المحتويات

أولًا: مقدمة

ثانيًا: بروز دور (حزب الاتحاد الديمقراطي) (PYD) و(قوات سورية الديمقراطية)

ثالثًا: محورية الدور الأميركي في الجزيرة

رابعًا: مثلث العلاقات الأميركية – التركية – الكردية

خامسًا: خاتمة

 

 

 

أولًا: مقدمة

أفضت التطورات الميدانية المتمثّلة بتقدّم قوات النظام المدعومة بالحليفين الروسي والإيراني، في معظم المناطق التي كانت خاضعة لفصائل المعارضة المسلحة، إلى تجميع المقاتلين المعارضين للتسويات والقوى الإسلامية المتطرفة في محافظة إدلب شمال غرب سورية، وأدّى اتفاق “سوتشي” الروسي – التركي، في 27 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، الذي حظي بـ “استحسان” الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، إلى استتباب الوضع هناك، ربما إلى حين التوصّل إلى الحلّ السياسي النهائي.

في هذه الأثناء، عادت منطقة الجزيرة -شمال شرق سورية- لتحتل مكان الصدارة، كمسرح للصراع السياسي والعسكري، على خلفية خشية تركيا من بعض القوى العسكرية الكردية الانفصالية، ورغبتها في توسيع نفوذها على ما تبقى من الشريط الحدودي شرق الفرات، في محاولاتها المستمرة لتجاوز العقبة الأميركية الكأداء المتمثلة بوجود قواعد ثابتة، لم يعد يقتصر هدفها محاربة (داعش) بالاعتماد على حليفتها (قوات سورية الديمقراطية – قسد)، إنما أضافت السياسة الأميركية الحالية، في عهد الرئيس دونالد ترامب، أهدافًا أخرى تتمثّل بصدّ التقدّم الإيراني نحو الغرب والتدخّل الفاعل في مسار الحل السياسي السوري المقبل، منعًا لاستفراد الروس وحلفائهم به.

 

ثانيًا: بروز دور (حزب الاتحاد الديمقراطي) (PYD) و(قوات سورية الديمقراطية)

تتصف منطقة الجزيرة بتنوعها الإثني والثقافي الذي أخذ ملامحه النهائية منذ بداية القرن العشرين، بعد نزوح العديد من الأقليات الدينية والقومية من تركيا، كالأرمن والأكراد، ومن العراق الآشوريون؛ بسبب موجات الاضطهاد المرافقة للحروب التي عمّت أراضي الإمبراطورية العثمانية في تلك الفترة، علاوة على سكان المنطقة الأصليين من العرب والأكراد والسريان/ الآشوريين واليزيدين والتركمان وغيرهم.

استمر هذا الوضع من دون تغيير يُذكر حتى أُجريَ الإحصاء الاستثنائي لسكان محافظة الحسكة، في عهد حكومة بشير العظمة عام 1962، والذي حرم عشرات الآلاف من الأكراد من الجنسية، وصاروا مكتومي القيد أو “أجانب”، في محاولة لمنع استقرار المهاجرين حديثًا منهم. ثم جاء إسكان أبناء القرى التي طالها الغمر على الشريط الحدودي مع تركيا، عام 1974، بعد بناء سد الفرات، وغيرها من المناطق السورية، بما سُميّ بـ “الحزام الأخضر”، الذي أطلق عليه الأكراد “الحزام العربي” واعتبروه مسعىً من سلطة البعث القومية لتغيير البنية الديموغرافية للمنطقة التي يكثر فيها العنصر الكردي، ولم يكن هذا الادّعاء ببعيدٍ عن الواقع.

