ترجمة أحمد عيشة
الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
على الرغم من تبعات الحرب الأهلية المستمرة التي بدأت منذ عقد من الزمن، فإن الشيء الوحيد الذي ظلّ ثابتًا في سورية هو هيمنة نظام البعث على الشعب السوري. قد تبدو عناوين مثل “من ربح الحرب السورية؟”، بالنسبة إلى البعض، عبارات متعجرفة، لكنها تعكس قضايا أكثر أهمية، وهي أن المناقشات حول الحرب السورية تركّز على الصراع، وعلى حلفاء النظام السوري ودعمهم العسكري، وعلى كيفية ترجمة هذا الفعل على الأرض. من الجوانب المهملة في الحرب السورية، الافتراض أن الهدف هو الفوز، وأن الصراع في سورية يُصوّر روتينيًا في هذا الإطار. تحتوي هذه الصورة على عناصر مهمة من الحقيقة، لكن النظرة الفاحصة تُظهر أن هناك -إضافة إلى الوظائف العسكرية المحض للعنف- أيديولوجيةً كرّسها نظام البعث على مدى خمسة عقود: قومية عاطفية تعوق الانتقال إلى الديمقراطية. وهي تقوم بذلك بواسطة نشر الارتباطات العاطفية بالأمة والقائد، كشكل من أشكال الهوية والانتماء في بناء الدولة السورية.
إن صياغة تعبير الحرب الأهلية السورية، كحرب بالوكالة، معناه أن نتجاهل طبقات التعقيدات التي تشكل جزءًا من الثقافة السياسية للأمة. ويتجلى هذا التعقيد في المسيرات العلنية الداعمة لبشار الأسد منذ انتفاضة 2011. ومن المعروف أن هذه المسيرات ينظّمها النظام وتفرضها قوات الأمن بالقوة، ولكن هناك بالمقابل العديد من السوريين الآخرين (ومنهم أصدقاء وأقارب لي) يدعمون الأسد حقًا ويؤيدونه. بالنسبة إلى بعض هؤلاء المؤيدين، فإن نظام الأسد والتعايش القسريين هما خصائص أساسية لنظام حكم مناسب وشرعي. وهذا يقودنا إلى البحث عن دور أيديولوجيا النظام القومية التي خلقت البناء الخيالي لسورية موحدة يحكمها نظام البعث، ويمكن ملاحظة ذلك في أذهان أنصار الأسد، في مواجهة حالة عدم اليقين التي تمثلها المعارضة المنقسمة.
لفهم دور القومية الكامن في الحفاظ على بقاء نظام الأسد، لا بد من استكشاف مدى دعم هذه الأيديولوجية له؛ إذ اعتمد حافظ الأسد وخليفته (ابنه بشار الأسد)، في إطار السعي لترسيخ السلطة وكسب الشرعية، على مصادر أيديولوجية تضمن الطاعة والولاء. هذه “القومية العاطفية” تديم الانتماء غير الطوعي والمتوطن للأمة وتخلده على أساس نشر الروح القومية الفطرية/ البدائية. في هذا النمط من القومية، يتم استبدال القيادة الشخصية والمحسوبية والعلاقات الوراثية، بالمفاهيم المدنية والحديثة للمواطنة. حتى الآن، فشل الباحثون والمحللون في فهم دور “القومية العاطفية” في التحريض على العنف، وعرقلة الانتقال إلى الديمقراطية، وضمان بقاء النظام البعثي في السياق السوري. ما يرتبط بهذا الإغفال هو التقليل من أهمية انتشار هذا النموذج الخاص من القومية -وهي أكثر انتشارًا في الأنظمة الاستبدادية- في التأثير على سلوك الجماعة، وأثرها على الأحكام السياسية، ومن ثم على إنتاج الذات السياسية.
خلّدت القومية الانتماءَ البدائي/ الفطري للأمة السورية الذي تحوّل إلى انتماء عائلي؛ بدلًا من الانتماء القائم على الاختيار الحر والواعي لدعم المؤسسات المدنية المفيدة في سورية، وهكذا صار يُقدَم حبّ الدولة وقيادتها على أنه إلزام رومانسي تلقائي، مع تجاهل للفكر أو العقل، وما كان لظاهرة “الأسدية Assadism” أن تكون ممكنة بغير ذاك. إن التماهي مع المؤسسات المدنية يميل إلى منع الإفراط في التأكيد على سلطة أي فرد. ومع ذلك، فإن المثالية الرومانسية للثقافة والوطن، في الأيديولوجية البعثية، ظهرت بسهولة وتحوّلت إلى حبّ زعيم استبدادي.
