لقد سلّط النجاح العسكري الروسي في سورية، على مدى السنوات الأربع الماضية، الضوءَ تسليطًا سلبيًا جدًا على التأكيد الذي يصدر تلقائيًا من قبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة ودبلوماسيين غربيين آخرين، بأنه لن يكون هناك “حل عسكري” للحرب الأهلية الوحشية في سورية. لكن ثمة مسألة تبدو أقلّ وضوحًا، وهي هل ستكون روسيا قادرة على ترجمة المكاسب في ساحة المعركة إلى حلّ سياسي مستقر. من هذا الجانب، هناك غيوم مظلمة.

في 17 نيسان/ أبريل، نشر ألكسندر أكسينوك، السفير الروسي السابق في سورية ونائب رئيس مجلس الشؤون الدولية الروسي، تقييمًا قاتمًا[1]، حول الوضع في سورية والقدرة على قيادة البلد. حيث كتب: “دمشق ليست مهتمة بإظهار اهتمام خاص لنهج بعيد النظر ومرن”، مضيفًا أن “التسوية المستدامة مستحيلة، ما لم يتم القضاء على الأسباب الاجتماعية والاقتصادية الأساسية للصراع، وعلى العقلية التي تسببت فيه”. على الرغم من أن العمليات العسكرية الروسية كانت ناجحة حتى هذه اللحظة، فقد خلص إلى القول: “أصبح من الواضح أن النظام متردد في مسألة تطوير نظامٍ حكومي -أو هو غير قادر على ذلك- يمكنه التخفيف من الفساد والجريمة، والانتقال من الاقتصاد العسكري إلى التجارة العادية والعلاقات الاقتصادية”.

كان أكسينوك قد انتقد دمشق سابقًا[2]، ولكن ليس بشكل مباشر، كهذه المرة. إذ نشر مقالًا يتهم فيه الرئيس السوري بالفساد، في دراسة تعود إلى يفغيني بريغوزين، وهو حليف مقرب للرئيس فلاديمير بوتين، كما نشر استطلاعًا يشير إلى أن شعبية بشار الأسد داخل سورية قد انخفضت إلى 32 في المئة، وأثار التكهنات حول حملة إعلامية منسقة، تهدف إلى الإشارة علنًا إلى استياء الكرملين[3].

إذا كان الأمر كذلك، فسيكون هذا تطورًا مقلقًا للأسد، الذي تعتمد آليته العسكرية بالكامل تقريبًا على سلاح الجو الروسي والأسلحة والخبرة الفنية الروسية. كما أن المقابل لهذا -لأن السفير نشر مقالاته بشكل مستقل- سيكون بالأهمية نفسها، لأنه يظهر مزيدًا من الإحباط من طرف روسيا الحليف الرئيس لسورية.

ماذا يمكن أن يعني هذا لمستقبل تدخّل روسيا في سورية؟

تعاونت الدولتان، منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي[4]، لكن الشراكة كانت أكثر تعقيدًا وتوترًا مما يُعترف به أحيانًا. خلال الحرب الباردة، شعر المسؤولون الروس بالقلق من سياسة سورية الخارجية المغامرة، وعلى الرغم من المساعدات الكبيرة، وجدوا أن السيطرة على حافظ الأسد مسألة صعبة، إن لم تكن مستحيلة. وعندما انهار الاتحاد السوفييتي، تلاشت العلاقات، ثم استعيدت عام 2005، تقريبًا، عندما تقاطعت رغبة روسيا في تأكيد سياسة خارجية مستقلة، تشمل الشرق الأوسط، مع تزايد الضغوط الغربية على سورية.