مع انتظام الحركة السياسية الكردية في الخمسينيات، لم يتوقف الأكراد عن المطالبة بنوع من الاستقلال الذي راوح بين المطالبة بالحكم الذاتي والدعوة إلى الانفصال التامّ. كما حدثت أحيانًا تحركات شعبية في الجزيرة كان أشهرها انتفاضة عام 2004، احتجاجًا على قمع السلطة المفرط لحوادث الشغب التي أعقبت مباراة رياضية في مدينة القامشلي بين فريق محلي (الجهاد) وفريق آخر آتٍ من مدينة دير الزور (الفتوة).

عند اندلاع الثورة السورية عام 2011 ضد سلطة الاستبداد، شارك الأكراد فيها بفاعلية إلى جانب العرب وغيرهم، واعتبروها، بصورة ما، رافعة لتحقيق مطالبهم، سواء أكان بالحصول على مزيد من الحكم الذاتي في سورية المستقبل، أو بالتقدم خطوة أخرى في طريق تحقيق الحلم القومي الكردي بإقامة دولة مستقلة.

قادت التطورات اللاحقة في عام 2012، منها بدء سيطرة الطابع الإسلامي على الثورة، وتراجع قوات النظام عن مناطق واسعة في الجزيرة، إلى اندفاع (وحدات حماية الشعب) التي أسّسها (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي، والذي يُعتبر الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا (PKK)، إلى ملء الفراغ الحاصل وتشكيل نوع من الإدارة الذاتية في المناطق التي سيطرت عليها، وترافق ذلك مع تراجع ملحوظ لدور الأحزاب الكردية التقليدية المنضوية في إطار المجلس الوطني الكردي، وبات (حزب الاتحاد الديمقراطي) الفاعل الرئيس على الساحة الكردية.

في البداية، بدا أنّ هدف اجتياح (حزب الاتحاد الديمقراطي) لشمال سورية أو ما يسميه الحزب بـ “روج آفا” أو “غرب كردستان” هو إقامة كيان كردي منفصل، ثم عمل الحزب، لاحقًا، على تشكل مجالس نواب ووزارات، قال إنها متعددة الإثنيات، لكن طابعها كان كرديًا بوضوح، والنفوذ فيها للأكراد وحدهم، وصارت الطبيعة التنظيمية العقائدية القومية لـ (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي واضحة وجليةً في المناطق التي توجد فيها ميليشياته العسكرية.

لم يطل الوقت قبل أن يبدأ الصدام بين (وحدات حماية الشعب) و(تنظيم الدولة الإسلامية – داعش) الذي اجتاح الشمال السوري من الجنوب والشرق، وشكلت هزيمته في معركة عين العرب (كوباني)، أواخر شهر كانون الثاني/ يناير 2015، بعد حصارٍ استمر عدة أشهر، نقطة التحول الحاسمة لمصلحة (وحدات حماية الشعب) و(وحدات حماية المرأة)، وهما الذراعان العسكريان لـ (حزب الاتحاد الديمقراطي)، والقوتان الرئيستان المدافعتان عن هذه المدينة.

منذ ذلك الوقت، صارت هذه الوحدات بالنسبة إلى التحالف الدولي رأس الحربة في مواجهة (داعش)، فدعمها وبدأ غاراته على مواقع التنظيم في سورية في شهر أيلول/ سبتمبر عام 2014، ومن ثم دخلت الوحدات التابعة للحزب الكردي كقوة محورية عند تشكيل (قوات سورية الديمقراطية) من قبل الولايات المتحدة الأميركية.

على الصعيد الحوكمي، انبثقت في المنطقة التي يسيطر عليها الحزب وحلفاؤه في شمال سورية (إدارة ذاتية)، جرى الإعلان عنها رسميًا في عام 2014. كما وضع في عام 2016 دستورًا لهذه الإدارة جاء فيه أن “نظام الفدرالية الديمقراطية هو النظام الأمثل لمعالجة القضايا التاريخية والاجتماعية والقومية”، وأن (الإدارة الذاتية) “مؤسسة على مفهوم جغرافي ولا مركزية سياسية وإدارية ضمن سورية الموحَّدة، واحترام حقوق الإنسان والحفاظ على السلم الأهلي والعالمي”، وهي مفاهيم لم يتوافق عليها سكان المنطقة من أكراد وعرب وغيرهم، كما أن الحزب نفسه مارس في الواقع العملي العسف والتمييز، ليس على العرب فحسب، بل طال قمعه أيضًا الأحزاب الكردية السورية الأخرى التي كانت ناشطة في المنطقة، في تناقض صارخ مع ما نصّ عليه دستوره الذي وضعه منفردًا.

