ترجمة علي كمخ
(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
إن تاريخ العلاقات التركية-الروسية، وهي علاقات تمتد إلى ما قبل خمسة قرون مضت، هو تاريخ حافل بالعديد من الحروب من جهة، وبالعلاقات التجارية والثقافية من جهة أخرى. ففي حين أن الخلافات بين البلدين تنبع من المنافسة الجيوسياسية في مناطق معينة، لا يزال الاقتصاد والتجارة، ولا سيّما قطاع الطاقة، يمثلان أهم مجالات وقضايا التعاون الرئيسية بينهما. ومع ذلك، لا يمكن القول إن إدارتي البلدين تفصلان بين هذين المجالين (المصالح السياسية والاقتصادية) فصلًا واضحًا. وفي الوقت الذي يُنتج فيه تعميق التعاون الاقتصادي نتائجَ إيجابية في العلاقات الثنائية، تكون الخلافات الإقليمية المختلفة بين البلدين سببًا في قطع الروابط والعلاقات الاقتصادية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، ما حدث في أزمة الطائرة عام 2015. حيث تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي المتزايد، في المناطق المحيطة بـكل من تركيا وروسيا على حد سواء، قد أثر في مسار العلاقات بين البلدين، إضافة إلى أن وجودهما المفصلي في مناطق كـ سورية وليبيا وناغورني- كاراباخ، قد يؤدي إلى أن يخوض البلدان اختبارات مهمة في المرحلة المقبلة.
منذ قيام الدولتين حتى الآن، عبرت العلاقات التركية-الروسية كثيرًا من المنعطفات، تمثلت إحداها بانسحاب الاتحاد السوفيتي من المشهد التاريخي في نهاية القرن العشرين؛ حيث بدأت علاقات البلدين في هذه المرحلة تشهد تغيرًا سريعًا، وبات التحول في العلاقات التركية الروسية بدءًا من التسعينيات أمرًا لا مفرّ منه، إذ ولدت مع انهيار الاتحاد السوفيتي فرص إقليمية جديدة للسياسة الخارجية التركية. حيث اتبعت تركيا سياسة خارجية نشطة، مع الدول التي نالت استقلالها في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، ولا سيّما الدول الناطقة بالتركية، وتم تناول العلاقات التركية- الروسية في التسعينيات من خلال الأنشطة والفعاليات في هاتين المنطقتين.
ومن الطبيعي أن يخلق هذا الوضع توترًا في العلاقات التركية الروسية، ويؤدي إلى منافسة جيوسياسية جديدة بينهما؛ لأن روسيا التي تعتقد أن لها مصالح حيوية في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز هي -من الوجهة التاريخية- جهة فاعلة لها تأثير ونفوذ سياسي وعسكري واقتصادي كبير على هذه المناطق.
ومع نهاية التسعينيات، اتجهت حكومتا البلدين إلى تطوير علاقاتهما في المجالات التي تلتقي فيها مصالحهما، بالرغم من الخصومات المتبادلة القائمة بينهما في العديد من القضايا. وهو ما كان متعلقًا بلا ريب بالمجال الاقتصادي بشكل عام وقطاع الطاقة على وجه الخصوص. في هذا السياق، وُصفت المرحلة التي انتُخب فيها روسيا فلاديمير بوتين رئيسًا، في الوقت الذي تسلّم فيه حزب العدالة والتنمية زمام السلطة بفوزه في الانتخابات في تركيا بدءًا من عام 2000، بأنها المرحلة التي تسارعت فيها عملية الانتقال التدريجي من المنافسة إلى الشراكة متعددة الأبعاد في علاقات البلدين. ومنذ هذا التاريخ تم إسقاط القضايا التي يُعتقد أن لها أثرًا سلبيًا على العلاقات الثنائية، كـ (النضال من أجل استقلال الشيشان، والمسألة الكردية، وسياسات تركيا في آسيا الوسطى والقوقاز) من جدول الأعمال، وحلّت محلّها قضايا أمن البحر الأسود وإنشاء خطوط أنابيب الطاقة التي اختيرت كنقاط محورية. وبحلول عام 2010 مع هذه التطورات، كانت العلاقات الثنائية بين تركيا وروسيا قد حققت إجماعًا في قضية الانتقال من الشراكة متعددة الأبعاد إلى الشراكة الإستراتيجية.
