المحتويات
ثانيًا: تداعيات عملية خان يونس على الداخلين الإسرائيلي والفلسطيني
ثالثًا: الالتباسات في علاقات “حماس” الإقليمية
رابعًا: أنفاق “حزب الله” وتبادل الأدوار والأوراق
خامسًا: حول البراغماتية السياسية عند إيران و”إسرائيل”
أولًا: مقدمة
كثيرًا ما عُدَّ الصراع العربي-الإسرائيلي، وفي قلبه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي من أعقد الصراعات بعد الحرب الكونية الثانية، لكن من الواضح أن حضوره السياسي والإعلامي قد تراجع نسبيًا لمصلحة ساحات باتت أكثر سخونة في المنطقة، كالساحة العراقية بعد الغزو الأميركي عام 2003، والساحة السورية بعد العام 2011، واليمنية بعد العام 2014، ومثلها الليبية التي تعبث بها الميليشيات المتناحرة، ومع ذلك بقيت معزوفة الصراع مع “إسرائيل” مدخلًا لتصفية الحسابات أو تحسين الشروط لأطراف الصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، سواء أكانت هذه الأطراف دولية أو إقليمية أو محلية.
بمقدار ما يبدو الوضع الفلسطيني متجهًا نحو مزيد من التعقيد، في جزء أساسي منه بسبب تعنّت “إسرائيل” التي تتهرّب من استحقاقات السلام وفقًا لما أقرته اتفاقية أوسلو 1993، وقرارات الشرعية الدولية، وبسبب حروبها واجتياحاتها الحاضرة، كلما وجدت ذلك ملائمًا، ورفع وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية إلى الدرجة التي يُصبح معها حل الدولتين مستحيلًا، يساعدها في ذلك التغطية السياسية والدعم الكامل من الإدارات الأميركية المتعاقبة، وفي جزئه الآخر من حالة الانقسام الفلسطيني التي أصبحت عصية على الحل؛ فالسلطة في رام الله تريد خنق “حماس” في غزة وإنهاء سلطتها، بغض النظر عما ترتبه إجراءاتها من مآس على شعب القطاع، وبالمقابل فإن “حماس” تريد الاحتفاظ بسلطتها -وهذا ما تقوله تجربة حكمها في السنوات السابقة- أيًا كانت الآثار التي يتركها هذا التوجه، يساعدها في ذلك مواقف وتوجهات بعض الأنظمة العربية، وغض الطرف الإسرائيلي المستفيد من وجود “حماس” وشقيقاتها الأخريات في التهرب من استحقاقات السلام، وإبقاء حالة الصراع القابل للضبط والسيطرة مفتوحة، وليقل الممانعون العرب أنظمة أو تنظيمات في إعلامهم ما يقولون.
في هذا السياق، يمكن فهم عملية خان يونس الفاشلة التي قامت بها وحدة خاصة تابعة للجيش الإسرائيلي يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، حيث قُتل ضابط وعنصر إسرائيليان، كما قُتل القيادي في “كتائب القسام” نور الدين بركة وسبعة عناصر آخرين من “حماس”، هذه العملية التكتيكية للجيش الإسرائيلي ذات الطابع الاستخباراتي، أنذرت باندلاع حرب رابعة في قطاع غزة أجّلتها هدنة مصرية، لم تُكلّف جهدًا يذكر لأن الأطراف المعنية لا تريد الذهاب إلى حرب واسعة في هذه المرحلة، كلٌ لحساباته الخاصة الداخلية أو الخارجية، من دون أن تُمانع أي من هذه الأطراف استمرار لعبة خلط الأوراق والتهديد بتصعيد التوتر، لدفع الآخرين لفتح باب المساومات حول النفوذ والهيمنة.