منذ انتفاضة عام 2011، وخاصة بعد عام 2015، كان الدعم الروسي قويًا، لكن المسؤولين الروس -ومنهم بوتين نفسه[5]– نأوا بأنفسهم باستمرار عن شخص الرئيس السوري. وطوال جولات متعددة من محادثات السلام التي توسطت فيها الأمم المتحدة في جنيف، أكد الدبلوماسيون الروس أنهم “غير متشبثين بالأسد”. يعتقد البعض أن هذا لم يكن أكثر من مجرد خدعة، تهدف إلى التلاعب بالمسؤولين الغربيين المتفائلين، وإلى كسب روسيا الوقت لتعزيز موقف الأسد. ومن المؤكد أن هذا النهج منح روسيا مرونة أكبر مما فعلته دعوة الرئيس أوباما للأسد “للتنحي[6]“. لكنه يعكس أيضًا حقيقة أن دعم روسيا لم يكن بشأن الأسد (أو حتى سورية) في المقام الأول. وبدلًا من ذلك، كان الدافع وراء ذلك هو الرغبة في منع الولايات المتحدة من إسقاط نظام آخر حليف لروسيا[7]، وإنهاء عزلة موسكو، بسبب أفعالها في أوكرانيا، وضمان استمرار الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. في هذا السياق، كان الأسد أداةً، وفي ظل الظروف المناسبة، ربّما يكون أداةً يمكن الاستغناء عنها.

هذا لا يعني أن روسيا مستعدة الآن لقبول انتقال سياسي[8] في سورية، وفق المبادئ المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، وذلك لأسباب عدة؛ الخوف من أن يؤدي إسقاط الأسد إلى انهيار فوضوي للنظام السياسي القائم على شخصية الرئيس، الذي عمل والده على بنائه منذ أكثر من أربعين عامًا، يجعل هذا النهج محفوفًا بالأخطار. على مستوى عملي، يبدو أن دعم إيران الثابت للأسد يحد من نفوذ روسيا في السياسة الداخلية[9]. وربما ثمة ما هو أكثر من ذلك، حيث وضعت روسيا سورية في موقف يؤكد دفاع روسيا عن السيادة الوطنية والموثوقية كشريك أمني[10]. وأي نفحة من الاستسلام للولايات المتحدة على مصير الأسد سوف تفسد تلك الرواية بطرق تؤثر سلبًا على تطلعات السياسة الخارجية لروسيا إلى ما هو أبعد من سورية.

ومع ذلك، فإن التحديات بالنسبة إلى روسيا هائلة. وأولها التحديات العسكرية؛ حيث تقف تركيا والولايات المتحدة في طريق النصر الكامل، تاركين تركيزًا كبيرًا من المقاتلين المتشددين والمتطرفين في محافظة إدلب، بالقرب من قاعدة حميميم الروسية[11]، وتحرم الحكومة من الوصول إلى موارد النفط والغاز في الشرق. في حين أن مستقبل الوجود العسكري الأميركي غير مؤكد، يشير الحشد العسكري التركي إلى أنها تخطط للبقاء[12]. في الوقت نفسه، يختمر تمرد في الجنوب[13]، وهي منطقة شاركت فيها روسيا بعمق، ضمن سلسلة من اتفاقيات خفض التصعيد، حيث تواصل الشرطة العسكرية الروسية القيام بدوريات.

سياسيًا، أصرّ الأسد مرة أخرى على رأيه، ويقوّض حتى التطلعات المتواضعة للعملية التي تقودها الأمم المتحدة، لإصلاح الدستور السوري التي وصفها المسؤولون الروس في البداية بأنها خطوة مهمة[14]، على “طريق طويل” نحو السلام. وكما وجد خبراء السياسة في سياقات أخرى[15]، فإن المساعدة العسكرية لا تترجم بالضرورة إلى تأثير؛ في سورية، ربما يكون نجاح روسيا في استقرار حكومة الأسد قد ترك موسكو بنفوذ أقل، لا أكثر.

من باب الإنصاف، لطالما كانت سورية صعبة الحكم[16]. اعتمادًا على الطريقة التي تُدار بها، كان هناك على الأقل خمس انقلابات، بين الاستقلال عام 1947 و “الحركة التصحيحية” التي أوصلت حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970. فرضت عائلة الأسد النظام من خلال بناء دولة أمنية لا ترحم، وغطت شخصيتها العلوية على حزب البعث، وتلاعبت بالقضية الفلسطينية لتعزيز شرعيتها المحلية. من بين هذه الطرق الثلاثة، يبدو أن الطريقة الأولى فقط نجت من الحرب الأهلية. يمكن لقائد سياسي، يمتلك قدرة على أن يستوعب خصومه السابقين، أن يستفيد من الوطنية السورية أو الصمود المذهل للشعب السوري، وأن يبدأ معالجة جراح الحرب. لكن بشار الأسد ليس ذلك القائد، وروسيا تعرف ذلك.