وكانت الإعلان المشترك المتعلق بتعميق الصداقة والتعاون الإستراتيجي متعدد الأبعاد الموقّع بين الجمهورية التركية والاتحاد الروسي، في أثناء زيارة رئيس الجمهورية آنذاك عبد الله غول إلى موسكو عام 2009، من أهم الخطوات التي اتُّخذت في هذا الاتجاه. لكن العلاقات بين تركيا وروسيا اللتين وقفتا في جبهات متقابلة، في الحرب الأهلية التي اندلعت عام 2011 في سورية ومن ثم لاحقًا في ليبيا، توترت جديًا بعد إلحاق روسيا لشبه جزيرة القرم بها عام 2014. فيما كانت حادثة الطائرة التي وقعت عام 2015 سببًا في تدهور العلاقات الثنائية تمامًا بين البلدين. غير أن اللقاءات المكثفة التي جرت بين الطرفين، عقب هذا التطور، أسهمت في دخول العلاقات مجددًا مرحلة التطبيع، اعتبارًا من منتصف عام 2016، وأعيد الحوار السياسي، وتم البدء بالسير بمشاريع الطاقة التي جمدت، تدريجيًا.
من جهة ثانية، يتبيّن، بالنظر إلى المعطيات الاقتصادية، أن حجم التجارة بين البلدين أقل بكثير من إمكاناتها الحقيقية، وهي حقيقة لا تقبل الجدل. فقد تراجع إجمالي حجم التجارة الخارجية التي كانت تبلغ بين البلدين ما يقرب من 38 مليار دولار عام 2008، إلى مستوى 26 مليار دولار عام 2019. وفي هذا الصدد، لا يمكن الحديث عن قطع أشواط جديرة بالذكر في العلاقات التجارية، في الفترة الممتدة من عام 2015 (التي وقعت فيها أزمة إسقاط الطائرة التي تسببت في أكبر انكسار في العلاقات الاقتصادية بين البلدين)، حتى اليوم، فهناك تفاوت حاد في العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين. فبينما تستورد تركيا الموارد الطبيعية من روسيا، تتركز الواردات الروسية من تركيا على استيراد الآلات والمنسوجات والمواد الغذائية. ويوفّر ارتكازُ الاستثمارات الروسية في تركيا، على القطاعات الإستراتيجية، تفوقًا لروسيا في أي خلاف سياسي بين البلدين. وإدراكًا منها لهذا الوضع، عمدت تركيا منذ عام 2015 إلى تخفيض مشترياتها من الغاز الطبيعي الروسي، عبر تسريع وتيرة زيادة مشتريات الغاز الطبيعي المسال، وذلك من أجل كسر الاعتماد والتبعية لروسيا في مجال الطاقة. وفي هذا السياق، انخفضت كمية الغاز التركي المستورد من روسيا بحدود 40% في النصف الأول من عام 2020. وهذا ما قد يؤدي إلى إعادة النظر مجددًا في الاتفاقات المبرمة بين شركات الطاقة الروسية والتركية في المرحلة المقبلة. كل هذه التطورات تحمل صفة التأثير في أسس العلاقات التركية الروسية. ويجب أن تُقرأ إمكانية حيلولة القضايا الجيوسياسية المختلفة بين البلدين في السنوات الأخيرة دون التعاون في مجال الطاقة، في هذا السياق أيضًا. وهكذا؛ وبينما كانت مشاريع الطاقة المشتركة في قلب العلاقات التركية-الروسية حتى عام 2015، باتت الخلافات والنزاعات السياسية والعسكرية القائمة بينهما، في مناطق القوقاز والشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسط وحوض البحر الأسود، منذ ذلك التاريخ، في محور علاقات البلدين. وقد ظهر هذا التحول بأبهى صوره في الآونة الأخيرة، في حرب ناغورني-كاراباخ الثانية (وإن كان قد تمت تسويتها ظاهرًا) التي بدأت في 27 أيلول/ سبتمبر، واستمرت حتى 10 تشرين الثاني/ نوفمبر.
