المحتويات
ثانيًا: اتفاق “سوتشي” كمخرج مؤقت من معركة دامية
ثالثًا: اجتياح “هيئة تحرير الشام” لمنطقة خفض التصعيد الأخيرة
رابعًا: ردّات الفعل على الاجتياح
خامسًا: “هيئة تحرير الشام” والحسابات التركية
أولًا: مقدمة
ثمة شبه إجماع على أن اتفاق “سوتشي”، في حينه، حال دون مقتلة كبرى كانت ستحصل في محافظة إدلب لو نفّذ جيش النظام وحلفاؤه هجومًا واسع النطاق ضد الفصائل المسلحة المتداخلة مواقعها مع مناطق المدنيين في هذه المحافظة، والذين يزيد عددهم على ثلاثة ملايين ونصف المليون، بما في ذلك المسلحون وأسرهم الذين رفضوا إجراء المصالحات في المناطق الأخرى التي وقعت تحت سيطرة النظام.
من جهة ثانية، بات التخلّص من حالة العسكرة الفوضوية في منطقة خفض التصعيد الأخيرة في محافظة إدلب وجوارها مطلبًا تُجمع عليه معظم الأطراف ذات النفوذ في سورية، ولو أن ذلك مرتبطٌ، إلى حدّ ما، بخروج الميليشيات الإيرانية أيضًا. وتركيا، التي تخضع هذه المنطقة لنفوذها، وبحكم توقيعها على اتفاق “سوتشي” مع روسيا، هي المخوّلة للقيام بهذه المهمة، وكانت قد قطعت شوطًا في هذا المضمار، من خلال تجميع العديد من الفصائل في “الجبهة الوطنية للتحرير”، إلا أنّ المجموعات الجهادية، أممية الانتماء، ظلّت تعيق استكمال هذه المهمة، وقد جاءت سيطرة “هيئة تحرير الشام” على المنطقة، في بداية العام الحالي، لتزيد من تعقيد الخطوات المتّخذة في هذا الاتّجاه.
ثانيًا: اتفاق “سوتشي” كمخرج مؤقت من معركة دامية
تكمن خصوصية منطقة خفض التصعيد الأخيرة في سورية، والتي تشمل معظم محافظة إدلب وبعض الأجزاء المجاورة من محافظات حلب وحماه واللاذقية، في أن المسلحين الموجودين فيها ليس لديهم مكان آخر ليرحّلوا أو يُرحَّلوا إليه؛ فقد كانت هذه المنطقة وجهة المسلحين الذين جاؤوا من مناطق خفض التصعيد الأخرى، فضلًا عن وجود الكثير من الفصائل فيها، بما في ذلك الجماعات الجهادية المنضوية في إطار “هيئة تحرير الشام” (النصرة سابقًا) وتوابعها، كالحزب الإسلامي التركستاني وتنظيم “حراس الدين”.
أمام الرفض التركي والدولي لهجوم قوات النظام وحلفائه في بداية شهر أيلول/ سبتمبر 2018، تم توقيع اتفاق روسي – تركي في القمة التي جمعت بين رئيسي البلدين في مدينة “سوتشي” الروسية على شاطئ البحر الأسود، 17 أيلول/ سبتمبر 2018، والذي قضى بإقامة منطقة عازلة بعرض 15 إلى 20 كيلومترًا، على أن يتم سحب الأسلحة الثقيلة والمسلحين المتطرفين من هذه المنطقة خلال شهر، يتلو ذلك التخلّص من المجموعات الإرهابية، وصولًا إلى فتح الطريقين الدوليين، إم 5 (حلب – حماه) وإم 4 (حلب – اللاذقية) قبل نهاية العام 2018.
