(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
في الوقت الذي يحتضر فيه الاقتصاد في سورية بعد تسع سنوات من الحرب، يشهد لبنان منذ خريف 2019 أزمة مالية غير مسبوقة. هذان البلدان بعلاقاتهما المتشابكة يعانيان بالتبادل من الركود الاقتصادي الذي يخضعان له، كما ترى هذه الباحثة المختصة بالمنطقة.
إليزابيت بيكار، مديرة أبحاث في المركز القومي للبحث العلمي بباريس، اختصاصية بلبنان وسورية. وهي بوجه خاص مؤلفة كتاب لبنان ــ سورية، الغريبان الحميمان (منشورات آكت سود، 2016)
* مع الأزمة المالية في لبنان، هناك قيود صارمة على السحب من المصارف، والدولار الذي كان إلى وقت قريب يستخدم بصورة عادية، صار نادرًا. بم يؤثر هذا الوضع على سورية؟
** اعتبارًا من عام 2013، حين تفاقم الصراع في سورية وصار دوليًّا، نقل العديد من رجال الأعمال السوريين نشاطاتهم وأرصدتهم المصرفية إلى لبنان، وهو ما أدّى إلى هروب رؤوس الأموال السورية مجدّدًا إلى المصارف اللبنانية. يتواجد هذا المال اليوم مجمّدًا، سواء بالنسبة إلى المودعين ورجال الأعمال أو بالنسبة إلى كبار المستوردين المقربين من النظام. ومنذئذ، صار من العسير الوصول إلى المبالغ الهائلة الضرورية لاستيراد الحبوب، عبر موانئ بيروت اللبنانية أو موانئ اللاذقية السورية. يسهم هذا الوضع في خنق النظام السوري، لكنه يؤثر أيضًا على السكان الذين يتكبدون آثار المحنة والذين يعتبرون التموين بالقمح أوليًا.
* لكن دور رئة سورية المالية هذا الذي تقوم به بيروت، ليس جديدًا…
** اعتبارًا من فك الاتحاد الجمركي والنقدي بين الدولتين، في عام 1950، بدأ النظام المصرفي السوري بالتلاشي. ومنذ عام 1960، طفق رجال الأعمال والأفراد السوريون حينئذ بإيداع مدخراتهم ببيروت، وبشراء الدولار فيها أو بالحصول على تسهيلات في الدفع. وفي بداية عام 1970، كان ثمة ثلث كبرى المصارف اللبنانية تحت إدارة مهاجرين سوريين هربوا من السياسات الاشتراكية ومن التأميم في بلدهم. وفي أعوام التسعينيات، كان ثلث الأصول في المصارف اللبنانية يعود إلى السوريين. منذ وصول بشار الأسد إلى السلطة في عام 2000 وعملية الخصخصة التي أطلقها، لم تكن سورية تملك الوسائل لتطوير الأدوات المالية اللازمة لاقتصاد ليبرالي. هكذا بقيت بيروت إذن مركزًا لا غنى عنه.
* بماذا، على العكس، يؤثر احتضار الاقتصاد السوري على لبنان؟
** شلل بعض الشركات التي لم تتدمر في سورية والعقبات في وجه النشاطات الاحتيالية التي يقوم بها رجال النظام تؤلف خسارة لا شك فيها بالنسبة إلى الشركاء اللبنانببن، وفي المقدمة منهم، بالنسبة إلى المصارف. في عملية إعادة إعمار لبنان التي قام بها رئيس الوزراء رفيق الحريري بعد انتهاء الحرب الأهلية [1975 ـ 1990]، كان الاقتصاد اللبناني مفرط التمويل. ومع انفجار فقاعة المضاربة وهروب رؤوس الأموال الضخم نحو المصارف الغربية منذ أيلول/ سبتمبر 2019 [رغم منع التحويل إلى الخارج اعتبارًا من شهر تشرين أول/ أكتوبر]، فقد العديد من اللبنانيين بل ومن السوريين مدخراتهم. كما أن المال الناتج عن الفساد السياسي الذي كان يسمم البلدين معًا تبخر على وجه الاحتمال هو الآخر أيضًا. وانضاف إلى هذه المشكلات،بعد ذلك، انقطاع المرور على مراكز الحدود، منذ منتصف آذار/ مارس، بحجة الأزمة الصحية المرتبطة بكوفيد ـ 19.

