ترجمة أحمد عيشة
(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
يمكن لبناء الجسر الفعال للمسارات الدبلوماسية في جنيف وآستانا أن يحقق مزيدًا من الاستقرار وأن يكون لبنة لبناء تسوية طويلة الأجل…
مع اقتراب الصراع في سورية من الذكرى العاشرة لبدايته، من غير المرجّح التوصل إلى تسوية سياسية شاملة في جميع أنحاء البلاد، في المدَيَين القريب والمتوسط. حيث لم تسفر أكثر ثمانية أعوام من المبادرات الدبلوماسية إلا عن نتائج محدودة. المساران الرئيسان -عمليتا جنيف وآستانا/ سوتشي- يواجهان تعقيد الصراع ونظام الأسد الأكثر وقاحة. لا تكفي أي من العمليتين بمفردها لتوليد الزخم نحو تسوية سياسية دائمة لسورية بأكملها. ومع ذلك، فإن بناء جسر فعّال بين هاتين العمليتين يمكن أن يجلب مزيدًا من الاستقرار إلى تلك المناطق، في سورية التي لا تزال خارج سيطرة نظام الأسد، وسيخفف ذلك من معاناة بعض السوريين، ويُمكن أن يكون لبنةً لبناء تسوية طويلة الأجل.
وباستثناء حدوث تحول إستراتيجي كبير في الدبلوماسية، يمكن للتطورات على الأرض أن تلغي الجهود الدبلوماسية. وبدلًا من ذلك، يجب أن تركز جهود التفاوض على تطوير مناهج مبتكرة لربط عمليتي جنيف وآستانا. ستركز جهود التجسير هذه على تعزيز وقف إطلاق النار الهش، في المناطق الشمالية الغربية والشمالية الشرقية من سورية، وترسيخ بعض مظاهر الاستقرار في هذه المناطق، من خلال تحسين وصول المساعدات الإنسانية وتعزيز هياكل الحكم المحلي.
الهدوء الهش في سورية: الصراع المتجمد وهمي أكثر من كونه حقيقيًا
بحسب بعض الروايات، يمكن أن يدخل الصراع السوري مرحلة “لا سلام ولا حرب”، تتميز بخطوط صراع مجمدة نوعًا ما، تمتد بشكل متقاطع مع دولة غير مستقرة بطبيعتها. أشار مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسورية، في إحاطته الموجزة في 27 تشرين الأول/ أكتوبر أمام مجلس الأمن، إلى أن “الخطوط الأمامية (الجبهات) … لم تتغير منذ نحو ثمانية أشهر. وكان عدد المدنيين الذين قُتلوا في الأشهر الأخيرة، وفقًا لجماعات المراقبة، عند أدنى مستوى له منذ عام 2011”.
في الوقت نفسه، الهدوء النسبي في سورية هشّ للغاية. وعلى الرغم من أن التراجع الحالي في أعمال العنف جدير بالملاحظة، تشير التجربة إلى أن الصراع قد يندلع من جديد؛ ما لم تُبذل مزيد من الجهود الدبلوماسية المتعمدة لتعزيز خفض التصعيد على الأرض. وكمثال واحد فقط، يُظهر وقف إطلاق النار الهش الذي نتج عن التفاوض في 5 آذار/ مارس، بين روسيا وتركيا، لوقف هجوم روسي سوري كبير على إدلب، بوادرَ توتر خطيرة. فقد قتلت غارة جوية روسية في 26 تشرين الأول/ أكتوبر عشرات المقاتلين السوريين المدعومين من تركيا، من جماعة “فيلق الشام”، إضافة إلى عدد من المدنيين، في أخطر انتهاك لوقف إطلاق النار حتى الآن. وقد يؤدي هذا الهجوم الروسي الاستفزازي بالقرب من الحدود التركية إلى تحرّك تركي مضاد. من بين الاحتمالات الأكثر خطورة، قد تختار أنقرة تعميق توغلها في شمال شرق سورية. ويمكن أن يؤّدي هذا التصعيد المتبادل إلى الانهيار السريع للوقف الواسع للأعمال العدائية الرئيسة التي سادَت شمال غرب وشمال شرق سورية.