إن إمكانية وصول تركيا إلى بحر قزوين مباشرة، ومن ثمّ إلى دول آسيا الوسطى، عبر الطريق السريع الجديد الذي ستفتحه في المنطقة الواقعة بين إقليم ناهجيفان وأذربيجان، تثير قلقَ وامتعاض روسيا التي تعدّ تلك المناطق بالغة الأهمية. وبالفعل، ما إن طرحت قضية الممر الواصل بين تركيا وآسيا الوسطى على جدول الأعمال، حتى بدأ الحديث في الرأي العام الروسي يدور مرة أخرى حول المزاعم بمساعي تركيا لإحياء حلمها في “الاتحاد الطوراني الكبير”، لتقوم موسكو على إثر ذلك باتخاذ إجراءات مهمة لضمان وجودها في المنطقة المذكورة. فعقد اجتماع في 15 تشرين الأول/ أكتوبر، ضمّ روسيا ووزراء خارجية خمس دول في آسيا الوسطى، اعتمد في ختامه بيانًا يفيد بتطوير التعاون الإستراتيجي القائم بين هذه الدول، وخاصة في المجال العسكري. ويُفهم في هذا السياق أن الحرب التي دارت في ناغورني-كاراباخ لم تكن نزاعًا إقليميًا بين أذربيجان وأرمينيا على قطعة من الأرض فقط، بل كانت صراعًا جيوسياسيًا واسع المدى في المنطقة. وبمختصر العبارة: ينبغي قراءة هذه الحرب من باب الصراع على النفوذ بين القوى الإقليمية، كتركيا وروسيا عبر القوقاز وآسيا الوسطى.
أوكرانيا: أزمة جديدة تنتظر العلاقات التركية-الروسية
ما إن انتهت النزاعات الساخنة في ناغورني-كاراباخ، حتى بدأت ساحة صراع جديدة بين تركيا وروسيا تطفو على سطح الماء؛ إذ بدأت روسيا التي لديها مصالح وطنية حيوية في منطقة البحر الأسود، تنظر إلى الشراكة الإستراتيجية التركية-الأوكرانية، التي بدأت تزداد في الآونة الأخيرة متانة، يومًا بعد يوم، على أنها تشكّل تهديدًا وخطرًا عليها. بعبارة أخرى: ترى روسيا في تعميق التعاون بين هذين البلدين توسعًا لحلف شمال الأطلسي. لكن السبب الرئيس في عودة مسألة التعاون التركي-الأوكراني إلى أجندات موسكو ثانية بحلول نهايات عام 2020، هو المركبات الجوية المسلحة بدون طيار التركية (SİHA)؛ إذ من المعلوم أن أوكرانيا التي اشترت 6 طائرات مسلحة بدون طيار تركية الصنع، من نوع (Bayraktar TB2) منذ عام 2019 بعد نجاحها في سورية، تنوي رفع عدد هذه الطائرات إلى 50 طائرة، في إثر التفوق الكبير التي حققته ضد أرمينيا في حرب ناغورني-كاراباخ. بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بإطلاقها مبادرة لبناء مصنع لإنتاج الطائرات المسيرة بالشراكة مع تركيا. فوقّعت كل من تركيا وأوكرانيا اللتين تخطوان خطوات حثيثة لتعزيز شراكتهما، اتفاقية إطار عسكري بتاريخ 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، في سبيل تعزيز تعاونهما وتحالفهما العسكري. حيث صرّح رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، عقب ذلك الاتفاق، بأن تركيا ترى في أوكرانيا دولة مفصلية لتأمين الأمن والاستقرار والسلام والازدهار في منطقة البحر الأسود.
والأمر الأهمّ من ذلك هو إرسال أوكرانيا إشارات تفيد بأنها ستستخدم الطائرات بدون طيار التركية الصنع، ضد الانفصاليين المدعومين من روسيا في المناطق الشرقية من البلاد. وتنظر موسكو إلى هذا التحالف العسكري المتعمق بين أنقرة وكييف على أنه تحدٍ لها، وذلك بأن الطائرات المسيرة التركية ستكون بعد سورية وناغورني-كاراباخ قريبة جدًا من حدود روسيا هذه المرة. ومن الملاحظ في هذا السياق، أن الصناعة العسكرية للمركبات الجوية المسلحة بدون طيار، التي تمضي تركيا قدمًا في تطويرها بنجاح في السنوات الأخيرة، ستشكل أداة لتغيير التوازن في العلاقات التركية-الروسية.
ظهرت أكبر النزاعات في العلاقات التركية-الروسية، في منطقتي القوقاز والبحر الأسود، مع تسارع انتشار روسيا باتجاه الجنوب في بداية القرن الثامن عشر، ولا يزال هناك صراع مقنع بين البلدين في هذه المناطق. غير أن البلدين يتشابهان في كثير من النواحي، إذ تتقارب كلٌّ من تركيا وروسيا إلى النظام العالمي الحالي بالطريقة نفسها تقريبًا؛ وأكثر أوجه التشابه بينهما هنا، هو الرغبة في عدم التخلي عن سيادتهما، وبذلك تحاولان تقوية دولهما كلاعبين وفاعلين مستقلين في النظام العالمي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه السمة المشتركة لتركيا وروسيا هي السبب في تقرّب كل من الطرفين إلى الآخر، بحذر وريبة.
