تجارية كبيرة. وسعى المستغِلون الجُدد لتعزيز منزلتهم الاجتماعية مدعومين من ميليشياتهم الخاصة، فخوفوا الشخصيات الأساسية السابقة من مجتمع رجال الأعمال من أجل تولي مناصبهم، بوصفها طريقة أكثر عنفًا من الناحية الظاهرية من ممارسة الأعمال التجارية التي دخلوها بعد عام 2011.
ومن الشخصيات الرئيسة، والممثل النموذجي لهذه النخبة التجارية الجديدة سامر الفوز. وهو شخصيةٌ شابة غير معروفةٍ سابقًا في اللاذقية، اشترى نقدًا على ما يبدو ممتلكاتٍ عام 2017 عائدةٍ لعماد غريواتي؛ وهو من جيل رجال الأعمال المعروفين باسم “أصدقاء بشار” قبل الثورة، مستفيدًا من عائدات الحرب. ومن بين ممتلكات الفوز الجديدة المحكي عنها: نادي الشرق، وهو مركز رئيس لنخبة دمشق القديمة. ويشير شراء النادي إلى نجاح الفوز في الدخول إلى التراتبية البرجوازية في العاصمة.
احتلت جهاتٌ فاعلة شابة سابقة المقدمة أيضًا في مناطق المعارضة، وفي الغوطة الشرقية من ضواحي مدينة دمشق، أدى الحصار الطويل إلى نمو تجارة الأنفاق، التي أجبرت التجار التقليديين على إخلاء المجال أمام جيلٍ أصغر سنًا. وقد جمع “الرأسماليون الجدد” ثرواتهم في الحصار من خلال توريد اللوازم الأساسية، والسلع ونقلها عبر الأنفاق. وقد تشاركوا مع المتمردين، وفي کثیرٍ من الحالات تشاركوا مع النظام، واحتاجوا إلی رجال الدین لإضفاء الشرعية على أعمالهم. ناور كثيرون من رجال الدين بين الطبقات الاجتماعية المتغيرة، وكسبوا رئاسةً صورية بوصفهم أعضاء في مختلف المحاكم الدينية، ومجالس القضاء المرتبطة بكتائب المتمردين. وأضفت هذه المجالس الشرعيةَ على تورط الكتائب في اقتصاد الحرب، وعائدات الحرب ضد متمردين آخرين، التي تنطوي في كثيرٍ من الحالات على المنافسة بخصوص الموارد، وكذلك الأيديولوجية الدينية.
تمرُّ الأنفاق من الغوطة الشرقية إلى منطقة المتمردين بالقرب من حي القابون في دمشق. ومع ذلك، وبموجب صفقة استسلامٍ في النصف الأول من عام 2017، نُقل بموجبها المتمردون من المنطقة إلى مناطق المعارضة بعيدًا من العاصمة. أُغلقت الأنفاق معظمها بعد أنْ خسر المتمردون القابون، وحاز تاجرٌ صغير سابق يُدعى محي الدين منفوش على احتكارٍ عمليّ لتزويد الغوطة الشرقية. أقام منفوش علاقاتٍ متينة هو وشبكةٍ من الوسطاء مع النظام، وكذلك المتمردين، ما مكّنه من نقل البضائع عبر البرِّ علنًا.
لربما كانت التطورات السياسية تحديًّا للتراتبية الجديدة. فالغوطة الشرقية التي كانت هدفًا رئيسًا لهجوم غاز الأعصاب الذي قتل مئات المدنيين في عام 2013، ومن المفترض أنْ تكون مشمولةً في “مناطق خفض التصعيد” المزمع إنشاؤها. وهي المناطق التي جرى اقتراحها في أيار/ مايو 2017، من الضامنين الثلاثة (روسيا، وتركيا، وإيران) لمحادثات السلام في آستانة التي عُقدت في كازاخستان منذ أوائل عام 2017. ولأنَّ موسكو تتصرف بوصفها مؤيدًا أكثر تحمسًا للمناطق، فمن غير المحتمل أنْ تؤدي المناطق إلى سيناريو على غرار برلين الغربية، بمعنى أنّها جزيرةٌ محوطة بأراضي “عدو”، ولكنْ مع حرية الوصول نسبيًا إلى العالم الخارجي. ومن المرجّح أنْ يؤدي تحديد الوصول ومستوياته إلى المناطق لإعادة تشكيل الديناميات المجتمعية المحلية.