في الواقع، إن التهديد المستمر بتجدد الأعمال العدائية يجعل فكرة الصراع المجمّد وهمية. ويترجم غياب التقدم الدبلوماسي إلى تقيّح الوضع في سورية. ومع غيابِ حلّ نهائي، سيستمر الصراع السوري في إلحاق خسائر فادحة بالمدنيين داخل سورية، وفي إطالة أمد أزمة اللاجئين السوريين الذين يعيشون في البلدان المجاورة والمجتمعات التي تستضيفهم، ومضاعفة الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي الذي ابتُليت به هذه البلدان المجاورة في ظل جائحة (كوفيد -19).
البحث عن مزيد من “الوضع الراهن” في سورية
ما العمل، إذًا؟ في حين أنه لا يمكن لمساري جنيف ولا آستانا وحدهما نقل الوضع الراهن في سورية بفاعلية إلى استقرار أكثر ديمومة، فإن بناء الجسور بين هاتين العمليتين يوفّر أفضل أمل لخفض التصعيد المستدام، حتى يتم التفاوض على تسوية سياسية دائمة. ومع ذلك، من الواضح أن مثل هذه الجهود لن تعالج العديد من التحديات الخطيرة الناشئة عن الصراع السوري، ولا سيّما تلك التي تركز على استمرار سيطرة نظام الأسد على السلطة وحكمه الوحشي للمناطق الواقعة تحت سيطرته.
ومع ذلك، فإن البناء على الموضوعات المشتركة التي تم تناولها في هذه العمليات الموازية يمكن أن يؤدي إلى سيناريو مزيد من “الوضع الراهن” على الأرض، الذي يتميز بحكم الأمر الواقع -إن لم يكن فعليًا- بوقف الأعمال العدائية على مستوى البلاد، وتحسين وصول المساعدات الإنسانية إلى شمال غرب سورية وشمال شرقها، وتحسين الظروف المعيشية في هذه المناطق التي تتميز بالحكم اللامركزي والاستقرار وبإعادة الإعمار المبكر. في أفضل الظروف، قد تسمح هذه الظروف بعودة بعض اللاجئين السوريين والمهجّرين داخليًا إلى مجتمعاتهم الأصلية، حيث تسود مثل هذه الظروف.
تحديد أوجه التوافق بين شمال غرب سورية وشمال شرقها
يمكن أن تبدأ جهود التجسير بين عمليتي جنيف وآستانا، من خلال تحديد أوجه التشابه التي تميّز باطراد الشمالَين الغربي والشرقي. حيث تتزايد أوجه التشابه بين هاتين المنطقتين، ويبدو أن مصايرهما تتشابك أكثر فأكثر.
- – في المنطقتين، هناك عمليات توقف هشة للأعمال العدائية، وهي مترابطة. يمكن زيادة تعزيز وتدعيم هذه الوقوفات الهشة، أو يمكن أن تتفكك سريعًا وتنحدر نحو دوامة مستمرة ذاتية الهبوط.
- – يلعب الرعاة الخارجيون دورًا مهمًا في كلتا المنطقتين: تركيا في الشمال الغربي، والولايات المتحدة في الشمال الشرقي، مع ممارسة روسيا نفوذها في كلتا المنطقتين. ومع ذلك، غالبًا هذه الجهات الخارجية الفاعلة لا تشارك في عملية التوسّط في التوترات داخل المنطقتين أو عبرهما. ولا تزال نهاية اللعبة بالنسبة إلى هؤلاء الفاعلين الخارجيين في حالة فوضى في كلتا المنطقتين، وبالتالي يحتمل أن تكون عرضة لإعادة التفسير والتسوية.
