خبير القانون الدولي: بوتين يحمي نظام الأسد[1]

قال خبير القانون الدولي كلاوس كريس[1] Claus Kreß، في مقابلةٍ مع إذاعة دويتشلاند فونك Deutschlandfunk، إن المحكمة الجنائية الدولية هي في الواقع الهيئة القضائية لمحاكمة جرائم التعذيب التي ارتكبتها الدولة في سورية، لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يغلق هذا المسار. ويدعو كريس الحكومة الفدرالية إلى توفير مزيد من الأموال للإجراءات القضائية بموجب مدونة القانون الألماني للجرائم ضد القانون الدولي Völkerstrafgesetzbuch.

 كلاوس كريس في محادثة مع كريستوف هاينمانChristoph Heinemann [2]، 23.01.2022.

يتوقع كلاوس كريس، الخبير في القانون الدولي المقيم في كولونيا، أن توفِّر الحكومة الاتحادية أرصدةً ماليةً إضافيةً للإجراءات القضائية بموجب مدونة القانون الألماني للجرائم ضد القانون الدولي. قال كريس الذي يعمل أيضًا مستشارًا خاصًّا للمدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، في (مقابلة الأسبوع)، على إذاعة دويتشلاند فونك، إن ائتلاف (إشارة المرور) لن يكون بإمكانه توسيع القدرة على القيام بمثل هذه الإجراءات التي أعلن عنها في اتفاقية الائتلاف، من خلال إعادة تخصيص الموارد وحدها؛ لأن الوظائف الأخرى لمكتب المدعي العام الاتحادي ومكتب الشرطة الجنائية الفدرالية مهمةٌ للغاية أيضًا.

يوم الأربعاء الماضي، بدأت محاكمة طبيبٍ سوريٍّ متهمٍ بجرائم تعذيبٍ، أمام المحكمة الإقليمية العليا في فرانكفورت أم ماين. وأصدرت المحاكم الألمانية أحكامًا قضائيةً، في قضايا مماثلةٍ، في الأشهر الأخيرة.

حماية الشهود

قال كريس إن مسائل إجرائيةً مهمةً قد نشأت خلال هذه المحاكمات. ويتعلق الأمر بحماية الشهود، وتقديم الدعم لهم، أو التوعية دوليًّا بهذه الإجراءات، من خلال الترجمة والتوثيق. ودعا كريس وزارة العدل الاتحادية، أو اللجنة المسؤولة في البرلمان الاتحادي الألماني، إلى عقد مشاوراتٍ يشارك فيها خبراء مختصون.

وشدد كريس على أهمية محاكمة أنور. ر ففي منتصف كانون الثاني/ يناير، حكمت محكمة كوبلنز الإقليمية العليا على السوري أنور.ر بالسجن المؤبد، لارتكابه جرائم ضد الإنسانية. وجاء في الحكم أن هذه الأفعال قد ارتُكبت في إطار هجومٍ منهجيٍّ واسع النطاق ضد المدنيين السوريين، منذ نيسان/ أبريل 2011، على الأقل، وأنه لم يكن وراء هذا الهجوم سوى النظام السوري بقيادة الرئيس الأسد. مثل هذا التصريح الصادر عن محكمةٍ له معنىً مختلفٌ تمامًا عن بيان هيئةٍ غير قضائيةٍ. واتهم كريس الرئيس الروسي بوتين بمواصلة حماية الأسد في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

لا حصانة  عن الجرائم التي نفذت بصفةٍ رسميةٍ

قال كريس إن حكم كوبلنز، والحكم الصادر في شباط/ فبراير 2021، عن المحكمة الإقليمية العليا ذاتها، ضد سوريٍّ، بسبب جرائم ضد الإنسانية، قد تطرقا إلى مسألةٍ أساسيةٍ، في القانون الجنائي الدولي. وقد أجريت المحاكمتان كلتاهما ضد مسؤولين سابقين في المخابرات السورية، أي ضد أشخاصٍ تصرفوا بصفةٍ رسميةٍ. وفي القانون الدولي التقليدي، يسري مبـدأ الحصانة الوظيفية من الولاية القضائية الجنائية الأجنبية، في ما يتعلق بالأعمال التي نفذت بصفةٍ رسميةٍ. كما طرح الألمان هذا الدفاع، عند ولادة القانون الجنائي الدولي في نورمبرغ. وقد رفضت محكمة نورمبرغ العسكرية هذا الدفع، من جانب الألمان.