ثانيًا: تداعيات عملية خان يونس على الداخلين الإسرائيلي والفلسطيني
ما إن أُعلن عن فشل العملية العسكرية الإسرائيلية، التي كانت تهدف إلى زرع معدات متطورة للتجسس على وسائل اتصالات الذراع العسكري لـ “حماس” بمعاونة عملاء محليين، حتى شن الطيران الإسرائيلي غارات استهدفت مئة وستين هدفًا، وقتل خمسة مدنيين فلسطينيين. بالمقابل أطلقت “حماس” و”الجهاد الإسلامي” خمسمئة صاروخ وقذيفة هاون باتجاه المستوطنات المجاورة للقطاع، اعترضت القبة الحديدية مئة منها، وتسببت بعض القذائف بمقتل مستوطن وجرح آخرين وأضرار مادية، وبدا وكأن غزة دخلت معمعان حرب رابعة لم تكن مستبعدة كليًا.
لقد مُورست ضغوط دولية كبيرة على “إسرائيل” للتهدئة، خاصة من قِبل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، التي لا ترى أن الأوضاع ملائمة لحرب واسعة في هذه المرحلة، قد تُفجّر أكثر من ساحة، كذلك على الجانب الآخر، ضغطت مصر وقطر على “حماس” للقبول بتهدئة ووقف إطلاق النار، تهدئة وافق عليها الطرفان بسلاسة، ما دلّل على أن “إسرائيل” بقيادة نتنياهو وهيئة الأركان الإسرائيلية، ترى أن التصعيد في هذه المرحلة يضرّ بالأمن القومي الإسرائيلي. لكن وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان استقال احتجاجًا على قبول نتنياهو المبادرة المصرية للتهدئة، الأمر الذي اعتبرته “حماس” نصرًا إلهيًا مثل انتصارات “حزب الله” اللبناني الإلهية التي اختبرت سابقًا، من دون أن تُدرك “حماس”، مثل جميع الأنظمة العربية، طريقة عمل النظام السياسي الإسرائيلي وقوّته الكامنة في مرونته. وإذا كانت رؤية “حماس” للحوادث المستجدة غير مهمة، يبقى من المهم البحث في الدوافع الداخلية التي تعتمل داخل النظام السياسي وطرق عمله وحركة الاصطفافات والتحالفات بين القوى السياسية الإسرائيلية عند كل منعطف تمر فيه “إسرائيل”.
لقد أراد ليبرلمان الذي يبزّ نتنياهو في يمينيته وتطرفه، من خلال استقالته واتهامه نتنياهو بالتهاون مع “حماس” والتقصير في حماية المستوطنين الإسرائيليين في المستوطنات المواجهة للقطاع، أن يدفع باتجاه انتخابات مبكرة، يذهب تقديره إلى أن نتنياهو لن يستطيع الفوز فيها، سواءً على خلفية الاتهامات وشبهات الفساد التي تحوم حول نتنياهو، أو لمراهنته على حشد اليمين المتطرف خلفه واستغلاله لتذمر المستوطنين قبالة القطاع.
من جهته، أراد نتنياهو قطع الطريق على ليبرمان في سعيه نحو انتخابات مبكرة، وهو يفضل إجراء الانتخابات في موعدها الطبيعي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، أملًا في ترتيبات داخلية أو إقليمية تخدم فوزه مرةً جديدة. فقد صرح بقوله “لن نوافق على أن نسقط الحكومة في وقت نمر فيه بظروف أمنية دقيقة”، كما صرح أيضًا “إن إسقاط الحكومة والدعوة إلى انتخابات مبكرة هو عمل غير مسؤول”، وعلى الرغم من استقالة ليبرمان إلا أن التحالف الذي يقوده نتنياهو، ما زال يحتفظ بأغلبية ضعيفة داخل الكنيست 59/61 من أصل 120 مقعدًا هي عدد مقاعد الكنيست، بعد أن فشلت مباحثاته مع نفتالي بينيت وزير التربية الذي هدد بالاستقالة، إذا لم تسند إليه حقيبة الدفاع، وقد رفض نتنياهو طلبه ووصفه بالمتعنت، واحتفظ لنفسه بحقيبتي الدفاع والخارجية إضافة إلى رئاسة الوزراء.