- – تخضع المنطقتان خضوعًا كبيرًا لسيطرة الجماعات المحظورة (هيئة تحرير الشام في الشمال الغربي والعناصر الكردية السورية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني في الشمال الشرقي) التي يبدو أنها تسعى إلى مزيد من التوافق والشرعية مع الجهات الخارجية والمجتمع الدولي. ومن المثير للاهتمام، في كلتا الحالتين، أن قرارات كل جماعة بتبني “سورنة/ التحول نحو سورية” أكبر يمكن أن تسهل قبولًا أوسع على الأرض وخارجها. وكلتا الجماعتين مستبعدَة حاليًا أيضًا من عمليات السلام الجارية، على الرغم من السيطرة الفعالة على مساحات شاسعة من الأراضي والسكان التي تضمّ ما لا يقل عن ثلاثة ملايين مدني.
- – تتميز كلتا المنطقتين بالحكم الذاتي واللامركزي نسبيًا، الذي يمنح السكان المحليين درجة معينة من الحكم الذاتي، على الرغم من استمرار كثير من القضايا والتحديات. ومع ذلك، يمكن لهذه النماذج من الحكم اللامركزي أن تقدّم مخططًا لمستقبل سورية.
تطوير إستراتيجية تجسير بين جنيف وآستانا عبر شمال غرب سورية وشمال شرقها
إن استغلال أوجه التآزر والتوافق الكامنة في هذه الديناميكيات المتداخلة، والمصاير المتشابكة لشمال غرب وشمال شرق سورية، يوفر المسار الأكثر قابلية للتطبيق على الأرض للربط بين عمليتي جنيف وآستانا. بشكل أساسي، تتمتع هاتان المنطقتان بأكبر إمكانات للمشاركة المبتكرة، عبر كثير من أصحاب المصلحة لتطوير آليات دائمة لخفض التصعيد. في حين أن نظام الأسد عادة ما يؤخر ويعرقل الجهود المرتبطة بعمليات السلام السورية (الجهود المتوقفة في اللجنة الدستورية هي مجرد مثال واحد)، فإن افتقاره إلى السيطرة الفعالة في شمال غرب وشمال شرق سورية يسمح باحتمالات تقدّم المسارات. ويمكن أن يؤدي الجهد الدبلوماسي المبذول لتجسير جنيف وآستانا عبر هاتين المنطقتين، إلى تسهيل مزيد من خفض التصعيد المستدام والتنمية على المستوى المحلي في هذه المناطق من سورية (التي يبلغ عدد سكانها معًا نحو ستة ملايين مدني) في الفترة الفاصلة الطويلة قبل التفاوض على تسوية سياسية دائمة.
يمكن أن تلعب الأمم المتحدة دورًا رئيسًا في إبراز أوجه التوافق غير المستكشفة عبر هذه المناطق، وإيجاد طريقة مثالية للمضيّ قدمًا في غياب تسوية سياسية واضحة لعموم سورية. من خلال تطوير فهم أكبر لهذه المتوازيات والتفاعل الديناميكي بينهما، قد يكون من الممكن إطلاق مقاربة أكثر صلابة واستقرارًا لسورية، حيث “لا سلام ولا حرب”.
وللوصول إلى هذه النقطة النهائية على المدى المتوسط المنشود لمزيد من “الوضع الراهن”، سيحتاج جميع اللاعبين إلى تقديم تنازلات بصدد ما هو مقبول، على الرغم من أن الحال ليس مثاليةً لكل منهم. من خلال الدبلوماسية المكثفة، يمكن للمبعوث الخاص للأمم المتحدة أن يأخذ زمام المبادرة في التوصل إلى مزيد من الوضوح حول تصوّرات نهاية اللعبة والنقاط المحتملة للتسوية والمقايضات والتوافق غير المحقق المربح للجميع، بين أصحاب المصلحة الرئيسين في الشمال الغربي والشمال الشرقي. وسيشمل ذلك استكشاف مسارات نحو الاعتدال من قبل الجماعات المحظورة المسيطرة على الأرض، وتعديل تصورات نهاية اللعبة لأصحاب المصلحة الخارجيين. على الرغم من غياب تسوية سياسية على الصعيد الوطني، فإن التوصل إلى حل “القاسم المشترك الأصغر”، في هذه المناطق، يمكن أن يؤدي إلى نتيجة مستقرة على المدى المتوسط لسورية.
