المحتويات
ثالثًا: الأطراف المعنية بشكل مباشر بقرار الانسحاب
رابعًا: أطراف أخرى معنية بالقرار الأميركي
أولًا: مقدمة
كعادة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الارتجالية باتخاذ القرارات، أحدث قراره بالانسحاب الأميركي من سورية في 19 كانون الأول/ ديسمبر الفائت، حالة من الإرباك شملت الأطراف المنخرطة في الصراع الدائر في سورية كافة، حالة دفعت هذه الأطراف لإعادة حساباتها في أجواء من ضعف اليقين حول جدية الخطوة الأميركية ومداها، والخشية من ضياع ما كانت تبتغيه من أهداف وثمرات لم تستطع قطفها حتى الآن، ذلك أن الصراع في سورية وعليها بجميع تعقيداته، ما زال مفتوحًا وليس من طرف يستطيع الادعاء، بأنه فاز في هذا الصراع، أو أنه يستطيع فرض توجهاته وحدود نفوذه.
لعل أكثر الأسئلة حضورًا بعد هذا القرار، يتعلق بملء الفراغ الذي سيحدثه، ومن هو الطرف الأكثر حظوظًا لتحمّل أعباء هذه المهمة، على الرغم من أن كثيرًا من المعنيين والمتابعين، لا يساورهم القلق بأن فراغًا أمنيًا سوف يحصل، لأن أميركا قادرة على تغطيته سواء من خلال قواعدها العسكرية القريبة في أكثر من دولة، أومن خلال تقديم الدعم اللوجيستي لقوى محلية جرى ترتيبها بشكل مسبق، أو اعتمادًا على دخول قوى لدول أخرى لسد الفراغ الأمني في حال حصوله، حيث يجري الحديث عن قوات إماراتية ومصرية، قد يكون بعضها عبارة عن شركات أمنية، أحاديث نفاها بومبيو، لكن المرجح أن يكون لتركيًا أيضًا دور عسكري فاعل في ذلك.
لا شك أن هناك أسئلة أخرى يطرحها هذا القرار وتداعياته على الأطراف الخمسة التي ستتأثر فيه بشكل مباشر، إضافة إلى بعض الأطراف الأخرى التي ستتأثر بشكل غير مباشر، وهذه التداعيات تتوقف في جانب منها على تقييم كل طرف لهذا القرار والزاوية التي ينظر منها إليه، لكن الثابت أن جميع الأطراف قد صدمت بهذا القرار سواءً لجهة توقيته، أو لغياب التنسيق حوله مع أيِ من الأطراف المعنية، كما يستشف من ردّات الفعل المسجلة.
ثانيًا: حول القرار الأميركي
من الواضح أن الرئيس ترامب، لم يستشر أحدًا من أركان إدارته عند اتخاذه هذا القرار، مثل الكثير من القرارات التي اتخذها في السنتين الماضيتين من ولايته، وهذا النمط الذي يستهوي ترامب في طريقة ممارسته السلطة التي يخولها له الدستور، هو نمط خارج عن السياق الذي تسير عليه دولة مستقرة وذات مسؤوليات دولية كالولايات المتحدة الأميركية، لذلك تتالى الاستقالات في أركان إدارته بدرجة لم تسجل في تاريخ أي إدارة سابقة، وآخرها استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس، ولو أنها ليست مرتبطة حصريًا بالقرار الأخير، بل جاءت نتيجة تراكمات من الخلافات وصعوبة العمل بينه وبين الرئيس، كما استقال ميت ماكفورك مندوب الرئاسة الأميركية في التحالف الدولي لمحاربة (داعش)، الذي صرح في عقب استقالته “ليس هناك من طرف أعلن عن هزيمة داعش”، وذلك ردًا على الرئيس الذي برر قراره بالانسحاب بهزيمة (داعش)، ثم عاد في محاولة لقطع الطريق على من سيحملونه المسؤولية في حال عودة داعش بقوله من قاعدة عين الأسد أن (داعش) “بات من مسؤولية دول أخرى”، من دون أن يسمّي أيًا من هذه الدول، ولو أن التخمين يتجه نحو تركيا بالدرجة الأولى.
