المحتويات

أولًا: مقدمة

ثانيًا: أهم محطات العلاقات الأميركية–الصينية منذ سبعينيات القرن الماضي

ثالثًا: موقع آسيا في استراتيجية الأمن القومي الأميركي والصيني

رابعًا: عناصر قوة أميركا والصين

خامسًا: مخاوف متبادلة بين أميركا والصين

سادسًا: ميادين التنافس والتعاون

سابعًا: تجليات العلاقات الأميركية–الصينية في الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية

ثامنًا: خاتمة

 

أولًا: مقدمة

سؤال العلاقات الأميركية–الصينية هو سؤال المستقبل المنظور، لأن القوة العالمية العظمى والقوة العالمية الكبرى تتعاونان وتتنافسان في آن واحد، خاصة حول ما إذا كانت الصين ستستمر في التعايش مع الوجود العسكري الأميركي في شرق آسيا، أم أنها ستبذل جهدًا للحد من النفوذ الأميركي في حديقتها الخلفية؟

تُراوح العلاقات بين الدولتين بين الشد والجذب، وكلتاهما لا تريد أن تصل العلاقات بينهما إلى طريق مسدود، ولكنّ أميركا تعمل من أجل تأطيرها ضمن استراتيجيتها، التي تقوم على محاولة الحد من التمدّد الصيني في آسيا والعالم.

ثانيًا: أهم محطات العلاقات الأميركية–الصينية منذ سبعينيات القرن الماضي

مرت العلاقات الأميركية-الصينية، منذ سبعينيات القرن الماضي، بعدة مراحل من المدِّ والجزر؛ فمنذ أن أدركت الولايات المتحدة الأميركية عدم جدوى الاستمرار في تجاهل جمهورية الصين الشعبية والاعتراف بجمهورية الصين الوطنية، قام الرئيس الأسبق نيكسون بزيارة إلى الصين الشعبية في عام 1972، حيث جرى الاتفاق على تبادل العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، واحتلال الصين الشعبية للمقعد الدائم في مجلس الأمن الدولي بدلًا من الصين الوطنية “تايوان”.

وعرفت العلاقات تحسنًا ملحوظًا، في أوائل عام 1979، حيث حوّل الرئيس جيمي كارتر الاعتراف الدبلوماسي من “تايوان” إلى “بكين”، واعترف بـ “الصين الواحدة”. كما اتجه الرئيس كلينتون، في نهاية التسعينيات، إلى بناء “شراكة استراتيجية” مع الصين في ولايته الأولى، ولكن سرعان ما تراجعت العلاقات، في ولايته الثانية، مع اتهام الصين بـ “التجسس العسكري”، ومحاولته تعطيل انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، إضافة إلى توتر العلاقات على خلفية العلاقة الأميركية مع “تايوان”.

وفي عهد الرئيس أوباما، في زيارته الأولى في تشرين الثاني/ نوفمبر 2009، اتجهت العلاقات نحو الشراكة، حيث ذكر البيان المشترك “المصالح الأساسية” للبلدين، ما طمأن الصين على مطالبها السيادية. ولكن اكتنف العلاقات الغموض، خاصة بعد سياسة أوباما “التحول نحو آسيا”. إضافة إلى تخوّف كلا الدولتين من انقلاب موازين القوى لمصلحة الآخر، وكذلك اختلاف نظامي الحكم في البلدين.

وفي السنوات الأخيرة بدأت مراكز القرار الأميركي تنظر إلى الصين بأنها “المنافس الاستراتيجي”، الذي يستخدم وسائل مختلفة لتعزيز نفوذه وخدمة مصالحه. وظهر ذلك التوصيف واضحًا مع مجيء الرئيس ترامب، الذي كانت الصين المحطة الرئيسة في زيارته الآسيوية، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، لما حملته من ملفات: التجارة وتسهيل الوصول إلى الأسواق الصينية، والنزاع في بحر الصين الجنوبي، والتهديد النووي من كوريا الشمالية، والوضع في “تايوان”.

