ترجمة أحمد عيشة
(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
“عندما بدأت التظاهرات كنتُ مراهقًا، ثم أصبحتُ معتقلًا، ثم أمسيتُ لاجئًا؛ ومع ذلك لن نعود إلى حالة الصمت”
كنتُ في الصف الخامس، عندما أمر إداريو المدرسة جميع المعلمين في مدرستي بإنهاء الدوام مبكرًا، لأخذ الطلاب إلى مسيرة في شوارع دمشق تمجّد الرئيس السوري بشار الأسد. وصلتُ إلى المنزل عائدًا من المسيرة التي استمرت طوال اليوم، متحمسًا لإخبار والدي -وهو ضابط ناجح في الجيش- بانطباعاتي: “رئيسُنا له آذان كبيرة مثل القرد”. لم يضحك معي. بل صفعني على وجهي، وعلّمني درسًا لا أنساه أبدًا. وقال: “الجدران والنوافذ والأبواب لها آذان. كل شيء حولك، أينما كنت، يمكنه سماع كلماتك، عندما تتحدث عن الرئيس أو أصدقائه أو في مواضيع السياسة. حتى همساتك تُسمع”. كنت في العاشرة من عمري، عندما عرفت الدكتاتورية لأول مرة.
بعد أعوام، عندما كان عمري 15 عامًا، في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، بدأت العروش تهتز. استيقظ العالم العربي على أخبار تتحدث بأن شابًا تونسيًا يبلغ من العمر 26 عامًا أحرق نفسه حتى الموت، بعد أن منعته السلطات من بيع الخضار في المدينة، وهي مصدر دخله الوحيد. سيظل اسمه (محمد البوعزيزي) يُذكر، بكونه أحد الشهداء، في أثناء الحديث عن ثورات الشرق الأوسط الجديدة.
في الوقت الذي اعتقد فيه معظم الناس أن من المستحيلات أن يسقط الدكتاتوريون العرب، تجمّع باعة الشوارع التونسيون وأنصارهم في تظاهرات، وأجبروا الرئيس (زين العابدين بن علي) على الفرار من البلاد. بعد 28 يومًا من التظاهرات -بأدنى حد من إراقة الدماء- هزم الشعبُ التونسي الدكتاتور الذي حكم تونس أكثر من 23 عامًا. نتيجة وحشية الشرطة، كانت الخسائر في الأرواح كبيرة، إذ انتفض الشعب التونسي ودعا إلى الحرية، مطلقًا شرارة مرحلة جديدة في تاريخ العالم، ومؤذنًا بميلاد الربيع العربي. وبعد مدة وجيزة من بدء الحركة التونسية، انتفض الشعب في مصر وليبيا واليمن أيضًا.
راقبت عائلتي الثورةَ المصرية على شاشة التلفزيون، حيث خرج الملايين من أجل الحرية. أتذكّر والدي وهو يهمس لي: “هل يمكن أن نرى هذه التظاهرات العظيمة في سورية أيضًا؟”. كان متحمسًا للفكرة، لكنه ما يزال خائفًا من إعلان ذلك بصوت عالٍ؛ فالجدران كانت ما تزال تسمع الهمسات.
في النهاية، وصل الربيع العربي إلى سورية. بدأ الأمر بعد اعتقال خمسة عشر طفلًا كتبوا على أحد الجدران “إجاك الدور يا دكتور”، وقد فُسرت العبارة بأنها رسالة مناهضة للأسد. اعتقل رجال المخابرات الأطفال، وعذبوهم: تعرّضوا للضرب والتعذيب واقتُلعت أظفارهم. كان من بين أولئك الأطفال حمزة الخطيب، وهو صبي عمره 13 عامًا، مات تحت التعذيب، ذبحه حرّاس السجون السورية. في غضون أيام، تسبب ردة فعل عائلات الأطفال المعتقلين وأهالي مدينتهم في عاصفة، سرعان ما وصلت إلى مسقط رأسي: بانياس، واتّقدت جذوة ثورتنا.