ليست أول مرة يعلن فيها ترامب عن نيته سحب القوات الأميركية من سورية، وكان يتراجع ويؤجل تحت ضغط أركان إدارته ومراكز صنع القرار، لكنه هذه المرة فاجأ الجميع بقراره بمن فيهم مسؤول الملف السوري في الخارجية الأميركية جيم جيفري، الذي كان قد أعاد قبل أيام من قرار الانسحاب التأكيد على الاستراتيجية الأميركية، التي ربطت انسحاب القوات الأميركية بتحقيق ثلاثة أهداف “أولها هزيمة (داعش) بشكل نهائي بحيث لا يستطيع معاودة الظهور ثانية، وثانيها انسحاب إيران والميليشيات التابعة لها من سورية بشكل نهائي، وثالثها تأمين انتقال سياسي وفقًا للقرار الأممي رقم 2254 لعام 2015″. فما هو الذي قصد إليه ترامب بقراره هذا؟ هل أراد فعلًا فتح باب المساومات لتسوية هذا الصراع، كما رجح الكثير من المحللين؟ هذا وارد، لكنه يبقى واحدًا من احتمالات أخرى أكثر ترجيحًا وأهميةً، ومنها قلب الطاولة في وجه جميع الأطراف المنخرطة في الصراع، ودفعها إلى تقديم التنازلات التي يريدها، أو دفعها إلى مواجهة عسكرية فيما بينها، أم هو تحضير لتحرك أوسع قد يتضمن عملًا عسكريًا واسعًا لتسوية جميع الصراعات المفتوحة والمترابطة في المنطقة؟
لكن، كما برر مجلس الأمن القومي سابقًا تأجيل الانسحاب وربطه بتحقيق الأهداف المحددة، ها هو ترامب وبعد الحملة الداخلية عليه وخاصة في مجلس الشيوخ حيث تلاقت مواقف الجمهوريين والديمقراطيين على إدانة الخطوة واعتبارها ضارة بالأمن القومي للولايات المتحدة ومصالحها، فكانت أولى نذر التلويح بإعادة تقييم الموقف أو تطمين الحلفاء بالخارج، أو تهدئة ردّات الفعل في الداخل، أن غرد ترامب بأنه “أبلغ الرئيس التركي أن الانسحاب سيكون بطيئًا ومنسّقًا مع تركيا”، ثم جاءت الخطوة الأهم وذات الدلالة، وهي أن ترامب لم يتمكن بعد من حسم الصراع مع مرتكزات الدولة العميقة، حيث أكد السيناتور ليندسي غراهام بعد اجتماعه مع الرئيس لمدة ساعتين على ثلاثة نقاط “1- القضاء الكامل على داعش 2- عدم السماح لإيران بملء الفراغ الذي سيحدثه الانسحاب الأميركي 3- حماية الحلفاء الأكراد”، بل ذهب غراهام إلى أبعد من ذلك حيث أفاد بأن ترامب قال له “أشياء لم يكن يعرفها، جعلته يشعر بشكل أفضل لما تتجه إليه الأمور في سورية”، فما هو الشيء الذي قاله ترامب، وأشاع كل هذا الاطمئنان في نفس غراهام حول اتجاه الأمور في سورية؟ وهو الذي كان يقود حملة مواجهة ترامب وقراراته، قد تكون هناك تفاهمات مع بعض أطراف الصراع لم تظهر للعلن بعد على إخراج إيران من سورية، أو أن إيران قطعت وعودًا بالانسحاب، ذلك أنه من شبه المستحيل أن يتم التوصل إلى تسويات في سورية مع هذا العدد من الدول المتدخلة والتي لا تتطابق في أهدافها، ولا بد من أن تخرج أغلب هذه الأطراف بالتدريج من معادلات الصراع، حتى يمكن عقد صفقة مع طرف أو اثنين.