كان ترامب، خلال حملته الانتخابية، قد وعد بتقليص العجز التجاري الأميركي مع الصين، وبدأ بتنفيذ وعده، في 22 آذار/ مارس 2018، حيث وقّع مذكرة لفرض رسوم جمركية على صادرات صينية إلى أميركا تصل قيمتها إلى 200 مليار دولار، وردت الصين بفرض رسوم على الصادرات الأميركية قيمتها 100 مليار دولار. كما طالب الصين بتقليص الفائض التجاري بما لا يقل عن 100 مليار دولار، علمًا أن هذا الفائض بلغ 375.2 مليار دولار في عام 2017 لمصلحة الصين. ولكن في أثناء لقاء الرئيسين الأميركي والصيني في مؤتمر “مجموعة العشرين”، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، اتفقا على هدنة موقّتة لمدة ثلاثة أشهر تتخللها مفاوضات تجارية. وبالفعل عقد الطرفان محادثات، في 7 كانون الثاني/ يناير 2019، أدت إلى “تبريد” الصراع التجاري.

ثالثًا: موقع آسيا في استراتيجية الأمن القومي الأميركي والصيني

بقي النظام الإقليمي الآسيوي مبنيًا، لسنوات عديدة، على القبول الصيني بقوة أميركا المتفوقة. فعندما التقى الرئيس الأميركي نيكسون مع الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، في عام 1972، كان الاقتصاد الصيني يقدر بأقل من خمسة في المئة من حجم الاقتصاد الأميركي. ولكن، منذ بداية الألفية الثالثة، فإن كل تقارير الأمن القومي الأميركي ترى أن الصين في مقدمة التحديات الاستراتيجية، فهي بنموها وصعودها اقتصاديًا وعسكريًا وتكنولوجيًا، وبتمدّدها واتساع نفوذها جغرافيًا، تتحول -تدريجيًا- إلى قوة دولية معتبرة، ما يقلق مراكز القوة الأميركية من احتمال تقويض النظام الدولي الأحادي القطبية منذ نهاية الحرب الباردة.

لقد أعلنت استراتيجية الأمن القومي الأميركي لعام 2015 أن نصف معدلات النمو، في السنوات الخمس المقبلة، ستأتي من آسيا. مع تركيزها على الصين، بوصفها أحد أهم مراكز هذا النمو. وتواكب هذا الاعتبار الأميركي مع “محاصرة الصين” بمجموعة علاقات أمنية مع العديد من دول شرق آسيا والباسيفيكي (الفليبين، فيتنام، أندونيسيا، ماليزيا، اليابان، الهند، أستراليا).

كذلك، أشرفت وزارة الدفاع الأميركية على دراستين في عام 2017: تركز الأولى على رصد جهد الصين لمد نفوذها في الدائرة الأورو–آسيوية، من خلال مشروعها “طريق واحد، حزام واحد”، الذي يغطي 64 دولة باستثمارات تزيد على تريليون دولار، بما ينطوي عليه من إنشاء البنية الأساسية للنفوذ الصيني في العالم. وفي الدراسة الثانية جرى رصد سعي الصين لامتلاك التكنولوجيا المتقدمة، إذ أقامت 50 مشروعًا علميًا مشتركًا مع بلدان “الطريق والحزام”، وجذب أكثر من 500 عالم وخبير أجنبي خلال خمس سنوات، ما أدى -بحسب الدراسة- إلى أن الصين أصبحت تنافس أميركا في عدد براءات الاختراع.