من جهة أخرى، فشلت الولايات المتحدة في إقناع عناصر المعارضة الذين دربتهم في تركيا بالحرب ضد (داعش) فقط، ليس لأن فصائل المعارضة المسلحة لم توافق على عدم قتال قوات النظام فقط، بل أيضًا لأن تركيا، واسعة النفوذ ضمن أوساط المقاتلين والمعبر اللوجستي لإمداداتهم، لم تكن راضية بأن يتوجّه هؤلاء إلى قتال تنظيم (داعش) وحده، بينما تجد (حزب الاتحاد الديمقراطي)، شقيق حزب العمال الكردستاني، عدوها اللدود، يُوسّع نفوذه وراء الحدود ويُهدد أمنها القومي. كما لم يكن في وسع الولايات المتحدة أن تعتمد في القتال ضد (داعش) على حزبٍ تعتبره حليفتها تركيا مهدّدًا لأمنها القومي، ومشتقًّا من حزب مصنَّف إرهابيًا من قبل الولايات المتحدة ذاتها، فضلًا عما يثيره تعاظم قوة هذا الحزب من حفيظة الإثنيات الأخرى في الجزيرة، وبخاصة العرب.

لذا، ولضمان نجاح مشروع التحالف الدولي، شكّلت الولايات المتحدة (قوات سورية الديمقراطية – قسد) في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2015، لتضمّ نسبًا مختلفة من الجماعات الإثنية في الجزيرة، وبتسميةٍ سورية عامة ومحايدة، ولا سيّما أن المصلحة توحِّد الجميع في مواجهة تنظيم (داعش) الإرهابي.

جاء في تعريف (قسد) لنفسها أنها “قوة عسكرية وطنية موحدة لكل السوريين” وتضمّ: “التحالف العربي السوري وجيش الثوار وغرفة عمليات بركان الفرات وقوات الصناديد وتجمع ألوية الجزيرة والمجلس العسكري السرياني ووحدات حماية الشعب الكردية ووحدات حماية المرأة الكردية”، وتتلقى (قسد) الدعم الجوي والعتاد العسكري من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، ويبلغ عدد مقاتليها نحو 50 ألف مقاتل، وواقعيًا تضم في أغلبيتها العظمى عناصر كردية سورية وغير سورية جاءت من خارج الحدود، وخاصة من تركيا، ولهذا ليس غريبًا وصفها بـ (الميليشيات).

مع أن (وحدات حماية الشعب) و(وحدات حماية المرأة) تُعتبر النواة الصلبة لهذه القوات، فإن المصادر الأميركية وغيرها لا يمكن أن تُقدّر عدد العناصر العربية في (قسد) بأكثر من النصف بأي حال من الأحوال، وقد لا يزيد عن الربع عمليًا، ولا يُخفى الدور الذي يمكن أن تؤديه هذه العناصر في البلدات والمدن ذات الأغلبية العربية التي ليس للوحدات الكردية حاضنة شعبية فيها، كالرقة ودير الزور، وضمن علاقات عشائرية ما زالت سائدة إلى حدّ بعيد في تلك المناطق. مع ذلك، تعرّض التحالف العربي – الكردي ضمن (قوات سورية الديمقراطية) إلى الكثير من المطبّات وما يزال، وتحدث بين الحين والآخر احتجاجات واتهامات متبادلة، ولا سيّما أن (حزب الاتحاد الديمقراطي) هو المتحكم الفعلي بهذه القوات، ولم يتوان عن رفع أعلام حزب العمال الكردستاني وصور زعيمه عبد الله أوجلان في المدن والبلدات العربية تأكيدًا لهذه الهيمنة، كما حدث عند تحرير الرقة من (داعش) في 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2017، الأمر الذي احتجت عليه تركيا ورفضته الولايات المتحدة.

