ترجمة أحمد عيشة
(*) الآراء الواردة في هذه المادة لا تمثل بالضرورة آراء المركز ولا مواقفه من القضايا المطروحة
إن وسم “الإرهابي” المعلّق على أقوى جماعة متمردة في إدلب يقوّض وقفًا حاسمًا لإطلاق النار، ويعوق المسارات المحتملة لتجنب المواجهة العسكرية، ويعكس صورة فجوة في السياسة الغربية. يمكن للأفكار الخلاقة من واشنطن أن تساعد في الخروج من المأزق وأن تشكل سابقة مفيدة.
إذا كانت إدارة بايدن تتطلع إلى تصحيح سياسة واشنطن الخارجية المفرطة في العسكرة؛ فإن إحدى الفرص لإعادة تحديد إستراتيجية الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب تكمن في إدلب، وهي منطقة وصفها مسؤولون أميركيون ذات يوم بأنها “أكبر ملاذ آمن للقاعدة منذ عام 11 أيلول/ سبتمبر”. لم تعد المحافظة الواقعة في الشمال الغربي من سورية كذلك، للأسباب الموضحة أدناه. ولكن الأمر -من نواح أخرى- يظلّ كما كان بالنسبة إلى جزء كبير من الحرب السورية: هي الملاذ المزدحم لثلاثة ملايين مدني، وموقع للكارثة الإنسانية المحتملة، وآخر معقل للجماعات المتمردة السورية. وقد يكون مصيرها محوريًا أيضًا بالنسبة إلى مستقبل التشدد الإسلامي في المنطقة، وسياسة الولايات المتحدة في التعامل معه.
المخاطر في إدلب معروفة جيدًا. في عام 2019، شنّ النظام السوري، مدعومًا بالقوة الجوية الروسية، هجمات أرجعت قوات المتمردين إلى الوراء، وأسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 1,600 مدني، وإجبار 1,4 مليون آخرين على الفرار من منازلهم. يستمر وقف إطلاق النار الروسي-التركي، منذ عشرة أشهر. وإذا انهار هذا الوقف، فمن الممكن أن يشن النظام هجومًا آخر، يمكن أن يسفر عن وقوع خسائر هائلة في صفوف المدنيين، وأن يشرد مئات الآلاف نحو الحدود التركية (وربما أبعد من ذلك بكثير)، بينما سيتفرّق المتمردون في مناطق شتى. وبعبارة أخرى: إن الصراع في سورية، الذي حُبِس الآن إلى حد كبير في مواجهة متقلقلة، قد يظهر من جديد، ويكون بؤرة لعدم الاستقرار الدولي.
وهذا السيناريو الأسوأ ليس أمرًا حتميًا، لكنه ما يزال أمرًا ممكنًا جدًا. لقد كسب توسع الدور العسكري التركي في إدلب على مدى العام الماضي بعض الوقت. وقطعت هيئة تحرير الشام (فرع تنظيم القاعدة السابق) وهي الجماعة المتمردة المهيمنة في إدلب، مع الشبكات الجهادية العابرة للحدود الوطنية، وتسعى الآن للدخول إلى مجال المشاركة السياسية في مستقبل سورية. ومن الناحية النظرية، ينبغي أن يتيح ذلك التطور فرصًا لتجنب تجدد العنف.
ولكن من الناحية العملية، يشكل استمرار تصنيف هيئة تحرير الشام، منظمة “إرهابية” (كما عرّفتها الولايات المتحدة وروسيا ومجلس الأمن وتركيا) عقبةً كبرى. حيث يؤثر التصنيف تأثيرًا مريعًا في الدعم الغربي لتوفير الخدمات الأساسية في إدلب، ويزيد من تفاقم الأزمة الإنسانية، ويحول دون إجراء مناقشات معها (هيئة تحرير الشام) بخصوص سلوكها ومستقبل الأراضي التي تسيطر عليها، حيث تتجنب الدول الغربية والأمم المتحدة الاتصالَ التام معها، بينما تقتصر تركيا في التواصل على الحد الأدنى اللازم لتيسير وجودها العسكري في إدلب. ويؤدي غياب هذه المشاركة إلى تقويض وقف إطلاق النار، وإلى منع القوى الخارجية من الضغط عليها لاتخاذ مزيد من الخطوات البناءة.
