سوريون في المنفى يقاتلون من أجل محاسبة نظام بشار الأسد على الساحة الدولية
ترجمة أحمد عيشة
(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
بعد بضعة أشهر، يمرّ السوريون في جميع أنحاء العالم بذكرى كئيبة. وسيصادف يوم 15 آذار/ مارس مرور عشرة أعوام على اندلاع التظاهرات في حلب ودمشق، ضد نظام الدكتاتور السوري بشار الأسد. وبات ذلك التاريخ الآن يُعدّ عمومًا بدايةَ الحرب الأهلية السورية؛ صراع جذب على مدى عقد من الزمن التدخلات من نصف دزينة من القوى الخارجية، وشهد صعود وسقوط تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهجرة الملايين من سورية، معظمهم إلى تركيا ولبنان المجاورين، وأيضًا إلى أوروبا.
وبعد مرور عشرة أعوام مجبولة بالدم من بدايتها؛ انتهت الحرب الأهلية السورية -عسكريًا- تقريبًا. ويبدو أن نظام الأسد، المدعوم بتدخل عسكري من جانب روسيا، تغلّب في ساحة المعركة. وهو يسيطر على غالبية الأراضي في سورية، وليس في حالة حرب مباشرة مع “قوات سوريا الديمقراطية” التي يسيطر عليها الأكراد وتسيطر على معظم بقية الأراضي.
ولكن كثيرًا من المنفيين السوريين في أوروبا (الذين فرّ معظمهم من الأسد) لم يقبلوا بالهزيمة. ولا يزال بعضهم يعارضون النظام، حيث لا تزال الأساليب الوحشية التي يستخدمها للتشبث بالسلطة، ومنها التعذيب على نطاق واسع واستخدام الأسلحة الكيميائية المحظورة، تترك آثارً نفسية عليهم.
ثمة شبكة صغيرة من المنفيين السوريين تكافح من أجل مساءلة مسؤولي النظام في المحاكم الأوروبية والدولية. ومن الممكن أن يكون لكفاحهم المضني انعكاساتٌ على السياسة العالمية لأعوام مقبلة، وأن يحدد مسألة مصير النظام السوري: هل استعاد قبوله في المجتمع الدولي أم سيبقى الأسد منبوذًا دوليًا؟
يتصدر هذه الجهود رجلان، هما مازن درويش وأنور البني، وكلاهما من المحامين الذين فرّوا من سورية الأسدية بعد عام 2011.
درويش، 46 عامًا، يتحدث بصوت ناعم، وتتحول لهجته أحيانًا إلى جدية أكثر، عندما يحفزه الموضوع. عيناه داكنتان ويدخن باستمرار. نجتمع في مكاتب المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، وهو منظمة غير حكومية يرأسها درويش، في شارع سكني هادئ على الحافة الشمالية من باريس.
ولد درويش لعائلة من المعارضة السياسية. ويقول إن “أبي وأمي كلاهما زارا أجهزة الأمن والسجون في الأسد. عندما تنحدر من عائلة معارضة، تصبح جزءًا من مجتمع خاص. القصص عن زيارات السجن، والتعذيب، والاختطاف، عن الذين يُقبض عليهم وعن الإفراج عنهم هذا الأسبوع، تصبح جزءًا من حياتك اليومية.. ولكني عندما ذهبتُ إلى الجامعة، بدأت أشعر بأنني عضو في مجتمع أكبر. مجتمع أظهر لي أننا لم نكن مجرد مجموعة صغيرة”.
تدرّب درويش كمحامٍ، وسُجن مرات عدة بسبب نشاطه الذي تولد عن إيمانه بقيم حقوق الإنسان والديمقراطية. “لا يحقّ لأي أحد -حتى هذه الدكتاتورية- منع الأشخاص أن يعيشوا كبشر لا كعبيد”.