كان من الواضح أن اتفاق “سوتشي” هو محاولة لشراء الوقت ريثما تتغيّر المعطيات، فيُتابع الهجوم المؤجَّل أو تنجح تركيا في الترتيبات المتَّفق عليها مع روسيا للحؤول دونه. ولم تلبث “هيئة تحرير الشام” أن وفّرت هذه المعطيات باجتياحها للمنطقة، وأعادت مسألة تطبيق اتفاق “سوتشي” وتسريع الحسم مع الجهاديين إلى الواجهة.
كانت تركيا في حرجٍ منذ اللحظة الأولى لتوقيع الاتفاق، وذلك لصعوبة المهمة الملقاة على عاتقها من جهة، ولأنها ستبدو وكأنها تخوض الحرب ضد المتطرفين بالنيابة عن النظام وحلفائه من جهة أخرى، وهذا ما سيؤثر على صدقيّتها عند فصائل المعارضة المهادنة لـ “هيئة تحرير الشام” بصورةٍ ما، والتي تستخدمها تركيا كرأس حربة في معاركها لتوسيع مناطق نفوذها. مع ذلك، أعطى اتفاق “سوتشي” متنفسًا لتركيا لتعيد ترتيب أولوياتها وتحاول التوفيق بين مشاريعها الخاصة المتعلّقة بالحدّ من نشاط حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي شمال شرق سورية وبين التعهدات التي التزمت بها أمام حليفتيها، روسيا وإيران، في مؤتمرات الآستانة.
من الواضح أن تركيا اختارت التريُّث في تنفيذ الاتفاق، فلم يُنّفذ منه، عمليًا، سوى الخطوة الأولى المتمثلة بسحب السلاح الثقيل من المنطقة العازلة خلال الفترة المحددة، أي حتى 10 تشرين أول/ أكتوبر 2018، فيما لم يتأكد خروج العناصر المتطرفة من هذه المنطقة. ولم يحدث أي تقدّم فيما يتعلق بفتح طريقي حلب – حماه وحلب – اللاذقية على الرغم من مضي الفترة المحددة لذلك قبل انتهاء العام 2018.
الروس، من جهتهم، انتظروا فشل الأتراك في تنفيذ الاتفاق لمساومتهم على القضايا الخلافية، وتباينت تصريحاتهم في الفترة التي تلت توقيع الاتفاق، من القول إن تنفيذ الاتفاق يسير على ما يرام إلى انتقاد تركيا بأنها لا تقوم بالإجراءات الملائمة لضمان تنفيذه، فضلًا عن التهديد برفع الضغط الذي يطبقونه على قوات النظام والميليشيات المدعومة من إيران لتستكمل هجومها على إدلب.
ثالثًا: اجتياح “هيئة تحرير الشام” لمنطقة خفض التصعيد الأخيرة
لو استعرضنا تاريخ الصراع بين الفصائل المسلحة المعارضة منذ عسكرة الثورة السورية، لرأينا كيف أن النتائج كانت تُحسم دومًا لمصلحة الفصائل الإسلامية الأكثر تشددًا، (داعش) و(النصرة) على وجه التحديد، ولأسباب لسنا في واقع الخوض فيها الآن. تماشيًا مع منطق هذا الصراع، وبغياب (داعش)، فرضت “هيئة تحرير الشام”، خليفة تنظيم (جبهة النصرة) المرتبط بمنظمة “القاعدة”، نفسها قوةً رئيسة في منطقة خفض التصعيد التي مركزها مدينة إدلب، بخاصة بعد أن تم رفدها بالعناصر الآتية من مناطق سورية أخرى.