لقد تجاوز نتنياهو اختبار سقوط الحكومة والذهاب إلى انتخابات مبكرة حتى تاريخ 24 كانون الأول/ ديسمبر 2018، حيث أعلن عن انهيار التحالف الحكومي الذي يقوده، وحدد موعدًا لانتخابات مبكرة في نيسان/ إبريل 2019، وهذا الأمر كان معلقًا على أي خطوة يمكن يتخذها موشيه كحلون، الذي يرأس كتلة برلمانية لها عشرة مقاعد في الكنيست، وهو من المتحمسين لانتخابات مبكرة، ولا يكترث لتحذيرات نتنياهو من عودة اليسار الإسرائيلي إلى السلطة في حال تصاعدت الخلافات والانقسامات في صفوف اليمين كما حصل في عامي 1992 و1995، وها هو يفعلها، ويأخذ “إسرائيل” إلى انتخابات مبكرة.
لكن؛ على الرغم من أهمية هذه الصراعات في الساحة السياسة الإسرائيلية، وهي جزء من ديناميكية النظام السياسي الإسرائيلي، إلا أن أصحاب القرار في “إسرائيل” على اختلاف توجهاتهم السياسية، لا يريدون حربًا واسعة، لأنه ليس لديهم جواب واضح لما بعد غزة في حال توسيع الحرب لدرجة تقضي على الوجود العسكري لـ “حماس” وبقية الفصائل كـ “الجهاد الإسلامي”، لأن خيار إعادة احتلال غزة مرفوض من الإسرائيليين مجتمعًا وحكومةً وأحزابًا، وكل ما تريده “إسرائيل” هو إبقاء الصراع في غزة مفتوحًا وتحت السيطرة، وإبقاء الشعب الفلسطيني رهينة الحصار والحاجة ومفاقمة أزماته، من دون منح “حماس” أو غيرها من الفصائل الفلسطينية فرصة كسر الهيبة العسكرية الإسرائيلية.
على الجانب الآخر، تفضل “حماس” أيضًا حالة التصعيد المسيطر عليه بغية تحقيق مكاسب آنية داخل الواقع الفلسطيني. من هنا جاءت موافقتها السريعة على المبادرة المصرية حتى لا تذهب الأمور باتجاه حرب شاملة، قد تكون أقسى وأكثر تدميرًا من الحروب السابقة؛ لكن مع ذلك هناك أطراف داخل “حماس” غير راضية عن التهدئة مع “إسرائيل”، ويعتبرونها تنازلًا غير مبرر تجاه “إسرائيل”، وأطراف أخرى تريد التقارب أكثر مع مصر والسير وفق رؤيتها، وإلى جانب هذا الصراع داخل “حماس”، فإن التحدي الأكبر الذي قد تواجهه “حماس” يتحدد بمدى قدرتها على ضبط الوضع داخل غزة، بخاصة أن حركة الجهاد الإسلامي، الطرف الفلسطيني الأقرب إلى إيران والمتمول الرئيس منها، قد تحاول أن تخرب على “حماس” التزاماتها من خلال إطلاق صواريخ باتجاه المستوطنات الإسرائيلية من دون التنسيق معها، في حال طلبت إيران منها ذلك بالتعاون مع رافضي التهدئة داخل “حماس”، أو إذا أرادت إثبات وجودها، كما حدث في 26 تشرين أول/ أكتوبر الماضي. فهل ستجتاز “حماس” مثل هذا الاختبار في حال دفعت باتجاهه بعض الأطراف؟
ثالثًا: الالتباسات في علاقات “حماس” الإقليمية