ويتعارض هذا المبدأ من مبادئ القانون الدولي مع القانون الجنائي الدولي. فالقانون الجنائي الدولي يتمحور حول معاقبة الجرائم التي ترتكب عادةً من جانب أجهزة الدولة. وقد أكدت محكمة العدل الاتحادية إرث نورمبرغ هذا، والمتمثل في عدم تطبيق الحصانة الوظيفية في الإجراءات الجنائية الدولية، قبل صدور الحكم الأول في قضية كوبلنز.

وتناقش لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة هذه المسألة حاليًّا. وقال كريس إنه يود من الحكومة الاتحادية الجديدة أن تدافع عن إرث نورمبرغ المتعلق بالحصانة الوظيفية.

المقابلة كاملة

كريستوف هاينمان: بروفسور كريس، عندما تطرقت نشرة الأخبار في 13 كانون الثاني/ يناير إلى الحكم الصادر عن محكمة كوبلنز الإقليمية العليا ضد أنور ر، في شأن التعذيب في سورية، على الرغم من أن حالة الكورونا كانت مهيمنةً ومتصدرةً العناوين الرئيسية، هل أثر هذا فيك؟ لقد ذكرت ذلك قبل محادثتنا، كيف حصل ذلك؟

كلاوس كريس: نعم، لقد أثر هذا فيّ، أولًا من أجل الضحايا، حيث أدلى عددٌ منهم بشهادته في هذه المحاكمة بشجاعةٍ. وبشجاعتهم وبمعاناتهم، كانوا في مركز الاهتمام هذه المرة. أنا شخصيًّا لدي في فريقي باحثةٌ سوريةٌ لاجئةٌ، لذلك لدي فكرةٌ عما تعنيه هذه المعاناة لكثير من السوريين.

لكنني فكرت أيضًا في التاريخ الألماني، وفي مدى صعوبة تعامل ألمانيا مع القانون الجنائي الدولي مدة طويلة. أولًا، يجب أن نتذكر دائمًا، أن الأمر يتعلق بالجرائم التي ارتكبتها ألمانيا ضد القانون الدولي، في الحرب العالمية الأولى، وبعد ذلك بالطبع، وفوق هذا كله، خلال حقبة الاشتراكية القومية. ومِن ثَم، عُدّ القانون الجنائي الدولي، منذ مدةٍ طويلةٍ، ساذجًا وغير واقعيٍّ، في ألمانيا خصوصًا. وقد تحدث أحد المفكرين عن ألعاب الكريات الزجاجية لطائفة دولية من الحقوقيين.ولم يمض وقتٌ طويلٌ على ذلك.

وأخيرًا، هناك أيضًا ملاحظةٌ شخصيةٌ صغيرةٌ عن السيرة الذاتية. عندما صيغت مدونة قانون الجرائم ضد القانون الدولي، قبل نحو عشرين عامًا، سُمح لي بأن أكون عضوًا في مجموعة العمل التي صاغت مسودة مشروع القانون. بالطبع إنه لأمر خاصّ أن يُعلن ذلك في الأخبار.

“خبرة المؤرخين وعلماء السياسة مهمَّة”

هاينمان: إن استمرار المحاكمة مدة 108 يومًا يشير إلى محاكمةٍ شاقةٍ. فما العقبات التي تعيَّن التغلب عليها؟

كريس: أولًا، كان لا بد من ترجمة مرافعات المحاكمة بأكملها إلى اللغة العربية من أجل المتهم. وكان لا بد من الاستماع إلى أكثر من 80 شاهدًا، بعضهم من الخارج. فنشأت مسألة حماية الشهود.

لاحقًا لم يكن ذلك كافيًا؛ فالمحاكمة تتعلق بجرائم ضد الإنسانية، وتنظر في الأفعال الفردية التي ارتكبها المتهم، وهي 27 جريمة قتلٍ، و4000 حالة تعذيبٍ، لكن في إطار هجومٍ منهجيٍّ وواسع النطاق ضد سكان مدنيين. المقصود هنا السكان المدنيون في سورية الذين يقفون وراء هذه المحاكمة. وهذا [النوع من المحاكمات] يتطلب جهدًا إجرائيًا إضافيًا. وعادةً تكون خبرة المؤرخين وعلماء السياسة مهمةً، في مثل هذه الحالة. وهذا الأمر متبع عادةً في الإجراءات الجنائية الدولية. وتضمين الأفعال الفردية، في إطار هجومٍ منهجيٍّ وواسع النطاق، هو ما يجعلها موضع اهتمامٍ دوليٍّ.