تحديات إستراتيجية التجسير بين الشمالين الغربي والشرقي
إن إستراتيجية التجسير هذه بين الشمال الغربي والشمال الشرقي بعيدة عن الكمال، وتنطوي على تحديات وسلبيات واضحة، حيث يجب التخفيف من حدّتها قدر الإمكان. أولًا، تخاطر الإستراتيجية بترسيخ التقسيم الفعلي للبلاد إلى ثلاث مناطق منفصلة: سورية التي يسيطر عليها النظام، والشمال الغربي، والشمال الشرقي. ثانيًا، من المرجح أن تتطلب إستراتيجية التجسير بين الشمال الغربي والشمال الشرقي، من أجل تنفيذها، وجودًا طويل المدى وصغير الحجم للقوات الأجنبية الموجودة حاليًا على الأرض في هذه المناطق. لا تتصدى هذه الإستراتيجية لممارسات نظام الأسد الوحشية في المناطق الخاضعة لسيطرته، ومن ضمنها الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري والتعذيب، وكذلك لا تعالج المخاوف المتزايدة بصدد حقوق الإنسان، في مناطق عفرين ورأس العين وتل أبيض التي تسيطر عليها القوات المدعومة من تركيا.
وأخيرًا، يمكن التراجع عن هذه الإستراتيجية، بسبب التداعيات المعقدة للصراعات الإقليمية الأخرى. أصبحت منطقة الصراع السوري مترابطة أكثر فأكثر، مع سلسلة موسعة من الصراعات الممتدة من ليبيا إلى ناغورنو كاراباغ. ويرجع صدى هذه الصراعات المتداخلة، التي تعكس اضطرابًا إقليميًا وعالميًا أوسع، عبر المناطق الجغرافية، ويؤدي ذلك إلى إدخال عناصر “الجوكر” المحتملة في الصراع السوري المعقد بالفعل. على سبيل المثال، صدى التنافس الروسي والتركي في ليبيا وناغورنو كاراباغ في الساحة السورية، مع آثار مزعزعة للاستقرار.
لا تُظهر مفاوضات السلام التي تتمحور حول دمشق سوى القليل -إن وُجدت- من علامات التقدم. حتى الآن، أظهر نظام الأسد أنه منيعٌ أمام الضغط، وكان بطيئًا في تطبيق حتى أكثر الإصلاحات تجميلية، مع مضاعفة التكتيكات الوحشية حيثما أمكن ذلك. ولأن السلام الدائم في جميع أنحاء سورية لا يزال بعيد المنال؛ يمكن أن يكون التجسير الفعّال لعمليتي جنيف وآستانا، عبر إستراتيجية شمال غرب وشمال شرق، نهجًا مبتكرًا نحو خفض التصعيد الذي يقلل معاناة السوريين العاديين، ويحتمل أن يرسي الأساس لتسوية مستقبلية. وخلاف ذلك، من غير المرجح أن يستمر الهدوء الهش في سورية.
اسم المقالة الأصلي | The Best Hope for Sustained De-escalation in Syria |
الكاتب* | منى يعقوبيان، Mona Yacoubian |
مكان النشر وتاريخه | المعهد الأميركي للسلام، UNITED STSTES INSTITUTE OF PEACE، 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 |
رابط المقالة | https://bit.ly/333H4aY |
عدد الكلمات | 1582 |
ترجمة | قسم الترجمة/ أحمد عيشة |
- – المستشار الأول لنائب رئيس المركز لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا