المحتويات

أولًا: مقدمة

ثانيًا: نشوء محور المقاومة والممانعة

ثالثًا: محورية الدور الإيراني

رابعًا: المقاومة والممانعة والثورة السورية

خامسًا: إشكالية علاقة محور المقاومة مع الولايات المتحدة و”إسرائيل”

سادسًا: لبنان كساحة متقدّمة لتطبيق سياسات المقاومة والممانعة

سابعًا: خاتمة

 

أولًا: مقدمة

دأبت الأنظمة العربية منذ سبعة عقود على الاستثمار الفاشل في القضية الفلسطينية، ورفعت شعار تحرير فلسطين من دون تلبية متطلبات عناصر القوة (الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، الثقافية، العسكرية) الضرورية لتحقيق هذا الهدف، وصرفت الأموال الطائلة على برامج التسلُّح على حساب قوت الجماهير التي ادّعت الحديث باسمها من دون أن تحقّق أي إنجاز ملموس، لا بل إن الدول المجاورة لإسرائيل خسرت المزيد من الأراضي التي ما زال بعضها محتلًّا حتى الآن.

ولأن الحفاظ على السلطة هو الهدف الأساس بالنسبة إلى أيّ نظام مستبدّ، وهذا ينطبق على جلّ الأنظمة العربية بدرجات مختلفة، فقد كانت القضية الفلسطينية مهربًا دائمًا لها من استحقاقات التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ينطبق ذلك بصورة واضحة على أنظمة دول المواجهة التي عملت على استغلال عواطف الجماهير وتجييشها، من خلال رفع الشعارات الحماسية التي ازدادت المسافة التي تفصلها عن الواقع، مع مرور الزمن، إلى درجة القطيعة.

لم تختلف طريقة محور المقاومة والممانعة في التعامل مع القضية الفلسطينية عنها بالنسبة إلى دول المواجهة؛ فقد ورث المحور دورها في ادّعاء مقاومة “إسرائيل” والمخططات الأميركية في المنطقة، لكنه استخدم الوسائل ذاتها، وبصبغة دينية مذهبية هذه المرة، لزوم تلبية حاجات الاندفاع الإيراني في المنطقة.

جرى تداول مصطلح محور المقاومة والممانعة في إعلام الأطراف المشاركة فيه منذ بداية الألفية الثالثة، على نحو خاصّ، ومثّل، بصورة ما، ردًّا على إطلاق الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، 29 كانون الثاني/ يناير 2002، مصطلح محور الشّر على عدة دول، من بينها إيران.

ثانيًا: نشوء محور المقاومة والممانعة

نظرًا إلى انسحاب مصر من الصراع العربي – الإسرائيلي، بعد توقيع اتفاقية (كامب ديفيد) عام 1978، واستحالة حصول أي حرب أو كسبها ضدّ “إسرائيل”، أو حتى أي نوع من المواجهة الفعلية للحلف الأميركي–الإسرائيلي؛ قاد النظام السوري حملة إعلامية رافضة للاتفاقية، إلى جانب المنظمات الفلسطينية وقوى اليسار على امتداد العالم العربي، مع أنه كان قد وقّع اتفاقية الهدنة في عام 1974، والتي صمدت حتى الآن وحقّقت لإسرائيل أمانًا لم تكن لتحلم به، فكانت جبهة الجولان هي الأهدأ طوال أكثر من أربعة عقود، وما زالت.

وفي عقب انتصار الثورة في إيران عام 1979، وجد النظام السوري في التحالف مع نظام الخميني مخرجًا من مأزقه في التعامل مع محيطه العربي، بخاصة بعد انهيار محاولة التقارب مع نظام صدام حسين في العراق عام 1977. على قاعدة هذا التحالف، تشكّل أساس محور المقاومة والممانعة، والذي ضمّ لاحقًا بعض الحركات والمنظمات المرتبطة بإيران، مثل حزب الله في لبنان والميليشيات الشيعية في العراق، إلى جانب حركتي الجهاد الإسلامي وحماس في فلسطين.