ثالثًا: الأطراف المعنية بشكل مباشر بقرار الانسحاب
هناك خمسة أطراف معنية مباشرة بقرار ترامب وتداعياته حتى إن اختلفت درجة الصدمة التي أحدثها من طرف إلى آخر، وعلى الرغم من أنه ليس بين هذه الأطراف من كان يستعجل الانسحاب الأميركي بغض النظر عما يطلقه من تصريحات إعلامية، ذلك أن الوجود الأميركي، وإن كان عديد قواته بسيطًا، يشكل عنصر ضبط لإيقاع الصراع، ويعطي الفسحة الزمنية لكل طرف لترتيب أوراقه، ويجنبه مواجهة عسكرية قد يدفع إليها أو تفرض عليه، وهذه الأطراف هي:
1 – تركيا:
ما برح المسؤولون الأتراك يهدِّدون باجتياح شرق الفرات منذ توقيع اتفاق سوتشي بين الرئيسين التركي والروسي، الذي ثبت وقف إطلاق النار في إدلب في 17 أيلول/ سبتمبر 2018، وما زال مفعوله ساريًا على الرغم من الخروقات المستمرة التي ترتكبها قوات النظام أو الميليشيات الإيرانية على طول خطوط التماس مع قوى المعارضة، (الفصائل المتطرفة خرقت وقف إطلاق النار أكثر من مرة في ريف اللاذقية على الأقل)، لكن القرار المفاجئ بالانسحاب، أربك تركيا وخططها إلى الدرجة التي دفعت أردوغان لإعلان قراره بالتريث في تنفيذها، وكأن ما تداولته وسائل الإعلام عما قاله ترامب لأردوغان بأن “شرق الفرات كله لك، وأن كل شيء انتهى”، تحمل في طياتها -إن صحّت- احتمالين متناقضين يستدعيان التريث الذي قرره الرئيس التركي، أولهما أن يكون الرئيس الأميركي قد أعطى تركيا غطاءً لتملأ الفراغ الذي ستخلفه القوات المنسحبة، وذلك لتخفيف التوتر الذي شاب العلاقات الأميركية التركية والعلاقة مع حلفاء تركيا الأطلسيين، وكانت آخر تغريدة له قبيل زيارة بولتون والوفد المرافق له إلى أنقرة المقررة بـ 6 كانون الثاني/ يناير 2019، ويضم رئيس الأركان المشتركة للقوات الأميركية ومسؤول الملف السوري في الخارجية الأميركية، بقوله: “زودني أردوغان بمعلومات وافية عن إمكانية بلاده في القضاء على بقايا داعش، وهو قادر على ذلك، إضافة إلى أن تركيا جارة لسورية، وجنودنا عائدون إلى الديار”، كما يعزز هذا الاحتمال قرار ترامب بيع تركيا منظومة صواريخ باتريوت بديلًا عن صفقة S400، التي تتفاوض حولها تركيا مع الروس، إضافة إلى الإفراج عن صفقة طائرات F35، وهذا يتطلب تفاهمًا تركيًا روسيًا إيرانيًا، حتى لا ينهار اتفاق إدلب وتاليًا مسار أستانا الذي جمع الدول الثلاث منذ العام 2016. والاحتمال الثاني، وهو احتمال ضعيف، أن يكون ترامب قد عنى بكلامه أننا سننسحب، وإذا أردت الدخول شرق الفرات اعتمادًا على قواك الذاتية أو تفاهماتك مع الروس، فيمكنك فعل ذلك، وهذا نوع من التوريط تخشاه تركيا.
