بعد ثماني سنوات من الحرب في سورية، لا شك أن هناك سلامًا من أجل بناء سورية، ولكن “ماذا” و”متى” و”مَن” و”كيف” يكون تحقيق هذا المسعى؟ كل ذلك ما يزال غير واضح. ما هو واضح أن بناء السلام في سورية لن يكون “عملًا عاديًا” بالنسبة إلى صانعي السياسية الغربيين، لأن ما يسمى عملية بناء السلام “الليبرالي” -وهي برامج شاملة تهدف إلى تحقيق القانون والازدهار والنظم السياسية التشاركية لفترة بعد الحروب الأهلية- ليست لديها شعبية في الحصول على دعم. ذلك بأن صانعي السياسة إما سيواجهون “دولة شرسة/ عنفيّة”، حيث إن “النخبة الحاكمة تسعى للبقاء في السلطة مهما كان، وتصمّم مؤسساتِها لدعم هذا الهدف”؛ أو سيواجهون “السلام الاستبدادي”، وذلك بسبب “توافق الجهات الفاعلة الإقليمية والمحلية حول الممارسات الاستبدادية غير الليبرالية”. هذه الظروف تعني “شبه استحالة في تنفيذ أي شكل من أشكال دعم إعادة الإعمار، من دون الوقوع في مشروع النظام الذي يهدف إلى تحقيق استقرار سلطوي وتغيير ديموغرافي، أو استحالة تجنب وصول أموال [إعادة الإعمار] إلى جيوب أصدقاء النظام وأمراء الحرب”. إن أي أمل يُبديه الساسة الغربيون، بأن هذه المرحلة الحالية هي مجرد مرحلة انتقالية ويمكن للمجتمع الدولي التعامل معها ثم يعود إلى بناء دول واقتصاديات ليبرالية في المستقبل القريب، هو “مضللٌ جدًا”.

ماذا يجب على صناع السياسة الغربيين فعله؟ فلم يعد مرضاهم يستجيبون للعلاج المعتاد، وعلى ما يبدو أن العلاج الموجود لم يعد يفيد. وفوق ذلك، أصبح مرضاهم يبحثون عن أطراف أخرى تعرِض عليهم علاجات تبقيهم على قيد الحياة، ولكن لا يمكنها معالجة الحالات المزمنة.

يضع هذا البحث التحدي المتمثل في إعادة الإعمار في ظل الاستبداد في سورية، ضمن السياق الأوسع لبناء السلام في مرحلة “الموجة الثالثة من الاستبداد”، حيث خصال الديمقراطية للدول والمجتمعات “تتآكل تدريجيًا تحت غطاء الشرعية”. هذا البحث عبارة عن دراسة استكشافية حول أن التركيز على إعادة إعمار سورية سيساعد في تقييم الفرص والقيود لإعادة اختراع ممارسة بناء السلام. يتوجه هذا البحث من جانبٍ إلى أولئك المهتمين أو الراغبين في إعادة إعمار سورية، من خلال استكشاف كيف يبدو منظور بناء السلام بشأن إعادة الإعمار؛ ويتوجه من جانب آخر إلى صانعي السلام، من خلال تحديهم في إعادة اختراع بناء السلام في مواجهة أشرس حكم استبدادي لم يتكرر في أجزاء كثيرة من العالم.

يناقش هذا البحث أن بناء السلام محتمل في سورية، بالتزامن مع بدء إعادة الإعمار فيها، وهو ممكن في ظل حكم “الدولة العنفية” أو في ظل “السلام الاستبدادي”. أيًا يكن الأمر، لمعرفة فرص بناء السلام، يحتاج صانعو السياسة إلى تغيير طريقة تفكيرهم حول بناء السلام، من “برنامج عمل شامل”، إلى بناء السلام على شكل (تطبيقات/ برمجيات). ويحتاجون أيضًا إلى إعادة تحديد المفهوم المتعلق بالبناء السلام “الليبرالي”، الذي كان جزءًا من مرحلة ما بعد الحرب الباردة، والآن مرت تلك الحقبة مع كل السياسات التي وُضعت من أجلها. كما أنهم يحتاجون إلى إدراك أن التحديات التنفيذية التي صاحبت بناء السلام “الليبرالي” قد طُويت، من خلال فرض سياسات الاستقرار ومكافحة الإرهاب، على الأقل منذ منتصف العشرية الأولى من القرن الحالي، عندما أصبحت “الحرب على الإرهاب” الإطار السياسي السائد [في السياسة الدولية].

تؤكد الورقة استمرار أهمية بناء السلام، كمفهوم قائم على أساس الحوار وعلى أساس بناء الثقة، في عمليات البحث عن توافق في الآراء لحل الصراع أو تحويله أو إدارته من خلال وسائل غير عنفية. إذا تم فهم بناء السلام على أنه تطبيق أو نظام تشغيل متعدد الاستخدامات؛ فلن تقتصر إمكانية تطبيقه على كيفية التفاوض على حزم إعادة الإعمار، أو على كيفية تنفيذها في سورية، بل سيمكن تطبيقه في المجالات الأخرى ذات الصلة، مثل إصلاح قطاع الأمن في سورية، أو في الخروج من اقتصاد الحرب المحلية. إن فهم بناء السلام كبرنامج يعني المضيّ قدمًا بطريقة تدريجية، وحل المشكلات حيثما يكون ذلك ممكنًا، ويتطور من خلال تطبيقه على حالات متكررة.

تتوزع هذه الورقة في تحليلها على أربعة أقسام. يصف القسم الأول المشهد العام المتغير لبناء السلام. وفي القسم الثاني، يعرض النقاش حول حقبة بناء السلام “الليبرالي” التي انتهت. ويرسم الجزء الثالث الاقتصاد السياسي الحاكم في سورية وإعادة الإعمار بعد الصراع، كخلفية لتلك الانعكاسات الواردة في الجزء الرابع حول إعادة اختراع بناء السلام. حيث يقترح في هذا القسم أن بناء السلام في عالم جديد متعدد الأقطاب، مع وجود الاستبداد، يحتاج إلى العودة إلى الأساسيات. يحتاج صانعو السياسية إلى تغيير نظاراتهم للتعرف إلى الأدوات والإمكانات لهذا المسعى، وقد يحتاجون أيضًا إلى التركيز على ما يمكنهم فعله والبدء به في بلدانهم ومؤسساتهم، للمساعدة في بناء السلام في أماكن أخرى.

لتحميل الموضوع كاملًا يرجى الضغط هنا.