عن طريق هذا الحلف، فرضت إيران نفسها لاعبًا مباشرًا في الصراع العربي الإسرائيلي، واستغلت الكمّ الكبير من الإحباط الذي تعانيه الشعوب العربية للولوج إلى المنطقة بقوة، من باب التحريض على قتال “إسرائيل” وإطلاق التهديدات ضدّها، ومن خلال تسليح ودعم حزب الله وحركتي الجهاد الإسلامي وحماس. وهكذا، الْتقت مصلحة النظام السوري في تعزيز سلطته، عن طريق رفع شعارات الصمود والتصدي العروبية والتوازن الاستراتيجي مع “إسرائيل”، مع مصلحة إيران في تصدير ثورتها والهيمنة على المنطقة.

في تحذير مبكّر من خطورة الدور الإيراني في المنطقة، أشار الملك الأردني عبد الله الثاني، في تصريح إلى صحيفة واشنطن بوست الأميركية في عام 2004، إلى مخاوف متعلقة بظهور حكومة في بغداد -بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003- تخضع للنفوذ الإيراني، ما يفضي إلى تشكيل هلال شيعي يمتد من البحرين عبر إيران والعراق وصولًا إلى سورية ولبنان، وما قد يحدثه ذلك من اضطراب في استقرار المنطقة.

كان تصدير الثورة الإيرانية قد استند إلى وجود أقليات شيعية كانت مهمّشة سياسيًا في بعض بلدان المنطقة، كما في العراق ولبنان والبحرين. ففي لبنان، أُنشِئ تنظيم حزب الله كتشكيل عقائدي – عسكري لم يلبث أن احتكر المقاومة ضد “إسرائيل” في الجنوب بقوة السلاح (بعد تهميش دور المقاومة الوطنية اللبنانية، ذات الأطياف السياسية والطائفية المتعددة، بمساعدة من النظام السوري الذي كانت له اليد العليا في لبنان)، ليتجاوز فكرة المظلومية الشيعية التي قامت على أساسها حركة المحرومين بقيادة موسى الصدر وانبثقت منها حركة (أمل). من جهة ثانية، حرص الإيرانيون على إضفاء الطابع الإسلامي العام لتدخلهم في شؤون المنطقة، فشجعوا ودعموا المنظمات الفلسطينية السنية الطامحة لتحلّ محل منظمة التحرير الفلسطينية، حماس والجهاد الإسلامي، والتي استأثرت بقطاع غزة واستخدمته كمنطلق لمناوشة “إسرائيل”.

يضخّم محور المقاومة والممانعة قدراته عبر إطلاق التصريحات المدوّية التي لا تتطابق مع قوة المحور الفعلية على الأرض، مقارنةً بفعالية وحجم قدرات “إسرائيل” وحلفائها، فباستثناء عمليات حزب الله التي ساهمت في انسحاب “إسرائيل” من لبنان والتخلي عن حليفها “جيش لبنان الجنوبي” عام 2000، كانت معظم أعمال المقاومة عبارة عن مناوشات استعراضية وخاسرة تسبّبت بسقوط المزيد من الضحايا وألحقت الدمار الهائل بالبنية التحتية في كلٍّ من لبنان وقطاع غزة. لا بل إنها، من جهة ثانية، ساهمت في زيادة القدرات الدفاعية لإسرائيل، من خلال جهد الأخيرة لتطوير صناعة الأسلحة وطلب المزيد من الدعم العسكري الأميركي، فضلًا عن تعاطف دول كثيرة معها كدولة تتعرض لـ “الإرهاب”.

ثالثًا: محورية الدور الإيراني

تتبادل أطراف محور المقاومة والممانعة الأدوار تحت مظلة النظام الإيراني الذي يدير سياسات المحور ويحدّد لكل طرفٍ دوره ومهمّته فيه، بإشراف مباشر من الحرس الثوري، شبه المستقل، والتابع مباشرةً إلى سلطة الولي الفقيه.