المهم أن كلا الاحتمالين يتطلب تريثًا ومفاوضات قد تكون قاسية مع الروس، الأمر الذي حاوله الوفد التركي الثلاثي الذي ضم وزيري الخارجية والدفاع ورئيس الاستخبارات، واجتمع الثلاثة مع نظرائهم الروس يوم 29 كانون الأول/ ديسمبر 2018، ولا يبدو أن تفاهمًا ما قد تم التوصل إليه بهذا الخصوص، بل يبدو أن الموضوع قد أُجِّل إلى اللقاء المتوقع، لكن غير المؤكد، بين الرئيسين التركي والروسي في النصف الأول من شهر كانون الثاني/ يناير 2019، هذا ما أوضحه المؤتمر الصحفي لوزيري الخارجية، الذي أكدا فيه بكلام عمومي على توافقهما على “التنسيق بينهما على الأرض” واستمرارهما في محاربة الإرهاب.
في جميع الأحوال، يبقى هاجس تركيا المعلن هو قوات (قسد) وعمادها قوات (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردية التي تُتبعها تركيا بحزب العمال الكردستاني وتُصنّفه تنظيمًا إرهابيًا، ومن ثمّ إذا لم يكن هناك اتفاق أميركي تركي، فإن تركيا سوف تفاوض الروس والإيرانيين على شريط حدودي يتحدّد عمقه بعمق الوجود البشري الكردي، الذي يراوح بشكل متقطع بعمق ما بين 20 و40 كم، وتترك الباقي للنظام، ولا يعتقد أن هناك خلافًا تركيًا إيرانيًا، وربما روسيًا، حول منع الأكراد من إقامة صيغة ما في شمال شرق سورية.
من الواضح أن تركيا تفاوض تحت ضغط التهديد بالحرب، لذلك تتواصل حشودها على طول الحدود السورية التركية من منبج وحتى القامشلي، لكن مع ذلك فإن أيًا من قواتها أو القوات المتحالفة معها لم تدخل منبج بعد، ليس لأن هناك قوات رمزية تتبع التحالف ما زالت موجودة، وليس لأن (قوات سورية الديمقراطية – قسد) أعلنت انسحابها منها، وسلّمت بعض حواجزها إلى جيش النظام، بل لأن تفاهمًا روسيًا تركيًا لم ينجز بعد، آخذين في الحسبان أن روسيا غير متحمسة لفض تفاهماتها مع تركيا، ولم تيأس من محاولتها تثمير مسار أستانا حتى الآن، وبالمقابل فإن الطرف الإيراني، يدرك أن تركيا ستبقى رئة احتياطية، يتنفس منها عندما يشتد عليه حبل العقوبات، وبناءً على ذلك فإنه من الصعب التكهن باحتمال مواجهات بين هذه الأطراف الثلاثة أو انهيار تفاهماتها في هذه المرحلة، علمًا بأن اتفاق ادلب لم يطبق بكامل بنوده، فالطرق الدولية إلى حلب مازالت مغلقة، وجبهة النصرة وشقيقاتها مازالت موجودة، وهذا قد يكون مدخلًا لروسيا تحاول من خلاله التوصل إلى تفاهمات جديدة مع تركيا، لأنها أقل الخيارات سوءًا.
2 – إيران
باتت إيران تدرك جديَا أن وجودها في سورية سيكون المستهدف الأول من أي تحرك أميركي، بخاصة بعد إعلان ترامب من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الأخيرة، بأنه سوف يسعى لأن يشكل تحالفًا أمنيًا إقليميًا لمواجهة طهران وسياساتها في المنطقة، وهي تعاملت بحذر مع القرار الأميركي، وعززت مواقعها غرب الفرات استعدادًا لما قد يتركه الانسحاب من تداعيات تطالها، وليس أدل على قلقها ما بدر من ردّات فعل الميليشيات العراقية التي تتبعها بالعراق كـ (النجباء) أو (حزب الله) العراقي، وتهديدها باستهداف القوات الأميركية احتجاجًا على زيارة ترامب المفاجئة إلى قاعدة (عين الأسد) ليلة رأس السنة الجديدة، واعتبارها انتهاكًا للسيادة العراقية، لأن ترامب أكد منها أنه “لا توجد لدى الولايات المتحدة خطط للانسحاب من العراق”، وأضاف “أن العراق سيشكل قاعدة لنا، إذا أردنا القيام بشيء ما في سورية”، بل طالب البعض منهم بدفع من إيران الحكومة العراقية بإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق، الذي استدعته حكومة المالكي قي أيلول/ سبتمبر 2014 بعد انهيار الجيش العراقي في نينوى والأنبار أمام (داعش).