أخيرًا، هناك التحدي الاقتصادي. مقامرة روسيا، بأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سيقبلان في نهاية المطاف بصفقة سياسية تجميلية وسداد فاتورة إعادة الإعمار -إذا كان ذلك فقط لوقف تدفق اللاجئين- لم تنجح. وبدلًا من ذلك، فإن تشديد العقوبات الأميركية وانهيار النظام المصرفي اللبناني يقوضان ما تبقى من الاقتصاد السوري[17]. في غياب “مكاسب السلام”، يقوم الأسد بتهدئة أولئك الذين ظلوا مخلصين للممتلكات والشركات التي استولى عليها السوريون الذين فرّوا خلال الحرب. في غضون ذلك، تجد روسيا صعوبة في استخراج الفوائد الاقتصادية في سورية التي من شأنها أن تساعد في تعويض تكاليف حملتها العسكرية.

لا تخطئوا: هذه التكاليف مستدامة. وعلى العموم، لا يزال تدخل بوتين في سورية يُعدّ -عند العديد من الروس وغيرهم- بمنزلة نجاح كبير[18]. انتهى التهديد العسكري لحكم الأسد. اختبرت روسيا آلتها العسكرية، ووجدت أسواقًا جديدة لأنظمة أسلحتها. تعمقت علاقاتها مع إيران وتركيا وإسرائيل ودول الخليج، وتعززت هيبتها في المنطقة كثيرًا. ومع ذلك، من الصعب معرفة من أين ستأتي المكاسب الإضافية، وقد تكون هناك تكاليف باهظة، إذا تدهور الوضع أكثر. إن انهيار أسعار النفط، والاضطراب الاقتصادي الناتج عن COVID-19، يجعلان هذه القضايا أكثر إلحاحًا.

وجدت روسيا في الأسد شريكًا غير كامل. ومن المفارقة أنه في اللحظة التي قبل فيها كثيرون في أوروبا[19]، وبعضهم على الأقل في الولايات المتحدة[20]، أن يستمرّ حكم الأسد، يتزايد الإحباط الروسي من الأسد. ومع ذلك، في الوقت الحاضر، لا يزال الأسد وروسيا بحاجة إلى بعضهما. قد تكون موسكو مستعدة لقبول سورية كدولة فاشلة، يمكن لروسيا من خلالها الاستمرار في العمل، كحكَم بين القوى الإقليمية والدولية، في انتظار فرص ظهورها في المستقبل. ولكن من شبه المؤكد أن بوتين سوف يستمتع بفرصة لعب “صانع السلام”. في هذه الحالة، ستحتاج روسيا إلى إقناع الآخرين، وخاصة تركيا والولايات المتحدة، بأنها مستعدة لاستخدام النفوذ الذي لا يزال لها في دمشق. وإلا؛ فإن الأسد سوف يُفسد خططه.

العنوان الأصليAssad the Spoiler: Russia’s Challenge in Syria
الكاتبألكسندر بيك
المصدرمركز ويلسون 30 نيسان/ أبريل 2020
الرابطhttps://www.wilsoncenter.org/article/assad-spoiler-russias-challenge-syria
المترجموحدة الترجمة- محمد شمدين

ألكسندر بيك هو باحث في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة. خدم في إدارة أوباما كمدير لمكتب سورية في مجلس الأمن القومي وفي طاقم تخطيط السياسة في وزارة الخارجية تحت أمناء كلينتون وكيري. عمل سابقًا في مركز كارتر، حيث ساعد في تنظيم مبادرات السلام في سيراليون، والسودان، وفنزويلا، وأدار بعثات مراقبة الانتخابات الدولية في ليبيريا وليبيا. وكتب أيضًا عن المذهب التجاري والسياسة الاستعمارية الأوروبية، استنادًا إلى البحوث الأرشيفية المدعومة بزمالات من فولبرايت، ومعهد سكاليجر، ومكتبة فولجر شكسبير. حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة شيكاغو، وماجستير في التاريخ الاقتصادي ودبلوم في الاقتصاد من كلية لندن للاقتصاد، ودكتوراه في التاريخ من جامعة برينستون.