في المقابل، تقوم استراتيجية الأمن القومي الصيني على السعي -بداية- لهيمنة إقليمية في آسيا، أو على الأقل خلق علاقات متناغمة مع الجيران الكبار؛ فمنذ عام 2003 أُطلقت مبادرة “دبلوماسية المحيط الإقليمي” لضمان تفوّق الصين في جوارها الآسيوي، خاصة بعدما أطلق الرئيس أوباما استراتيجية “الانعطاف نحو آسيا”، التي عدّتها الصين محاولة لاحتوائها.

رابعًا: عناصر قوة أميركا والصين

يعود التغيير في ميزان القوة، بين أميركا والصين، إلى تعاظم قوة الصين وليس إلى انحدار أميركا، فما زالت الولايات المتحدة الأميركية هي القوة الأعظم -اقتصاديًا وعسكريًا- وما زالت هيمنتها السياسية واضحة، ولكنها تجد نفسها أمام تحديات عديدة للحفاظ على هذا التفوق. فعلى الرغم مما يُعتقد عن “أفول” أميركا، فإنها تبقى قوة اقتصادية وعسكرية عظمى، حيث يبلغ ناتجها القومي الإجمالي 14 تريليون دولار سنويًا، ويصل نصيب الفرد فيها من الدخل القومي الإجمالي إلى 41 ألف دولار.

أما بالنسبة إلى الصين فلم يكن إجمالي الناتج المحلي، في عام 1997، يتجاوز 11 في المئة من نظيره الأميركي، وفي عام 2018 وصل إلى 68 في المئة من الأميركي. لقد كانت الصين تمضي ببطء ولكن بثقة في بناء نهضتها الحديثة، في تجربة فريدة تقوم على التزاوج بين نظام “شيوعي” تمسكت به، ونظام رأسمالي اقتضى فتحها المجال للاستثمارات العالمية (نقلت المئات من الشركات اليابانية والأميركية والأوروبية مصانعها إلى الصين)، مستفيدة من الأيدي العاملة الرخيصة والمؤهلة، ومن جهدها لنقل أحدث التكنولوجيات العالمية، ومن جاليات صينية فتحت لها أبواب العديد من الدول الآسيوية، ومن تنظيم محكم لإمكاناتها البشرية والمادية من أجل تنمية مستدامة بمعدلات مرتفعة، وعبر المزاوجة بين نظام شيوعي مركزي سياسيًا، ونظام رأسمالي حر أو شبه حر اقتصاديًا.

ومن الناحية العسكرية، تخصص الصين ميزانية مهمة لتطوير إمكاناتها، ما يجعلها تتموضع في المرتبة الرابعة عالميًا. فهي تمتلك أكبر جيش في العالم يقدر بنحو مليونين ونصف المليون عسكري مدرب، وكانت قد دخلت النادي النووي منذ سنة 1964. ومنذ عام 2013، حين تولى الرئيس شي جين بينغ السلطة، طالبت بجزر في بحر الصين الشرقي والجنوبي.

صاغت الصين، بوصفها قوة عالمية صاعدة، نموذجًا عالميًا للقوة يختلف عن النموذج الأميركي، ساعية إلى تحويل النظام الدولي الراهن، الأحادي القطبية، إلى نظام متعدِّد القطبية. وليس أمام الولايات المتحدة الأميركية من خيارات سوى أن تقاوم التحدي الصيني وتحاول المحافظة على الوضع القائم في آسيا، أو أن تتراجع عن دورها المهيمن في آسيا لمصلحة الهيمنة الصينية، أو تبحث عن حل وسط يسمح للصين بدور أكبر، لكن مع احتفاظها بوجودها القوي أيضًا.

وعلى الرغم من التوصيف سابق الذكر، فإن الولايات المتحدة الأميركية سوف تظل، في الأمد المنظور، الدولة القائدة اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا في العالم، أما الصين فسوف تواجه تحديات عديدة: ديموغرافية، بيئية، نظام الحكم الاستبدادي.