منذ انطلاقة “حماس” عام 1987، حرصت على تقديم نفسها على أنها حركة مقاومة فلسطينية ذات توجه إسلامي إخواني صريح، واعتمدت خطابًا راديكاليًا، لا يقبل بأقل من تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وعارضت اتفاقات أوسلو، معتبرةً ما أقدمت عليه منظمة التحرير بتبادل الاعتراف مع “إسرائيل” وفقًا لاتفاقات أوسلو، خيانة للقضية الفلسطينية، وجيّشت الشارع الفلسطيني على هذا الأساس مستفيدة من الفشل الذي أحاط بأوسلو، لكن ومن خلال تجربة سلطة الأمر الواقع، التي فرضتها في غزة منذ العام 2007، وسهلت على العدوانية الإسرائيلية شنّ ثلاث حروب (2008 – 2012 – 2014) دمّرت فيها البنى التحتية في غزة، وخنقت سكانها بحصار لا يرحم، كما وإفشالها معظم محاولات تحقيق مصالحة فلسطينية من قبل أطراف عربية كالسعودية ومصر على وجه التحديد، والاتفاقات الموقعة في مكة والقاهرة، لأن “حماس” بكل بساطة ووضوح، لا تريد التخلي عن السلطة في غزة، وتريد الاحتفاظ بسلاحها، وقواها العسكرية والأمنية وقرارها الخاص بإدارة الصراع مع “إسرائيل”، وأن تترك للسلطة في رام الله التكفل بأعباء إعادة الإعمار، وتأمين الخدمات وسبل العيش لفلسطينيي غزة، وهذه التجربة الطويلة أثارت لدى الكثيرين التساؤلات حول “حماس” وأهدافها وعلاقاتها بالقوى الإقليمية المتدخِّلة بالملف الفلسطيني، أو تلك التي تريد الدخول إليه.
1 – علاقة مصر بـ “حماس”:
لعل أكثر هذه العلاقات مدعاة للتساؤل هي علاقة مصر بـ “حماس”؛ ففي حين يشنّ النظام المصري حرب تصفية شاملة ضد الإخوان المسلمين في مصر بالملاحقات الأمنية والسجون وأحكام الإعدام بالمئات، ويشارك السعودية والإمارات مواقفهما السياسية تجاه الإخوان كتنظيم عابر للوطنية واعتباره تنظيمًا إرهابيًا، كما انحدرت علاقته بتركيا إلى الحضيض على الخلفية ذاتها، في الوقت الذي تلتقي فيه تحركات النظام المصري مع تحركات قطر، أو على الأقل لا تتعارض توجهاتهما تجاه “حماس”، على الرغم من القطيعة بين الدولتين، إذ نرى النظام المصري دائم الحضور في غزة، بالدعم الإنساني أو السياسي وتأمين التهدئة تلو الأخرى مع “إسرائيل”، أو بالعمل الدؤوب على ملف المصالحة الفلسطينية، الذي لا يبدو أنه سيجد طريقه إلى النجاح والإنجاز، إلا بغياب أحد طرفيه، “حماس” والسلطة، لسبب ما أو بطريقة ما، وبشكل مؤكد ليس هذا بيد الفلسطينيين في حال حصوله. فكيف يمكن أن يفسر الموقف المصري هذا؟ لا شك أن غزة مهمة لمصر كي لا تكون خاصرة رخوة لها من جهة سيناء، وكي لا تدفع “حماس” أو تعطيها المبرر لتقديم المساعدة اللوجستية للقوى المتطرفة التي تواجه النظام المصري في سيناء. وبالقدر ذاته مصر مهمة لغزة كونها بوابتها على العالم، ما دامت “إسرائيل” تحاصر غزة من البر والبحر، إضافة إلى أن هناك تيار داخل “حماس” يؤيد التنسيق مع مصر ويقدمه على علاقة “حماس” مع الأطراف الأخرى كافة بما فيه العلاقة مع التنظيم الأم، بدوافع سياسة براغماتية لحماية ظهر “حماس” ما أمكن. مع ذلك لا يبدو أن ذلك كله يقدم تفسيرًا شافيًا للعلاقة الملتبسة بين مصر و”حماس”.