هناك حاجة ملحة إلى أفكار خلاقة لكيفية الحفاظ على الهدوء الهش أساسًا، ومن ضمن ذلك معالجةُ مسألة وضع هيئة تحرير الشام مباشرة. ومن الصعب أن نتصور أن هذه الأفكار تنبثق عن الأطراف المتنازعة في شمال غرب سورية: إن أنقرة تتردد في التعامل دبلوماسيًا مع هيئة تحرير الشام (غياب الدعم الدولي)؛ وتفضل موسكو ودمشق الانتصار العسكري الصريح على الجماعة؛ وتدعي الهيئة نفسها أنها تركز على الدفاع عن إدلب ضد مزيد من تقدم للنظام. هناك فراغ في السياسة العامة، وواشنطن الآن في وضع جيّد لملئه.
يتعين على إدارة بايدن أن تعمل مع الحلفاء الأوروبيين ومع تركيا، من أجل الضغط على هيئة تحرير الشام، لاتخاذ مزيد من الإجراءات التي تعالج المخاوف المحلية والدولية الرئيسة، وتحديد المعايير الواضحة التي يمكنها (إذا تحققت) أن تمكن الهيئة من التخلص من وسمها/ علامتها “الإرهابية”.
بالقيام بذلك، يمكن للولايات المتحدة أن تقلل من خطر اندلاع ثوران عنيف في شمال غرب سورية، بينما تتصدى في الوقت نفسه لتحديّين إضافيين في مجال السياسة العامة. ومن خلال التعاون مع أنقرة بخصوص هذه القضية ذات الاهتمام المتبادل، تستطيع واشنطن أن تحسّن العلاقات المتوترة مع حليف أساسي في منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو). وعلاوة على ذلك، تستطيع إدارة بايدن أن تؤسس نهجًا جديدًا لمكافحة الإرهاب يعطي القدر نفسه من الوزن والأهمية للأدوات الدبلوماسية الذي تمنحه إياها الأدوات العسكرية. يمكن لمثل هذا النهج أن يكون ذا قيمة أوسع: فقد يحدد كيف تبدو خارطة الطريق المشروطة بالنسبة لمجموعات أخرى في ساحات القتال اليوم، سُميّت “إرهابية” لكنها تبدي استعدادها للتخلي عن ملاحقتها للأجندة العابرة للحدود الوطنية والهجمات على المدنيين، من بين معايير أخرى.

قضية مشاركة الولايات المتحدة
يتجنب مسؤولو الولايات المتحدة حتى الآن إلى حدٍّ كبير التصدي للتحديات السياسية التي تمثلها وتطرحها إدلب. بينما تستمرّ المساعدات الإنسانية التي تقدّمها الولايات المتحدة -مثلها في ذلك كمثل الهجمات التي تشنها الطائرات من دون طيار (درون) بين الفينة والأخرى على الأفراد الذين يُزعم أنهم مرتبطون بالقاعدة واصطفوا مع خصوم هيئة تحرير الشام- يسود في دوائر سياسة واشنطن شعور بأن الولايات المتحدة لا تستطيع أو ينبغي لها أن تفعل الكثير لمعالجة خطر تجدد التصعيد العسكري. وهذا الاستنتاج، وإن كان مفهومًا، هو قصير النظر. ويميل إلى الاعتماد على خليط من ثلاثة افتراضات: أن استيلاء النظام العسكري على إدلب قد يكون مرغوبًا من منظور مكافحة الإرهاب؛ وأن هذا الاستيلاء أمرٌ لا مفر منه، على أي حال؛ أو، كبديل عن ذلك، أن تركيا تشارك الآن بما فيه الكفاية في إدلب لردع هجمات النظام ومعالجة معضلة هيئة تحرير الشام وحدها، من دون مساعدة الولايات المتحدة. جميع الافتراضات الثلاثة خاطئة.
الأول أسهل لدحضه. ببساطة: إذا حدث هجوم كبير من النظام، فإن هذا سيؤدي إلى تفاقم تحديات مكافحة الإرهاب بشكل حاد. كان الهدوء الذي خلقه وقف إطلاق النار في آذار/ مارس 2020 سببًا في توفير المجال والحوافز اللازمة لكي تكثف الهيئة حملتها الصارمة ضد الجهاديين العابرين للحدود الوطنية، فطاردت ما تبقى من خلايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وفككت فتيل فصيل “حرّاس الدين” المرتبط بتنظيم القاعدة. وما دامت الهيئة قادرة على حكم إدلب -أولويتها العليا المعلنة- فسوف يكون لديها من الأسباب ما يكفي لقمع العناصر التي تعارض وقف إطلاق النار أو تهدد الاستقرار المحلي على نحو آخر. ومع ذلك فإن تجدد هجمات النظام يمكنها أن تقلل من قدرة الهيئة على دعم هذا الجهد، لأن أولويتها سوف تتحول إلى تعبئة كل المقاتلين الموجودين في دفاعها عن نفسها ودفاعها عن إدلب.