هذا الوضع شكّل في بعض الأحيان أرضية متينة للتعاون البنّاء، وفي أحيان أخرى، هيّأ ساحة لصراع شديد بين روسيا وتركيا. فبينما كانت هناك مشكلات كضم القرم وأزمة الطائرة والمسألتين السورية والليبية على سبيل المثال، كان في الجهة الأخرى ثم تعاون وثيق بينهما، في مسار أستانا وصفقة صواريخ (S- 400) ومشروعي التدفق التركي و(Akkuyu NGS). ومن الممكن هنا، وصف العلاقات التركية-الأميركية على أنها “علاقة تحالف” دون إمكانية أن يصبحوا “شركاء إستراتيجيين”، وبالمقابل، يمكن القول بأن العلاقات الروسية-التركية هي علاقة “شراكة إستراتيجية” من دون إمكانية أن يغدوا “حلفاء”. وقد قال وزير خارجية روسيا سيرجي لافروف، في سياق تقييم العلاقات التركية-الروسية، في إحدى المقابلات: إن روسيا لا ترى تركيا حليفًا أبدًا، إنما هي شريك إستراتيجي لروسيا.
هذه الهيكلية المتناقضة للعلاقات التركية-الروسية تتيح لكلا الجانبين إمكانية الحفاظ على مرونة العلاقات بينهما. وكنتيجة للبراغماتية هذه، فإن العلاقات التركية-الروسية تتأرجح بين “الشراكة الإستراتيجية” و”العداء التاريخي”، جيئة وذهابًا. وعلى الرغم من أن حرب ناغورني-كاراباخ الثانية يبدو وكأنها انتهت، بفضل تعاون أنقرة وموسكو، فإن خطر انكسار “خطوط الصدع الجيوسياسي” التي تشكلت خلال المرحلة التاريخية في مناطق مختلفة، وخاصة في منطقة القوقاز وحوض البحر الأسود، ما يزال مرتفعًا. ذلك أن روسيا ترى الشراكة الإستراتيجية التي تعمقت بين تركيا وأوكرانيا، خلال السنتين الأخيرتين، امتدادًا لحلف الـ (ناتو) وتوسعه نحو الشرق بضمّ أوكرانيا إليه. ومن الواضح، في هذا الصدد، ارتفاع احتمالية قيام روسيا بمبادرات جديدة ضد تركيا في مناطق النزاع الأخرى، وبالفعل بدأت ترد تقارير تفيد بتعاون روسيا الوثيق مع بعض الفصائل الإرهابية، كوحدات حماية الشعب (YPG) في شمال سورية. ويضاف إلى القائمة أن شروع تركيا بتعزيز علاقات التعاون مع دول أسيا الوسطى، في أعقاب الحرب الأخيرة في ناغورني- كاراباخ، قد أقلق للغاية روسيا التي تحتفظ بمصالح مهمة لها في هذه المناطق. ومن ناحية أخرى، يُعدّ اتخاذ روسيا مواقف أكثر عدوانية تجاه دول القوقاز والبحر الأسود، كأوكرانيا وجورجيا، تهديدًا من تركيا التي تعدّ قوة على قدر من الأهمية في المنطقة.
النتيجة أن تركيا وروسيا اللتين تمكّنتا من بناء علاقات تعاون بأشكال مختلفة، في ناغورني-كاراباخ وسورية، هما أمام امتحانٍ صعبٍ في أوراسيا، ولا سيّما في منطقة حوض البحر الأسود، في المرحلة المقبلة.
اسم المادة الأصلي | TÜRKİYE-RUSYA İLİŞKİLERİ DÜŞMANLIK İLE ORTAKLIK ARASINDA GELGİTLER |
الكاتب | محمد أخيادوف |
المصدر وتاريخ النشر | مركز البحوث الإنسانية والاجتماعية (İNSAMER) 18.12.2020 |
رابط المادة | http://bit.ly/3mD9L5z |
عدد الكلمات | 1692- 1871 |
المترجم | قسم الترجمة- علي كمخ |
(*) الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي المركز ولا عن مواقفه من القضايا المطروحة