 

ثالثًا: محورية الدور الأميركي في الجزيرة

جعلت الولايات المتحدة من الجزيرة السورية ومنطقة (التنف)، في المثلث السوري–العراقي–الأردني، موطئ قدم لها وأقامت العديد من القواعد العسكرية مختلفة الأحجام والأهمية، والتي يمكن بواسطتها ليس التدخل وفرض نفسها لاعبًا رئيسًا في ما يتعلق بالشأن السوري فحسب، بل ومراقبة دول الجوار أيضًا، بما في ذلك وضع “سدّ” أمام التقدُّم الإيراني نحو الغرب. يقوم بتشغيل هذه القواعد عدة آلاف من الجنود والمستشارين، والذين يقدِّمون أيضًا المشورة والخبرة لـ (قوات سورية الديمقراطية).

بخلاف السياسة التي كانت متَّبعة حول سورية في عهد الرئيس الأميركي السابق أوباما، تطورت السياسة الأميركية في العهد الحالي تدريجيًا، فبعد مرحلةٍ من الاضطراب، تمثّلت بإعلان الرئيس ترامب، تكرارًا، رغبته في الانسحاب من سورية، استقر الأمر على سياسة أميركية مُعلنة، عبّر عنها مبعوث الولايات المتحدة في ما يتعلق بالشأن السوري، جيمس جيفري، في المقابلة الهاتفية المُجراة معه في السابع من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2018.

أوضح جيفري أن السياسة الأميركية في سورية “ترتبط بنهجنا الشامل تجاه إيران ونهجنا للتغلب على الإرهاب في المنطقة وفي سورية بشكل خاص”، ونقل عن الرئيس دونالد ترامب قوله في لقائه مع الرئيس الروسي بوتين في قمة هلسنكي التي عُقدت في 16 تموز/ يوليو 2018، إن “الولايات المتحدة ستبقى في سورية على المدى الطويل، في محاولةٍ للتوصّل إلى حلٍّ يُلبّي حاجات الشعب السوري والمنطقة والمجتمع الدولي، وبما يتّفق وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة”. وأضاف الموفد الأميركي أن تفاصيل السياسة الأميركية حول سورية تتمثّل بـ “تخفيف التصعيد العسكري وتنشيط المسار السياسي للجنة الدستورية وإجراء الانتخابات، ومحاولة معالجة المشكلات الكامنة التي أدت إلى مقتل نصف مليون شخص وتدفق اللاجئين إلى دول المنطقة وأوروبا وظهور تنظيم داعش”.

في إيجاز مُسجّل في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، أعاد جيفري التأكيد على الأهداف الأميركية الثلاثة في سورية (هزيمة داعش وعملية سياسية ومغادرة القوات الخاضعة لإيران).

الرئيس الأميركي الحالي، وفي كلمته الملقاة من على منبر الأمم المتحدة، 25 أيلول/ سبتمبر 2018، لخَّص السياسة الأميركية بـ “ضمان الهزيمة الدائمة لـ (داعش) والعمل على حلٍّ سياسي في سورية بموجب القرار 2254 لعام 2015، وضمان انسحاب القوات التي تقودها إيران من سورية، باعتبار أنّ إيران جزءٌ من المشكلة وليس الحل”.

نحن، إذًا، أمام سياسة أميركية مُكتملة الأوصاف حول سورية، تستند إلى إقامة قواعد ثابتة والبقاء لفترة غير محددة في منطقتي الجزيرة والتّنف، واستخدام موارد الجزيرة الغنية بالنفط والغاز وغيرها في دعم تحقيق الأهداف المعلنة أعلاه، وعلى جميع الأطراف المنخرطة في المسألة السورية مراجعة سياساتها في ضوء ذلك.