* هل يوشك كل واحد من البلديْن على جرِّ البلد الآخر إلى الهاوية؟
** لا يفعل كل بلد سوى مفاقمة مشكلات البلد الآخر. فبالإضافة إلى ضروب الدمار والموتى خلال تسع سنوات من الحرب في سورية، زاد تدفق المهاجرين الكارثة الاجتماعية/ الاقتصادية في لبنان. وصل عددهم الحالي إلى ما بين مليون ومليون نصف نسمة [مقابل مجموع سكان لبنان الذي يقدر بستة ملايين نسمة من السكان]، أكثريتهم في فقر شديد. إنهم يمثلون عبئًا ثقيلًا بالنسبة لإدارة الموارد العامة اللبنانية (المدارس، المستشفيات…) وبالنسبة إلى سوق العمل. وبالتوازي، يزيد من حدّة الأزمة السورية واقعُ غرق لبنان في الأزمة المالية وعدم استطاعته بالتالي القيام بدور رئة مالية أو بدور مصرف لسورية وأن يقدم عروض عمل للسوريين كما كان يفعل في الماضي. في بداية سنوات 2000، كان هناك 15 بالمائة من قوة العمل السورية مستخدمة في لبنان بانتظام، ولاسيما في الأعمال التي لا تحتاج إلى اختصاص مثل البناء أو الزراعة، بل وكذلك في قطاعات أخرى مثل التجارة أو التقنيات الجديدة.
* تفاوض بيروت مع صندوق النقد الدولي الحصول على مساعدة مالية. أحد الشروط التي تجري مناقشتها، والتي يفترض أن توقف الخسائر الناجمة عن التهريب، هو مراقبة الحدود الطويلة مع سورية. هل يقدر لبنان على ذلك؟
** يبدو ذلك مفتقرًا إلى الواقعية. كانت الحدود اللبنانية ــ السورية قد رسمت في عهد الانتداب الفرنسي [من 1920 إلى 1943 في لبنان، و من 1920 إلى 1946 في سورية]. لم يجر أبدًا تحديدها بعلامات، لا من قبل السلطات الفرنسية، ولا من قبل الدولتيْن اللتيْن صارتا مستقلتيْن، بل ولا من قبل القوات السورية التي احتلت لبنات [التي نشرت منذ 1976] حتى 2005. بعد انسحابها، اهتمت بيروت بمراقبة هذه الحدود. وازداد قلقها حين بدأت الحرب في سورية، مع خطر امتداد الصراع حتى أراضيها الوطنية. عمل لبنان آنئذ بمساعدة القوات الأوربية ــ المملكة المتحدة بوجه خاص ــ، على ضمان أمن الحدود.
أمكن للرقابة النسبية أن تجري على طول القسم الشمالي، لكن الجزء الشرقي، المؤلف من الجبال والهضاب المتداخلة، كان من المستحيل تقريبًا إغلاقه. وفوق ذلك، هناك العلاقات الاجتماعية (روابط عائلية، زيجات بين أسر البلدين) والمبادلات المشروعة وغير المشروعة شديدة الكثافة على طرفي الحدود. لن تنقطع ضروب هذه التجارة إلا بصعوبة، وبصعوبة أكبر في وقت يواجه فيه النظام السوري والدولة اللبنانية مصاعب أمنية تتجاوز مجرد رقابة هذه الحدود.
* من الخاسر إذا جرت مراقبة هذه الحدود على نحو أفضل؟ هل هو حزب الله والنظام السوري، كما يؤكد عدد من المحللين؟
** سيكون الخاسرون أكثر عددًا من هذين الفاعليْن الإثنين. حين تُترك الطرق الكبيرة، غالبًا ما يكون التهريب “تهريبًا متواضعًا” لكل نوع من المواد الغذائية: أدوية، أغذية، إسمنت، بنزين، مازوت…ولا يجري التدفق من لبنان نحو سورية فحسب، بل يجري في الاتجاهين، حسب الحاجات أو النقص في المؤن لدى كل منهما. وإذا كان النقل قد نما، فذلك مرتبط أيضًا بنمط الاقتصاد الذي يسود في لبنان وفي سورية: أي التمويل المفرط للاقتصاد اللبناني لصالح النخب السياسية ورجال الأعمال، واللبرلة المتوحشة التي تفيد بصورة جوهرية المقربين من النظام السوري. فعلى طرفي الحدود، يجري تبادل المنتجات بصورة غير شرعية، واستيراد أو تصدير العملات الصعبة، وتمرير الأسلحة، والبضائع النادرة، بله تهريب البشر، وهي فعاليات اقتصادية مزدهرة في جو نقص الحاجات الأساس والافتراس السائد.