كان مستغربًا تصريح بوغدانوف، معاون وزير الخارجية الروسية، في مثل هذا التوقيت الذي أعقب قرار الانسحاب، وما الرسالة التي يحملها، ولمن موجهة، إلى إيران أم “إسرائيل”؟ حيث قال فيه: “الوجود الإيراني في سورية، لم يعد ضروريًا بعد أن تم استعادة السيادة”، في وقت كان يسود فيه الاعتقاد أن الوجود الأميركي في سورية يقوض مغامرة إيران في المنطقة، ويهدد وجودها وأذرعها في هذا البلد، ودون الإنصات إلى كلام “محور المقاومة”، الذي اعتبر قرار ترامب انتصارًا له، وأنه سيتمدد في المناطق التي سينسحب منها الأميركيين، فإن الوقائع تقول إن القوات الأميركية البالغ تعدادها نحو 2500 جندي سوف تنسحب إلى القواعد الأميركية في العراق.
3 – روسيا
حاولت روسيا أن تخفف من وقع الصدمة عبر التشكيك بجدية الجانب الأميركي بالانسحاب، فقد نُسب إلى بوتين قوله: “منذ سبعة عشر عامًا وهم يقولون إنهم سوف ينسحبون من أفغانستان، لكنهم ما زالوا موجودين هناك حتى الآن”، لكنها بالمقابل تتصرف بما يخفف من تداعيات الانسحاب، أو تريد الإيحاء بذلك، إذا كان القرار الأميركي جاء دون علم الروس أو التنسيق معهم؛ فقد نشرت روسيا قاعدة صواريخ S300 غرب دير الزور، كما أن الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا صرحت أن “المناطق التي ستنسحب منها القوات الأميركية يجب أن تعود إلى سيطرة السلطات السورية وفقًا للقانون الدولي”.
في الوقت ذاته تحاول روسيا التوسط بين قوات (قسد) والنظام بأن تسلم (قسد) المناطق التي تسيطر عليها إلى قوات النظام لسحب الذرائع من يد الجانب التركي الذي يهدد باجتياح شرق الفرات، لكن المسعى الروسي لم يحقق اختراقًا يذكر، لأن النظام يرفض الاعتراف بالإدارة الذاتية التي أنشأتها (قسد) في مناطق سيطرتها وربما أيضًا لا يريد أن يوضع بمواجهة عسكرية مع الجانب التركي دون تغطية روسية إيرانية غير متوافرة حاليًا بانتظار ما ستفضي إليه المفاوضات فيما بين شركاء أستانا.
بالمقابل، فإن التشدد الروسي مع الوفد التركي الذي زار موسكو نهاية العام، على ما بينته التصريحات الإعلامية للطرفين، يُبيّن حراجة الموقف الروسي الذي تواجه تفاهماته مع تركيا اختبارًا صعبًا، الصعوبة ذاتها التي قد تواجهها فيما لو اتجهت الأمور نحو تصعيد في المواجهة الإيرانية-الإسرائيلية على الأراضي السورية، إلا إذا كان بوتين ينوي فعليًا اختبار جدية التزام الطرف الأميركي أمن “إسرائيل”.
4 – “إسرائيل”
مثل بقية الأطراف المعنية بقرار الانسحاب الأميركي من سورية، التي قللت من أهمية التداعيات التي قد تترتب على هذا القرار، أبدت “إسرائيل” ردة الفعل ذاتها، وعلى الرغم من تأكيد وزير الخارجية الأميركية جورج بومبيو في تصريح له بتاريخ 2 كانون الثاني/ يناير الجاري أن الولايات المتحدة “ملتزمة بضمان أمن إسرائيل على الرغم من قرار الانسحاب”، فإن قادتها يدركون جيدًا حدود تأثير الخطوة على الواقع الميداني، أقله أن “إسرائيل” سوف تتحمل أعباء إضافية في حملتها على الوجود العسكري الإيراني، ومنعها تمركزه على الأراضي السورية وبالقرب من حدود الجولان.