وعلاوة على ذلك، إذا تقدمت قوات النظام نحو عمق المحافظة، فسيجبر الهجوم متمردي إدلب في نهاية المطاف على التحول من الدفاع عن الأراضي إلى تكتيكات حرب العصابات، ومن ثم توفير صلة جديدة لكبار الشخصيات في تنظيم القاعدة والتابعين لها، الذين انتقدوا كثيرًا هيئةَ تحرير الشام، لإعطائهم الأولوية للسيطرة على إدلب، على محاربة النظام والتخلي عن قضية الجهاد العابر للحدود الوطنية. وبدلًا من إنهاء الحرب، فمن المرجح أن يفسح مثل هذا التقدم للنظام المجال لمرحلة جديدة من التمرد النابعة من الأماكن غير المحكومة، مع عجز قوات النظام المترامية الأطراف عن السيطرة على مناطق الحدود الجبلية في إدلب، التي كانت أول من خلصت من قبضة النظام في عام 2012، وغدت موطنًا لكثير من أكثر معارضيه تفانيًا وإخلاصًا.
أما في ما يتعلق بالافتراضات الثانية والثالثة، فإن الوضع ليس ميئوسًا منه، كما يشير القدريين (الجبريين) وليس مستقرًا كما يزعم المتفائلون. إن مزيدًا من الهجمات واستيلاء النظام ليس أمرًا حتميًا، حيث فتح الدور التركي في إدلب إمكانية استمرار الهدوء في شمال غرب سورية. وبسبب وجود ما يقرب من أربعة ملايين لاجئ سوري بالفعل في تركيا، وازدياد الاستياء الشعبي من العبء المرتبط بذلك، فإن أنقرة تتعامل مع خطر المزيد من تقدم النظام، باعتباره شاغلًا رئيسًا للأمن القومي، مدركة أنه قد يُجبر مئات الآلاف من السوريين الآخرين نحو حدودها. ولذلك فقد أطلقت تركيا تدخلًا مضادًا أفسد هجوم النظام في أوائل عام 2020 -ونجح في إقناع روسيا بالتفاوض على وقف إطلاق النار- حيث نشرت منذ ذلك الحين حوالي 12000 عنصر من قواتها، على طول الخطوط الأمامية لإدلب. وقد أكدت هذه الإجراءات التركية لدمشق وداعميها أن أي هجمات في المستقبل ستترتب عليها مخاطر وتكاليف أكبر.
ومع ذلك فإن وقف إطلاق النار لا يزال هشًا، وقد يثبت الدور الذي تضطلع به تركيا في نهاية المطاف أنه غير كافٍ لتجنب استئناف هجمات النظام الرئيسة في الأشهر والأعوام المقبلة. فقد توقفت الدوريات التركية الروسية المشتركة على طول الطريق السريع (M4) منذ آب/ أغسطس، ولا يزال القصف المدفعي عبر الخطوط الأمامية مستمرًا؛ واستأنفت روسيا ضربات جوية عرضية. وعلاوة على ذلك، فإن مكانة هيئة تحرير الشام “الإرهابية” تقوض استمرارية الهدنة. ويدعو اتفاق آذار/ مارس 2020 بين روسيا وتركيا كلا الجانبين صراحة إلى “مكافحة جميع أشكال الإرهاب، والقضاء على جميع الجماعات الإرهابية في سورية على النحو الذي حدده [مجلس الأمن]”. وقد أشارت موسكو مرارًا وتكرارًا إلى تصنيف مجلس الأمن للهيئة، لتبرير هجمات النظام السابقة على إدلب، مشددة على أن الحملات العسكرية ضد الجماعة ينبغي أن تستمر، وأن وقف إطلاق النار هو ترتيب مؤقت.
على النقيض من ذلك، تدرك أنقرة أن هيئة تحرير الشام مترسخة للغاية، بحيث لا يمكن هزيمتها عسكريًا من دون التسبب في وقوع إصابات جماعية والتعجيل بموجة كارثية من اللاجئين، وأن تمسك الهيئة بوقف إطلاق النار -وضغطها على الجماعات الأخرى لكي تفعل الشيء نفسه- هو فائدة قصوى. كل هذا يدفع المسؤولين الأتراك إلى تفضيل الحل السياسي لمشكلة الهيئة، لكنهم يحذرون من الانخراط أحادي الجانب نحو تحقيق هذه الغاية، الأمر الذي يعرضهم لاتهامات بتبييض ودعم الجهاديين. كما يقوم المسؤولون الرئيسون في الوقت نفسه بمعالجة مجموعة من الملفات السورية والإقليمية المعقدة، تاركين لأنقرة مجالًا صغيرًا للنظر إلى ما هو أبعد من إدارة الأزمات المباشرة في إدلب.