انتقام/ ثأر من فقراء الريف
إنَّ عسكرة الثورة منذ النصف الثاني من عام 2011، وضعت السنَّة المهمشين في صلب المقاومة المسلحة للأسد. وهم يتألفون من سكان الريف، ومن ذوي الأصول الريفية الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة من المدن، وما حولها. وقد وفرَّ لهم الدور العسكري، السلطة لتصحيح عدم التوازن الاجتماعي، والاقتصادي في ما يتعلق بالشرائح الأكثر ثراء من المجتمع المتحالفة مع النخبة العلوية.
بعد تقلص قبضة الأسد، أصبح الحراك الاجتماعي لكثيرٍ من سكان الريف السنَّة يعتمد على عوامل محلية، ودينامياتٍ مجتمعية بدلًا من ارتباطهم بنخب النظام. ظهرت مظلوميات، وبدأ كثير من الفقراء السنة يدعون أنفسهم بالمستضعفين، وهو مصطلحٌ مذكور في القرآن الكريم، وهو المصطلح نفسه الذي اُستخدم لاستخلاص الشرعية من أجل الصعود السياسي والاجتماعي للشيعة في العراق، ولبنان في السنوات العشر إلى العشرين الأخيرة.
عدّ النظام السوري سكان الريف السنّة، وخصوصًا أولئك الذين كانوا قد ثاروا ضده في الثمانينيات في محافظتيّ حماة وإدلب، يوصفهم “عناصر غير جديرةٍ بالثقة”. وعلى النقيض من الريف والأحياء الفقيرة، اتجه الجيش وأمن النظام إلى أنْ يكونا أكثر رسوخًا في القطاعات الأكثر ثراءً في المدن. فاستيلاء المتمردين على الأراضي، ومعظمها هامشية، أعاد ترسيم خطوط الحدود الاجتماعية، ليس بين الريف والمدن فحسب، بل بين المناطق الأكثر ثراءً، والأكثر فقرًا في المدن نفسها. وقد تطورت تلك الخطوط في جزءٍ كبير منها بسبب إهمال النظام فقراءَ الريف، وتطوير أنماط المساكن القانونية والمخالفة المرتبطة بالفساد، وتقسيم المناطق، والهندسة الاجتماعية.
نُبْل ريفي قديم يرتطم بمنخفض جديد
لقد أدتْ التغيرات الاقتصادية التي صاحبت الحرب إلى تقليص ما تبقى من نبل ريفي قديم، نجا من موجات التأميم، والسياسات الزراعية الاشتراكية في الماضي. ومن الأمثلة على ذلك بلدة قلعة المضيق، الواقعة في محافظة حماة. وهنا، تفاقمت التوترات الاجتماعية الريفية منذ الإصلاح الزراعي في الخمسينيات. فقد قام المزارعون المستأجرون السابقون للأراضي، الذين مُنحوا الأراضي بمواجهة النبلاء القدامى الذين تمكّنوا الاحتفاظ ببعض أراضيهم الأصلية. خلال الحرب الأهلية، فقدت قلعة المضيق التي تقع بالقرب من الآثار الرومانية لأفاميا على حافة سهل الغاب؛ حيازاتها الزراعية. وتُعزى الخسارة في معظمها إلى قصف النظام الذي هدفَ إلى منع الزراعة في مناطق المتمردين. انضم المزارعون المستأجرون السابقون في البلدة إلى كتائب المتمردين، وخصوصًا إلى أحرار الشام، وهي مجموعةٌ سلفية كبيرة تسيطر على معبرٍ رئيسٍ مع تركيا. ساعدت الجغرافيا والصلة مع أحرار الشام في تحويل قلعة المضيق إلى ممرٍ رئيس للسلع التركية، والوقود إلى مناطق المتمردين منذ بداية عام 2012. وقد أدتْ حلقات التجارة، والتهريب الجديدة إلى تهجير مالكي الأراضي النبلاء القديمين الذين كانوا في قمة الهرم الاجتماعي. ساعد النشاط التجاري المتنامي في البلدة في تعويض المنطقة عن عدم الوصول إلى عاصمة المحافظة، حماة، التي اجتاحها النظام بالدبابات في آب/ أغسطس عام 2011.
مناطق نائية أصبحت مراكز
إلى جانب التغيّرات في البنى الاقتصادية بسبب سيطرة النظام على المراكز التجارية التقليدية، تغيّرت المجتمعات في المناطق النائية نتيجةً للأعداد الكبيرة من اللاجئين وتنوعهم الذين فروا الى هناك.
ومع انفصال محافظة إدلب التي يسيطر عليها المتمردون عن مدينة حلب، تحولّت سرمدا، المدينة الصغيرة إلى مركزٍ للتحويلات وتصريف العملات الأجنبية، إذ حلّتْ الخدمات محلّ الزراعة بوصفها الدعامة الاقتصادية للبلدة. عبرَ إدلب، تنافس رواد الأعمال الشباب بشراسةٍ بين بعضهم لتقديم الخدمات. وأقاموا أبراج اتصالاتٍ محليّة مكّنت سكان المناطق المتمردة من شراء خدمات الإنترنت، والتواصل من خلال تطبيقات الصوت والرسائل.