لم يعد يفيد ادّعاء روسيا، من وقتٍ لآخر، بأن الوجود الأميركي في سورية غير شرعي، وقد باتت مختلف حالات الوجود الأجنبي منذ اندلاع الثورة مجرّد احتلالات إلى هذه الدرجة أو تلك، وأسقطت ما تبقى من شرعية في سورية منذ أن اختار النظام الحل الأمني في مواجهة المطالبين بالحرية والكرامة، وما تلا ذلك من انقسامات وتدخلات خارجية. كما أن تشجيع الروس للأتراك على مناوشة الوجود الأميركي شرق الفرات أضحى قليل الأثر، بعد أن تحوّل هذا الوجود إلى حقيقة ثابتة على الأرض، ويمكنه تعطيل الحل السياسي الذي تسعى له روسيا بالتنسيق مع تركيا.

أما إيران، التي قطع عليها اتفاق (سوتشي) الروسي – التركي فرصة التمدّد في الشمال السوري، فتلجأ، من حين لآخر، إلى مناوشة القوى الأخرى المُنافسة في سورية، في محاولة لإثبات الدور والوجود. في هذا الصدد، يمكن إدراج العملية العسكرية في المنطقة العازلة ضد “جيش العزة”، 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، كمحاولة استفزاز إيرانية لتركيا، بيد أنّ المصالح الاقتصادية المشتركة، التي تزداد أهميتها مع تصاعد العقوبات الأميركية على إيران، تحول دون تطوّر الاحتكاكات التركية – الإيرانية إلى ما هو أبعد من ذلك.

من جهة ثانية، استغلّت إيران المكاسب المحدودة التي حقّقها تنظيم (داعش) ضد (قسد) في المثلث الجنوبي شرق الفرات، 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، ودفعت بالحشد الشعبي العراقي، المُؤتمِر بها، للانتشار على الحدود السورية – العراقية في منطقة البوكمال، في محاولة أخرى للاقتراب من مناطق النفوذ الأميركي، وبما يمكن اعتباره ردًّا على التصعيد الأميركي غير المسبوق في العقوبات الاقتصادية على طهران، بعد إلغاء الولايات المتحدة الاتفاق النووي من طرف واحد في الثامن من شهر أيار/ مايو 2018.

 

رابعًا: مثلث العلاقات الأميركية – التركية – الكردية

لم تتوقف التهديدات التركية منذ سنواتٍ عدّة بالهجوم على المناطق التي يسيطر عليها الأكراد شرق الفرات، منها تصريح الرئيس أردوغان في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، ترافق ذلك مع قصف تركي على مواقع لـ (وحدات حماية الشعب) هناك وسقوط ضحايا، كما تعهّد الرئيس التركي، في العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، بـ “تطهير” منطقة شرق الفرات وشمال العراق من أذرع حزب العمال الكردستاني، واتّهم الولايات المتحدة باتخاذ مواقف مزدوجة في ما يتعلّق بهذا الحزب، ملمّحًا في ذلك إلى القرار الأميركي بمنح جوائز مالية لمن يدلي بمعلومات حول ثلاثة من قادة حزب العمال الكردستاني. ولم ينسَ أردوغان دوره كمخلّص للسوريين، فوعدهم بتوفير الطمأنينة: “الأشقاء السوريون يئنون تحت ظلم الوحدات الكردية شرق الفرات ونحن سنوفر لهم الطمأنينة”!

تجد تركيا نفسها الآن أكثر ثقة بعد عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” والاستقرار النسبي الذي تشهده إدلب نتيجةً لتطبيق اتفاق “سوتشي” مع روسيا، فضلًا عن التحسُّن الجزئي في علاقاتها مع الولايات المتحدة بعد الإفراج عن القس الأميركي، آندرو برونسون، والتعاون بين البلدين في قضية مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول.