ومن المثير للقلق أن الحوار الروسي التركي بخصوص مستقبل إدلب قد وصل إلى طريق مسدود، وأن محادثات سورية التي تيسرها الأمم المتحدة باتت على فراش الموت. والواقع أنه لا توجد عملية دبلوماسية ذات مغزى لمعالجة التباين بين الموقفين الروسي والتركي، بخصوص الهيئة أو لترسيخ وقف إطلاق النار سياسيًا.
وباختصار: إن الحالة قابلة للإنقاذ مع أنها متفجرة. وإذا كانت إدارة بايدن راغبة في زيادة مشاركتها الدبلوماسية في إدلب، فإن دورها قد يكون ضروريًا لتجنب التصعيد غير الضروري للعنف المزعزع للاستقرار. وتتلخص الخطوة الأولى في تقديم الأفكار والحوافز اللازمة للطرق السياسية لحل لغز هيئة تحرير الشام في إدلب.
ثقل القاعدة لدى هيئة تحرير الشام
في سورية، وفي العواصم الأجنبية، يرتكز الخوف من هيئة تحرير الشام على مخاوف حقيقية. إن الهيئة هي آخر اسمٍ لفصيل يُعرف في الأصل باسم “جبهة النصرة”، التي شارك مؤسسها السوري (الآن زعيم الهيئة) أبو محمد الجولاني في التمرد العراقي بعد عام 2003، كعضو في دولة العراق الإسلامية (التي أصبحت فيما بعد الدولة الإسلامية في العراق والشام -داعش)، وفي عام 2011، نسق مع قيادة دولة العراق الإسلامية لإنشاء فرع لها في سورية. وعلى الرغم من أن نهج الجولاني مختلف عن نهج دولة العراق الإسلامية، فإنه لم يقطع الروابط مع التنظيم الذي يقوده العراقيون حتى عام 2013. وحتى في ذلك الوقت، حافظ على فصيله داخل الوسط الجهادي من خلال إعلان ولائه لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، إلى أن قطع مع تلك الجماعة العابرة للحدود الوطنية في عام 2016.
وفي غضون ذلك، أصبحت النصرة قلقة بين كثير من السوريين (ومن ضمنهم داخل الانتفاضة المناهضة للنظام) بسبب أساليبها العدوانية في وقت مبكر من الصراع، والسلوك الوحشي والمزعج من جانب بعض أعضائها، وتسليحها القوي لفصائل المعارضة المتنافسة. ففي عام 2012 على سبيل المثال، انتقدت جماعات المعارضة السورية غير الجهادية قصف النصرة لقوات النظام ومرافقه في المناطق الحضرية، معترفة بأنها قوضت الجهود الرامية إلى توسيع نطاق نداء المعارضة والدعم الدولي. واصلت النصرة استخدام التفجيرات الانتحارية ضد أهداف عسكرية في الأعوام التالية، الأمر الذي وفرّ لها ميزة تكتيكية على الفصائل غير الجهادية، لكنها أسهمت أيضًا في التصورات المحلية والدولية بأن التمرّد تحول إلى مشروع قتال إسلامي. وتورّط أعضاء النصرة في بعض أفظع الأعمال التي ارتكبتها قوات المتمردين، ومن ضمنها عمليات الإعدام وأخذ الرهائن أثناء الهجمات على القرى العلوية في عام 2013، وحادثة عام 2015 التي قام فيها قائد تونسي في النصرة (احتجزته المنظمة فيما بعد وطردته منها) بقتل أكثر من عشرين من سكان قرية درزية في إدلب. في الفترة ما بين أواخر عام 2014 (النصرة) وأوائل عام 2019 (الهيئة)، فككت المنظمة أو همشت أو هدأت أغلب تيارات المعارضة المسلحة الرئيسة في شمال غرب سورية، في حين قللت من مساحة المجتمع المدني، في محاولة ناجحة لتوطيد نفسها كقوة مهيمنة.
هيئة تحرير الشام اليوم
من خلال سلسلة من التحوّلات الداخلية وحملات القمع الأمنية، أبعدت الهيئة نفسها عن الحركة السلفية الجهادية، وحدّت من مساحة الجهاديين العابرين للحدود الوطنية وعملهم في شمال غرب سورية. وتأكيدًا للانقطاع عن جذورها الجهادية، أعادت قيادة الهيئة بشكل مطرد صياغة الجماعة باعتبارها لاعبًا محليًا سوريًا قادرًا على حكم إدلب وراغبًا في ضمان عدم استخدام المتشددين الخارجيين للمنطقة كقاعدة انطلاق للعمليات. لكن هذا التطور لا يمحو الماضي، ولا يعالج مخاوف كثير من السوريين الذين يستمرون في التنديد بالحكم الاستبدادي والسلوك القمعي للجماعة.