[1] War, the Economy and Politics in Syria: Broken Links: https://russiancouncil.ru/en/analytics-and-comments/comments/war-the-economy-and-politics-in-syria-broken-links-/?sphrase_id=35298583

[2] The Syrian Crisis: A Thorny Path from War to Peace: https://russiancouncil.ru/en/analytics-and-comments/comments/the-syrian-crisis-a-thorny-path-from-war-to-peace/

[3] Assad Facing Mounting Criticism from Russia: https://aawsat.com/english/home/article/2244531/assad-facing-mounting-criticism-russia

[4] From Cold War to Civil War: 75 Years of Russian-Syrian Relations: https://www.ui.se/globalassets/ui.se-eng/publications/ui-publications/2019/ui-paper-no.-7-2019.pdf

[5] Putin ‘not that preoccupied’ with fate of Syria’s Assad: https://www.theguardian.com/world/2012/dec/20/putin-distancing-assad-syria

[6] Statement by President Obama on the Situation in Syria: https://obamawhitehouse.archives.gov/the-press-office/2011/08/18/statement-president-obama-situation-syria

[7] Understanding Russia’s Intervention in Syria: https://www.wilsoncenter.org/article/assad-spoiler-russias-challenge-syria

[8] How Trump Can End the War in Syria: https://www.foreignaffairs.com/articles/syria/2020-04-26/how-trump-can-end-war-syria

[9] Russia and Iran in Syria— a Random Partnership or an Enduring Alliance? https://www.atlanticcouncil.org/wp-content/uploads/2019/06/Russia_and_Iran_in_Syria_a_Random_Partnership_or_an_Enduring_Alliance.pdf

[10] Russia’s Comeback Isn’t Stopping With Syria: https://www.nytimes.com/2019/11/12/opinion/russias-comeback-isnt-stopping-with-syria.html

[11] Kremlin: Russia deeply concerned by attacks on Syria government forces: https://www.reuters.com/article/us-syria-security-kremlin/kremlin-russia-deeply-concerned-by-attacks-on-syria-government-forces-idUSKBN1ZU149

[12] TURKEY’S MILITARY BUILDUP IN SYRIA’S IDLIB PROVINCE: http://www.understandingwar.org/backgrounder/turkey%E2%80%99s-military-buildup-syria%E2%80%99s-idlib-province

[13] Assassinations in southern Syria expose limits of Assad’s control: https://www.ft.com/content/ea48ebb9-cde0-4856-b6a4-49d00c70067c

[14] Special Envoy Hails Formation of Constitutional Committee as ‘Sign of Hope for Long-Suffering Syrians’ in Briefing to Security Council: https://www.un.org/press/en/2019/sc13967.doc.htm

[15] US Military Aid and Recipient State Cooperation: https://www.jstor.org/stable/24909798?seq=1

[16] Asad: https://www.amazon.com/Asad-Struggle-Middle-Patrick-Seale/dp/0520069765

[17] Reviving Syria’s Economy Is an Uphill Battle for Assad After Years of War: https://www.wsj.com/articles/reviving-syrias-economy-is-an-uphill-battle-for-assad-after-years-of-war-11580497279

[18] Putin Conquered the Middle East. The U.S. Can Get It B: https://www.bloomberg.com/opinion/articles/2019-10-22/putin-conquered-the-middle-east-the-u-s-can-get-it-back

[19] A framework for European-Russian cooperation in Syria: https://www.ecfr.eu/article/commentary_a_framework_for_european_russian_cooperation_in_syria

[20] Assad Is Now Syria’s Best-Case Scenario: https://foreignpolicy.com/2019/10/17/assad-syria-turkey-kurds-leadership/