في عام 2012، اعتُقل درويش، وأمضى ما يقرب من ثلاثة أعوام في السجن، وعانى آثار التعذيب الذي لا يزال يحمل ندوبًا نفسية منه حتى اليوم. “كان التعذيبُ يُستخدم على الدوام، كأداة لجمع المعلومات في سورية. ولكن أصبح التعذيب من أجل الانتقام، والتعذيب من أجل التعذيب، والتعذيب من أجل القتل”. ويضيف أن هناك فترة واحدة مدّتها ستة أشهر، عندما كان يتعرّض للتعذيب يوميًا. لم يطلب مُعذبوه منه أيّ معلومات.
هرب درويش من سورية في عام 2015، واستقرّ أولًا في برلين ثم باريس. ومن المنفى، كان يعمل بشكل وثيق مع شبكة غير رسمية من المهاجرين السوريين الذين يقاومون لضمان مساءلة النظام السوري عن مجموعة الجرائم ضد الإنسانية الموثقة جيدًا، حتى وهو يقترب من النصر.
أحد هؤلاء الرجال هو أنور البني. وهو رجل ذو شارب كثيف، وقد التقيته في ظهيرة باردة، في منطقة صناعية سابقة في برلين الشرقية السابقة. وهو يعمل في مكتب عادي، في المبنى الذي تعمل فيه شركة تمثيل، مع ابتسامات لمن هم في العشرينيات من العمر مرتدين سترات ساطعة في الممرات. ولد البني في عام 1959 في حماة، شرق سورية، لعائلة مسيحية من المعارضين. ونشأ في سورية البعثية في ظل النظام الاستبدادي لحافظ الأسد، والد بشار. وعلى غرار درويش، تدرّب البني على المحاماة، وعمل على القضايا اليائسة تقريبًا للمعارضين الذين يحاكمهم نظام شمولي. “لم يكن هناك مجال لعمل المحامي، لكن هدفي كان كشف ما كان يحدث”. وفي عام 2014، هرب البني إلى ألمانيا، حيث أسس المركز السوري للدراسات والبحوث القانونية، وكان يُعِدّ الوثائق القانونية لمحاسبة مسؤولي نظام الأسد منذ ذلك الحين.
وفي مقدمة هذه الجهود، المحاكمة البارزة في كوبلنز، وهي مدينة صغيرة في غرب ألمانيا، عند التقاء نهري موزيل والراين، وهي معروفة بتحصيناتها في القرون الوسطى ونصبها التذكاري احتفالًا بتوحيد ألمانيا. وهنا، وللمرة الأولى منذ بداية الحرب الأهلية السورية عام 2011، تجري محاكمة المسؤولين السابقين المزعومين في نظام الأسد في قاعة المحكمة. البني ودرويش، اللذان لم يستدعيا إلى نقابة المحامين في أوروبا، لا يتصرفان بوصفهما مدعين عامين في هذه القضية، ولكن وجودهما في المحكمة كان مفيدًا.
شهدت محاكمة كوبلنز، التي بدأت في عام 2020 ومن المتوقع أن تصدر حُكمها هذا العام، اتهامات من المدعين الألمان، لرجلين قاما بالتعذيب والقتل في “فرع الخطيب”، وهو سجن في إحدى ضواحي دمشق. المتهم الرئيس (أنور ر) متهم بالتواطؤ في تعذيب حوالي (4000) معتقل، بينما يشتبه في مرؤوسه (إياد أ) بأنه عضو في فرقة شرطة، كانت تجلب السجناء إلى الفرع. (أنور ر) متهم بالتواطؤ في جرائم ضد الإنسانية، وبقتل 58 سجينًا، إضافة إلى تُهم بالاغتصاب والاعتداءات الجنسية. أما (إياد أ) فمتّهمٌ بتهمٍ أخفّ، من ضمنها المساعدة والتحريض على الجرائم ضد الإنسانية. اتُّهم كلا الرجلين بموجب الولاية القضائية العالمية، وهو مفهوم في القانون الألماني يسمح بمحاكمة بعض الجرائم ضد الإنسانية التي تُرتكب في أي مكان، ولو لم تُرتكب في ألمانيا أو من قبل الألمان.