أخذني والدي إلى التظاهرات بنفسه. لكنه لم يكن يهتف، كان يهمس وحسب، وكان يخبرني في الطريق إلى التظاهرات أن الوقت قد حان لاتخاذ خطوة إلى الأمام، وأن أي خطوة إلى الوراء تعني الموت. كنا خائفين، ولكن كان هناك فرح في نفوس كلّ من ينضمّ إلى التظاهرات. أتذكّر حماسي، إذ شعرتُ بأن بإمكاني القفز وملامسة السماء، عندما صرخنا “حرية”.
لم أكن أعلم أني بعد عامين فقط سأكون في السجن، بينما سيُقتل أبي وإخوتي في غرفة المعيشة التي كانت مليئة بالحماس، حين كنا نشاهد التظاهرات في جميع أنحاء سورية على شاشات التلفزيون. مثل أكثر من (500) ألف سوري، سيصبح أفراد عائلتي ضحايا لنظام الأسد والحروب اللاحقة. وقعت مجزرة في مسقط رأسي بانياس، وفي قريتي (البيضا)، حيث أراد النظام أن يرتكب عملًا من أعمال التطهير العرقي ضد السنّة، في المنطقة ذات الأغلبية العلوية.
في كل صراع، لا بدّ من أن يكون هناك رابحون وخاسرون وضحايا. الربيع العربي، سواء عددته ناجحًا أم لا، علّم شعوب الشرق الأوسط الفرقَ بين الدكتاتورية والقيادة. على الأقل، لقد حرّر عقول الناس حين أظهر جمال المطالبة بالحرية، بعد أعوام من الاستبداد. كما أظهر للغرب أن منطقة الشرق الأوسط منطقة منفتحة على الديمقراطية والتغيير، وأثبت للأنظمة العربية أن القمع العنيف ليس حلًا، إنما هو عمل إعاقة يائس.
نجحت الشعوب في تونس وليبيا ومصر واليمن في التخلّص من رؤسائهم، لكنهم لم ينجحوا في إسقاط أنظمتهم. الآن، بعد 10 أعوام من المعاناة والخسارة، يواجه الناس الصراعاتِ التي واجهوها من قبلُ. في تونس، موطن الربيع العربي، كانت الانتخابات الرئاسية الديمقراطية لعام 2014 مصدر أمل، ولكن سرعان ما أصبح واضحًا أن كثيرًا من الفساد المنهجي ظلّ حاضرًا. ومصر، التي أطاحت رئيسين منذ بدء الثورة، انتهى بها الحال مع دكتاتور جديد: عبد الفتاح السيسي.
اليوم في سورية، (11,5) في المئة من السكان هم إما قتلى وإما جرحى، منذ آذار/ مارس 2011، وأكثر من (12) مليون -أكثر من نصف السكان- باتوا مهجّرين داخليًا أو خارجيًا. واختفى قرابة (100) ألف سوري في تلك الفترة، معظمهم على يد النظام السوري، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
تمكّن نظام الأسد، بمساعدة حلفائه الروس والإيرانيين، من استعادة معظم مناطق سورية التي حررتها قوات المعارضة، مخلفًا أكثر من 4 ملايين شخص -معظمهم من الأطفال- متجمعين في مدينة إدلب الصغيرة، آخر معقل للمعارضة، يكافحون من أجل البقاء أحياء.
اضطّرت جماعات المعارضة، لكي تنجو وتبقى على قيد الحياة، إلى الاعتماد على الرعاية من دول أخرى لديها تصوراتها الخاصة حول الشكل الذي يجب أن تبدو عليه سورية، ورسمت الطريقة التي تعمل بها هذه الجماعات، ودفعها ذلك إلى الانقلاب على بعضها البعض، بدلًا من التركيز على العدو الحقيقي. في عام 2014، أعلن تنظيم “الدولة الإسلامية” مشروعه في سورية، وسرعان ما أصبح التنظيم المتشدد الخطرَ الأكبر الذي واجهته الثورة السورية، إذ لم يتردد في إنفاق موارده على قتال قوات المعارضة. لقد حوّل هذا التنظيم تركيز الدول الغربية، من وحشية نظام الأسد، إلى وحشية الجماعات الإرهابية. وقد أدى ذلك إلى انعدام الأمل والثقة في جماعات المعارضة السورية، وكل ما تبقى اليوم هو الأمل الذي كان لدى الناس، عندما خرجوا إلى التظاهرات الأولى في أوائل عام 2011.