ففي هذا السياق، أكد نتنياهو في تعقيبه على قرار ترامب بقوله: “إن قرار الرئيس الأميركي بسحب قواته من سورية، لن يغير من سياسة إسرائيل تجاه الوجود العسكري الإيراني فيها”، ولعل ما قاله وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي وعضو المجلس الوزاري المصغر، تساحي هنغبي، في مقابلة له مع التلفزيون الرسمي الإسرائيلي يُعبّر عن حقيقة الهواجس الإسرائيلية في هذه المرحلة، حيث قال “أوضحنا بشكل صريح أننا لن نسمح لإيران بالتمركز عسكريًا في سورية، بأي ثمن وبغض النظر عن النتيجة التي تترتب على سلوكنا”، وشدّد على أنه “لا يمكن لإسرائيل أن تسمح بنشوء ثلاث جبهات عسكرية ضدها في إشارة إلى حزب الله في لبنان وحماس في غزة”.
تأتي زيارة جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي لكل من تل أبيب وأنقرة، بتاريخ 6 كانون الثاني/ يناير الجاري والتي سيناقش خلالها التحديات الأمنية التي تواجه حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بعد الانسحاب الأميركي، في سياق تطمين “إسرائيل” حول استمرار الضمانات الأميركية لأمنها، وللاستماع ربما إلى هواجس ومواقف الأطراف الحليفة المعلنة أو غير المعلنة من الخطوة الأميركية، أو الخطوة التالية التي ستخطوها الولايات المتحدة في المنطقة من ضمن استراتيجيتها الكونية.
5 – الجانب الكردي
هناك قناعة لدى كل الأطراف بمن فيها الطرف الكردي ممثلًا بقوات سورية الديمقراطية، التي تشكل القوات التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي عمودها الفقري والعنصر المقرر فيها، أن الطرف الكردي هو أكثر الأطراف تأثرًا بالقرار الأميركي وتداعياته السلبية؛ فقد ترك الأكراد لمصيرهم، ووضعهم القرار الأخير في فوهة المدفع، وقد اعتبر قادة قوات (قسد) أن القرار الأميركي خيانة لهم، بعد أن تعاونوا مع الولايات المتحدة في محاربة (داعش)، وسوف ينهار كل “مشروع الشعوب الديمقراطية”، أو الفدرالية التي حاول (حزب الاتحاد الديمقراطي) فرضها أمرًا واقعًا في شمال شرق سورية خدمة للمشروع الأكبر الذي يقوده (حزب العمال الكردستاني) في تركيا منذ أربعة عقود، وتتحكم فيه حاليًا قيادة قنديل القريبة من طهران.
مارس (حزب الاتحاد الديمقراطي) منذ العام 2011 براغماتية فاقعة، وحاول اللعب مع جميع الأطراف، على الرغم من أنه الطرف الضعيف في مجمل علاقاته وتحالفاته؛ فقد واجه الثورة السورية منذ انطلاقتها في المناطق الكردية ولم يقطع مع النظام، كما مدّ الخيوط مع موسكو قبل تدخلها العسكري في سورية أيلول/ سبتمبر 2015، وكذلك مع الأطراف الأوروبية، خاصة فرنسا، ونسّقت قيادته في قنديل مع طهران في العراق وسورية، لكن أقوى تحالفاته التي أمدته بالقدرة على الاستمرار كان مع الولايات المتحدة، وهذا ما يفسر ردّات فعله وتحركاته لاستيعاب تداعيات القرار أو تخفيفها؛ فقد زار وفد من (قسد) برئاسة ألدار خليل موسكو وعرض توسيطها في إقناع النظام بإرسال قواته إلى الحدود مع تركيا منفردًا أو بمشاركة الشرطة العسكرية الروسية، واستعداده لتسليمه كل الحدود التي يسيطر عليها مقابل اعتراف النظام بالإدارة الذاتية، وقد فشل هذا المسعى حتى الآن بما فيها في منبج. من جهة ثانية فإن وفدًا سياسيًا يمثل الإدارة الذاتية المشتركة برئاسة إلهام أحمد زار باريس وتقدم لها بثلاثة طلبات تتلخص بـ:
أ- توفير الدعم الدبلوماسي والضغط على تركيا لمنعها من اجتياح مناطق سيطرتها شرق الفرات.