مع أن الهيئة كانت تسيطر على نحو 60 في المئة من محافظة إدلب وجوارها، إضافةً إلى أكثر من ثلثي المنطقة العازلة التي أقرّها اتفاق “سوتشي”، والممتدة من ريف حلب الغربي إلى ريف اللاذقية الشمالي الشرقي، مرورًا بمناطق من ريفي إدلب وحماه، إلا أنها لم تتوقّف عن التقدّم على حساب الفصائل الأخرى. لكن هجومها الأخير، أوائل عام 2019، مثّل نقلةّ نوعية في هيمنتها، حيث تمكّنت، خلال أقل من عشرة أيام، من السيطرة على 80 في المئة من منطقة خفض التصعيد، وأجبرت الفصائل المعارضة على الإذعان لشروطها أو مغادرة المنطقة. وبالفعل، توجّهت بعض عناصر الفصائل المهزومة إلى منطقتي “غصن الزيتون” و”درع الفرات” الخاضعتين للنفوذ التركي، في حين بقي بعضها الآخر فخضع لمطالب الهيئة أو احتمى بفيلق الشام الذي استثنته الهيئة من هجومها الأخير، واتّهمته باقي الفصائل بالتخاذل في مواجهة الهيئة.
وهكذا، يمكن القول إنّ منطقة خفض التصعيد الأخيرة في الشمال السوري باتت تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام” والمتعاونين معها، ولا يحدّ من سلطتها سوى نقاط المراقبة التركية المنتشرة في هذه المنطقة، وذلك في حال أرادت تركيا الردّ والتدخُّل. ولم يبقَ للفصائل الموالية لتركيا سوى أقل من 20 في المئة من مساحة المحافظة، وهي بحكم الساقطة عسكريًا بعد سيطرة الهيئة على جميع المعابر في ريف حلب الغربي ومحافظة إدلب، بما في ذلك المعابر الحدودية مع تركيا ومناطق النظام، والطرق الرئيسة المارة في المنطقة. لم تكتف الهيئة بذلك، وشنت هجومًا على مطار “أبو الضهور”، 22 كانون الثاني/ يناير 2019، في محاولة لاستعادته من قوات النظام.
وقد لخّص البيان الذي نشرته الهيئة على مواقعها، في العاشر من كانون الثاني/ يناير 2019، واقع الحال الجديد، والذي جاء فيه أنه تم التوصُّل إلى اتفاق مع “الجبهة الوطنية للتحرير” الموالية لتركيا يُنهي النزاع والاقتتال الدائر في المناطق المحررة، ويقضي بتبعية محافظة إدلب ومحيطها لحكومة الإنقاذ” التي أنشأتها “هيئة تحرير الشام” لإدارة المناطق الخاضعة لسيطرتها.
في جميع الأحوال، وبعد هجومها الناجح على الفصائل الموالية لتركيا بداية العام الحالي، وضعت “هيئة تحرير الشام” كلًّا من روسيا وتركيا أمام استحقاقاتٍ مؤجلة تتعلق باستكمال تنفيذ اتفاق “سوتشي”، بما في ذلك استخدام القوة المسلّحة، وما قد يتعلق بذلك من مساوماتٍ وصفقات بين البلدين قد تتجاوز محافظة إدلب إلى منطقة شرق الفرات وغيرها.
رابعًا: ردّات الفعل على الاجتياح
جاء أول ردّ تركي على اجتياح “هيئة تحرير الشام” لإدلب على لسان وزير الخارجية، مولود تشاووش أوغلو، 10 كانون الثاني/ يناير 2019، الذي صرّح بأن بلاده وروسيا قد تنفّذان عملية عسكرية مشتركة ضد جبهة (النصرة) في محافظة إدلب السورية إن تطلّب الأمر ذلك، مشيرًا إلى أنه ليس من السهل إنجاز اتفاق “سوتشي” بوجود التشكيلات المتطرفة، وأن بلاده “اتخذت الخطوات المناسبة لوقف الهجمات التي شنتها جماعات راديكالية على مقاتلي المعارضة”.
وبعد اجتماع أمني في ولاية هاتاي/ اسكندرون، 12 كانون الثاني/ يناير 2019، قامت قوى الأمن التركية باعتقال 13 شخصًا لهم علاقة بـ “هيئة تحرير الشام” في ولاية أضنة التركية، كما صعّدت وسائل الإعلام التركية من لهجتها ضد الهيئة وركّزت على وصفها بالإرهابية واختصرت تسميتها بـ (هتش)، ترافق ذلك بإجراء مناورات عسكرية في المنطقة الحدودية المتاخمة لإدلب.