إن ازدياد السكان في عموم إدلب بفضل قدوم اللاجئين جعل الأمر أكثرَ صعوبة بالنسبة إلى مختلف الألوية الجهادية، والسلفية المتشددة التي استولت على معظم إدلب لفرض رموزهم ومعتقداتهم الدينية، مثل ارتداء النقاب (الغطاء لكامل الوجه)، أو منع التدخين، على الرغم من أنَّ النقاب كان شائعًا إلى حدٍّ ما في الريف السنيّ السوري قبل الثورة. وفي بعض الحالات، جرى تكييف الأعراف الاجتماعية لتلائم الأعمال التجارية. على سبيل المثال، تمكّنتْ بلدة الدانا في إدلب اجتذاب رجال الأعمال من خلال تبني موقفٍ اجتماعيّ أقلَّ صرامةً تجاه النازحين. تأثر سكان الدانا الأصليون الذين يبلغ عددهم حوالى 30000 نسمة قبل التمرد، بقدوم 70،000 لاجئ أكثر استرخاء اجتماعيًا من أجزاءٍ أخرى من سورية، الذين جعلوا من الدانا موطنهم الجديد. وقد دفعت المرونة الاجتماعية في الدانا العائلات النازحة، وحتى النساء اللواتي يعشن لوحدهنَّ إلى استئجار العقارات في البلدة. وقد استأجرت إحدى النساء اللواتي نزحن من حلب، ولا ترتدي الحجاب لكامل الوجه، منزلًا وعاشت وحيدةً في الدانا أشهرًا عدة، من دون أيّ احتجاج.
صدامات طبقية في حلب
إحدى الشخصيات الرئيسة التي نقلت قضية سكان السنة الريفيين إلى أداة قوة بعد عام 2011 هو عبد القادر صالح، وهو تاجرٌ من بلدة مارع في ريف حلب، تحولَّ إلى قائدٍ للمتمردين، ومعروفٌ باسم حاجي مارع، إذ قاد صالح لواء التوحيد الإسلامي. مثلَّ شريحةً من الطبقة السنيّة الدنيا أو المظلومة اجتماعيًا، التي تميل إلى أنْ تكون أكثر تحفظًا، وتفتقر إلى الروابط القائمة بين رجال الأعمال الحضريين مع النظام. قاعدتهم لا تثق بالبرجوازية السنية.
قبل مقتل صالح في حلب في 2013، من خلال ضربةٍ للنظام، قاد لواء التوحيد تمردًا استولى من خلاله على القسم الشرقي من المدينة. ومقارنةً بغرب حلب الأكثر ثراءً، كان سكانه يتشكّلون في الأغلب من مهاجرين جُدد إلى حدٍّ ما من ريف محافظتي حلب، وإدلب ومن المناطق الأكثر جفافًا في شرق سورية. وكان سكان الصاخور، أحد أكبر أحياء حلب، يكسبون رزقهم بوصفهم عمالًا صناعيين مأجورين، أو في مقالع الحجارة، ومحالج القطن.
لقد عرفت المساكن في شرق حلب باسم “العشوائيات”، لأنّها بُنيت من دون تراخيصٍ، ولم يكن لها سند ملكية، أو تسجيلٌ في السجلات الرسمية. ويُقدّر أنَّ أكثر من نصف المساكن الحضرية في سورية قبل عام 2011، تقع ضمن فئة العشوائيات. وعلى النقيض من ذلك، فقد جرى تسجيل العقارات رسميًا، وتخصيصها في الأحياء الغربية من حلب، التي أمنت لهم الطرق والخدمات. وقد كانت سوق الإسكان، وتسجيل العقارات هما الوسيلتان الرئيستان في ترسانة فساد النظام. ما تزال ملكية المنازل اليوم في حلب، وفي مناطق أخرى من مناطق سيطرة النظام، تعتمد إلى حدٍّ كبير على ما يُسمى بجمعيات الإسكان التي تتألف من مجموعات من المالكين الذين يتأهلون للحصول على قروضٍ من بنوك الدولة لبناء مباني سكنية وفقًا لولائهم للنظام. وحال الانتهاء من البناء، يجري حجز عدد من الشقق مجانًا للمسؤولين أو للمخبرين لبيعها أو العيش فيها أو لإعطائها لأزلامهم، أو رشاوى للقضاة والمسؤولين الآخرين الذين يُسهلّون أعمالهم.