ب- الإبقاء على القوات الفرنسية، والبالغ تعدادها 200 جندي هناك حتى بلورة حل سياسي.
ج- إيجاد منطقة حظر جوي شمال شرق سورية قياسًا على حالة كردستان العراق العام 1991.
لم يقطع الفرنسيون من جهتهم أي وعود، وبالمقابل فإن ما قالته إلهام أحمد بعد خروجها من الإليزيه، يختصر موقفي كل من فرنسا و(قوات سورية الديمقراطية) “إننا نعرف أن رحيل الأميركيين، سوف يفضي إلى رحيل الفرنسيين”.
من غير المتوقع أن تخلي الولايات المتحدة كليًا بحليفها الكردي، وتتركه فريسة منفردة للأتراك أو غيرهم، بخاصة أن (الإدارة الذاتية) قد أكثرت من أعدائها المحليين والإقليميين، لقد عبر عن ذلك جورج بومبيو في بداية جولته الشرق أوسطية عندما قال: “سوف نعمل على ضمان ألا يذبح الأكراد على يد القوات التركية”، هذا التصريح الذي أثار غضب وسخط تركيا، واعتبرته الخارجية التركية “أنه ينم عن نقص مخيف بالمعلومات حول الواقع شرق الفرات”، وأن الولايات المتحدة لا تميز بين الأكراد كمجموعة بشرية في هذه المنطقة وبين مشروع (حزب الاتحاد الديمقراطي) و(حزب العمال الكردستاني) الأم، الذي تعتبره أنقرة منظمة إرهابية، لكن ما قاله جيمس جيفري بهذا الخصوص هو الأكثر تعبيرًا ودقة عن الموقف الأميركي “أريد القول إن الولايات المتحدة، تُحضّر الأكراد للتهيؤ لمرحلة إنهاء العلاقة”، و”إن أميركا لم تعد الأكراد بشيء”، بل إن ما قاله أمام مجلس الأطلسي كان أبلغ تأثيرًا، “نحن لا نقيم علاقات مع كيانات”.
رابعًا: أطراف أخرى معنية بالقرار الأميركي
1 – الأوروبيون:
لقد عبر الأوروبيون وفي مقدّمهم الفرنسيون والبريطانيون والألمان عن استيائهم من قرار الانسحاب الأميركي، وقد صرح الرئيس الفرنسي في مؤتمر صحفي له في انجامينا العاصمة التشادية “تأسف باريس للقرار الأميركي، لأن مهمة القضاء على داعش لم تنتهِ بعد، وأنه لا يجوز ترك قوات سورية الديمقراطية لمصيرها، كما لا يجوز التخلي عن الحلفاء في منتصف الطريق”.
باريس أكثر المتخوفين على مصير الأكراد، وكثيرًا ما أكدت على دعمها لهم وتأمين حمايتهم، لكنها من دون الغطاء الأميركي تبدو عاجزة عن تلبية هذه الرغبة، فهامش التحرك أمامها ضيق جدًا، لأن عديد قواتها في المنطقة غير كاف ويكاد لا يذكر، كما يرجح أنها غير راغبة وغير قادرة على الانخراط في مواجهات محلية، وأن أقصى ما تستطيعه هو محاولة التخفيف من أو لجم الاندفاعة التركية لا أكثر.
لكن مشكلة الأوروبيين مع الولايات المتحدة، أنها لم تعد تنسق معهم بالمستوى ذاته الذي كان عليه سابقًا، وباتوا يخشون ضياع مصالحهم في المنطقة، لأنهم غير قادرين على الدفاع عنها من دون الحليف الأميركي.