ومع أنّ الخيار العسكري هو المرجّح في التعامل مع مثل هذه “الجماعات الراديكالية”، فإنّ التهديدات العسكرية والحملات الإعلامية التركية تهدف إلى القيام بمحاولة أخيرة للضغط على الهيئة كي تتراجع وتقبل بحلّ نفسها، مع أن معظم التقديرات تشير إلى فوات أوان مثل هذه التسوية، ولا سيما أن العناصر الأجنبية في التنظيم تقف عقبةً كأداء في هذا الاتجاه. وفي خطوةٍ احتياطية، يجري التحضير للمعركة المرتقبة من خلال إعادة تجميع الفصائل المرحَّلة إلى مناطق النفوذ التركي، استعدادًا لما قد يحصل في الأسابيع المقبلة.
ثم جاء تصريح المتحدثة باسم وزارة الدفاع التركية، ناديدة شبنام أكطوب، 19 كانون الثاني/ يناير 2019، ليخفّف من الحماس الذي عبّر عنه وزير الخارجية التركي في تصريحه أعلاه، مباشرةً بعد سيطرة “هيئة تحرير الشام” على إدلب، فقد قالت المتحدثة إن “أعمال بلادها متواصلة فيما يتعلق باتفاق “سوتشي” على الرغم من الاستفزازات التي جرت”. هذا يعني أن سيطرة جبهة تحرير الشام على إدلب هي “مجرد استفزازات” ويمكن السكوت عنها في هذه المرحلة على الأقل، ما يرجّح عدم رغبة تركيا في مواجهة الهيئة إلا مضطرةً وبضغطٍ من الحليف الروسي في آستانة، وأنها تريد إبقاء عينها مفتوحة على شرق الفرات في هذه الفترة.
وجاءت ردّة الفعل الروسية الأولى على اجتياح “هيئة تحرير الشام” لإدلب في تقرير لوكالة “سبوتنيك” الرسمية، الخميس في العاشر من شهر كانون الثاني/ يناير 2019، جاء فيه أن إدلب أصبحت “إمارة خالصة لتنظيم القاعدة”. كما كتبت صحيفة “أوراسيا ديلي” شبه الرسمية أنّ تركيا وجدت نفسها عند مفترق طرق: “إما التزام الاتفاقيات مع روسيا وتطهير المحافظة من الراديكاليين أو إيصال الوضع إلى الحد الذي يجبر الجيش الحكومي السوري على إحلال النظام في المنطقة”. وفي اليوم التالي، أشارت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زخاروفا، إلى “أهمية منع تحوُّل المنطقة منزوعة السلاح إلى ملجأٍ للإرهابيين من تنظيم جبهة النصرة الإرهابي”، وأكدت على أنّ “إنشاء المنطقة منزوعة السلاح يحمل طابعًا موقّتًا”.
لكن، على الرغم من أن روسيا تضغط على تركيا في كل فرصة سانحة للتخلّص من الجماعات المتطرفة وفتح طريقي حلب – اللاذقية وحلب – حماه، تنفيذًا لاتفاق “سوتشي” بين البلدين، إلا أنها تعمل، في ذات الوقت، على كبح القوات الحكومية والميليشيات المدعومة من إيران، فهي تحرص على التنسيق مع حليفتها تركيا وعدم إغضابها في المدى المنظور، لحاجتها إلى ذلك في مواجهة الولايات المتحدة واقتسام تركتها شرق الفرات. في هذا الإطار، يمكن فهم المحاولات الروسية للسيطرة على جبهة الغاب الأكثر سخونة، والدفع بالقوات الموالية لها (قوات سهيل الحسن والفيلق الخامس) لتحل مكان الميليشيات الموالية لإيران (الدفاع الوطني والفرقة الرابعة) في هذه المنطقة.