خامسًا: مخاوف متبادلة بين أميركا والصين

على الرغم من تداخل اقتصاد البلدين بشكل كبير، فإن تنامي قوة الصين يظهر المخاوف الأميركية، إضافة إلى إثارتها إشكالات عديدة حول علاقتهما في المستقبل. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي ظهر تيار مؤثر داخل مراكز التفكير الأميركية، ربط بين صعود الصين وتحولها إلى مصدر تهديد للقيادة الأميركية للنظام الدولي. وأنتج هذا التيار استشارات عديدة للإدارة الأميركية عُرفت بـ “نظرية التهديد الصيني”، نجحت في التأثير خلال العقدين الماضيين.

استنادًا إلى هذه النظرية، فإن الصين باتت تهدِّد المصالح الأميركية، في آسيا خاصة والعالم عمومًا، بفعل تزايد حجم القدرات الاقتصادية والعسكرية النسبية للصين، وتركّز النقاش الأميركي حول الدور الصيني البارز في آسيا، ووصل التخوّف إلى حد تصوّر أن الصين تسعى لبلورة استراتيجية على نمط “مبدأ مونرو” الأميركي، بهدف دفع الولايات المتحدة بعيدًا عن سواحلها، خاصة إزاء النشاط العسكري الصيني في بحر الصين الشرقي والجنوبي. إضافة إلى سعيها الدائم لضم “تايوان” إليها، على الرغم من وجود المظلة الحمائية الأميركية لها.

لقد أوضحت تطلعات إدارة الرئيس ترامب للدفاع الوطني والأمن القومي أن إدارته متشائمة بشأن علاقتها المستقبلية مع الصين، وأنها تخشى المنافسة الصينية معها على الزعامة العالمية.

من المؤكد أن قادة الصين يمعنون النظر في الاستراتيجية الأميركية تجاه الصين، ويبدون تخوفهم من السعي الأميركي لإضعاف وتيرة الصعود الصيني، بل الخشية من الإعداد لصراع عسكري. ففي الوقت الذي يتجه فيه الاقتصاد الصيني نحو تجاوز الاقتصاد الأميركي، من ناحية الحجم وليس التطور، تتخوف الصين من الغموض الذي يكتنف العلاقات مع أميركا. ترى بعض مراكز التفكير الصينية أن الولايات المتحدة الأميركية قوة عظمى “جريحة”، مصممة على إحباط أي متحدٍ لها، بما ينطوي عليه ذلك من كبح القوة الصينية المتنامية، من خلال الحشد العسكري في بحر الصين الجنوبي، ومن خلال ربطها بقيود ومعاهدات تكبل حركتها.

في الواقع لا يظهر التنين الصيني أنيابه إلا إذا تعلق الأمر بـ “تايوان” أو مضائق وجزر بحر الصين، وربما في محيط كوريا والتسلح الياباني. وفيما عدا ذلك، تتجه السياسة الصينية إلى الوفاق مع أميركا. ومن الجهة الأخرى يبدو أن أميركا تتجه أيضًا نحو “احتواء المنافسة”.

سادسًا: ميادين التنافس والتعاون

تتأرجح العلاقات الأميركية–الصينية بين التنافس والتعاون، ولكن التدافع بينهما يختلف عما كان موجودًا بين المعسكرين الشرقي والغربي، خلال الحرب الباردة، من صراع أيديولوجي. فعلى الرغم من وجود ميادين عديدة للتنافس، فإن الصراع على البحار يُعدّ الأهم، إذ تكرّس الصين ميزانية عسكرية ضخمة لحماية حدودها البحرية. فمنذ سنة 1949 ترى الصين أن ملكية الجزر الواقعة في وسط البحر، جنوبًا وشرقًا، تعود إليها، كما أن الممارّ المائية، وسط بحر الصين الجنوبي، لها تأثيرات على أكثر من 40 في المئة من الحركة التجارية في العالم. ومن هنا تحرص الصين على السيطرة على هذه الممارّ، في سياق صراعها التجاري مع أميركا، وفي سياق التنافس التجاري الذي تتعرض له المنتجات الصينية. وفي جميع الأحوال، كان الهدف الصيني ترسيخ وضعها كقوة في المنطقة، والاعتراف بترتيبات إقليمية ملائمة لمطالبها.