تهدف تركيا من وراء تهديداتها المستمرة إلى جسّ نبض الأميركيين حول إمكانية إجراء اتفاق مشابه لاتفاق منبج في منطقة شرق الفرات، وذلك من ضمن سياسة التمدّد التركي الحذر، حتى لا يتم إغضاب التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، وهي بذلك تستغلّ سياسة التّروي الأميركية، التي تقوم على إجراء نوع من الموازنة، في هذه المرحلة على الأقل، في العلاقة بين تركيا والأكراد. فمن جهة، يُشكّل الأكراد، ممثلين بـ (حزب الاتحاد الديمقراطي)، نواة (قوات سورية الديمقراطية – قسد)، التي لم تنته من قتال (داعش) بعدُ، ومن جهة ثانية، ترتبط الولايات المتحدة مع تركيا بالكثير من المصالح، ومنها الحاجة إلى مساعدتها في تطبيق العقوبات على إيران.

تحاول تركيا اختبار ردّات الفعل الأميركية المحتملة في محاولاتها للتقدّم شرق الفرات، بعد أن تراجعت الولايات المتحدة أمام المطالب التركية وعادت إلى تسيير دوريات مشتركة في منبج غرب الفرات. مع ذلك، ستفكّر تركيا مليًّا قبل تحويل تهديداتها باجتياح منطقة شرق الفرات إلى حقيقة واقعة على الأرض، ما قد يعني احتمال الاصطدام مع القوات الأميركية أو وضع الولايات المتحدة في موقف حرجٍ أمام حلفائها الأكراد.

لتطمين (قوات سورية الديمقراطية) التي يُهيمن على قيادتها الأكراد، والتي علّقت عملياتها ضد (داعش) في ريف دير الزور في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، احتجاجًا على القصف التركي في الشمال، سيَّر التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة دورياتٍ مشتركة مع (قسد) على الحدود السورية – التركية، ما أفضى إلى استئناف هذه العمليات في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018. يُعدُّ تسيير هذه الدوريات رسالة واضحة إلى تركيا لتتوقّف عن القيام بأي إجراءات من طرف واحد شرق الفرات، فيما اعتبر الرئيس أردوغان الأمر “غير مقبول” وطالب بوقفها. من جهة أخرى، صرّح الرئيس المشترك لـ (مجلس سورية الديمقراطي)، رياض درار، لراديو (روزانا)، في السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، بأنّ تركيا “تسعى لتحقيق أهدافها بالحصول على شريط على امتداد حدودها مع سورية تسميه بالخطّ العازل؛ وذلك وفقًا لما يشير إليه اتفاق أضنة الموقع في عهد حافظ الأسد عام 1998”.

تتسلح تركيا بحجّة وجود سكان عرب في بلدات ومدن شرق الفرات، مثل تلّ أبيض والرقة وغيرها، كما أن ذريعة الأمن القومي التركي، على مشروعيتها، تبدو فضفاضة، إذ لا يوجد ما يتهدد الأمن القومي التركي في الوقت الحالي، وليس ثمة تحرشات أو هجمات من قبل (قوات سورية الديمقراطية) أو غيرها عبر الحدود السورية، علاوة على أنّ وجود القوات الأميركية هو الضامن الأهم لعدم حصول مثل هذه الهجمات.