على العموم، يصبّ اجتياح “هيئة تحرير الشام” لإدلب في مصلحة الحلف الروسي الذي ينتظر استكمال معركته المتوقفة على حدود إدلب؛ إذ يقدّم هذا الاجتياح الحجة الدامغة لهذا الحلف من أجل مواصلة القتال واتهام تركيا بالفشل الذريع في تطبيق اتفاق “سوتشي” لناحية التخلّص من المتطرفين التي تشكل “هيئة تحرير الشام” محورهم الرئيس.
من جهة ثانية، لا يمكن استبعاد أن تكون روسيا قد شجّعت “هيئة تحرير الشام”، بطريقة ما، على اجتياحها الأخير لإدلب، ربما لتلزيمها حماية الطريقين الاستراتيجيين ام 4 وام 5 بالتنسيق مع تركيا، ولو لفترةٍ محددة، ولا سيما أن الفصائل المتطرفة تبقى الأكثر قابلية للاستخدام والتوظيف؛ بسبب العماء العقائدي الذي سيقودها إلى حتفها في نهاية المطاف.
لا ينفصل ما يحدث في إدلب عن تداعيات الحديث مؤخرًا عن إنشاء منطقة آمنة غير واضحة المعالم في شمال شرق سورية؛ فالمنطقة الآمنة التي اقترحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعمق 20 ميلًا، 14 كانون الثاني/ يناير 2019، كانت في سياق الحديث عن حماية الأكراد من التهديدات التركية، لأنه هدد تركيا بتدمير اقتصادها إن شنّت هجومًا على الأكراد، محذرًا، في الوقت ذاته، من استفزاز الأكراد لتركيا.
في محاولةٍ للتخفيف من وقع تصريح الرئيس ترامب، وتجيير الفكرة لمصلحة المشروع التركي المؤجل منذ عام 2013 حول إقامة منطقة عازلة على طول الحدود السورية، سارع الرئيس أردوغان، بعد اتصال هاتفي مع الرئيس ترامب، للقول إنهما بحثا موضوع المنطقة الآمنة واتفقا على “رفع العلاقات الاقتصادية إلى أعلى مستوى”. كما قال الناطق الرسمي باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، إن بلاده تتوقع من واشنطن “احترام الشراكة الاستراتيجية بين البلدين”.
لم تتأخر ردّات الفعل الأخرى على اقتراح إنشاء المنطقة الآمنة المزعومة، فقد رفضها وزير الخارجية الروسي، واعتبر أن المنطقة التي ستنسحب منها الولايات المتحدة يجب أن تعود إلى الحكومة السورية. كما رفضها النظام أيضًا، وذلك في تصريح لمصدر مسؤول في وزارة خارجيته. وطالبت “قوات سورية الديمقراطية” بإشراف أممي على المنطقة الآمنة، رافضةً سيطرة تركيا عليها.
لم يُسفر لقاء الرئيسين الروسي والتركي في موسكو، 23 كانون الثاني/ يناير 2019، عن اختراقٍ مهمّ فيما يتعلق بإدلب، باستثناء كلام الرئيس بوتين في ختام المباحثات حول أن ثمة خطوات عملية سيتفق عليها وزيرا الدفاع في البلدين، والتي لم تتّضح طبيعتها بعدُ. كما يلفت الانتباه في موضوع المنطقة الآمنة حديث الرئيس بوتين عن تفعيل اتفاقية أضنة، 1998، والتي تسمح لتركيا بحق الدخول إلى الأراضي السورية لدواعٍ أمنية ولمسافة محددة، لكن ذلك لا يلبي طموح تركيا الحالي بإنشاء منطقة آمنة بعمق 32 كم على امتداد الحدود، (ثمة تسريبات تركية عن قبولها بـ 5 – 10 كم)، ويبدو أن تركيا تحاول إقناع النظام، عن طريق روسيا، بتعديل هذه الاتفاقية.