2 – النظام والأطراف العربية
لم يبدر أي تعليق عن أي دولة عربية بمن فيها الدول التي كانت في مجموعة “أصدقاء الشعب السوري”، إما لأن بعضها لا يريد الاصطدام بالموقف الأميركي، وهذا ينطبق على الدول العربية التي كانت تدعم المعارضة السورية، أو لأن بعضها يتفق معهم في هذا القرار.
أما النظام السوري فقد بات محكومًا بالموقفين الروسي والإيراني اللذين يفترقان أحيانًا، وتتناقض أهدافهما عند المحطات المؤثرة في مجرى الصراع، لكن في جميع الأحوال، فإن من سيقرر موقف النظام هو قرار مجموعة دول أستانا التي سيجتمع قادتها في موسكو قريبًا.
أما في ما يخص (قوات سورية الديموقراطية) ومشروعها الفدرالي، وهي حاليًا خفضت طموحاتها، وباتت تتكلم عن لامركزية موسعة، فإن العلاقة لم تنقطع بينها والنظام، وقد مارس الطرفان مغامرة تبادل الأدوار والمراوحة ما بين التعاون وتبادل المصالح وبين التظاهر بالخلاف، انتظارًا لما سيرتسم في اللوحة النهائية للصراع، أما الآن وقد تجاوز النظام خطر سقوطه بفضل الروس والإيرانيين وعوامل ومواقف أخرى، وخشية الأكراد من أن يتركوا لمصيرهم، فلم يعد مضطرًا إلى غض الطرف عن طموحات (حزب الاتحاد الديمقراطي)، ولن يقبل بأقل من عودتهم بالعلاقة معه إلى سابق عهدها.
خامسًا: خاتمة
ما بين تغريدات ترامب المتواترة والمتناقضة، منذ أن أعلن سحب قواته من شرق الفرات، ومنها ما هو موجه إلى الداخل الأميركي والقوى المناوئة له داخل الحزبين الجمهوري والديموقراطي وفي مراكز صنع القرار، وبعضها إلى الأطراف المعنية بالصراع الدائر في سورية، خصومًا كانوا أو حلفاء، وما بين جولة صقور إدارته إلى المنطقة، حيث صرح جون بولتون أن على تركيا “التنسيق الكامل معنا بشأن عملياتها في سورية”، أو قوله من تل أبيب “لن يحدث الانسحاب من سورية قبل حصول اتفاق مع تركيا، وضمان حماية حلفائنا الأكراد”، أو زيارة وزير الخارجية بومبيو لثماني دول تضمّ دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن، وتأكيده حرص الولايات المتحدة على وحدة مجلس التعاون وتجاوز الخلاف مع قطر، كما والاستماع لأراء الحلفاء في المنطقة حول قرار الانسحاب، والتأكيد على أن الولايات المتحدة لن تنسحب من الشرق الأوسط، وأنها ما زالت تعتبر إيران الخطر الأكبر الذي يهدد المنطقة؛ يبدو أنه من الصعب ترجيح أيٍّ من السيناريوهات التي يمكن أن تسير عليه الأمور، هل جرى تلزيم ملف (داعش) وشرق الفرات إلى تركيا، أم أن هناك اتفاقات جرت وتضمن خروج إيران وميليشياتها، أم أن النظام السوري قطع وعودًا بالطلب من إيران سحب قواتها من سورية؟ وهل هو قادر على ذلك، أم، وهو الأكثر ترجيحًا، أن الولايات المتحدة أرادت بقرارها وحالة الإرباك التي أحدثها، تعويم سيناريو يقوم على الإيحاء باستعدادها لعمل عسكري كبير في المنطقة وحشد الحلفاء حوله، أو التهديد به على الأقل، وذلك لتمرير استراتيجيتها في المنطقة بأقل قدر من الخسائر، مع ما يحمله ذلك من مخاطر المغامرة.