تطورت علاقة أميركيا مع “تايوان”، فقد وقّع الرئيس ترامب، في 16 آذار/ مارس 2018، قانون السفر إلى “تايوان”، الذي يشجع الزيارات الرسمية المتبادلة. وقد اعتبرت الصين القانون انتهاكًا لسيادة الصين الواحدة، المتفق عليها مع الإدارات الأميركية السابقة. وما زاد الطين بلة موافقة إدارة ترامب على صفقة بيع “تايوان” أسلحة متطورة، تتضمن قطع غيار لطائرات حربية من طراز (F16). بل إن الولايات المتحدة أرسلت، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، سفينتين حربيتين عبر مضيق “تايوان”. كما أصدر الرئيس ترامب، في 1 كانون الثاني/ يناير 2019، قانون “مبادرة إعادة الطمأنة لآسيا”، الذي يؤكد على الالتزام الأميركي تجاه أمن حلفائها الآسيويين، بمن فيهم “تايوان”، ومن المؤكد أن هذه الخطوات الأميركية ستزيد توتر العلاقات الأميركية–الصينية.

يبدو أن المسألة الرئيسة هي ما إذا كانت الصين ستستمر في تحمّل الوجود العسكري الأميركي الواسع في شرق آسيا، أو ستقوم بجهد لإضعاف علاقات التحالف الأميركية مع اليابان وكوريا الجنوبية، ومن ثمّ إرغام أميركا على عدم التدخل العسكري في الشؤون الآسيوية. وربما يكون التأثير الصيني على كوريا الشمالية أحد مداخلها إلى تحقيق هدفها، من خلال دورها البنّاء في عدم انتشار الأسلحة النووية في شبه الجزيرة الكورية.

في المقابل، تشكو الشركات الأميركية، التي تستثمر في الصين، من سرقة حقوق الملكية الفكرية، وغموض اللوائح التنظيمية، والفساد، والمزايا غير العادلة التي يتمتع بها المنافسون المحليون. ومن الواضح أن المسألة لا تتعلق -أساسًا- بالتجارة والاستثمارات، وإنما بالسعي الأميركي لاحتواء الصين من خلال: عرض القوة في بحر الصين الجنوبي، ومحاولة عرقلة المركز الصيني في سلسلة الإمداد التجاري العالمي، وتشجيع الشركات المتعددة الجنسيات على تقليص أعمالها ومشاريعها في الصين. وعلى الرغم من المخاوف الأميركية من صعود الصين وما يحمله من تنافس مع النفوذ الأميركي في آسيا خاصة، يبدو أن الإدارة الأميركية تدرك حاجتها إلى الصين لكبح جماح كوريا الشمالية، نظرًا إلى أن الأخيرة تعتمد بنسبة 90 في المئة من اقتصادها على الصين.

أما ميادين التعاون الأميركي–الصيني فهي متعددة، إذ إن التشابك الواسع للاقتصادين عبر التجارة والاستثمار والإقراض، يعمل كابحًا للنزاع بين البلدين. بل يمكن القول إن ثمة علاقة تكامل: التصميم أميركي، والتصنيع صيني، والاستهلاك أميركي وعالمي (يجد المستهلكون الأميركيون أنهم يتمتعون بوفرة كبيرة في ظل السلع الصينية ذات الثمن الزهيد)، والعائدات الصينية يعاد توظيف جزء كبير منها في أميركا، من خلال شراء “الديون الأميركية”. وهكذا، يمكن القول إنهما تعيشان “تبعية متبادلة” إلى حد ما، إذ تصدر الصين ما قيمته 21 في المئة من إجمالي صادراتها إلى السوق الأميركية، وتموّل الديون الأميركية ما يعادل 585 مليار دولار من السندات الأميركية (تقول بعض التقديرات إنها حاليًا 1.5 ترليون دولار)، كما يصل حجم الاستثمارات الصينية في أميركا إلى 1.3 تريليون دولار.