خامسًا: “هيئة تحرير الشام” والحسابات التركية
حسمت “هيئة تحرير الشام” الوضع لمصلحتها في محافظة إدلب وجوارها بسرعةٍ فاجأت الجميع، خاصة أن تركيا تشرف على هذه المنطقة من خلال نقاط المراقبة العسكرية الاثنتي عشر المنتشرة فيها، ولأن الفصائل التي أخضعتها الهيئة مدعومة وممولة تركيًا.
من الطبيعي أن تعمل الهيئة على الاستفراد بالقرار في هذه المنطقة المتبقية لها من سورية، ولكن لماذا لم تأخذ الهيئة في حسبانها ردّة الفعل التركية؟ هل أرادت أن تثبت لتركيا أنها الطرف القادر على ضبط الفوضى في إدلب وإدارتها من خلال حكومة الإنقاذ التابعة لها، وقدّرت أن تركيا ستقبل بذلك على مضض؟ أم أنّ تركيا تركت الهيئة لتتمدّد حتى يسهل القضاء عليها عسكريًا، بعد أن عجزت عن القيام بذلك دبلوماسيًا؟ في الحالة الأخيرة، وحتى يتبيّن خلاف ذلك، تضع تركيا نفسها في موقفٍ حرجٍ أمام الفصائل التي تأخذ أوامرها منها وتعتمد عليها (الجبهة الوطنية للتحرير)، وقد تركتها تواجه مصيرها، مع أنّها كانت قادرة على حمايتها، أو أنها لم تحاول ذلك على الأقل.
ثمة احتمال آخر هو أن تكون تركيا قد فُوجئت بما حصل، في غمرة استعدادها لاجتياح شرق الفرات والنيل من عدوها الاستراتيجي حزب الـ PYD، في سياق التحضير لملء الفراغ الناجم عن الانسحاب الأميركي. في هذه الحالة، وهي الأكثر ترجيحًا، تكون “هيئة تحرير الشام” قد وجهت ضربتها الخاطفة في الوقت الملائم، مستغلّة حشد تركيا لعدد من الفصائل السورية المدعومة من قبلها بعيدًا عن إدلب.
مع ذلك، من الصعب قبول الواقع الجديد الذي فرضته “هيئة تحرير الشام” في إدلب، حتى لو حاولت إيهام العالم، مرةً أخرى، أنها تغيّرت، وذلك من خلال بعض الإجراءات الشكلية، التي قد يكون منها إبعاد بعض القيادات الأجنبية، وتوسيع صلاحيات حكومة الإنقاذ لجهة إضفاء طابع أكثر مدنيَّة عليها، وزيادة صلاحياتها المتعلقة بالقرارات العسكرية من خلال إشراك بعض الفصائل المناوئة فيها، الأمر الذي عبّر عنه زعيم الهيئة، أبو محمد الجولاني، عند ظهوره في برنامج “التوعية والإرشاد” الذي تبثه وكالة “أمجاد” التابعة للهيئة، 14 كانون الثاني/ يناير 2019، والذي دعا إلى تشكيل جسم عسكري واضح وغرفة عمليات واحدة، وأن تكون المؤسسات في المناطق “المحررة” تحت الإدارة المدنية. بهذا الصّدد، نذكّر بأنّ مختلف الأشكال التي اتّخذتها جبهة (النصرة)، وهي النموذج الأولي لـ “هيئة تحرير الشام”، كافتراقها عن (داعش) وانفكاكها عن تنظيم القاعدة، لم تغيِّر شيئًا في ما يتعلق بتصنيفها كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقًا من قبل الأمم المتحدة، وأخيرًا من قبل تركيا في شهر آب/ أغسطس من العام 2018. والأهم من ذلك، أنها لم تغيّر مطامحها في إقامة إمارة إسلامية في إدلب.