ومع ذلك، يبدو أن هذا أكثر من مجرد إعادة تسمية. حيث إنه يعكس صورة أعوام من التباعد الأيديولوجي والإستراتيجي متزايد الاتساع عن تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، بخصوص القضايا الرئيسة المحددة، ومن ضمنها معارضة الهيئة للعمليات الجهادية العابرة للحدود الوطنية؛ وتحديد أولوياتها للسيطرة على الأراضي والحكم على التمرد المناهض للنظام؛ والتوصل إلى حل وسط بشأن فرض حكم إسلامي صارم في إدلب.
إن اعتراض قيادة الهيئة على استخدام سورية كمنطلق للعمليات الدولية يبدو أمرًا محوريًا في سلسلة انقطاعات الجماعة عن الجهاديين العابرين للحدود الوطنية. في محادثة حديثة، أخبرنا الجولاني بروايته للقصة: إن رفضه للهجمات الدولية برز كخط خلاف وصدعٍ رئيس، بينه وبين الدائرة الراديكالية المحيطة بـ أبو بكر البغدادي، زعيم دولة العراق الإسلامية (قبل انفصال النصرة عن التنظيم الذي يقوده العراقيون في عام 2013)، ولا سيما عندما رفض الجولاني وحلفاؤه المتشابهون طلب المبادرة بتفجير اجتماع سوري معارض في إسطنبول. وأضاف الجولاني أن ديناميكية مماثلة حدثت في وقت لاحق، وسط الانفصال الأكثر وضوحًا مع الظواهري، عندما جدد المتشددون في مجموعته الذين عارضوا قرار عام 2016 بقطع الروابط مع القاعدة الدعوات إلى شنّ هجمات خارج سورية. ويقول إن المدافعين عن مثل هذه الهجمات لعبوا أدوارًا داخل النصرة، لكنهم لم يفرضوا جدول أعمالهم، وانفصلوا عن الجماعة أو أُخرجوا منها. وعلى الرغم من استحالة تأكيد تفاصيل رواية الجولاني، فإن سجل المسار العام يبدو واضحًا: فبينما جعل كل من تنظيم داعش والقاعدة العمليات الدولية محورية لهويتهما وإستراتيجياتهما، فقد ابتعدت الهيئة عن الهجمات العابرة للحدود الوطنية وعن المتشددين المناصرين والداعين لها. يدرك المسؤولون في الولايات المتحدة هذه الانقطاعات والتمييزات الأساسية، ويساعد هذا الأمر في تفسير السبب في أن الهجمات التي تشنها الطائرات من دون طيار (درون) في إدلب تستهدف عادة الجهاديين العاملين خارج نسق الهيئة، لا الجماعة نفسها.
وهناك خلاف جوهري آخر بين الهيئة والجهاديين العالميين، يركز على قرار الهيئة بتقدير وتثمين السيطرة الإقليمية على شن هجمات المتمردين على النظام وداعميه. وقد أثبتت الهيئة استعدادها للتسوية من الناحيتين الأيديولوجية والعسكرية، من أجل الحفاظ على سيطرتها على إدلب، على سبيل المثال، من خلال وقف هجماتها إلى حد كبير على النظام وداعميه في أثناء عمليات وقف إطلاق النار التركية الروسية، ومن خلال الترحيب بنشر القوات التركية في إدلب. وبالرغم من احتفاظها بخطابها المناهض للنظام، فإنها تركز اليوم على تحقيق التجميد الموسع للصراع، وتوطيد حكمها في المناطق التي تسيطر عليها، واكتساب شكل من أشكال الشرعية الدولية، من خلال التعامل مع تركيا، و(تأمل) مع الدول الأخرى التي تراها ضرورية لإنقاذ إدلب. وعلى النقيض من ذلك، فقد حذر الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة، بالإضافة إلى انتقاده الشديد للهيئة لابتعادها عن الجهاد العابر للحدود الوطنية، من أن التدخل التركي خطير، ودعا إلى التحول إلى حرب عصابات من الاستنزاف لإضعاف النظام وداعميه. وقد أعرب سلفيون وجهاديون بارزون آخرون عن انتقادات مماثلة، كما فعل الموالون لتنظيم القاعدة داخل سورية. ومن جانبهم، يتزايد وضوح قادة الهيئة بصدد الانقسامات الأيديولوجية والاستراتيجية التي تفصل بينهم وبين المنافسين الأكثر تطرفًا، على سبيل المثال، من خلال الانتقاد القاسي علنًا للنقاد البارزين من السلفية والجهادية.