على الرغم من أن الدولتين منخرطتان في منافسة، فإنهما أنشأتا مجموعة آليات ثنائية لإدارة علاقاتهما المعقدة. إن التبادل التجاري بينهما أكبر كثيرًا من أن تجري التضحية به لأسباب سياسية (يصل حجم الواردات الأميركية إلى أكثر من نصف تريليون دولار، في حين تصدر للصين ما قيمته 135 مليار دولار). فعلى هامش “قمة العشرين”، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، التقى الرئيسان الأميركي والصيني، واتفقا على هدنة بشأن “الحرب التجارية” الناشئة بينهما، لمدة ثلاثة أشهر، ومن ثم مفاوضات لوضع حدٍّ لهذه الحرب. وبالفعل اختتمت المفاوضات التجارية بين وفدي البلدين في بكين يوم 9 كانون الثاني/ يناير 2019، حيث طالب المفاوضون الأميركيون نظراءهم الصينيين بإصلاحات هيكلية، تضمن الالتزام بتعهداتهم بعدم سرقة أسرار التكنولوجيا الأميركية، والعمل على التوازن النسبي في الميزان التجاري.

إن البلدين مستمران في التعاون بشأن مجموعة واسعة من القضايا، فالصين تضغط على كوريا الشمالية لاتخاذ مواقف معتدلة، وأميركا معنية بمصير المتطرفين “الأيغور” المسلمين الصينيين الموجودين في سورية. وعلى الرغم من التأييد الأميركي لـ “تايوان” إلا أنها لا تدعم الاستقلال كخيار يتخذه الناخبون في الجزيرة، كما تقبلت أميركا مساعي الصين للحصول على موارد الطاقة والمواد الخام، بل فتحت المجال للاستثمارات الصينية في هذا المجال.

على كل حال، فإن هذا الخليط من التنافس والتعاون هو ما يمكن توقعه من قوتين عُظميين، حيث لهما مصالح متباينة، ولكن لديهما أيضًا اعتماد متبادل كبير. ولكن يبدو أن التباعد بين القيم السياسية بينهما أسّس لحالة مضطربة باطنها تعاون وتكامل اقتصاديان، وظاهرها إدانة النظام الصيني القمعي إزاء حرية التعبير، واستمراره في إنكار حق تقرير المصير في التيبت، إضافة إلى انتقاد سياساتها الدولية، خاصة بالنسبة لإيران.

سابعًا: تجليات العلاقات الأميركية–الصينية في الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية

صاحب استمرار نمو الصين التنافس مع الولايات المتحدة الأميركية في عدة مجالات ومستويات، إذ عمدت إلى توسيع علاقاتها السياسية ونشاطها الاقتصادي مع العديد من دول الشرق الأوسط، بما فيه مبيعات الأسلحة إلى إيران والسعودية وغيرهما. كما تسعى لتوسيع وجودها البحري في المنطقة، ضمن إطار ما تسميه “استراتيجية دفاع البحار البعيدة”. ومن المؤكد أنها ليست في وارد منافسة أميركا عسكريًا في المنطقة، لكن هذا لا يمنع الاستنتاج أنها أصبحت لاعبًا دوليًا جديدًا في الشرق الأوسط. وكلما ازداد اعتماد الصين على نفط المنطقة، كلما ازداد حرصها على ألا تنفرد أميركا وحدها بالسيطرة على الثروة النفطية الخليجية.