فالطرف الممانع، أي النظام السوري، يسهّل أعمال المقاومة لحزب الله من خلال السماح بمرور الأسلحة عبر أراضي سورية وأجوائها من إيران إلى لبنان، ولا يفعل شيئًا، أو لا يستطيع فعل شيء، حين تقوم “إسرائيل” بضرب مستودعات الأسلحة التابعة لهذا الحزب أو طرق امداداته، وهو بذلك يضرب عصفورين بحجر واحد؛ لا يُغضب إيران وحزبها، ويظهر بمظهر المساند للمقاومة في نظر الشعب الرازح تحت استبداده من جهة، ويقدّم، في الوقت ذاته، خدمة غير مباشرة لإسرائيل، بحكم عجزه أو عدم رغبته في مواجهتها من جهة ثانية. على العموم، لا يتكلّف النظام السوري في هذا الدور الممانع أي خسائر مادية ذات شأن، فيما يكون ربحه المعنوي، إن وُجد، صافيًا.

بالنسبة إلى حزب الله، يعدّ الدعم الإيراني مطلقًا وأساسيًا، وقد عبّر عن ذلك زعيم الحزب، حسن نصر الله، في أكثر من مناسبة وتصريح، فيما يعدُّ الحزب الذراع الضاربة لإيران شرق المتوسط، فضلًا عن سيطرته شبه المطلقة على سياسات الدولة اللبنانية الحالية.

أما دعم إيران لحركتي حماس والجهاد في قطاع غزة، فهو يحرج أعداء نظام ولاية الفقيه في المنطقة، بخاصةٍ دول الخليج، ويمنح سياسات إيران طابعًا إسلاميًا عامًا، كما يوفّر لها بعض الدعم من قبل الشعوب العربية المتعاطفة مع قضية الشعب الفلسطيني المحقّة.

وعلاوة على المشروع الإيراني الأساس للتمدد عبر دول المنطقة، يؤمن نشاط محور المقاومة والممانعة غطاءً لإيران من أجل تطوير قدراتها العسكرية، العلنية منها والسرية، بخاصة بناء مشروعها النووي والصاروخي، بحيث تدفع أذرع محور المقاومة والممانعة الممتدة في المنطقة الثمن ويبقى المركز –إيران- في أمانٍ نسبي، وما يتعرّض له الحوثيون اليوم خير مثال. كما يعمل نشر التشيُّع في مناطق النفوذ كأرضية ملائمة لتمرير سياسات إيران العقائدية والاجتماعية.

في الواقع، خلال العقدين الأخيرين، حققت إيران الكثير على صعيد بسط نفوذها في المنطقة، وبنت أكبر وأقوى قواعدها، حزب الله، على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. كما وفّر لها الاحتلال الأميركي للعراق الأوضاع الملائمة للهيمنة على هذا البلد، مستعينةً بالميليشيات العراقية التي كانت تساندها إبان الحرب العراقية – الإيرانية، والتي اتخذت من إيران مقرًا لها حتى غزو القوات الأميركية للعراق في عام 2003.

فقد كان للأخطاء الفادحة التي ارتكبها الاحتلال الأميركي للعراق في عهد الحاكم بريمر، المتمثّلة بحلّ الجيش والأجهزة الأمنية، عوضًا عن إعادة هيكلتها، الدور الأكبر في إدخال هذا البلد في الفوضى وتعزيز الدور الإيراني فيه عن طريق استخدام الميليشيات الموالية. ترافق ذلك بتهميش دور “المكوّن العربي السني”، ما ساهم في نشوء المنظمات المتطرفة التي استغلّت المظلومية السنية، وانبثق منها، في نهاية المطاف، تنظيم (داعش) الإرهابي. ساهم ذلك كله في تمكُّن إيران من السيطرة على مقدّرات العراق وإدخاله ضمن مناطق نفوذها، بخاصةٍ بعد انسحاب الأميركيين منه أواخر عام 2010، والذين عادوا إليه، جزئيًا، بعد تشكيل التحالف الدولي ضدّ (داعش) عام 2014.

لا يجب أن تنسينا نجاحات المشروع الإيراني في التغلغل في المنطقة وجود عقبات حقيقية تقف في وجهه، خصوصًا بعد انكشافه على الصعيد الشعبي العربي، ووقوف أطرافه ضدّ مطالب الحرية والكرامة لشعوب الربيع العربي. كذلك، فإن الضغوط الأميركية على الوجود الإيراني في سورية واليمن، فضلًا عن مصلحة روسيا في تحجيم هذا الوجود في سورية، كفيلةٌ بوضع حدّ لطموحات إيران ورسم طريق انكفائها، الذي يعززه تزايد المعارضة الداخلية لمشاريع نظام ولاية الفقيه التوسعية في الخارج. مع ذلك، يمكن القول إن فكرة الهلال الشيعي، التي تحدّث عنها العاهل الأردني عام 2004، قابلة للتحقق نسبيًا عند اندلاع الثورة السورية عام 2011.

رابعًا: المقاومة والممانعة والثورة السورية

كان الانعكاس الأسرع لتأثير الثورة السورية في محور المقاومة والممانعة هو نأي حركة حماس بنفسها عن المحور، من دون أن تعلن موقفًا حازمًا تجاه أي طرف، وذلك نظرًا إلى اعتماد الحركة، بخاصة جناحها العسكري، كتائب القسام، على دعم إيران المباشر أو عن طريق حزب الله.

ولا شكّ في أن الوضع المحرج لحماس وتذبذبها، بين عدم إغضاب الداعم الإيراني والتعاطف مع الثورة السورية، ترك أثره تبايناتٍ في المواقف داخل الحركة. ففي لقاء أجراه موقع سبوتنيك الروسي، 11 حزيران/ يونيو 2018، عاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، إلى دغدغة محور المقاومة والممانعة بالقول إن ما نُسب إليه حول دعم الثورة السورية “غير دقيق”، وإن حماس “لم تكن يومًا في حالة عداء مع النظام السوري”، وإن الحركة “لم تقطع العلاقة مع سورية”. وأكّد هنية أيضًا على محورية دور إيران في المنطقة، وعلى أنها “قدمت الكثير لصالح الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة”.

مقابل ذلك، بقيت بقية أطراف محور المقاومة والممانعة متماسكة في وقوفها إلى جانب النظام السوري بلا تردّد منذ اللحظة الأولى، فكثيرًا ما عدَّ السياسيون الإيرانيون، في تصريحاتهم، الثورة السورية مؤامرةً للدول الغربية وحلفائها في المنطقة لاستهداف سورية بصورة خاصة، ومحور المقاومة والممانعة بصورة عامة. على سبيل المثال، في أثناء استقباله رئيس مجلس الشعب السوري، محمد جهاد اللحام، 3 تموز/ يوليو 2012، أكّد أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، سعيد جليلي، على “دعم بلاده لسورية في مواجهة أشرس مؤامرة إقليمية – دولية”، مشيرًا إلى “أن سورية في الخطّ الأمامي للمقاومة”.

ومنذ الأيام الأولى للثورة، لم تكن إيران بعيدة عن مسار الحوادث عبر تقديم المشورة وتقنيات الرصد الإلكتروني لملاحقة المعارضين، ومن ثم الدعم المالي والتسليح وتدريب عناصر الدفاع الوطني، وصولًا إلى التدخل المباشر لحزب الله، بحجة حماية الأماكن الشيعية المقدسة في العاصمة دمشق منذ العام 2012، ومشاركته الفعالة في معركة القصير في بداية شهر نيسان/ أبريل 2013.

لم تكتف إيران بذلك، فقامت بجمع الميليشيات الشيعية من بلدان مختلفة، مثل العراق وأفغانستان وباكستان، والزجّ بها للقتال إلى جانب النظام، الذي كان للجهد الإيراني الدور الأساس في حمايته من السقوط منذ عام 2012، وإلى أن حصل التدخل الروسي في سورية خريف العام 2015. في هذا السياق، كان نائب رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، مسعود جزائري، 24 تموز/ يوليو 2012، قد حذّر من أن “الإيرانيين لن يسمحوا بنجاح خطط العدو لتغيير النظام السياسي في سورية”.

في جميع الأحوال، كانت الثورة السورية كاشفة لدور محور المقاومة والممانعة، ومدى هشاشة وزيف شعاراته، وعدائه لمطالب الشعب السوري في الحرية والكرامة منذ اللحظة الأولى لانطلاق التظاهرات ضد النظام، وذلك من ضمن انكشاف كثيرٍ من المواقف والسياسات وإعادة اصطفافها وتموضعها في هذا الجانب أو ذاك. يُشار أيضًا إلى مواقف جماعات اليسار القومي التي وقفت ضدّ مصالح الشعوب العربية وإلى جانب الأنظمة المستبدة ومحورها الرئيس، محور المقاومة والممانعة. على سبيل المثال، عُقِد مؤتمر اتحاد الصحافيين العرب في دمشق، 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، والتقى أعضاؤه برئيس النظام لتهنئته بـ “الانتصار على الإرهاب”. وما يثير السخرية أن المؤتمر ناقش قضايا الصحافيين، وعلى رأسها موضوع الحريات، من هذا المكان بالذات!

ويلفت الانتباه أيضًا تصريح رئيس منصة موسكو، قدري جميل، 6 كانون الأول/ ديسمبر 2018، الذي هاجم فيه هيئة التفاوض، ورأى أن تغريدات رئيسها، نصر الحريري، “تظهر تماهي قيادة الهيئة مع خطاب جيمس جيفري في ما يتعلق باللجنة الدستورية”، وأنها “تتبنّى حرفية الطّرح الغربي بخصوص العقوبات وإعادة الإعمار وعودة اللاجئين، لتحويل المسائل الإنسانية إلى أوراق ابتزاز سياسية”، علاوة على انتقاد موقف الهيئة المتعلق بإدلب (السكوت عن خروقات النصرة) والجولان (عدم إدانة الموقف الأميركي الداعم لإسرائيل بشأن الجولان) وشرق الفرات (لا يخيفها السعي الأميركي لعزل شرق الفرات)، وأنهى قدري جميل تصريحه بأن قيادة الهيئة “لا تمثل تطلعات الشعب السوري بمخالفتها الصريحة للقرار الأممي 2254”.

لا يمكن المرور ببساطة على تصريح قدري جميل هذا، الذي جمع فيه بين مقولات السياسة الروسية التقليدية في سورية ومواقف محور المقاومة والممانعة، مكثِّفًا خطاب هاتين الجهتين في تصريح واحد. يشير تصريح رئيس منصة موسكو إلى أن مواقف روسيا لا تعدو كونها تغطية لسياسات محور المقاومة والممانعة، والاختلافات تنحصر في بعض التفاصيل الصغيرة. أما الانتقادات الموجهة إلى الهيئة العليا للتفاوض فيمكن عكسها لتنطبق على مواقف منصة موسكو، التي لا تمثل، بالفعل، مصالح كثيرٍ من السوريين في تماهيها مع مواقف النظام المستبد وداعميه، وذلك على الرغم من أن بعض نقده للهيئة صحيح، لكنه يحتاج إلى وضعه في سياق رؤية متكاملة لا تغطي على قضية حرية الشعب السوري في مواجهة نظام الاستبداد وداعميه.

من جهة ثانية، قد لا يكون تزامن تصريح قدري جميل مع تفجير “إسرائيل” للأنفاق المكتشفة في جنوب لبنان مجرّد صدفة، وربما هي محاولة ما للتغطية، ولو بصورة غير مباشرة، على هذا الموضوع الذي يُعدُّ ضربةً موجعة لإيران وحرسها الثوري، واحتراقًا لورقة أخرى من أوراقها.

مع ذلك، لن تعود الأمور إلى مجاريها فيما يتعلق بالعلاقات الداخلية لأطراف محور المقاومة والممانعة بعد ما حصل في سورية، نظرًا إلى تزايد تأثير الأطراف الدولية المتدخّلة في الشأن السوري على العلاقات البينية لأطراف المحور؛ فالروس لا يتحكّمون في قرارات النظام على نحو شبه تامّ فحسب، إنما ويحدّدون لإيران حصتها ونفوذها في سورية. يُشار في هذا الصدد إلى معارضة الروس بناء قواعد ثابتة إيرانية، ولو أن إيران تستخدم القواعد الجوية والمنشآت العسكرية السورية الحالية بحرية. كما أنّ سورية الآن ليست سورية ما قبل الثورة؛ فعلاوة على الأثر المهيمن للروس في مناطق سيطرة النظام، لا يمكن، في المدى المنظور، تجاوز تأثيرات الحضور الأميركي شرق الفرات والوجود التركي في شمال غرب سورية.

خامسًا: إشكالية علاقة محور المقاومة مع الولايات المتحدة و”إسرائيل”

ترتكز سياسة الولايات المتحدة الحالية على تطبيق العقوبات على الدول التي تعدّها مارقة، وهي لا تهدف، في أي حال، إلى اسقاط هذه الأنظمة بل إلى “تغيير سلوكها”. لكنّ العقوبات تضرّ بمصالح سكان هذه الدول وتضيف الكثير من المصاعب إلى حيواتهم الصعبة أصلًا، فيما تحتال عليها “الأنظمة المارقة” بطرقٍ شتى، مافيوية الطابع غالبًا، ولم يحدث أن سقط نظامٌ جرى استهدافه بوساطة هذه العقوبات وحدها.

من جهة ثانية، تُبقي الولايات المتحدة الباب مواربًا في علاقتها مع الأنظمة المستبدة (المارقة)، من أجل إجراء المساومات معها من تحت الطاولة حين اللزوم، أو السكوت عن سياسات الأنظمة التي قد تخدمها. في الحالة الإيرانية، نجد أن الولايات المتحدة لم تقف حائلًا دون التدخل الإيراني في سورية، واستخدمته في لعبة التوازن طوال الحرب، ومنع انتصار طرفٍ على طرف. لكن، حين شارف الدور الإيراني على الانتهاء، وحلّ الدور الروسي مكانه، صعّدت الولايات المتحدة موقفها، ولو أن ذلك لم يكن السبب الوحيد لتشديد العقوبات على طهران.

قد يعود سبب التعامل الأميركي مع إيران، بصورة غير مباشرة على الأقل، إلى كونها تملك سلطة مطلقة على الميليشيات الشيعية التي تدعمها، وبوسعها التحكُّم فيها في أي وقت، ما يوفّر على السياسة الأميركية الجهد عبر الضغط أو التعامل مع الرأس المدبّر– إيران. هذا ما لا ينطبق على المجموعات المتطرفة التي دخلت سورية لتحارب النظام وحلفاءه، بسبب تعدد المرجعيات أو تبدّلها أو فقدانها أحيانًا، ومنها الجماعات الإرهابية التي ما زالت تتقدّم وتنكفئ وتأخذ أشكالًا وأنماطًا شتى منذ أن ظهرت منظمة “القاعدة” في أفغانستان لمقاومة التدخل السوفياتي أواخر سبعينيات القرن العشرين، والتي تلقّت حينها الدعم من المخابرات الأميركية وبعض الأنظمة الخليجية.

لذا، تتّصف العلاقات الأميركية – الإيرانية، والإيرانية – الغربية على وجه العموم، بأنها جدلية ومعقدة؛ فمن جهة، يعتبر الغرب إيران حليفًا له ضدّ الإرهاب، ومن جهة ثانية، توفِّر إيران الدعم والسلاح لمنظمات تهدّد حليفته “إسرائيل” ويصل خطرها إلى بلدانه. وتصعّد إيران مواقفها ضد الغرب بخطابٍ مضلِّل بدأ يفقد الكثير من قدرته على الإقناع؛ فهو يردِّد المقولة الكلاسيكية التي تفيد بأن خلاص شعوب المنطقة يتمثّل بدحر المشروع الغربي الاستعماري الطامع بخيراتها فحسب، وهو يبدو خطابًا مفوّتًا بعد كل ما مرّ من حوادث خلال نصف قرنٍ من الزمان، فضلًا عن صبغته المذهبية التي تستثير ردّات فعل من النوع ذاته، ولو أن المذهبية هنا مجرّد غطاء لمشاريع وخطط أكبر وأعمّ تهدف إلى الهيمنة الإيرانية على مقدّرات المنطقة.