على الأرجح، تُحاول تركيا استثمار الأوضاع الراهنة في سورية لتحقيق مكاسب، لتُبعد الخطر الكردي عنها، وتستغل الخلافات الأميركية – الروسية في سورية، وقد حققت الكثير بالتعاون مع روسيا في مؤتمر أستانا، وتحاول استكمال السيطرة على الشريط الحدودي المتبقي، تارةً بالاتفاق وتارةً أخرى بتوتير العلاقة مع الولايات المتحدة، مستغلةً كثرة المصالح التي تربط بين البلدين، ومنها عضويتهما في حلف الأطلسي. كما أنّ إطلاق أردوغان لتهديداته المتكررة حول الخطر الكردي “الإرهابي” هو جزء من سياساته الداخلية الرامية إلى سحب البساط من تحت القوى القومية، مثلما تهدف أيضًا إلى تحسين شروط التفاوض مع الأوروبيين والأميركيين، وتوجيه رسائل إلى الحليف الروسي في أستانا لتقديم تنازلات إضافية في إدلب.

في هذه الأثناء، وجّهت الولايات المتحدة أكثر من رسالة إيجابية إلى تركيا، منها وضع بعض قيادات حزب العمال الكردستاني على قائمة الإرهاب وإعادة تفعيل اتفاق منبج، وربما أهمها هو تعيين السفير الأميركي السابق في تركيا (2008 – 2010)، جيمس جيفري، مبعوثًا أميركيًا إلى سورية في شهر آب/ أغسطس 2018، وما يمكن أن يقدّمه هذا الإجراء في مجال رأب صدع العلاقات بين الدولتين فيما يخصّ الشأن السوري، بما في ذلك تحسُّن العلاقات التركية – الكردية.

في مقالة كتبها جيمس جيفري في مجلة (فورين بوليسي)، أوائل عام 2018، أشار إلى الرغبة في تحسين العلاقات بين أكراد سورية وتركيا، من خلال العمل على إبعاد (حزب الاتحاد الديمقراطي) عن حزب العمال الكردستاني. في الواقع، لا يبدو هذا الأمر مستبعدًا بالنظر إلى البراغماتية التي ميّزت سياسات (حزب الاتحاد الديمقراطي) في السنوات الأخيرة، وقد فعلها هذا الحزب أكثر من مرة وغيّر تحالفاته بشكل سريع ومتقلب بما يلائم الأوضاع المتبدلة في سورية، بما في ذلك الابتعاد عن سياسات الحزب الأم، والابتعاد عن النظام ثم الاقتراب منه، وكذلك الأمر مع الروس والإيرانيين.

بعد أن فقد الأكراد عفرين ربيع العام 2018، وخيبة أملهم الكبيرة من نأي الولايات المتحدة بنفسها عن التدخل لمصلحتهم، أخذوا درسًا مهمًا بعدم قبولهم الشروط الروسية المتمثلة بعودة النظام السوري ومؤسساته إلى عفرين، كشرط لثني تركيا عن اجتياحها للمنطقة ذات الأغلبية الكردية، إذ إنّ فقدان عفرين لمصلحة النظام كان أفضل لهم بكثير من تجرّعهم للهزيمة وخسارتهم لعفرين لمصلحة تركيا والمعارضة السورية المسلحة. لذا، عاد الأكراد إلى الحوار مع النظام صيف 2018، ففي هذا الشأن، أشار مستشار الرئاسة المشتركة لـ (قوات سورية الديمقراطية)، سيهانوك ديبو، إلى صحيفة (العربي الجديد) أنه “لا توجد مفاوضات رسمية”، ولكن الطرفين أبديا استعدادًا للتفاوض والسعي إلى “ردم الهوة والتقارب”، كما صرّح الرئيس المشترك لـ (مجلس سورية الديمقراطية)، رياض درار، لموقع (تلفزيون سوريا) في 28 تموز/ يوليو 2018، بأنّ “المجلس والنظام اتّفقا على تشكيل لجان خدمية وسياسية” وبأنهم “سيسلّمون مناطقهم إلى الدولة السورية شرط التوصل إلى حلّ سياسي”، على الرغم من أن جولتي المفاوضات بين (الإدارة الذاتية) والنظام في دمشق لم تفضيا إلى أي نتيجة، وصدر قرار باعتقال الوفد الكردي، ما اضطر الروس إلى التدخل.