ويقلق الإدارة الأميركية تعزيز العلاقة التجارية والتكنولوجية بين الصين و”إسرائيل”، وقد احتل هذا القلق مكانة رئيسة في المحادثات الأخيرة لمستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، في “إسرائيل”. إذ أبدى تحفظه، أثناء الزيارة في 6 كانون الثاني/ يناير 2019، على دخول التكنولوجيا الصينية إلى “إسرائيل”، تخوفًا من أن يكون لها تداعيات استخباراتية وعسكرية، وكانت أميركا قد اعترضت على صفقة إسرائيلية لبيع طائرات تجسس من طراز “فالكون” إلى الصين في عام 2000. كما عبر بولتون عن خشية أميركا من زيادة نفوذ الصين في ميناء حيفا، الذي يُبنى من قبل شركة صينية.

أما بالنسبة إلى أفريقيا، فمنذ بداية الألفية الثالثة حتى الآن أصبحت الصين أول شريك اقتصادي، ووصلت المبادلات التجارية إلى 190 مليار دولار في عام 2016، طبقًا لما أُعلن خلال المنتدى الصيني–الأفريقي للاستثمار في مدينة مراكش المغربية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017. وقد هاجمت الإدارة الأميركية سياسة الصين الأفريقية، أثناء زيارة وزير الخارجية السابق، ريكس تيلرسون، لبعض الدول الأفريقية في آذار/ مارس 2018، إذ جرى الحديث عن “القروض الصينية الوحشية” التي “تعرقل النمو في أفريقيا، ولا توفر فرص العمل، وتستخدم الإنتاج الزراعي الأفريقي لتغذية الصين”. كما كرّس، جون بولتون، جزءًا كبيرًا من حديثه في مركز “هيريتدج فاونديشن” الأميركي، في 18 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، لاتهام الصين باستخدام “الاتفاقيات الغامضة” و”الاستغلال الاستراتيجي للديون” لجعل الدول الأفريقية أسيرة لمطالب الصين، ورأى أن المبادرة الاقتصادية الصينية “حزام واحد.. طريق واحد” أداة لتعزيز الهيمنة الصينية العالمية. وذكر أن الصين تستغل نفوذها الاقتصادي للاستحواذ على الموانئ الأفريقية، وإنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي للتداخل مع القاعدة الأميركية القريبة منها.

كما برز الدور الصيني في الحديقة الخلفية لأميركا، بما يماثل حجم الاستثمارات في أفريقيا. بحيث برزت الصين في موقع الشريك التجاري الثاني، بعد الولايات المتحدة الأميركية، مع أميركا اللاتينية. إذ تتوالى القروض الصينية لدول القارة، من فنزويلا إلى البرازيل والأكوادور والأرجنتين، بهدف تشجيع الاستثمار، خاصة في مجال استكشاف النفط. وتراقب الإدارة الأميركية هذه التطورات، وتسعى لعرقلة المصالح الصينية في مجالها الحيوي.

ثامنًا: خاتمة

تتوقف طبيعة العلاقات المستقبلية المتوقعة بين الدولتين، إلى حدٍّ بعيد، على الكيفية التي يُدار فيها الصعود الصيني، بوصفه واقعًا. ومن المؤكد أنه ليس من مصلحة الصين أن تدخل في صراع عسكري أو اقتصادي مع الولايات المتحدة الأميركية، ومن الصعوبة أيضًا أن تتفوق الصين في مجال “القوة الناعمة”، لأن الإنتاج الثقافي والفني الأميركي، وكذلك جاذبية القيم الأميركية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، أقدر على التفوق، في مواجهة “البراغماتية الصينية” التي تحوّلها إلى آلة إنتاج ضخمة بلا جاذبية. ويبدو أن هناك خيارين أمام أميركا إزاء الصين، إما الاحتواء، بما يقتضيه من التعامل معها بوصفها خصمًا، أو الشراكة، بما تقتضيه من تفاعل اقتصادي وتسهيل اندماجها في المؤسسات الدولية المهمة.