في موجة من الاستياء ضد نخبة حلب، فقد وسم نهب المصانع سقوط القطاع الشرقي للمتمردين. كان يُنظر إلى مالكيها على أنّهم أذنابٌ للنظام. ومع ذلك، كانت العلاقة أكثر حساسية. كان كثيرون من بين الأغنياء في غرب حلب قد رأوا خيارًا آخر غير العمل مع النظام أو مغادرة سورية. وقد ألقوا باللائمة على النظام في تدمير حلب بوصفها مركزًا عالميًا، وهرب سكانها من الأقليات، وخنق المشروعات الحرة. ومن ناحيةٍ أخرى، راهن بعضهم على صلاته بالنظام. فتح أحد الصناعيين مصنعًا في الأردن بعد أنْ نُهب مصنعه في حلب، إذ وظف فيه 700 عاملًا، واعتمد على أعمال التصدير. وفي حديثه من مكتبه في عمان، وإلى جانبه صورة للأسد، أوضح أنَّ التكاليف في الأردن مرتفعةً جدًا لأنّه، بعكس سورية، لم يتمكن دفع رشوة طريقة للهرب من دفع تأمين العمال.
صوفيون مقابل سلفيين
لم يجرؤ أحدٌّ على أن يشكو علانيةً من المحسوبية الطائفية التي مارسها النظام في حقبة ما قبل عام 2011، ولكنّها كانت مصدرًا رئيسًا للاستياء السنيّ الكامن. وعدّ المعارضون الذين كان بينهم علويون أنَّ النظام غير قابلٍ للاستمرار، وأيدوا تحولًا ديمقراطيًا بديلًا من أيّ انتقامٍ طائفي.
بين السنّة في سورية، تنافست فئاتٌ مختلفة مرتبطة بالسلفية والصوفية بهدوءٍ على النفوذ، في حين حافظ التوازن الذي جرى بناؤه على مرِّ القرون لإبقاء التوترات تحت السيطرة. اتجه السنة معظمهم إلى أنْ يكونوا محافظين اجتماعيًا، متأرجحين أحيانًا بين السلفية والصوفية. لم تحقق أيّ منهما أيّ تقدمٍ في سورية على نطاقٍ واسع كأيديولوجيةٍ في حد ذاتها.
ومع ذلك، منذ أوائل العقد الأول من القرن الماضي فصاعدًا، بدأ النظام يتلاعب بهذا التوازن الهش ليتناسب مع أغراضه السياسية، ومعززًا اعتباطيًا الفجوة الأيديولوجية السنيّة من خلال إعطاء مجموعاتٍ معينة حرية الإرشاد أو الهداية في حين يمنعها عن الآخرين. ويبرز مثالين حول الجانب الصوفي، أولهما هو مؤسسة الشيخ أحمد كفتارو، التي سمحت لها الإدارة العليا للسلطات بتأسيس اتصالٍ مع سفراء الغرب بوصفها الوجه المعتدل للإسلام المدعوم من النظام في سورية. وثانيهما هن القبيسيات، وهي مجموعةٌ مقتصرةٌ على النساء فحسب، ازدهرت معظمها في دمشق، حوالى عام 2006، نتيجةً لاستياء السنّة المحافظين، الذين عدّوا القبيسيات طائفة. (طريقة دينية)
ومع تسليط الضوء على الخطر، سهلَّ النظام تجنيد الجهاديين لتقويض الوجود الأميركي في العراق منذ عام 2003 فصاعدًا، ما أسهم في انتشار السلفية، وخصوصًا في المناطق الريفية، والمناطق الحضرية الفقيرة. واثقًا من قدرته على إدارة الجوقة حتى الجهاديين ذاتهم، فقد جلب النظام في عام 2006 سكان الأحياء الفقيرة المتطرفين إلى وسط العاصمة، وسمح للآلاف بالدخول إلى المنطقة الدبلوماسية في دمشق للتظاهر ضد نشر الرسوم الكرتونية الدانماركية التي صورّت النبي محمد.
هاجم المتظاهرون -بتحريضٍ من رجال دين معينين من النظام- السفارتين الدانماركية والنرويجية. رأى الدبلوماسيون الأوروبيون المقيمون في دمشق أنَّ الحادثة هي نتاج “اليد الخفية” للنظام. في ذلك الوقت، كان تحذيرًا مبطنًا من أنَّ النظام يمكن أنْ يسمح لعفريت الإسلام المتطرف أنْ يخرج من القمقم ما لم ينهِ الغرب العزلة المفروضة على الحكومة السورية بعد اغتيال رجل الدولة اللبناني رفيق الحريري في عام 2005.