الأيديولوجية البعثية والولاء بالإكراه
على مدى الخمسين عامًا الماضية، اعتاد النظام البعثي السوري ترتيب مسيرات استعراضية في جميع أنحاء البلاد تملأ الساحات والشوارع، تدعو إلى حبّ القائد وتمجيده، كما الحال في الأنظمة الاستبدادية الأخرى، مثل كوريا الشمالية، والعراق في عهد صدام حسين. من الصعب التمييز بين “الإخفاء العلني للولاء أو الاعتقاد، من ناحية، والولاء الحقيقي أو الاعتقاد من ناحية أخرى”، ولذلك ركّز نظام البعث على استخدام القومية للحفاظ على سلطة الدولة وتوسيعها. وقد استحضر سرديته الرسمية للتاريخ وجوانب “الاستثنائية السورية” (التي تفيد بأن السوريين شعب معتز بذاته وله تاريخ عميق، وتغلّب على الاستعمار) لتحديد هوية الأمة السورية وحشد الدعم. على مدى العقود الثلاثة الأولى، جعلت الأيديولوجية البعثية المفروضة السوريين أبناءً لـ حافظ الأسد، الأب ذي الشخصية القوية والحاضرة في كل مكان. ومارس ابنه بشار ذلك الدور حين وصوله إلى السلطة في عام 2000. في البداية، توقع كثير من المراقبين التخفيف من حدّة النظام الاستبدادي، نظرًا لأن بشار كان يُنظر إليه على أنه زعيم شاب ومتطور ومتعلم في الغرب.
كان هذا هو الحال في البداية، حيث بدا بشار على استعداد لنقل سورية نحو أسلوب حكم أكثر مدنية وديمقراطية. تحرك الرئيس الجديد بسرعة لتشجيع المشاركة المدنية ونزع عسكرة الثقافة الوطنية، من خلال إنهاء التعليم العسكري الإلزامي وتغيير الزي المدرسي من اللون الخاكي التقليدي (الذي يشبه لباس الجنود) إلى الألوان المدنية مثل الأزرق والوردي والرمادي. ورث الأسد الشاب عن والده جهازًا راسخًا للدولة له مصالح خاصة كبرى، كما ورث تقليدًا شرعيًا عمره عقود، يقوم على عبادة رومانسية للوطن والشخصية. وكونه غير قادر على زعزعة هذا الوضع الراهن، أشرف بشار على تكيفٍ استطرادي زادت فيه رومانسية عبادة شخصية الأسد، من صورة الأب الصارمة والحنونة التي أظهرها حافظ الأسد خلال أعوامه اللاحقة، إلى صورة أكثر حماسة وقوة، وحضور ديناميكي لبشار الشاب كقائد وطني جديد.
على الرغم من محاولات بشار تحديث الحكم في أعوامه الأولى -من خلال التأكيد على ضرورة تطوير سيادة القانون ومؤسسات الدولة- فقد ورث نظامًا سياسيًا جديدًا مليئًا بالمحسوبية والتوريث والفساد والكلبية. ونتيجة لذلك، أصبحت الخطب الرئاسية والأغاني القومية والمسيرات الموالية للنظام التي تنظمها الحكومة والمليئة بالشعارات، أداةً أساسيةً في نشر الأيديولوجية البعثية وتشكيل ملامح الانتماء في سورية الحديثة. وأصبح من المستحيل تقريبًا لأي زائرٍ لمبنى حكومي أو سوق أو جدار شارع ألا يراه مغطًّى بصور الزعيم وباقتباسات من أقواله. وتم تشجيع طلاب المدارس الابتدائية وحتى طلبة الجامعات على الاستشهاد بكلمات حافظ الأسد، عند كتابة أي موضوع عن القومية، وهي مادة مطلوبة في نظام التعليم السوري. يجب أن يكون للمقالات المدرسية، حول الجغرافيا والتاريخ والأدب وكثير من الموضوعات الأخرى، نبرة وطنية. يكشف تفحص خطابات حافظ الأسد من تلك الحقبة عن استمرار المثل القومية الانفعالية البدائية المألوفة من المؤسسين البعثيين الأوائل، خلال ثلاثينيات وستينيات القرن الماضي، التي أصبحت الآن ملحقة بالدولة السورية القائمة وقيادتها.