* صار تهريب العملات الصعبة، المفتقدة في لبنان وفي سورية، موضوعًا ساخنًا…
** أمكن التعرف على عمليات تهريب العملات الصعبة التي ينظمها صرافون قريبون من حزب الله [الذي يدعم النظام السوري عسكريًا منذ عام 2012]. فقد سهّلوا تهريب الدولار نحو سورية الذي حرم منه السوريون بسبب الحرب، وبسبب العقوبات الدولية ضد النظام ودمار اقتصادهم. وإذا كان مقربون من جزب الله مسؤولين عن هروب رؤوس الأموال نحو سورية، فثمة ضروب تهريب أخرى لرؤوس الأموال، أكثر كثافة أيضًا، جرت باتجاه المصارف الغربية منذ خريف 2019.
* كيف يوشك قانون قيصر، الذي وقعه دونالد ترامب ودخل حيز التنفيذ في 17 حزيران/ يونيو، والذي يهدد بإنزال العقوبات على كل كيان يقدم “دعمًا هادفًا” للنظام السوري، أن يؤثر على اقتصاد البلديْن؟
** الاعتقاد بأن قانون قيصر أو العقوبات الأوربية يمكن أن يؤديان إلى خنق النظام [نظام بشار الأسد] وأن يغيرا المعطيات في سورية اعتقادٌ مغرور. لقد عمل لهذا القانون سوريون مهاجرون في الولايات المتحدة، على غرار ما جرى مع الشتات العراقي الذي دفع إلى التدخل الأميركي في العراق عام 2003. يطرح قانون قيصر مطالب شاملة وغير واقعية، مثل سقوط النظام، والانتقال السياسي أو خروج الإيرانيين من سورية. لكن الوضع السوري أفلت في قسم كبير منه من أيدي الفاعلين الغربيين منذ سنوات عدة. وقدرة الغربيين على الضغط ضعيفة في ضوء الاستثمار الذي يقوم به في سورية ثلاثة فاعلين أجانب هم روسيا أولًا، وإيران [وكلاهما يدعمان النظام] وتركيا [راعية التمرد].
يبقى أن هذا القانون ينطوي على قيمة أخلاقية: فهو يقوم على فحص لاشك فيه للجرائم التي ارتكبتها السلطة السورية. إنه يؤلف أيضًا إشارة قوية موجهة إلى الفاعلين الذين يميلون على غرار الإمارات العربية المتحدة إلى التعاون مع هذا النظام الهمجي. لكن قيمته التنفيذية ضعيفة. ثم أنه يمكن أن يؤلف عقبة أمام حصول المجتمع السوري على المنتجات المنتجات الأساسية والرعايات الطبية.
* يكبح هذا القانون أيضًا إمكانات إعادة الإعمار في سورية، التي يراهن عليها اللبنانيون من كل الاتجاهات السياسية للخروج من حالة الركود الاقتصادي القائمة منذ عام 2011.
** تكاثرت العقوبات ضد القادة السوريين والمقربين منهم منذ عام 2014، كما أن آفاق إعادة الإعمار ازدادت ابتعادًا. ففي رأي الاقتصاديين، فقد لبنان سوقًا محتملًا يضمُّ عشرين مليون مستهلك، كان واعدًا خلال السنوات العشر الأولى اعتبارً من عام 2000. فالسوريون واللبنانيون والمستثمرون الإماراتيون بدأوا في التراجع عن الانخراط في مشروعات عمرانية مثل مشروع ماروتا سيتي [مشروع فخم في جنوب دمشق] بسبب العقوبات، وبوجه خاص الأزمة المالية. وليس الوضع أفضل حالًا في لبنان، حيث باتت المساعدة المالية الغربية مشروطة باعتماد إصلاحات بنيوية محفوفة بالمخاطر لأنها تهدد الصيغة الدستورية الخاصة بالإجماع بين ممثلي الطوائف، واقتصادًا يتطلع في المقام الأول إلى الربح المالي.

عنوان المادة: « Entre le Liban et la Syrie, chacun ne fait qu’aggraver les problèmes de l’autre »
الكاتب: مقابلة مع إليزابيت بيكار Elizabeth Picard، أجرتها لور ستيفان Laure Stephan
المترجم: بدرالدين عرودكي
مكان النشر: صحيفة اللوموند، 28/ 29 حزيران/ يونيو 2020
رابط المقال: https://bit.ly/3gqTxK3
عدد الكلمات : 1730