لم تكن للانقسامات الاجتماعية -العرقية والدينية- أهمية سياسية تُذكر في بداية الاحتجاجات في عام 2011. فقد دعم عدد من العلويين البارزين، أمثال الممثلين والمخرجين الثورة، إذ اجتاحت التظاهرات المؤيدّة للديمقراطية الريف والمدن على نطاقٍ واسع، وكذلك المناطق الحضرية ذات مستويات الدخل والميول الدينية المختلفة. وفي الحرب التي أعقبت ذلك، تعلقت المناطق المتمردة المحاصرة بالدين بقوةٍ أكبر، وذلك جزئيًا كوسيلةٍ للتعامل مع المعاناة من جراء القصف العشوائي للنظام، والقوات الروسية. تجاوزت السلفية تأثيرات الصوفية المعتدلة، وعزّز الاستقطاب الأيديولوجي مستويات المرارة تجاه المدن التي تتمتع بأمانٍ نسبي، والاشتباه بأنَّ سكانها السنّة قد “باعوا أنفسهم” للنظام. وصار يُنظر إلى دمشق بصورة خاصة على أنها تفتقر إلى صبغتها الدينية لأنَّ العاصمة كانت قد تأثرت بالصوفية التي يُعدّ أتباعها مرتدين من الإسلاميين المتشددين.
وبحلول منتصف عام 2017، استولى النظام من خلال حرب الحصار على معظم المناطق التي كان قد خسرها أمام المتمردين في العاصمة وفي الضواحي، باستثناء الغوطة الشرقية. كان للسلفية جذورٌ في المنطقة، وأُعيد إحياؤها قبل الثورة من خلال دعم النظام الضمني للجهاديين. يميل تجار الغوطة الشرقية إلى عدّ أنفسهم “قريبين من الناس”، معارضين للدمشقيين الانعزاليين المرتبطين بالصوفية، وداعمين بصورة عامة للثورة. وعاد أحدُّ تجار الغوطة الشرقية بعيدًا إلى الوراء ليلقي باللوم على الدمشقيين عن وفاة ابن تيمية، وهو عالم دينٍ من بلاد الشام ألهم حركاتٍ سلفية حديثة، وتوفي في أثناء سجنه في قلعة دمشق خلال حكم المماليك في عام 1328.
إلا أنَّ سكان دمشق لم يكنْ لديهم سوى مجال قليل لإظهار أيّ تعاطفٍ ليتصرفوا وفقه مع السنّة، أخوتهم في الدين بسبب دور الأمن الزائد منذ أنْ تولى الأسد السلطة. في إضراب عام 2012 الذي نظمّه تجارٌ دمشقيون، وقمعته الحكومة بسرعة، وذلك للاحتجاج على مذبحة حمص التي راح ضحيتها أكثر من 100 مدنيّ سنيّ. بعد صعود الجهاديين، صار من الممكن أنْ يسود شعور بين التجار الذين لم يفروا من البلاد بأنّ سورية، في ظل الأسد، ما زالت مفضلةً بالنسبة إلى ما هو عليه حكم الدولة الإسلامية، أو الحكم على غرار طالبان. ومن بين أولئك الذين بقوا، ظلَّ كثيرون، لا من أجل دعم النظام، ولكنْ لأنّهم خافوا في ما إذا غادروا البلاد، فإنَّ الميليشيات الشيعية الموالية للنظام التي تُجند من داخل سورية، وخارجها ستستولي على ممتلكاتهم. وعلى الرغم من أنَّ وجود الميليشيات كان مرئيًا في المدينة القديمة، وهي مركزٌ لبعض أكثر الأسواق ازدحامًا، إلا أنَّ النظام سعى لإبقاء أصحاب المحال التجارية المحافظين في دمشق واجهة للنشاط الاقتصادي “المعتاد/ الطبيعي” خلال الحرب.
مشهد قبلي جديد
من الناحية النسبية، كانت القبائل العربية هي أقوى المكونات السنيّة التقليدية للنظام. إنَّ معرفتهم وتأصيلهم في الأراضي الكبيرة التي يقطنونها شرق حلب، وحماة، وحمص وصولًا إلى الحدود العراقية جعلتهم مرتكزًا لا غنى عنه للسلطات المختلفة التي استولت على المنطقة بعد عام 2011.