وفي الشأن الإسرائيلي تحديدًا، لم تكن العلاقات الإيرانية-الإسرائيلية تاريخيًا سيئة؛ فقد كانت على ما يرام بعد إنشاء دولة “إسرائيل” وحتى اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 عندما عملت إيران الخمينية على عكس العلاقة التي كانت سائدة بين نظام الشاه و”إسرائيل”، فاستبدلت سفارة “إسرائيل” في طهران بسفارة فلسطين.

لكنّ إطلاق الشعارات المعادية لإسرائيل بعد الثورة لم يمنع، تحت ضغط الحاجة والمصلحة، من تعاون الدولتين سرًا في أثناء الحرب العراقية–الإيرانية ومبادلة الأسلحة الإسرائيلية بالنفط الإيراني (إيران غيت)، ما حال دون تحقيق انتصار سريع للعراق من جهة، ورفع خطر ثورة الخميني عن الجالية اليهودية في إيران من جهة ثانية. كما قدّمت “إسرائيل” خدمةً لا تُقدّر بثمن إلى إيران في أثناء هذه الحرب مع العراق عام 1981، حين دمرت مفاعل (أوزيراك) النووي العراقي.

“إسرائيل” ليست معنية بالتصريحات الإيرانية المندّدة بها، ولا يضيرها مثل هذا الخطاب، بل إنه يصب في مصلحتها عندما يعتمد على تسعير الصراع المذهبي. أما بخصوص المشروع النووي الإيراني والسلاح الصاروخي فإنه يقلق “إسرائيل” أشدّ القلق، ويجعلها تعمل بلا كلل على مكافحته بالوسائل كافة، مثل تحريض حلفائها في الغرب، بخاصة الولايات المتحدة، ضدّ طهران، في الوقت الذي تحاول فيه منع وصول الصواريخ الإيرانية إلى حزب الله في لبنان عن طريق ضربها في الأراضي السورية المستباحة حاليًا. مع ذلك، لا يبدو أن المناوشات التي تحدث بين الإيرانيين والإسرائيليين ستتطور إلى حربٍ شاملة، ويمكن لإيران الردّ على الهجمات الإسرائيلية على نحوٍ غير مباشر ومحدود؛ عن طريق تحريك الوضع في قطاع غزة وجنوب لبنان.

 

سادسًا: لبنان كساحة متقدّمة لتطبيق سياسات المقاومة والممانعة

منذ أن فرض حزب الله نفسه في لبنان بعد عام 2000، صار لكل قضية في هذه البلد طعم “المقاومة” التي تحوّلت إلى سيف مسلّط فوق رؤوس اللبنانيين جميعهم؛ بها تُمهر الاجتماعات الرسمية، ويتردّد صداها في المهرجانات، وتُمطَر بها الحشود الشعبية المكلّلة بالسواد، وتحضر بقوة في الانتخابات، ولسان حالها يوجّه رسالة إلى الجميع مفادها: “إن لم تخضعوا لإرادتي فإنّ 7 أيار/ مايو 2008 يمكن أن يتكرّر في أي لحظة”.

الثغرة في الأصل موجودة في نظام ديمقراطية الطوائف والمحاصصات والمظلوميات المنبثقة منه، منها تسرّب حزب الله إلى جنوب لبنان وعاصمته وبقاعه، من أجل أن يمهد الطريق لمشروع دولته، دولة ولاية الفقيه، التي يريد الوصول إليها على أنقاض الدولة التي لم يتردّد في قتل الرجل الذي ساهم في إحيائها من جديد بعد اتفاق الطائف، رفيق الحريري، وما زال ينخر فيها كالسوس، ويخرج عبر حدودها دون رادع لينضمّ إلى حروب محور المقاومة والممانعة، وهي حروب داخلية – أهلية أو حروب لقمع الثورات الشعبية، وليست ضد الحلف الأميركي–الصهيوني الذي يجعجع إعلام هذا المحور ضدّه ليل نهار.