قد تكون الاحتمالات السابقة واردة ومهمة لمصر من أجل الحفاظ على خط تواصل مفتوح مع “حماس”، وقد يكون النظام حريصًا على ألّا يأخذ دور رأس حربة في ملاحقة ومحاربة قوى الإسلام السياسي في العالمين العربي والإسلامي، إنما يريد تحجيمه وإبعاد عينه عن السلطة في مصر، إلا أن هذا وذاك لا يعطيان تفسيرًا مقنعًا للعلاقة غير الواضحة بين الطرفين، وقد يكون الأقرب إلى المنطق هو الدور الوظيفي المنوط بالنظام المصري، من حيث إسهامه في ضبط إيقاع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ما أمكن من ناحية غزة بحكم العلاقة القانونية والتنظيمية التي ربطت مصر بالقطاع بعد قيام دولة “إسرائيل” أيار/ مايو 1948 وحتى حرب الخامس من حزيران/ يونيو 1967. يُرجّح هذا الاحتمال هو أن الجهة الموكلة بهذا الدور بشكل أساسي هي المخابرات المصرية وليست أي جهة حكومية أخرى.
2 – علاقة “حماس” بقطر:
من المعروف أن قطر لا تُداري علاقتها ودعمها للفصائل الفلسطينية الإسلامية، خصوصًا حركة “حماس”، لكنها منذ أن سيطرت “حماس” على غزة قصرت دعمها على الجانب الإنساني والإغاثي، ولم تقحم نفسها كثيرًا في محاولات إنجاز مصالحة فلسطينية، تلك التي انهمكت فيها مصر بوضوح، وبدرجة أقل السعودية، إلا أنه في الأشهر الأخيرة، وبعد أن دخلت مسيرة العودة باتجاه الشريط الحدودي شهرها الخامس، بادرت قطر بمشروع تهدئة يرتكز على عدم وصول المتظاهرين إلى الشريط الحدودي ومواجهة الجنود الإسرائيليين، وترك فاصل قدره خمسمئة متر بين المتظاهرين والجيش الإسرائيلي، وإنهاء ظاهرة الطائرات الورقية، في مقابل فتح المعابر وإنهاء الحصار، وقد تعهدت قطر بتقديم منحة للقطاع قدرها 90 مليون دولار هي بدل رواتب كانت قطعتها السلطة عن موظفي القطاع، نفذ من هذه المنحة أول دفعة وقدرها خمسة عشر مليونًا من الدولارات، حولت إلى القطاع عن طريق وزارة الدفاع الإسرائيلية الأمر الذي أثار ضجة داخل “إسرائيل”، فأوقفت حكومتها التحويل عن طريق الوزارة، وسيجري تحويل بقية الدفعات ربما عن طريق جهات مدنية أو مصرفية، لكن الهدنة لم تنجز بسبب كثرة التفاصيل التي أرادت “حماس” تضمينها اتفاق الهدنة، ثم جاءت عملية خان يونس، فأجلت على الأرجح المبادرة القطرية إلى حين، ولم يسجل لمصر اعتراضها على المبادرة القطرية.
ربما تستفيد “حماس” من هذا التدخل، كي تضمن استمرار سلطتها إلى مدىً أبعد، بعد أن فرضت السلطة عقوبات على القطاع وقطعت رواتب الموظفين وفاتورة الوقود والصحة وغيرها، لكن ربما تستفيد “إسرائيل” أيضًا؛ فهي لا تريد انهيار الوضع الإنساني في غزة تحت وطأة الحصار الإسرائيلي وعقوبات السلطة واستنكاف المجتمع الدولي عن تقديم المساعدات للقطاع، ما دام تحت سلطة “حماس”، كي لا تستخدمها في تعزيز وضعها العسكري.