تفاوتت آثار الحرب وفقًا للقوى الخارجية الموجودة في المنطقة المعنية. القبائل التي كانت قد بقيت إلى جانب النظام تميل إلى كسب النفوذ، وتوسيع شبكاتها الاجتماعية. على سبيل المثال، كانت بني عزة، وهي فرعٌ من قبيلة الموالي الموجوة شمال حماة، واحدةً من التشكيلات الموالية للنظام التي برزت مع تحسن الوضع. وكان أحمد مبارك درويش، رئيس بني عزة، مشابهًا لشخصياتٍ قبلية أخرى قبل الثورة. وكوفئ على ولائه بمقعد في البرلمان المسخرة في عام 2003، واشتهر بالهيبة من خلال الفصل في المنازعات المحلية. تجاهل النظام التهريب في المنطقة، التي تحولّت خلال الحرب إلى ممرٍّ بين أراضي النظام والدولة الإسلامية (داعش)، والمتمردين. وقد نجح درويش في أداء دور الوسيط بين الفئات الثلاثة. التجار السنّة الذين هربوا من حماة إلى تركيا، تواصلوا معه لإرسال البضائع التركية إلى شبكاتهم القديمة في المدينة، والوقود من مناطق الدولة الإسلامية سيمر من خلاله إلى المناطق المختلفة.
خارج مناطق النظام، وخصوصًا في شرق سورية، أنتج الصراع على الموارد خلافاتٍ قبلية، موسعًا الانقسامات في المجتمعات المحلية التي كانت مجزأةً بسبب سياسة فرق تسد التي اتبعها النظام في العقود السابقة. وفي المحافظات الشرقية، الرقة ودير الزور والحسكة إلى الشرق، تقاتلت قبائل مختلفة في ما بينها من أجل النفط والغاز إلى أنْ سيطرت الدولة الإسلامية (داعش) على جزءٍ كبير من المنطقة في عام 2013. وكان كبار رجال القبائل الذين يتمتعون باستقلالٍ نسبيّ، قد أُخضعوا لسيطرة أمراء محليين من تنظيم الدولة الإسلامية المهيمن.
صعود الأكراد بوصفهم فاعلين اجتماعيين
إنَّ استيلاء الدولة الإسلامية (داعش) على الشرق زاد الدعم بين الأكراد السوريين لميليشيا وحدات حماية الشعب ( (YPG، المدعومة من الولايات المتحدة، وهي فرعٌ تابعٌ لحزب العمال الكردستاني PKK. إنّ تقدم وحدات حماية الشعب ضد الدولة الإسلامية، بدءًا من أواخر عام 2014، غيّر المشهد الاجتماعي في المنطقة، ومكّن رجعييّ وحدات حماية الشعب، التي أصبحت صاحبة النفوذ الجديدة.
تعاونت وحدات حماية الشعب مع الأسد منذ بداية الثورة، وأخمدت احتجاجاتٍ معادية للأسد بشكلٍ عنيف، وعملت قناة إمدادٍ للجيش النظامي. وبموافقة النظام، توسعت وحدات حماية الشعب لتشمل المناطق الكردية والعربية. وقد انقسمت منذ عام 2014 إلى ما يسمى بالكانتونات الثلاثة: الجزيرة في محافظة الحسكة الشرقية، وعفرين بالقرب من حلب، وكوباني، الواقعة بين الاثنين الآخرين. بعد أنْ عززت وحدات حماية الشعب قوتها، ظهر سماسرةٌ مرتبطون بوحدات حماية الشعب لبيع محصولات القمح إلى النظام، كما هو الحال في منطقة رأس العين الحدودية مع تركيا، ومعالجة النفط المنتج في الرميلان الحسكة، أكبر حقول النفط. رضخت شخصياتٌ محليّة في المدن، والبلدات الكردية إلى كوادر مسلحة من وحدات حماية الشعب الذين قمعوا المعارضة بعنفٍ. لم تطلب وحدات حمایة الشعب الولاء من شخصيات المجتمع الکردستاني المحليّ فحسب، بل كان عليهم أنْ يكونوا “أبوجيين” أو مؤمنين متحمسين أيديولوجيًا، بعبادة شخصية عبد الله أوجلان للفوز بأي ميزةٍ أو صفقةٍ مع وحدات حماية الشعب. وكثيرًا ما ترك عدد من الأكراد المتعلمين مسقط رأسهم، ما أدى إلى نقصٍ في عدد العاملين المؤهلين في المناطق الكردية في سورية، وفرَّ آخرون من التجنيد الإجباري في وحدات حماية الشعب.
ساعد الانقسام بين القبائل العربية، على غير نيتها، وحدات حماية الشعب حيثما استولت على المناطق العربية التقليدية من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). أنشأت وحدات حماية الشعب وحداتٍ مثل المجالس العسكرية والإدارات المحلية، إذ ستحصل الشخصيات القبلية العربية على مناصب ذات ألقابٍ رفيعة. كان حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، وهو الفرع السياسي لوحدات حماية الشعب YPG، أیضًا فاعلًا، أنشأ عددًا لا یُحصی من المجالس، ورتبَّ شراء ذممٍ لبعض القبائل العربية المحلیة. ومع ذلك، فإنَّ أيّ عملية صنع قرارٍ مهمة ظلّتْ ضمنيًا بأيدي الجهات الفاعلة في ميليشيا وحدات حماية الشعب. وتحت رعايتها، يبدو أنَّ العقد الاجتماعي مشابهًا لهياكل نظام الأسد السابقة، التي كان فيها نائب الحاكم بحكم الأمر الواقع هو المخبر الأمنيّ العلويّ من خلف الكواليس، وليس هياكل “الديمقراطية الشعبية” التي أُقيمت لإعطاء مظهرٍ بأنَّ الحكم للسكان المحليين.