ما يزال نظام الأسد الحالي يشدد على الجانب البدائي الفطري لهذه القومية التي تركز على الروابط العائلية، وأواصر الحب والولاء، والانتماء التلقائي للأمة السورية. بدأت هذه المفاهيم تظهر كظاهرة متميزة ضد المعارضة المنقسمة وصعود الجماعات السلفية الجهادية، إبان الحرب الأهلية السورية. وتم تصوير بشار الأسد على أنه زعيم دولة قادر على فرض الاستقرار.
هل ستنتج الحرب السورية مجموعات فرعية جديدة من الأيديولوجيات القومية/ الوطنية، مثل المجموعات الطائفية المختلفة أو المناطق الجغرافية المختلفة من البلاد؟ إن محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة متروكة لباحثي المستقبل، وكذلك للسوريين.
إن هذه الظاهرة الجديدة -“الأسدية”- لم تكن لتتحقق في سياق القومية المدنية؛ حيث يميل التماهي مع المؤسسات المدنية إلى منع الإفراط في تثبيت سلطة أي فرد، لكن المثالية الرومانسية للثقافة والوطن في الأيديولوجية البعثية قدّمت نفسها بسهولة إلى حدّ ما وكانت أداة للتحول إلى حب القائد الاستبدادي. ونتيجة لذلك، استندت السردية القومية الرسمية بعد انتفاضة 2011 إلى تصور هذه الهوية الثقافية، على أنها معادية للجهاديين أو المتطرفين. هنا تفرعت القومية إلى نمط جديد من القومية، يحتفل بأواصر المحبة والولاء للدولة السورية ونظامها الاستبدادي.
سورية أبعد من التشكيلات الأيديولوجية
من المستحيل التنبؤ بما يحمله المستقبل للسوريين في حقبة ما بعد الأسد. لكن ما هو ثابت أن السوريين بحاجة إلى تخليص أنفسهم من البرمجة الاجتماعية والثقافية للأيديولوجية البعثية، إذ أدى الخطاب الرومانسي المكثف الذي استخدمته نظام الأسدين، على مدى العقود الخمسة الماضية، إلى إضعاف مفاهيم المواطنة والحقوق، بينما زاد من الارتباط العاطفي بالنظام وساعده في ضمان استمراره.
اليوم، بدأ المواطنون السوريون أخيرًا يشككون في مشاعرهم وهويتهم الوطنية. على سبيل المثال، يُظهر الآن بعض السوريين الذين يعيشون في شمال غرب سورية، ولا سيّما في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون، روابط عاطفية متزايدة تجاه تركيا. أما الآخرون الذين يعيشون في الشمال الشرقي، مثل الأكراد، فقد أعطوا الأولوية لدولتهم الفرعية أو هويتهم العرقية، على حساب هويتهم السورية. ومع ذلك، حتى لو لم يعد الأسد يهيمن على السردية القومية، فستظل هناك سرديات وأسئلة متنافسة حول الهوية الوطنية، تتعلق بالانتماء ونقل الأمة/ البلد إلى الأمام.
سيكون هناك كثير من الأسئلة التي تجب الإجابة عليها، أهمّها: كيف يؤثر إرث الأيديولوجية القومية البدائية في عمليات الانتقال إلى الديمقراطية، وكيف استوعب السوريون على نطاق واسع الروح الجماعية (الأخلاق) والمثل البعثية. أسهم الكفاح من أجل ترسيخ مفاهيم مدنية للهوية في سورية منذ اندلاع الصراع في عام 2011 في صعود الانتماءات ما قبل الدولة، ومن ضمنها إحياء الجماعات العرقية والقبلية والطائفية التي كانت مغمورة في السابق.
هل ستنتج الحرب السورية مجموعات فرعية جديدة من الأيديولوجيات القومية/ الوطنية، مثل المجموعات الطائفية المختلفة أو المناطق الجغرافية المختلفة من البلاد؟ إن محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة متروكة لباحثي المستقبل، وكذلك للسوريين.
اسم المقالة الأصلي | Five decades of Baathism survived because of nationalism |
الكاتب * | رهف الدغلي، Rahaf Aldoughli |
مكان النشر وتاريخه | المجلس الأطلسي، Atlantic Council، 23 كانون الأول/ ديسمبر 2020 |
رابط المقالة | http://bit.ly/3rwvj7r |
عدد الكلمات | 1331 |
ترجمة | قسم الترجمة/ أحمد عيشة |
* الدكتورة رهف الدغلي: محاضِرة في دراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في جامعة (لانكستر). تشمل مجالات خبرتها البحثية تحديد ومعرفة الاستعارات الأيديولوجية بين القومية الأوروبية والعربية، وصعود الدولة القومية في الشرق الأوسط، والأزمة السورية، والعسكرة، والجندرة في العالم العربي.