بعد حرب 2006، دخل حزب الله في مرحلة جديدة ترتبط مباشرة بهيمنته ومشروع دولته، حتى أنّ وحدة محور المقاومة والممانعة ذاتها، التي كثيرًا ما تغنّى بها السيد حسن نصر الله في خطاباته، صارت من الذكريات النضالية، ولم يتحرك حزبه حين هاجمت “إسرائيل” حليفته حماس مرات عدّة بعد العام 2006.

أما التهديدات الأخيرة الموجهة ضد “إسرائيل” من جانب زعيم حزب الله، بعد اكتشاف الأنفاق التي حفرها الحزب على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، فلا تعدو كونها بالونات صوتية، ذلك أن “إسرائيل”، في الحد الأدنى، ليست في وارد شنّ حرب قبل الانتخابات المقبلة؛ ولذلك لجأت إلى المجتمع الدولي وحملته المسؤولية، وحثّت الولايات المتحدة على تطبيق عقوبات مشدّدة ضد حزب الله، ولا سيما أن القرار 1701 يمنع وجود قوات الحزب ضمن مسافة 40 كيلومتر من الحدود، وما يشكله ذلك من إحراج للحكومة اللبنانية وقوات المراقبة الدولية في جنوب لبنان معًا.

يمكن مقارنة العراق بلبنان من حيث عرقلة إيران لفكرة تكوين الدولة المستقلة في البلدين، مع أن التأثير الإيراني في لبنان هو الأوضح؛ بسبب مركزية الجهة المؤثّرة وتفرّدها – حزب الله. لا تتدخل إيران في الانتخابات فحسب، إنما تعرقل أي خطوة ديمقراطية، وتعيق تشكيل كلّ من الحكومتين العراقية واللبنانية بحيث تُفرغ اللعبة السياسية من مضمونها الديمقراطي لتتحكّم بخيوطها. مع ذلك، ومهما علا صخب إعلامه، فإن محور المقاومة والممانعة يخوض، في لبنان وسواه، معركته الدفاعية الآن بطريقة هجومية، متوهمًا النصر، ويوظّف عملاء الأجهزة الأمنية من مسوقي سياسات الممانعة لإثارة القلاقل.

سابعًا: خاتمة

يحتاج التّقدم الفعلي على طريق مصلحة شعوب بلداننا في التنمية الاجتماعية والسياسية إلى تصفية الحساب مع الأكاذيب والشعارات التي تسوقها الأنظمة المستبدّة، وفي المركز منها ما يدعى بمحور المقاومة والممانعة، الذي يتاجر بقضية الصراع مع “إسرائيل” لتمرير أهداف أطرافه الخاصة، وذلك لأنّ من حمى “إسرائيل” منذ نشوئها هي الأنظمة العربية، مباشرةً أو من خلال ممارساتها القمعية وأكاذيبها وفشلها على الصعُّد كافة، وحين تتحرر الشعوب من سطوة الاستبداد، يمكنها إيجاد الطريقة الملائمة لاسترجاع الحقوق التي أهدرتها هذه الأنظمة في حروبها الخاسرة مع “إسرائيل” وغيرها.

فالعالم اليوم يقاوم بوسائل عدة، أهمها تثبيت قيم المواطنة ودولة القانون وتحقيق برامج التنمية الوطنية، ورفع مستوى معيشة وكرامة الإنسان، وبناء مقاومات تعمل بدلالة المصالح الوطنية، وتنتحل خطابات وطنية، ضد المقاومات القائمة على تكميم الأفواه وتأبيد السلطات وتحويل البشر إلى مجرد أرقام في خدمة الاستبداد أو السعار المذهبي والطائفي.