ولم تكتفِ هيئة تحرير الشام بالقطع مع الجماعات الجهادية المتشددة؛ بل أخذت تكافحها في إدلب. ومنذ عام 2014، كانت الهيئة في حرب مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومنذ وقف إطلاق النار في آذار/ مارس 2020، تصاعدت غاراتها واعتقالاتها، بهدف إحباط محاولات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لبناء شبكة سرية من الخلايا في إدلب، بعد فقدان الأخيرة سيطرتها على الأراضي في شرق سورية. ومن ناحية أخرى، كانت الهيئة تحتوي بين عناصرها على جهاديين أجانب غير تابعين لتنظيم داعش، ومنذ آذار/ مارس 2020، فككت بالقوة العناصر التي تعارض التزام الهيئة بالهدنة التركية الروسية، وعلى الأخص حرّاس الدين، وهو فصيل مرتبط بتنظيم القاعدة، ويهيمن عليه أفراد انشقوا عن الهيئة بسبب البراغماتية النسبية لهذه الأخيرة، وعارضوا الانفصال عن تنظيم القاعدة. بعد انتهاج سياسة الاحتواء أولًا تجاه حراس الدين، حولت الهيئة بنادقها إلى المجموعة في منتصف عام 2020، بعد أن حاول تنظيم حراس الدين تعزيز التحالف مع المنشقين عن الهيئة والفصائل المتشددة الأخرى المعارضة لوقف إطلاق النار. وقامت الهيئة بمداهمة مقر الجماعة واحتجزت بعض قادتها، وأجبرت حراس الدين وشركائه على إغلاق قواعدهم ونقاط التفتيش وتسليم الأسلحة الثقيلة والانسحاب من الخطوط الأمامية. وقد أدت هذه التدابير إلى تقليص قدرة حراس الدين على انتهاك وقف إطلاق النار إلى حد كبير، وإن لم يتم القضاء عليه.
في حين استخدمت الهيئة هيمنتها العسكرية والهدوء النسبي في قمع الجهاديين العابرين للحدود الوطنية، فإنها امتنعت عن فرض نسخة قاسية من الحكم الإسلامي. حتى الآن على الأقل، فإن شكل الحكم الذي تطبقه الهيئة و”حكومة الإنقاذ” (الهيئة الإدارية المدنية التي تساندها) هو شكل إسلامي، ولكنه ليس قاسيًا. على سبيل المثال، وعلى النقيض من جماعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو حركة طالبان، لم تفرض المؤسسة منهجها الدراسي الخاص بها في المدارس (رغم أنها تفرض الفصل بين الجنسين في المدارس والجامعات). ولم تفرض بالقوة أقسى تفسيرات الشريعة. ولم تُجبر النساء على تغطية وجوههن، ولم تحظر التجمعات المختلطة بين الجنسين في المطاعم. وتقول قيادتها (بفخر واضح) إن النساء يشكلن نسبة كبيرة من آلاف الطلاب في جامعة إدلب الأساسية. وفي معرض وصفهم لنهجهم في التعامل مع الحكم الإسلامي، يؤكد قادة الهيئة أهمية الاستمرار في التوافق مع التقاليد والأعراف الدينية السائدة في سورية. وقال الجولاني: “ينبغي للحكم أن يكون متسقًا مع الشريعة الإسلامية، ولكن ليس وفقًا لمعايير داعش أو حتى المملكة العربية السعودية”. بطبيعة الحال، هذا الخط منخفض للغاية -وكثير من السوريين في إدلب وما حولها سوف يصرّون على ضرورة الضغط على الهيئة، لإتاحة المزيد من المجال للحريات الشخصية. (للاطلاع على المزيد من المعلومات عن إدارة الهيئة والتطور الأوسع نطاقًا، انظر العمل والتقرير المرتقب الذي يُعدّه زميلانا باتريك هايني وجيروم دريفون).