لا يبدو أن الولايات المتحدة معنية بالتدخل في مجريات المفاوضات بين حليفتها (قسد) والنظام السوري، وهي المشغولة بالحرب على (داعش) ووقف التمدد الإيراني نحو سورية ولبنان، كما لم تكن مواجهة النظام السوري هدفًا من أهدافها يومًا، باستثناء التهديد بضربه، أو القيام بذلك على نحوٍ استعراضي، عند استخدامه للأسلحة الكيماوية.

في جميع الأحوال، وفي أي حلّ سياسي مقبل، ستربط تركيا انسحابها من سورية بضمان أمنها القومي وعدم قيام دويلة كردية على حدودها. وعلى خطٍّ موازٍ، يمكن أن يترافق ذلك بمساعٍ لحل المسألة الكردية من منشئها في تركيا، من خلال تحسين شروط حياة الأكراد في الحكم الذاتي وغيره، ما سينعكس إيجابيًا على علاقة تركيا بأكراد سورية، مع أن مثل هذه المؤشرات ليست واضحة حتى الآن. من جهة ثانية، ربما يؤثر تقارب الموقف التركي مع مواقف الدول الأوروبية الرئيسة حول الحل السياسي، بخاصة ألمانيا وفرنسا، إيجابيًا على تحسين العلاقة الأميركية – التركية حول سورية، باعتبار أنّ مواقف هذه الدول لا تختلف جوهريًا عن مواقف الولايات المتحدة.

 

خامسًا: خاتمة

مع انزياح التنافس الدولي في سورية نحو الشمال، يبدو أن الأمور تتجه نحو تقارب المواقف لا إلى تصعيدها، وإن التهديدات التركية باجتياح شرق الفرات تدخل في إطار تحقيق أكبر قدر من المكاسب من الولايات المتحدة أو مقايضتها، وقد أضحى الموقف التركي أقرب إلى مواقف الدول الأوروبية والأميركية بعد تثبيت الوضع الحالي في إدلب.

روسيا، بدورها، وصلت إلى شبه قناعة باستحالة استفرادها بأي حلّ سياسي يناسبها ويفضي إلى إجراء تحديثات شكلية في بنية نظام الاستبداد، فجهدها العسكري لا يتناسب والحصيلة السياسية، فضلًا عن عجزها عن التصدي لكلفة إعادة الإعمار الهائلة، ما يضطرها إلى التعاون مع مختلف الأطراف ذات التأثير والنفوذ في سورية، هذا إلى جانب تراجع دور حليفها الإيراني بسبب الضغوط الأميركية (الاقتصادية) والإسرائيلية (العسكرية).

تكمن المصلحة السورية في تقارب المواقف الدولية، وفي تعيين مبعوث أممي جديد إلى سورية، على أمل أن يكون بداية مرحلة ودور جديدين للمؤسسة الأممية، وفي تراجع تأثير بعض الدول الإقليمية. كما أنّ تعيين مبعوث أميركي خاص قد يُساعد في وضع رؤية متكاملة حول سورية، ويحدّ من تباينات مواقف المؤسسات السياسية الأميركية في هذا الشأن. على العموم، يؤدي الوجود الأميركي في شمال شرق سورية دورًا مهدِّئًا في اللحظة الراهنة، وبوسعه ضبط الصراع التركي–الكردي والحيلولة دون وصوله إلى حدّ الانفجار، وذلك بعد أن حسمت الولايات المتحدة أمرها لجهة البقاء في سورية حتى حصول حلّ سياسي، الأمر الذي سيساهم في استقرار جميع دول المنطقة وضبط صراعاتها الحالية والمحتملة، وما سبق يُبعد احتمال تطور الوضع في شمال شرق سورية إلى مصير مماثل لحالة كردستان العراق، ويُقرّبه أكثر من التكامل مع الحلّ المرتقب في سورية.