من جهة ثانية، يحاول الجولاني مغازلة تركيا بالقول إنها، أي الهيئة، مع “التوجُّه لتحرير منطقة شرق الفرات” لأن فيها عرب سنة، بحسب تعبيره، في مخالفةٍ صريحة لفتوى شرعيّ الهيئة، أبو اليقظان المصري، في بداية الاقتتال الأخير غرب حلب، والذي حرّم فيها القتال إلى جانب تركيا شرق الفرات. في غزله هذا، يكون الجولاني قد استغلّ الحجة التي يتم تداولها من قبل المسؤولين الأتراك حول وجود عرب يحكمهم “حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي” في منطقة شرق الفرات، كمبرّر للسيطرة التركية عليها.
خلاصة الأمر هي أنّ اتفاق “سوتشي” الذي تعهدت بموجبه تركيا بالتخلّص من “هيئة تحرير الشام” قد انتُهك، وعوضًا عن الاعتماد على الفصائل الحليفة لها في القضاء على الهيئة، حدث العكس تمامًا، وأضحى عجزها عن استكمال تطبيق الاتفاق حقيقة، فهل تعود تركيا للتركيز على إدلب وتؤجل موضوع شرق الفرات إلى حين استكمال التموضع الأميركي الذي بدأ عمليًا يوم الجمعة في 11 كانون الأول/ يناير 2019؟ مثل هذا التساؤل، إن تحوّل إلى واقع، سيكون في مصلحة سيطرة النظام على إدلب أو جلّها، في حين قد تحصل تركيا على مكافأتها من خلال تقاسم التركة الأميركية شرق الفرات مع الحليف الروسي في آستانة، وتضمن السيطرة على مساحةٍ أخرى من الشريط الحدودي مع سورية.
سادسًا: سيناريوهات محتملة
تركيا ليست مطلقة الحرية في تفضيل تركيز اهتمامها على إدلب أو شرق الفرات، وقد أصبحت بين فكي كماشة، الضغط الروسي في غرب سورية والصدّ الأميركي في شرقها، ولا بدّ لها من اختيار التعامل مع “أهون الشرّين”. وبسبب العقبات التي تقف في وجه الهجوم التركي شرق الفرات، يمكن أن يتحوّل الجهد التركي في هذه المرحلة نحو منطقة إدلب، وتبعًا للخطوات التي ستقوم، أو تساهم، بها تركيا، ردًا على سيطرة “هيئة تحرير الشام” على هذه المنطقة، يمكن توقّع حدوث السيناريوهات التالية:
- عملية عسكرية تركية واسعة بمساعدة باقي الفصائل الموالية التي تتجمّع في منطقتي “غصن الزيتون” و”درع الفرات”، بالتوازي مع الجهد الدبلوماسي الذي يهدف إلى الضغط على الهيئة من أجل حلّ نفسها، أو دفعها للانقسام إلى مجموعتين؛ معتدلة تقبل بالانضمام إلى الفصائل المدعومة من تركيا، ومتطرفة تضم العناصر الأجنبية في الهيئة على نحوٍ خاص. في هذه الحالة، من المرجّح أن تستمر المجموعة الثانية بالقتال حتى النهاية، بالتحالف مع الحزب الإسلامي التركستاني وتنظيم “حراس الدين”، كما يحصل الآن بالنسبة إلى فلول (داعش) من العناصر الأجنبية في الريف الجنوبي الشرقي لمدينة دير الزور.
- عملية عسكرية تركية انتقائية بمشاركة محدودة من الفصائل الموالية، وتساهم فيها روسيا بالقصف الجوي. يبدو هذا الاحتمال أكثر ترجيحًا في ضوء حديث وزير الخارجية التركي عن إمكانية القيام بعملية عسكرية مشتركة مع روسيا ضد “”هيئة تحرير الشام”.