3 – علاقة “حماس” مع إيران:
تُعدّ إيران من أكبر الداعمين للفصيلين الإسلاميين في الساحة الفلسطينية “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، وهذا جزء من آليات عمل مشروعها التوسعي في جوارها العربي شرق المتوسط الذي اعتمد ركيزتين أولاهما دعم التنظيمات القائمة بالمال والسلاح والخبرات أو تشكيل ميليشيات موالية ودعمها عسكريًا وماليًا، وثانيهما خطاب ترويجي يدعي محاربة الإمبريالية الأميركية و”إسرائيل” وتحرير القدس، ويمكن اعتبار هذه العلاقة ذات طابع تشغيلي يصبح معها التصنيف (سني وشيعي) سخيفًا، وقد تجلت هذه العلاقة التشغيلية في موقف إيران من “حماس” عندما ارتبك موقفها حيال الثورة السورية، ما بين داخل أيّد الثورة وخارج حاول المراوغة على المواقف، وزعم الحيادية بدعوى عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وانخرط بضع عشرات من عناصر “حماس” في سورية في القتال المسلح كمجموعة منفردة إلى جانب قوى معارضة مسلحة إسلامية في جنوب دمشق.
ففي الوقت الذي اتخذ فيه النظام السوري موقفًا حادًا من حركة “حماس” وطرد قيادييها الذين كانوا يتخذون من دمشق مقرًا لهم وغادروا باتجاه قطر، التزم الموقف الإيراني الصمت والصبر على موقف “حماس” وكبت التوتر الذي شاب الموقف معها، لكن مع التدخل الروسي في الصراع السوري في أيلول/ سبتمبر 2015، بدأت “حماس” بمراجعة موقفها والتراجع التدريجي عن مواقفها السابقة عبر البوابة الإيرانية، إذ شاركت في العام 2017 في فعالية القدس، وفي صيف العام 2018 كانت زيارة اسماعيل هنية إلى طهران وتقبيله يد المرشد علي خامنئي، فقد عادت العلاقة بين الطرفين إلى سابق عهدها، وعاد الدعم الإيراني لـ “حماس”، وسوف يعود معه التنسيق بما يخدم التوجه الإيراني في ما يخص الساحة الفلسطينية، عبر تغذية حالة الانقسام الفلسطيني، أو تحريك الصراع مع “إسرائيل” كلما احتاجته إيران.
4 – العلاقة مع “إسرائيل”:
ليس من الضروري، أن تكون كل علاقة بين طرفين علاقة مباشرة ومتفقًا عليها، بل هناك شكل من العلاقات يشعر فيه كل من الطرفين أو أحدهما بأن له مصلحة في استمرارية الطرف الآخر، بغض النظر عما يقال في الخطاب المعلن، وعلى الأرجح هذه هي الحال التي تحكم العلاقة بين “حماس” و”إسرائيل”؛ فـ “حماس” ليست جزءًا من منظمة التحرير الفلسطينية، التي وقعت اتفاقات أوسلو، ومنها تستمد سلطة رام الله شرعيتها، ولذلك فإن “حماس” من مصلحتها إضعاف منظمة التحرير، أو على الأقل تغيير ميثاقها، بما يستوعب “حماس” ومثيلاتها من التيار الجهادي الفلسطيني، بغية تحقيق انهيار اتفاق أوسلو وتغيير قواعد الصراع مع “إسرائيل”. من جهة أخرى فإن لإسرائيل مصلحة باستمرار حالة الانقسام وفشل جميع مبادرات واتفاقات المصالحة، ولا بأس بأن تتعامل “إسرائيل” مع سلطتين فلسطينيتين، تسمح لها خلافاتهما بالتهرب من استحقاقات أوسلو وزيادة الاستيطان، واستمرارية حالة العدوانية الإسرائيلية وعسكرة المجتمع الإسرائيلي بحجة المخاطر التي تحقيق بالأمن القومي لإسرائيل وغياب السلام.