لنكن واضحين: إن فرعًا سابقًا لتنظيم القاعدة يحكم ثلاثة ملايين سوري، ويتقاسم حدودًا مع أحد أعضاء حلف شمال الأطلسي، يشكل إشكالية عميقة. ومن المفهوم أن كثيرًا من المراقبين المحليين والدوليين ما زالوا متشككين إلى حد كبير في تطور هيئة تحرير الشام، نظرًا لقمع الجماعة للمعارضين والغموض المستمر بشأن الكيفية التي تعتزم بها -في الأمد المتوسط إلى البعيد- الموازنة بين أولويتها الفورية المتمثلة في حماية إدلب، وهدفها النهائي المتمثل في إنهاء حكم بشار الأسد على سورية. وعلاوة على ذلك، فإن حقيقة أن الهيئة انفصلت عن داعش والقاعدة وطالبان وتميزها عنها لا يجعلها “معتدلة” أو ديمقراطية. والواقع أن الحديث مع المسيحيين في إدلب يلقي الضوء على القيود التي تفرضها الهيئة؛ فخلال زيارة قمنا بها في الآونة الأخيرة، سمعنا تفاؤلًا حذرًا من المسيحيين، بأن السلطات المحلية قد حسّنت من معاملتها للسكان منذ أن رسخت إدارتها، ولكن ثمة إحباط من حيث إن الفصائل المسلحة (بما في ذلك عناصر الهيئة) لم تتمكن بعد من إعادة كثير من الممتلكات التي استولت عليها في الأعوام السابقة.
نحو مقاربة جديدة لسياسة الولايات المتحدة
بينما تتولى إدارة بايدن مهماتها، ينبغي على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في نهجها تجاه إدلب، لضمان أنها تفسر عوامل عدة. وتتضمن هذه أهمية ما هو على المحك بالنسبة إلى الاستقرار الإقليمي، إذا انهار وقف إطلاق النار؛ والدور الذي تلعبه هيئة تحرير الشام في تقويض وقف إطلاق النار؛ وعدم وجود مبادرة دولية وإرادة سياسية لمعالجة المشكلة؛ ومضمون وحدود تطور الهيئة حتى الآن.
على واشنطن أيضًا أن تنظر في فراغ داخلي أوسع نطاقًا، امتدّ عبر إدارات متعددة؛ إذ ليس لدى الولايات المتحدة سياسة واضحة، ولا دليل توجيهي، للتعامل مع جماعات محددة مصنفة “إرهابية”، تبدي علامات على استعدادها وقدرتها على التخلي عن التكتيكات والمواقف التي صُنفت بناءً عليها. هذا النقص صارخ. وينبغي أن يكون من المقلق ولا سيما لمن في دوائر السياسة الخارجية الذين يريدون للولايات المتحدة أن تقلل من اعتمادها على الوسائل العسكرية في المقام الأول، لمخاطبة الجهاديين الذين هم أطراف بارزة في الحروب في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا.
في إدلب، وربّما في أماكن أخرى، يستطيع صنّاع القرار السياسي أن يُلزموا أنفسهم بخيارات إضافية، تتجاوز مسألة شنّ هجمات بطائرات مسيّرة. وقد يؤدي عدم وجود مسارات واضحة ومشروطة للجماعات المحددة للخروج من صندوقها “الإرهابي” إلى تثبيطها عن التحرك في اتجاه أكثر ملاءمة للمصالح الغربية والشواغل المحلية. والواقع أن قادة هيئة تحرير الشام أخبرونا أن داعش أولًا والشخصيات المرتبطة بالقاعدة في وقت لاحق زعموا أن الامتناع عن شن هجمات دولية أمرٌ عديم الفائدة، لأن الغرب سوف يعاملهم على أنهم إرهابيون، بصرف النظر عن ذلك.
وتستدعي هذه الديناميات اتباع سياسة أميركية جريئة وأكثر استباقية، تختبر هيئة تحرير الشام: أهي مستعدة للبناء على الخطوات البناءة التي اتخذتها حتى الآن أم لا. ويتعين على إدارة بايدن أن تبدأ العمل مع تركيا والحلفاء الأوروبيين بخصوص الخطوات التالية:
1. تحديد معايير مشتركة يتعين على هيئة تحرير الشام القيام بها، لكي تكف بلدان حلف شمال الأطلسي (ناتو) في نهاية المطاف عن معاملتها أو وسمها كمنظمة إرهابية، ولدعم تغيير مماثل في الأمم المتحدة والدخول في محادثات معها بصدد مستقبل المنطقة. وينبغي أن تكون هذه المعايير ملموسة بما فيه الكفاية لتوفير وضوح الهيئة في ما يتعلق بدقة ما هو متوقع، وأن تكون قابلة للقياس بما فيه الكفاية لتمكين الولايات المتحدة وتركيا وأوروبا من الاستجابة بسرعة، إذا تم الوفاء بها واستمر ذلك.