- عملية عسكرية شاملة تشترك فيها جميع الأطراف المناهضة للهيئة، بما في ذلك الميليشيات الإيرانية وجيش النظام؛ وهو احتمال ضئيل لصعوبة موافقة تركيا من جهة، واحتمال تمرّد الفصائل الموالية لها وتحوُّل بعضها إلى القتال إلى جانب الهيئة من جهةٍ أخرى، علاوةً على التسبّب بخسائر فادحة في صفوف المدنيين.
- قصف جوي تركي – روسي مشترك مع القيام بعمليات محدّدة على الأرض؛ تبدو فرص النجاح محدودة في هذه العملية التي قد تأخذ وقتًا طويلًا.
- عدم القيام بأي عمل عسكري، والتفاوض مع الهيئة لتلزيمها المعابر والطرق الدولية في هذه المرحلة، بالاتفاق مع الطرف الروسي.
- الاتفاق مع روسيا على تسليم الجزء الجنوبي من محافظة إدلب إلى النظام مقابل الاحتفاظ بالسيطرة على جزئها الشمالي، كجزء من المنطقة الآمنة التي جرى الحديث عنها مؤخرًا، ويُترك لتركيا أمر التعامل مع “هيئة تحرير الشام” كما تشاء.
- بروز خلاف روسي – تركي يحول دون التعاون بين البلدين، تعقبه عملية عسكرية واسعة في إدلب من قبل النظام وحلفائه، وبتغطية جوية روسية. سيلاقي هذا الاحتمال معارضةً تركية – دولية واسعة، مثلما حدث قبل توقيع اتفاق “سوتشي”، ما يقلّل من فرص نجاحه.
في جميع الحالات، وفي أي معركة كبيرة ستُخاض في إدلب، فإن الهاجس التركي المتعلق باحتمال حدوث موجة نزوح جديدة قد تصل إلى داخل الأراضي التركية سيعود إلى الواجهة. كما أن بلوغ مثل هذه الموجة دول الاتحاد الأوروبي سيزيد من تعقيد العلاقات الأوروبية – التركية المعقدة أصلًا، وهذا ما لا ترغب فيه تركيا ودول الاتحاد.
سابعًا: خاتمة
تستمر رمال المصالح الدولية المتحركة في سورية بابتلاع جميع الحلول الممكنة للمسألة السورية، وتتركّز الصراعات الدولية الآن في الشمال السوري، وقد غطّى الحديث عن المنطقة الآمنة مؤخرًا، ولو إلى حين، على مصير منطقة التصعيد الأخيرة في محافظة إدلب وجوارها. وفي الوقت الذي بدأ تنظيم (داعش) الإرهابي يلفظ أنفاسه الأخيرة، جاء قرار الانسحاب الأميركي من شمال شرق سورية وسيطرة “هيئة تحرير الشام” على إدلب ليخلطا الأوراق من جديد.
مع ذلك، لا يبدو أنّ تركيا قادرة على الإفلات من مواجهة استحقاق ضبط الوضع في إدلب، إلا في ما يتعلق بتوقيت العملية العسكرية المنتظرة وطبيعة خطوات التنسيق المتّخذة مع روسيا، فلا بدّ من إنهاء الأمر الواقع الذي فرضته الهيئة بطريقة ما، وهي المهمة الملقاة على عاتق تركيا أساسًا بحكم وجودها في إدلب بتخويل من مؤتمرات آستانة، ولا سيما أن الأمل يتضاءل بإحداث اختراقٍ مهمّ في علاقتها مع الولايات المتحدة.
مهما يكن، يُعدُّ توحيد الفصائل في إدلب والتخلّص من الجهاديين، إن حصل، خطوة إلى الأمام على طريق الحلّ السياسي النهائي، والذي سيعتمد الشق الأمني – العسكري منه على استيعاب الكثير من المسلحين في الجيش والأمن الوطنيين لسورية المستقبل.