ولأن ملايين الشباب العرب ترعرعوا خلال الربيع العربي، وهم يعرفون مدى فساد حكوماتهم، ومدى خطورة الأجهزة الأمنية التي تحميها، فقد أتيحت لهم الفرصة للتواصل مع أشخاص يختلفون معهم، لإيجاد أرضية مشتركة. لقد شكلوا فكرة جديدة لما يجب أن يكون عليه المستقبل. سيستمرون في النضال حتى ينالوا الحرية، من أجل الذين ماتوا أو فرّوا أو تعرضوا للتعذيب تحت سيطرة النظام.
لقد فرَّ ملايين اللاجئين من بلدانهم بحثًا عن الأمان في أوروبا. اليوم، يدرس عشرات الآلاف منهم في الجامعات، وآلاف منهم يدافعون عن الحرية والديمقراطية، ويتحدثون عن المساواة والكرامة وحقوق الإنسان. لقد تمكنوا من تحقيق نجاحات جديدة، في أثناء حياتهم في أوروبا، تُسهم في رسم مستقبل المنطقة.
كنت أرغبُ في حضور أول تظاهرة، لأثبت نفسي لوالدي. كان تغيير نظرة والدي لي هو ثورتي الأولى، لكن بعد عشرة أعوام انتهى بي المطاف في مكان أكبر. مثل ما يقدر بنحو (215) ألف سوري اعتُقلوا، عرفتُ حقيقة النظام في أحلك الأماكن. عندما وصلتُ إلى أوروبا، شعرت لأول مرة بالديمقراطية. وعشتُ الحرية، حيث يمكنني التحدث من دون الحاجة إلى الهمس. لو أن الثورة السورية انتهت في أقلّ من شهر، كما حصل في مصر؛ لما تعلمنا الكثير عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. إن الأعوام العشرة من الاضطرابات ستجعل السوريين أكثر الناس قدرةً في الشرق الأوسط على إعادة بناء بلادهم في المستقبل. لن نرتكب أخطاء البلدان الأخرى التي تخلصت من دكتاتوريها، وظلّت محاصرة في أنظمة فاسدة.
نعم، لقد تعرّضنا للتعذيب والقتل، وأُجبرنا على الفرار من بيوتنا، لكننا لم ننكسر، ولم نفقد أملنا وإرادتنا بالتغيير. ولو أتيحت لنا فرصة عودة الزمن إلى الوراء، إلى الوقت الذي سبق ثورتنا، إلى الوقت الذي سبق قتل وتعذيب عائلاتنا وأحبائنا ومئات الآلاف من المدنيين الأبرياء؛ فإننا سنختار ذلك الخيار: أن نكسر قفص الخوف الذي حُبسنا فيه أكثر من أربعين عامًا، سنختار الغِناء تحت سمائنا من أجل الحرية. كانت الثورة التي بدأناها الخطوةَ الأولى في مسيرتنا الطويلة نحو الديمقراطية.
اسم المقالة الأصلي | The Arab Spring Let the People Shout, Not Whisper |
الكاتب | عمر الشغري،OMAR ALSHOGRE |
مكان النشر وتاريخه | الشؤون الخارجية،FP، 17 كانون الأول/ ديسمبر 2020 |
رابط المقالة | http://bit.ly/34y3iTk |
عدد الكلمات | 1208 |
ترجمة | قسم الترجمة/ أحمد عيشة |
ان الاوضاع التي عاشتها الدوا العربية و التي ما زالت تعيشها والتى يسعى عيشها لا يدرك حقيقتها الى حكامها و محليلوها السياسيين المخضرمين في مجال السياسة .