2. إن تقديم نظام المكافآت والعقوبات (الجزرة والعصا) يشجّع الهيئة على الوفاء بهذه المعايير، وعلى القيام بذلك على أساس مستمر (متوسط إلى طويل الأجل) في حين تتخذ أيضًا مزيد من الخطوات لمعالجة المخاوف المحلية والدولية، بشأن حكمها الاستبدادي وسلوكها القمعي. على سبيل المثال، تستطيع الدول الغربية أن تعرض زيادة دعم الاستقرار على نحو مشروط للخدمات الحرجة في إدلب (التي تم خفض جزء كبير منها بعد استيلاء الهيئة على المحافظة في عام 2019)، ما دامت الهيئة متوقفة عن قمع منتقديها المدنيين، وأن توسع المجال أمام منظمات المجتمع المدني المستقلة والمدعومة من الغرب للعمل، وتبرهن على التزام واضح بالتعددية السياسية والدينية.
3. حين تتوصل الولايات المتحدة وتركيا والشركاء الأوروبيين إلى توافق في الآراء حول هذه الخطوات، يتعين على واشنطن أن تفتح الحوار مع موسكو في محاولة لتحديد تدابير إضافية، يمكنها أن تعالج المخاوف الروسية المتميزة بشأن الهجمات المنطلقة من إدلب على قاعدتها العسكرية في غرب سورية أو المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، مع تجنب التصعيد العسكري.
هذه الخطوات لاختبار تطور هيئة تحرير الشام ليست عصًا سحرية. فهي قادرة على الحد من خطر المزيد من العنف في إدلب، ولكنها لن تمنع في حد ذاتها هجومًا جديدًا من النظام، وقد تفشل في إحداث تغيير كبير في رغبة روسيا في استعادة سيطرة النظام على إدلب. وفي حين أن التعاون مع تركيا بخصوص هذا النهج يمكنه أن يساعد في تحسين علاقات الولايات المتحدة مع حليف رئيسي لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، فإن هذا الجهد قد يجذب الانتقادات من حلفاء الولايات المتحدة الآخرين في المنطقة الذين يعارضون أنقرة، ويفضلون توسيع تعريف “الإرهاب” ليشمل نطاقًا أوسع من الإسلاميين (ومن ضمنهم الإخوان المسلمون في بعض الحالات).
ومع ذلك، فمن الواضح أن الفوائد المحتملة تفوق المساوئ، كما أن المخاطر في النهج القائم على شروط واضحة تبدو ضئيلة. من خلال فتح الباب للمناقشات المباشرة والحوافز المشروطة، ستكتسب الولايات المتحدة وأوروبا النفوذ والسطوة في منطقة من سورية، حيث لا يملكون أي نفوذ في الوقت الحاضر. ويمكن أن يتيحوا لأنفسهم فرصًا حقيقية ومباشرة لمزيد من الحد من خطر تحول إدلب إلى منصة انطلاق لنشاط المقاتلين الدوليين، وتحسين ظروف سكانها البالغ عددهم ثلاثة ملايين نسمة، ومنعها من أن تصبح مصدرًا رئيسًا جديدًا للاجئين (فضلًا عن المقاتلين الفارين).
يمكن لهذا النهج أيضًا أن يساعد واشنطن في تحديد واختبار أدوات جديدة لسياسة مكافحة الإرهاب تبدأ بالدبلوماسية. وإذا نجحت الولايات المتحدة في إدلب، فإنها تستطيع أن تطبق تلك القواعد والتوجهات على المجموعات المصنفة الأخرى التي تُظهر علامات على قطع العلاقة مع الجهاديين العابرين للحدود الوطنية، وإظهار الرغبة في اتخاذ خطوات ذات مغزى في هذا الاتجاه. وبالنسبة إلى مسؤولي الولايات المتحدة المهتمين بإنهاء “الحرب إلى الأبد”، باعتمادها المفرط على الوسائل العسكرية، فإن الحالة في إدلب هي فرصة للبدء في تطوير أدوات سياسية عملية تتوافق مع خطابها.
اسم الدراسة الأصلي | In Syria’s Idlib, Washington’s Chance to Reimagine Counter-terrorism |
الكاتب | دارين خليفة ونوح بونسي،Dareen Khalifa and Noah Bonsey |
مكان النشر وتاريخه | مجموعة الأزمات،CRISIS GROUP، 3 شباط/ فبراير 2021 |
رابط الدراسة | http://bit.ly/3rG8EVK |
عدد الكلمات | 3801 |
ترجمة | وحدة الترجمة/ أحمد عيشة |
دارين خليفة: كبيرة المحللين في قضايا الأمن والصراعات والسياسات والحوكمة لدى مجموعة الأطلسي ، تركز تحليلاتها على سورية، تقيم في إسطنبول
نوح بونسي: محلل سياسي في مجموعة الأزمات، يركز على سورية.