هاينمان: كيف يعمل المحققون في القضايا المتعلقة بممارسة الدولة السورية للتعذيب؟

كريس: لقد قاموا بعملهم، في ثلاث مراحل. في وقتٍ مبكرٍ جدًّا، بعد بدء القمع الوحشي للربيع العربي، تقرر رصد ما كان يحدث في سورية، رصدًا منهجيًّا. وفي خطوةٍ ثانيةٍ، أدت ملاحظاتهم في هذا الرصد إلى ما يسمى بإجراء التحقيق الهيكلي، وهو مصطلحٌ تقنيٌّ يستخدمه المحققون. وفي هذا التحقيق الهيكلي، أُخِذ الوضع السوري برمته في الحسبان. وانطلاقًا من هذا التحقيق الهيكلي، أقيمت لاحقًا هذه المحاكمة في كوبلنز، واتُخذ عددٌ من الإجراءات الأخرى.

عندما أتيحت الفرصة، كان المدَّعون العامون مستعدين”

هاينمان: بعد فراره إلى ألمانيا، تعرّف ضحايا التعذيب على أنور ر. هنا في ألمانيا، ثم اعتُقِل في برلين 2019. ما الدور الذي لعبته المصادفة في هذه العملية؟

كريس: هذا عنصر مصادفةٍ بالطبع، ولكن الأمر ليس محض مصادفةٍ. فقد لعبت التحقيقات الهيكلية التي ذكرتها دورًا حاسمًا في هذا الصدد. لذلك عندما أتيحت الفرصة، كان المدعون العامون مستعدين. على هذا الأساس، يمكنك التحدث عن عنصر الحظ، ولكن بعد ذلك، سأضيف عنصر الحظ للقادرين.

هاينمان: ما الخبرة التي يمتلكها، الآن، مكتب المدعي العام الاتحادي الألماني المسؤول عن التحقيق، بموجب مدونة قانون الجرائم ضد القانون الدولي؟

كريس: لقد نمت تجربة مكتب المدعي العام الاتحادي، نموًّا ملحوظًا، على مر السنين. ويوجد الآن وحدتان للقانون الجنائي الدولي، في مكتب المدعي العام الاتحادي في كارلسروه، ولدي انطباعٌ بأنه يوجد الآن اهتمامٌ باستمرارية الموظفين هناك. وهذا أمرٌ بالغ الأهمية في مجالٍ معقدٍ مثل مجال القانون الجنائي الدولي. وينبغي أن نفكر أيضًا في المكتب الاتحادي للشرطة الجنائية. ومنذ بعض الوقت، يوجد مكتبٌ مركزيٌّ لمكافحة جرائم الحرب. وفيه تم الحصول على خبرةٍ خاصةٍ مهمةٍ أيضًا.

من المهم أن يعمل المحققون في شبكةٍ دوليةٍ. في أوروبا، وفي إطار الاتحاد الأوروبي، هناك ما يعرف بشبكة الإبادة الجماعية. وفي الممارسة العملية، يحظى هذا الأمر بقيمةٍ كبيرةٍ. وفي الحالة الخاصة التي تمثلها كوبلنز، عمل المحققون في شبكةٍ دوليةٍ. فكان هناك ما يسمى بفريق التحقيق الفرنسي الألماني المشترك الذي سمح للمحققين الألمان بالعمل في فرنسا، وهو أمرٌ غير معتادٍ. وأخيرًا، استفاد التحقيق من حقيقة أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتحديدًا في ما يتعلق بسورية، أنشأت آليةً دوليةً، على وجه التحديد، لدعم الملاحقة القضائية في المحاكم أو الهيئات القضائية الوطنية.