استمعت المحاكمة إلى شهادات مرعبة من مواطنين سوريين، يزعمون أنهم تعرضوا للتعذيب في فرع الخطيب. وشهد أحد الشهود بأنه كان يُؤمَر بدفن مئات الجثث أسبوعيًا. وأبلغ عن رؤيته امرأة تحتضن طفلها بين ذراعيها بين الجثث.
أثارت المحكمة أسئلة أخلاقية صعبة، تتعلق بالانشقاق عن نظام استبدادي. أُلقي القبض على كلا المتهمين في ألمانيا، حيث كانا يعيشان منذ أعوامٍ بعد انشقاقهما عن حكومة الأسد. كانا صريحَين مع السلطات الألمانية حول ماضيهم في العمل مع نظام الأسد والعمل في أجهزة الأمن، وذلك إما لأنهم اعتقدوا أن الانشقاق والتعاون مع المعارضة سيحميهم من الملاحقة القضائية، وإما لأن أجهزة الأمن السورية تعمل في ظل إفلات تام من العقاب، وقد تكون اعتادت عدم الخشية من محاسبتها على أفعالها.
ولكن المحاكمة هي أكثر من محاكمة اثنين من الرجال ذوي رتب متدنية نسبيًا، حيث تشير الوثائق المقدمة خلال الإجراءات إلى القمع المنهجي الذي يصل إلى أعلى مراتب النظام السوري. وقال لي فريتز ستريف، وهو محامٍ في مجال حقوق الإنسان نزل بضيافة الفرع (251)، يغطي المحاكمة: “إن المدعي العام يريد أن يثبت أن أعمال هؤلاء الأفراد تشكل جزءًا من هجمات منهجية واسعة النطاق ضد السكان المدنيين. هذه محاكمة تتناول ادعاءات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، من جانب المتهمين، ومن جانب النظام كمنظومة”.
ساعدت شهادة درويش في المحاكمة في تعزيز هذه القضية، وساعدته تجربته في المعارضة في سورية قبل الثورة في القول بأن النظام الأسدي كان شموليًا في أيديولوجيته ووحشيًا في أساليبه التي استمر فيها بعد بدء الحرب الأهلية. وعلى نحو مماثل، حشد البني شبكته الواسعة النطاق من السوريين الذين يعيشون في المنفى، لبناء قضايا ضد مسؤولين مزعومين في النظام السابق، التي تُعدّ المحاكمة في كوبلنز أوّل مظهر لها، ويأمل ألا تكون الأخيرة.
هناك مشكلات مع المحاكمة؛ ومن الممكن أن تثني مسؤولي نظام الأسد عن الانشقاق خوفًا من الملاحقة القضائية في المستقبل، وقد يؤدي ذلك إلى تقوية النظام. يحدث هذا في ألمانيا، بعيدًا عن معظم السوريين، الذين لا يستطيعون متابعته بالتفصيل في وطنهم الأصلي. وبينما كان الرجلان مسؤولين أمنيين رفيعي المستوى، لم يكونا من بين الذين كانوا في القمة يعطون الأوامر.
وعلى الرغم من ذلك، فإن محكمة كوبلنز تشكل لحظة بارزة في الكفاح من أجل المساءلة في الحرب الأهلية السورية. والواقع أن أغلب محاكمات جرائم الحرب جرت تاريخيًا ضد البلدان المهزومة، بعد انتهاء الحرب، كما حدث في ألمانيا النازية، لكن في هذه الحالة، سيخضع المسؤولون السابقون في الطرف المنتصر للمساءلة. وقد يتضح أن محاكمة كوبلنز تشكل عاملًا مهمًا في كيفية معاملة المجتمع الدولي للنظام السوري، كما قد يتبين من أنظمة مماثلة يأمل درويش والبني في محاكمتهما.