الميليشيات الشيعية في موقع المسؤولية
من عام 2012 إلى عام 2013 وما بعده، أصبح التطهير العرقي سلاحًا في الحرب -الموجهة بوضوح ضد السكان السنّة في مناطق المتمردين- واستخدمته جهاتٌ فاعلة عسكرية مختلفة. وفي هذه المناطق المتمردة، أصبحت ميليشيات شيعية مختلفة، مدعومة من إيران، السادة الجُدد لعدد من المجتمعات التي اُقتلع أفرادها من جذورهم إلى حدٍّ كبير، وهربوا إلى البلدان المجاورة، أو إلى أوروبا بأعدادٍ كبيرة.
لقد تركزت عمليات نقل السكان على دمشق، والمناطق المحيطة بها، وعلى محافظة حمص المجاورة، وهي مناطق كانت في معظمها من السنّة الذين كانوا يعملون مراكز رئيسة للعمالة الماهرة في سورية، وخارجها. وأفرغت مدينتان مواليتان للشيعة في شمال سورية إلى حدٍّ كبير من سكانها عام 2017 جزءًا من اتفاق جرى التفاوض عليه بوساطة قطر. وشملت الصفقة تفريغ بلدتين سنيتين أخريين قرب دمشق، إذ لم يلق هذا الاتفاق أيّ اعتراضٍ دوليّ يُذكر.
إنَّ التشظي والتناقضات الداخلية بين الميليشيات الشيعية المختلفة، على أيّ حال، قد انعكسا في أداء المجتمعات في مناطق سورية التي استولت عليها الميليشيات، حتى بعد طرد السنّة منها. ومن بين هؤلاء، ما يزال حزب الله الأكثر قوةً، وصاحب أمهر عمليةٍ دعائية. وعلى الرغم من ذلك، فقد تقوضت سلطته من خلال العمل في سورية مع حلفاءٍ أقلَّ انضباطًا مؤلفين من ميليشياتٍ شيعية من سورية، والعراق، وأفغانستان، فضلًا عن الميليشيات العلوية المحليّة القائمة على النهب أكثر من الأيديولوجية.
كان الشيعة السوريون الذين أدّوا دورًا مكملًا بوصفهم مجموعةٍ اجتماعية صغيرة مؤيدة للنظام، متباهيةً بدعمها العسكري والمالي من إيران. وبحلول منتصف عام 2017، سقطت أجزاءٌ إستراتيجية من سورية على طول الحدود اللبنانية من القصير إلى الزبداني تحت سيطرة حزب الله، ومجموعةً متنوعة من الميليشيات المدعومة من إيران من سورية، ومن أماكن أخرى. متوحدين في إخضاع السكان السنّة الذين انتفضوا ضد الأسد، على ما يبدو لم يتمكنوا إقامة إدارةً متماسكة. ووصف أحد سكان منطقة القلمون الموافقات الصادرة عن حزب الله بالتحرك، أو أوامره بالإفراج عن المعتقلين أنَّها لم تكن بالضرورة موضع ترحيبٍ من أمراء الحرب الآخرين المدعومين من إيران في المنطقة.
التحول على المدى الطويل
إنّ التغيير الاجتماعي الذي بدأ خلال الصراع كان من المقرر أن يستمر حتى النهاية، بغض النظر عما إذا كان النظام متماسكًا أو ضعيفًا، أو -مهما كان، فمن غير المرجح في هذه المرحلة الحالية- أنْ يسقط. ومن بين الملايين الذين فروا من سورية إلى البلدان المجاورة، وإلى أوروبا، يُرجح أن يكون التغيّر الحاد في الطبقات الاجتماعية أكثر عمقًا وتنوعًا.
لقد سعى نظام الأسد لتقديم نفسه بوصفه اللاعب الوحيد في الحرب الأهلية الذي يمكن أنْ يعيد ترتيب المجتمع. وعلى الرغم من أنَّه فقد السيطرة على القوات التي أطلق لها العنان، دافعًا المجتمع نحو مستوياتٍ جديدة من الفوضى الثقافية، والأيديولوجية والاقتصادية. أخيرًا ولیس آخرًا، یواجه النظام تحدياتٍ مجتمعية من بين صفوفه. كانت مقاربته قبل الثورة في التعامل مع العناصر التي تكبر قوتها هو التخلص منها أو يحجمها. وكان التهديد بالعنف عاملًا رئيسًا في تولي السلطة بالنسبة إلى أقارب الأسد المباشرين -وخصوصًا أخوه وأبناء عمومته- على نسبةٍ كبيرة من الاقتصاد والنشاط غير المشروع، فضلًا عن المشتريات الحكومية. وسيتعين عليهم أنْ يتعاملوا مع ثروة الحرب الجديدة للمحافظة على هيمنتهم. ومن غير المحتمل أنْ يقبل الفاعلون الجُدد بالعودة إلى الوضع السابق حالما يختفي العدو المشترك. وفي إشارةٍ إلى التوترات المتصاعدة، جرى الإبلاغ عن حوادث عدّة على غرار عنف العصابات منذ عام 2012 بين أفراد عائلة الأسد، وغيرهم من العلويين.
وإذا أسفرت المناورة الدولية عن اتفاقٍ يُجمّل النظام الحالي، ويسمح له بمحاولة توسيع إستراتيجياته الاستقطابية مرةً أخرى، سيكون من الصعب على النظام أنْ يُهدئ سكان الريف السنّة. وقد تواجه وحدات حماية الشعب، التي استولت على المناطق الريفية السنيّة شرق حلب من تنظيم الدولة الإسلامية، المشكلة نفسها. وعلى الرغم من أنّ وحدات حماية الشعب قد تبنتْ نموذجًا في الحكم مشابهًا لنموذج النظام، إلا أنَّ الأراضي، والنزاعات الأخرى ما تزال تُفسد العلاقات بين الأكراد والعرب. وقد تثبت قوة وحدات حماية الشعب أنَّها تعتمد في النهاية على الدعم الأميركي. ومن دون ذلك، من المرجح أنْ ينظر السكان العرب في سورية، والريف القبلي باحترامٍ أقل لوحدات حماية الشعب، والهياكل “الديمقراطية” التي أنشأتها.
في المناطق الداخلية من سورية، الأكثر تمردًا، وفي الريف السني، في بعض الحالات، فقد خبرت الحراك الاجتماعي من دون الاعتماد على الترتيبات الاجتماعية المتعلقة بالنظام. لقد طوروا سرديتهم الخاصة، سردية “المستضعفين” بمساعدة مختلف الأيديولوجيين الدينيين من داخل سورية وخارجها، إذ بدؤوا العمل بحريةٍ لأولِّ مرّةٍ في البلاد حيث وقعت أجزاءَ كبيرة من الريف تحت سيطرة المتمردين. يمكن أنْ تكون السردية أداةً رئيسة للتعبئة الاجتماعية المستمرة، وعلى غرار معاناة الشيعة في العراق في ظلِّ صدام، ستظلُّ كامنةً حتى لو جرى القضاء على الثورة السورية. غير أنّ سكان الريف افترضوا أنَّ كثيرًا من فصائل المتمردين المختلفة التي تسيطر على بلداتهم وقراهم، يتصرفون بوصفهم أمراء حرب، وقد تفضّل نسبةٌ العودة إلى النظام، خصوصًا إذا كان هذا النظام يجمع الموارد الكافية لإعادة الدعم الضخم للمحصولات، ويعيد الإعانة المالية التي قطعها قبل الثورة.
إنَّ الاضطرابات التي طالت الهياكل الاجتماعية منذ الثورة، ومقدار الثقة المفقودة بين مكونات المجتمع المختلفة، والمتشظية، تبرز الحاجة إلى حلٍّ شامل، وديمقراطي للحرب الأهلية. إنَّ مثل هذه المقاربة هي في كثير من الحالات ليست مرغوبة من القوى الخارجية التي هي مشغولةٌ بإيجاد ترتيباتٍ جيوبوليتيكية، يرون أنَّها ستنهي الصراع وفقًا لمصالحهم. ومن المرجح أنْ يستغرق الأمر عقودًا لتضميد الجراح في المجتمع السوري -من الحرب الأهلية، فضلًا عن الهندسة الاجتماعية، والحكم الطائفي منذ توليّ طائفة الأسد السلطة عام 1970- وإعادة بناء مستوياتٍ من الثقة بين الفئات الاجتماعية التي ستسمح بالتعايش. ولكن من دون معالجة قضايا العدالة، والحوكمة، والإصلاح القضائي، والفساد المتفشي، وإنفاذ نظامٍ مناهض للاحتكار، فإنّ الانقسامات القائمة ستتعمق، وستظهر انقساماتٍ جديدة.