الطب الشرعي كان ذا أهميةٍ بالغةٍ في محاكمة كوبلنز

هاينمان: ما الخبرات الأخرى المتاحة للمدَّعين العامِّين؟

كريس: في محاكمة كوبلنز، كان للطب الشرعي أهميةٌ قصوى، بسبب ما يسمى بملفات قيصر التي اكتسبت شهرةً واسعةً. قيصر هو الاسم المستعار لمصورٍ عسكريٍّ سوريٍّ سابقٍ كانت لديه -لأغراض التوثيق الداخلي- مهمةٌ لا يمكن تصديقها، تصوير جثث الأشخاص الذين عُذِّبُوا حتى الموت. وفي هذه الملفات، أكثر من 25000 صورةٍ لأكثر من 6800 جثةٍ. إنها صورٌ مروعةٌ. لقد هرّب قيصر هذه الملفات إلى الخارج إذا جاز التعبير، ثم وصلت إلى مكتب المدعي العام الاتحادي. وكان لا بد من تقييم هذه الملفات لأغراض المحاكمة. وهذا ما فعله الطب الشرعي في جامعة كولونيا، في معهد الطب الشرعي هناك. وكما يمكنك أن تتخيل، كانت هذه مهمةً شاقةً للغاية، وتتطلب أيضًا مستوىً عاليًا جدًّا من الخبرة.

ولكن كان من المهم التأكد من صحة هذه الصور، من جهةٍ، وإثبات أنها كشفت عن نمط متكررٍ من التعذيب من جهةٍ أخرى. وقد استفاد معهد كولونيا للطب القانوني، في ذلك، من الخبرة السابقة التي اكتسبها من التحقيقات في المقابر الجماعية المتعلقة بالإبادة الجماعية في سربرنيتسا Srebrenica، حيث كان لذلك تأثيره.

وأود أن أذكر جانبًا ثانيًا؛ في مثل هذه الحالات يمكن -الآن- لمكتب المدعي العام الاتحادي والمحققين الاعتماد على شبكةٍ قويةٍ من المنظمات غير الحكومية. وكثيرًا ما تكون هذه المنظمات غير الحكومية ذات أهميةٍ كبيرةٍ للوصول الأول إلى المعلومات، للاختيار الأول للشهود الضحايا. ثم إنهم يجلبون خبراتٍ أخرى إلى المحاكمة. ففي كوبلنز على سبيل المثال، قدمت منظمةٌ غير حكوميةٍ محترفةٌ جدًّا معلوماتٍ مهمةً عن العمليات الداخلية داخل النظام السوري.

هاينمان: لا نعرف ما إذا كان السوري أنور ر. قد مر بتجربة دمشق، وتحوَّل من شاول المضطهد الى بولس [الرسول]. لم يحصل الناس على هذا الانطباع في المحكمة بالضرورة. ولكن الرجل قد فرَّ؛ لقد أدار ظهره للنظام الذي يراه خائنًا، ومن المرجح أن يكون النظام سعيدًا بالحكم المؤبد. هل هذا يقلل من تأثير حكم كوبلنز؟

كريس: قد لا يقلق النظام السوري كثيرًا، بخصوص حكم السجن المؤبد في هذه القضية، لكن الحكم يذهب إلى أبعد من ذلك بكثيرٍ. كنت قد تحدثت للتو عن حقيقة البيانات التي أُدلِيَ بها، حول السياق الأكبر. وفقًا لهذا الحكم، لقد ارتُكِبت هذه الأفعال في إطار هجومٍ منهجيٍّ واسع النطاق، موجهٍ ضد السكان المدنيين السوريين، منذ نيسان/ أبريل 2011 على الأقل؛ والنظام السوري بقيادة الرئيس الأسد يقف وحده وراء هذا الهجوم المنهجي. ومثل هذا البيان الصادر عن محكمةٍ له معنىً مختلفٌ، تمامًا، عن بيان هيئةٍ غير قضائيةٍ.

لا للملاحقة القضائية بأي ثمنٍ

هاينمان: لكن ما الرسالة التي ينقلها الحكم إلى المنشقين المحتملين، إذا كان عليهم أن يتوقعوا أن يقدَّموا إلى العدالة، في ألمانيا، على سبيل المثال؟

كريس: هذا سؤال صعبٌ جدًّا ومؤلمٌ للغاية. فمن الصعب جدًّا أن تُدخل نفسك في حسابات أولئك السوريين الذين تخاطبهم الآن. ومن الصعب للغاية أيضًا معرفة إمكانات الفرار من الخدمة في الوقت الراهن. لكنه بالطبع سؤالٌ أساسيٌّ في هذه المرحلة، ولا أريد تجنبه.

لنفترض أن أحد ضباط المخابرات السورية قد قرر الآن عدم ترك الخدمة، في ضوء مثل هذه المحاكمات في ألمانيا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان ينبغي -تاليًا- التخلي عن مثل هذه القضايا الجنائية الدولية. ماذا يعني ذلك للضحايا؟ وما الإشارة الجادة التي يمكن لمثل ذلك التخلي أن يرسلها إلى النظام القانوني الدولي، ككل؟

لقد صدر حكمٌ واحدٌ من هتلر، في ما يتعلق بالجرائم ضد الأرمن في الدولة العثمانية. “من الذي ما يزال يتحدث عن الأرمن، حتى اليوم؟” وهذه الحسابات، حسابات مَن هم في السلطة، هو ما يعارضه القانون الجنائي الدولي. أنا لا أقول بالملاحقة القضائية بأي ثمنٍ، ولكن عندما يُتّخذ قرار بعدم الملاحقة، يجب أن تكون المصالح المتضاربة ذات وزنٍ ثقيلٍ للغاية.

“ما يزال فيتو بوتين يحمي الأسد في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة”

هاينمان: في شباط/ فبراير 2020، حكمت المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز على عضو سابقٍ في المخابرات العامة السورية بالسجن مدة أربع سنواتٍ ونصف، بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وفي يوم الأربعاء الماضي [26.02.2021]، بدأت في فرانكفورت محاكمة سوريٍّ متهمٍ بأنه طبيب تعذيبٍ. وفي نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر، حكمت المحكمة الإقليمية العليا في فرانكفورت أم ماين على عراقيٍّ يبلغ من العمر 29 عامًا، من أنصار الدولة الإسلامية، بالسجن المؤبد بتهمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.؛ لأنه في 2015 ترك وزوجته السابقة من ألمانيا طفلةً إيزيديةً تبلغ من العمر خمس سنوات ، لتموت عطشًا. ثلاثة أحكامٍ، والآن محاكمةٌ أخرى، لماذا، بروفسور كريس، تتزايد القضايا، حاليًّا، في المحاكم الألمانية؟

كريس: يتعلق هذا بالتحقيقات الهيكلية التي أشرت إليها للتو، وكذلك في حالة جرائم ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية. وفي خصوص الجماعة الدينية الإيزيدية، كان هناك مثل هذا التحقيق الذي أدى في نهاية المطاف إلى مثل هذه الحكم، من ضمن الإجراءات المتعلقة بالجرائم المرتكبة ضد المجتمع الإيزيدي. يستحق حكم المحكمة الإقليمية العليا في فرانكفورت أم ماين إشارةً خاصةً. إنها أول إدانةٍ بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، بموجب مدونة القانون الألماني للجرائم ضد القانون الدولي.

هاينمان: لماذا لا تحكم محكمةٌ جنائيةٌ دوليةٌ على الجرائم في سورية؟

كريس: لدينا بالفعل محكمةٌ جنائيةٌ دوليةٌ اعتُمِد نظامها الأساسي في 1998، ودخل حيز التنفيذ في 2002. وهي أول محكمةٍ جنائيةٍ دوليةٍ دائمةٍ في تاريخ القانون. وهي في الواقع مؤهلةٌ بامتيازٍ للنظر في الملف السوري؛ لكن سورية ليست دولةً طرفًا في نظام روما الأساسي. وفي مثل هذه الحالة، يتوقف كل شيءٍ على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وفي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ما يزال بوتين يحمي الأسد حتى الآن على الأقل.

“العمل بصفة وكيلٍ مؤتمنٍ لمصلحة المجتمع الدولي”

هاينمان: على أي أساسٍ قانونيٍّ يمكن تقديم السوريين الذين يُزعم أنهم ارتكبوا جرائم خطرة في سورية، إلى العدالة في ألمانيا؟

كريس: ما يسمى بمبدأ الولاية القضائية العالمية مبدأٌ حاسمٌ، في هذه الخصوص. في الجرائم الدولية، مثل الجرائم ضد الإنسانية المطروحة هنا التي يُعتقد أنها تمس المجتمع الدولي كله، يمكن القول إن القانون الدولي يسمح لكل دولةٍ أيضًا أن تعمل بصفة الوكيل المؤتمن لمصلحة المجتمع الدولي. وقد قررت ألمانيا استخدام هذا التفويض، بموجب القانون الدولي، في مدونة القانون الألماني للجرائم ضد القانون الدولي. وتُعد حالة سورية مثالًا بارزًا على وضعٍ يكون فيه هذا منطقيًّا، حيث إن خيار المحكمة الجنائية الدولية، كما ذكرنا للتو غير متاحٍ، والملاحقة القضائية في مسرح الجريمة ليست واعدةً.

هاينمان: إذن، فإن الشرط المسبق هو ارتكاب جرائم دوليةٍ؛ ما الجرائم التي يمكن أن تسمى جرائم دوليةً؟

كريس: من ناحيةٍ، هناك جرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة الجماعية، وقد ذكرناها توًا. يضاف إلى ذلك، جرائم الحرب والحروب العدوانية التي تعرف اليوم بجرائم العدوان. هذه هي الجرائم التي تقع ضمن نطاق الاختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية. وتشير مدونة القانون الألماني للجرائم ضد القانون الدولي إلى هذه الجرائم أيضًا.

هاينمان: ما الذي يمكن للمحاكم الألمانية أن تفعله، إذا كان النظام الذي يمارس التعذيب يحمي المسؤولين عن جرائم التعذيب؟

كريس: هذا السؤال يمس مسألةً أساسيةً في القانون الجنائي الدولي. المحاكمتان في كوبلنز مهمتان للغاية، لأنهما أُجريتا ضد مسؤولين سابقين في إدارة المخابرات العامة السورية، أي ضد أشخاصٍ تصرفوا بصفتهم الرسمية. ووفقًا لمبدأ القانون الدولي التقليدي، هناك حصانةٌ وظيفيةٌ من الولاية القضائية الجنائية الأجنبية، في ما يتعلق بالأعمال التي نُفِّذت بصفةٍ رسميةٍ. ومن الواضح أن هذا المبدأ لا يتماشى مع الفكرة الأساسية للقانون الجنائي الدولي؛ لأن القانون الأخير يتناول مسألة معاقبة الجرائم التي ترتكبها أجهزة السلطة في الدولة عادةً.

“خلافا لتراث نورمبرغ، تصر بعض الدول على الحصانة الوظيفية حتى في حالة الجرائم الدولية”

هاينمان: وعلى وجه الخصوص، المخابرات السورية تتمتع بالحصانة، من وجهة نظر السوريين؟

كريس: هذا هو المبدأ التقليدي، إذا صح التعبير. وقد قدم الألمان هذا الدفع أيضًا، عند نشأة القانون الجنائي الدولي في محاكمات نورمبرغ، ولكن محكمة نورمبرغ العسكرية رفضت هذا الالتماس المقدم من الدفاع الألماني، لأنه يتعارض مع فكرة القانون الجنائي الدولي بالتحديد. وقبل شهرٍ واحدٍ، فقط، من صدور الحكم الأول في كوبلنز، أكدت المحكمة الاتحادية العليا إرث نورمبرغ هذا، حين حكمت أن الحصانة الوظيفية لا تسري في الإجراءات القضائية المتعلقة بالجرائم الدولية. وهذه نقطةٌ حاسمةٌ، للغاية، لتطبيق مثل هذه الإجراءات.

بيد أن مسألة الحصانة هذه ستظل تشغلنا. وتناقش لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة هذه المسألة حاليًّا، وفي سياق المداولات أصبح من الواضح أن بعض الدول؛ خلافًا لإرث نورمبرغ، تصر على الحصانة الوظيفية، حتى في حالة الجرائم الدولية. وما يزال السؤال موضع جدلٍ في مجال البحث العلمي. وأود أن تدافع الحكومة الاتحادية، الحكومة الاتحادية الجديدة، عن إرث نورمبرغ بشأن الحصانة الوظيفية في المستقبل. بالمناسبة، هذا لا يستبعد في أي حالٍ من الأحوال، التفكير في ضماناتٍ فاعلةٍ، ضد إساءة استخدام السلطة السياسية.

هاينمان: سوف نتحدث أكثر عن إساءة استخدام السلطة السياسية، بعد قليلٍ. هل يمكنك إعطاء أمثلةٍ أخرى عن تلك الدول؟

كريس: إنها دولٌ مثل الاتحاد الروسي والصين. ولكن، وهذا مقلقٌ بشكلٍ خاصٍّ، هناك أيضًا عددٌ كبيرٌ من الدول التي تظهر شكوكًا، ولا تعارض القانون الجنائي الدولي معارضةً أساسيةً. وأيضًا للأسف؛ يجب على المرء أن يضيف أن الحكومة الاتحادية لم تعرب عن رأيها في هذه المسألة بالوضوح المطلوب، في مناسبةٍ سابقةٍ.

هاينمان: ما الخيارات المتاحة للسلطات المعنية بإنفاذ القانون إذا لم يكن المتهمون في ألمانيا؟

كريس: في هذه الحالة، ليس هناك سوى طريقة لطلب تسليم المتهم المعني. وهذا أيضًا يتوافق مع روح إقامة العدالة العالمية. ومن المثير للاهتمام أن هذا هو بالضبط، ما حدث في محاكمة فرانكفورت، بخصوص جريمة الإبادة الجماعية ضد المجتمع الإيزيدي، لأول مرةٍ -على حد علمي- في الممارسة العملية لتطبيق مدونة القانون الألماني للجرائم ضد القانون الدولي.

“لقد لعبت الحكومة الاتحادية الألمانية دورًا مهمًّا للغاية في إنشاء المحكمة الجنائية الدولية”

هاينمان: بروفسور كريس، لقد لعبتَ دورًا رئيسًا في تطوير القانون في اتجاه كوبلنز وفرانكفورت أم ماين. ما أهم المراحل على هذا المسار؟

كريس: لقد تحدثنا عن ولادة القانون الجنائي الدولي في محاكمات نورمبرغ، ثم محاكمات طوكيو. وآنذاك كانت هناك سلسلةٌ كاملةٌ من الإجراءات الجنائية الوطنية، في شأن الجرائم الدولية الألمانية واليابانية. ثم إحياء إرث نورمبرغ وطوكيو دوليًّا في التسعينيات، أولًا من جهة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مع إنشاء محكمتي يوغوسلافيا السابقة ورواندا. وبعد ذلك في 1998، حصل تقدمٌ كبيرٌ في اعتماد اتفاقية إنشاء أول محكمةٍ جنائيةٍ دوليةٍ، في تاريخ القانون، وهي المحكمة الجنائية الدولية.

وهذا أيضًا له أهميةٌ كبيرةٌ، في تطوير الموقف الألماني. لقد تحدثت في البداية عن التشكك الذي طال أمده في ألمانيا. وفي منتصف التسعينيات حدث تغييرٌ جذريٌّ، هنا. فقد قامت الحكومة الألمانية الاتحادية (التي كانت، في ذلك الوقت، حكومة كول/ كينكل الاتحادية) بدورٍ مهمٍّ جدًّا في إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، حتى إنها دخلت في نزاعٍ مع الولايات المتحدة الأميركية، في هذا الخصوص.

هاينمان: جاء في الصفحة 147 من اتفاقية ائتلاف (إشارة المرور): “نريد تعزيز القدرات، في ما يتعلق بالإجراءات المتبعة، وفقًا لمدونة القانون الألماني للجرائم ضد القانون الدولي”. ماذا تتوقع من الحكومة الاتحادية؟

كريس: أتوقع أن تلتزم عمليًّا بكلماتها، وتوفر موارد إضافيةً، لأن ذلك لن يكون ممكنًا، من خلال إعادة تخصيص الموارد المتاحة وحدها، فالوظائف الأخرى التي يضطلع بها مكتب المدعي العام، ومكتب الشرطة الجنائية الاتحادية، مهمةٌ جدًّا. ثانيًا يجب على المرء أيضًا أن يفكر بطريقةٍ أكثر جذريةً.

لقد أثبتت مدونة القانون الألماني للجرائم ضد القانون الدولي في حد ذاتها جدواها، ولكن أثيرت الآن تساؤلاتٌ مهمةٌ بخصوص الإجراءات في هذه المحاكمات الأخيرة. وتتعلق تلك التساؤلات، على سبيل المثال، بحماية الشهود وتقديم الدعم لهم. ولكنها تتعلق أيضًا بمجال التوعية واسع النطاق، أي النشر الدولي الذي يتسم بأهميةٍ بالغةٍ، إذا أريد تحقيق الأهداف الأساسية من محاكمات الجرائم الدولية. هنا يجب على المرء أن يفكر بشكلٍ أساسيٍّ في الترجمة والتوثيق. وأدعو وزارة العدل الاتحادية إلى عقد مشاوراتٍ بمشاركة خبراء مختصين، أو دعوة لجنة البرلمان الاتحادي المختصة إلى عقد مشاوراتٍ يشارك فيها خبراء مختصون. إلى حدٍّ ما، يتعلق الأمر بالارتقاء –إن صح التعبير– إلى المرحلة الثانية من تطبيق مدونة القانون الألماني للجرائم ضد القانون الدولي.

“لا يوجد مؤشرٌ على أي تدخلٍ سياسيٍّ”

هاينمان: أو سيقوم وزير العدل (ماركو بوشمان) بالاتصال بك. بروفسور كريس، لقد تحدثنا للتو عن إساءة استخدام السلطة السياسية، هل القضاء الألماني محميٌّ في الواقع بما فيه الكفاية من التدخل السياسي عند تطبيق القانون الجنائي الدولي؟

كريس: حتى الآن ليس لدي أي مؤشرٍ على وجود أي تدخلٍ من هذا القبيل، على الإطلاق؛ لكن الخطر موجودٌ دائمًا عند تطبيق القانون الجنائي الدولي. ولدينا عنصران يمثلان إشكاليةً، من وجهة نظري. فهناك أولًا إمكانية إصدار وزير العدل الاتحادي تعليماتٍ خارجيةٍ إلى النائب العام، ثم هناك منصبه بوصفه مسؤولًا سياسيًّا.

هاينمان: هل يمكنك تقديم اقتراحات محددة حول كيفية الحد من هذا الأمر؟

كريس: اقتراحي هو مراجعة الحق في إصدار توجيهاتٍ خارجيةٍ، ولا سيما حين يتعلق الأمر بمجال القانون الجنائي الدولي.

هاينمان: هل يجب أن يتقرر ذلك سياسيًّا؟

كريس: نعم، هذا سيكون سؤالًا للمشرِّع.

“ينبغي أن تكون مساهمة ألمانيا خاليةً من أي اعتزازٍ أخلاقيٍّ، بالنظر إلى تاريخها”.

هاينمان: بروفسور كريس، لماذا يجب أن تكون ألمانيا في المقدمة، عندما يتعلق الأمر بالقانون الجنائي الدولي؟

كريس: لا يتعلق الأمر بالمركز الريادي لألمانيا. إن الرسالة التي يوجهها القانون الجنائي الدولي، لتعزيز القانون الدولي، ستزداد قوةً، بمقدار زيادة مساهمة الدول في هذا الخصوص. فالأمر يتعلق بمساهمةٍ فاعلةٍ من جانب نظام العدالة الجنائية الألماني. الآن يمكن للمرء بالطبع أن يسأل نفسه لماذا ألمانيا على وجه الخصوص. أليست ألمانيا غير مؤهلةٍ، بسبب خطاياها، وبسبب فشلها الذي لا يمكن إنكاره في معاقبة جرائم الاشتراكية القومية الألمانية؟

*التصريحات التي أدلى بها محاورونا تعكس آراءهم. ولا تتبنى دويتشلاند فونك تصريحات محاوريها في المقابلات والمناقشات بالضرورة.

ولكن السؤال هو، ما الاستنتاج الصحيح من هذه القصة؟ أعتقد أنه سيكون من الخطأ أن نقول الآن إنه ينبغي للقضاء الألماني الذي يحكمه القانون؛ ألا يكون في خدمة النظام العالمي، لإنفاذ القانون الدولي، ولا ينبغي أن ينشط المحامون الألمان -ومن بينهم عدد من الشباب المتحمسين والمقتدرين- في المحاكم الدولية. هناك أمرٌ واحدٌ يجب أن يطبَّق دائمًا، ألا وهو أن مساهمة ألمانيا لا بد أن تكون خاليةً من أي اعتزازٍ أخلاقيٍّ، نظرًا إلى تاريخها.


[1] كلاوس كريس أستاذ القانون الجنائي الألماني والدولي ومدير معهد القانون الدولي للسلم والأمن بجامعة كولونيا. وهو أحد مؤلفي مدونة القانون الألماني للجرائم بموجب القانون الدولي. وهو قاض متخصصٌ في محكمة العدل الدولية في لاهاي، منذ عام 2019. [المترجمة]

[2] كريستوف هاينمان صحافيٌّ ألمانيٌّ؛ كان رئيس قسم الأخبار في دويتشلاند فونك، من 2007 إلى 2019. [المترجمة]



[1] هذا النص ترجمة لمقابلة باللغة الألمانية، بعنوان 

  “Urteile zu Staatsfolter in SyrienVölkerrechtler: Putin schützt das Assad-Regime”، بُثت يوم الأحد الموافق 23 كانون الثاني/ يناير 2022، على إذاعة دويتشلاند فونك Deutschlandfunk، على الرابط: https://bit.ly/3HTVjBL