قبلت بعض البلدان، التي قطعت الروابط الدبلوماسية مع النظام السوري في بداية الحرب، حقيقة تغلّب الأسد، وتعمل الآن على إعادة العلاقات مع النظام. ومع تزايد ترسيخ موقف الأسد داخل سورية، من المرجح أن يطالب البراغماتيون في الحكومات، في مختلف أنحاء العالم، بالانخراط في نظام، قد يبقى مكانه لأعوام مقبلة، وخاصة أنه متحالف بشكل وثيق مع روسيا. إن انتخاب أرمين لاشيه، الذي يتمتع بتاريخ من التصريحات العامة الموالية للأسد، زعيمًا للحزب الديمقراطي المسيحي الحاكم في ألمانيا، في شهر كانون الثاني/ يناير، يشكّل مثالًا على مدى انتشار هذا القلق في التفكير في بعض الأوساط.
“سترى بعض الدول الأوروبية أن هناك حاجة إلى درجة أكبر من البراغماتية، من حيث التعامل مع دمشق كسلطة فعلية، ولكن هذا لا يعني أنها ستحتضن النظام بأذرع مفتوحة، وتقرر طيّ صفحة الأعوام العشرة الماضية. قال لي جوليان بارنز – دايسي، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وهو مركز أبحاث: “تواجه أوروبا معضلة النظام الذي يبقى على قيد الحياة، بينما ينهار البلد”.
ولكن الجرائم التي كشفت عنها محاكمة كوبلنز -والمسؤولية الشاملة التي تنطوي عليها- قد تؤدي إلى تعقيد مثل هذه الجهود، الأمر الذي يؤدي إلى ضغوط سياسية وقانونية للحد من الاعتراف الدولي بنظام الأسد. إن الحكم الصادر عن هيئة قضائية مستقلة ونزيهة يمكنه أيضًا أن يضفي الشرعية على التهم الموجهة ضد الأسد، التي قد تجعل إزالة العقوبات المفروضة على النظام السوري وكبار مسؤوليه أكثر صعوبة. وقال لي البني: “أحاول منع عودة نظام الأسد إلى المجتمع الدولي، بأي طريقة ممكنة. الآن هم مشتبه بهم، بالمعنى القانوني لا بالمعنى السياسي”.
قد يعقب ذلك مزيد من القضايا المرفوعة ضد مجرمي حرب آخرين مزعومين. يتلقى البني عشرات المعلومات يوميًا من السوريين الذين يعيشون في المنفى، بخصوص مواقع معذبيهم السابقين. وهو يعمل على وضع ميزانية لجمع القضايا ضد مسؤولي النظام السابق الذين يعيشون كلاجئين في ألمانيا لسنوات. “ليس من السهل العثور على الشهود… الشاهد يمكن أن يكون هنا في ألمانيا، والمشتبه فيه في السويد”.
يأمل درويش أيضًا أن تقدّم قضايا مماثلة للمحاكمة في بلدان أوروبية أخرى. “هذه ليست قضية سورية، بل قضية أوروبية”. وإذا بدأ الآلاف من اللاجئين السوريين في أوروبا، الذين فرَّ معظمهم من الأسد، يفقدون الثقة في المساءلة، ويبدؤون الاعتقاد بأن “العدالة مزيفة”، وبأن لا أحد يهتم بمعاناتهم؛ فإن “هؤلاء سوف يتحولون بسهولة إلى التطرف”.
وعندما سئل الرجلان: هل تتوقعان العودة إلى سورية؟ ردا بالإيجاب. وإذا ما حدث هذا، فلا بد أن يكون إلى سورية ديمقراطية، سورية ما بعد الأسد. وهو الاحتمال الذي يبدو بعيد المنال حقًا.
(*) – الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز ولا عن مواقفه من القضايا المطروحة
اسم المقال الأصلي | Assad on trial |
الكاتب | إيدو فوك،IDO VOCK |
مكان النشر وتاريخه | NEW STATESMAN، 27 كانون الثاني/ يناير 2021 |
رابط المقال | http://bit.ly/3pBKJ9g |
عدد الكلمات | 1639 |
ترجمة | وحدة الترجمة/ أحمد عيشة |