وسيكون الشعب الفلسطيني أول ضحايا هذه الحالة، فقد أوقفت أميركا مساعداتها لمنظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، والسلطة الفلسطينية اتخذت من جانبها إجراءات عقابية تطال حياة سكان القطاع بشكل مباشر، والاتحاد الأوروبي يدرس البحث عن طرق بديلة لتقديم المساعدة عن غير طريق السلطة و”حماس”، في الوقت الذي تهدد فيه “إسرائيل” بتحويل قسم من أموال الضريبة المضافة -وهي من حق السلطة الفلسطينية- لمصلحة سلطة القطاع. كذلك، تتهم سلطة رام الله “حماس” بإثارة القلاقل في الضفة الغربية لتسريع انهيارها؛ وعليه فقد صادق محمود عباس على قرار المجلس الثوري لفتح بحل المجلس التشريعي الفلسطيني، الذي تسيطر عليه “حماس”، ما يعني الذهاب إلى انتخابات تشريعية قد تقتصر على الضفة. لكن الخشية كل الخشية أن تكون كل حالة الضغط المتعدد المصادر على الوضع الفلسطيني والتدخلات الإقليمية المختلفة وتعميق الانقسام الفلسطيني، وتفاعل الأطراف الفلسطينية كلًا منها مع أطراف وأجندات في مواجهة أطراف وأجندات أخرى، تمهيدًا موضوعيًا لتمرير صفقة القرن والتنصل من اتفاقات أوسلو وحل الدولتين. ويكون عندها أن الداء الفلسطيني الأكبر، يقوم على بحث الأطراف الفلسطينية الفاعلة عن تثبيت سلطاتها الخاصة على حساب القضية الأساس.
رابعًا: أنفاق “حزب الله” وتبادل الأدوار والأوراق
في 4 كانون أول/ ديسمبر 2018، أعلن نتنياهو أن الجيش الإسرائيلي سيبدأ عملية درع الشمال على الجبهة الشمالية داخل الأراضي الإسرائيلية، لتدمير أنفاق حفرها “حزب الله”، بغرض عمليات عسكرية داخل “إسرائيل”، حيث كان حسن نصر الله سبق وهدد “بأن الحزب سيُحارب إسرائيل بالجليل”، وقد نشرت الصحف الإسرائيلية صورًا لأربعة أنفاق جرى تدميرها.
قد لا تكون أنفاق “حزب الله” ذات أثر استراتيجي على أمن “إسرائيل”؛ فإسرائيل على علم بالأنفاق منذ شروع “حزب الله” بحفرها، والإدارة الأميركية على علم بالموضوع أيضًا، حتى أن رئيس الأركان الإسرائيلي غادي ايزنكوت كان قد طلب من الحكومة الموافقة على هذه العملية قبل عام من تاريخ إعلان “إسرائيل” عن اكتشافها للأنفاق، وكل النقاش يدور حول توقيت الإعلان الإسرائيلي وغايته محليًا وإقليميًا.
من الجانب الإسرائيلي، بحسب ما صرح الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، أن “إسرائيل” انتظرت حتى اختراق الأنفاق للحدود الإسرائيلية، لتنقل الموضوع إلى مجلس الأمن الدولي، وتحميل “حزب الله” مسؤولية خرق القرار الدولي رقم 1701 لعام 2006 ، الذي منع وجود “حزب الله” ضمن شريط بعمق 40 كم من الحدود، ثم تحميل الحكومة اللبنانية التي لا تملك قرارها السيادي بحكم سطوة الحزب الداخلية، مسؤولية ضبط “حزب الله”، ربما بمساعدة دولية، خاصة أن قوات اليونيفل موجودة وقد يجري دعمها بقرار دولي جديد، وكان لافتًا أن نتنياهو قابل وزير الخارجية الأميركية جورج بومبيو قبل ساعات من إعلانه عن عملية درع الشمال، وطلب منه أن توقف الإدارة الأميركية دعمها للجيش اللبناني لتواطئه مع “حزب الله”، لكن الإدارة الأميركية رفضت الطلب الإسرائيلي.
قد يكون نتنياهو رغب في استغلال موضوع الأنفاق لتأجيل الانتخابات المبكرة ولم يفلح، وقد يكون من ضمن حملة منظمة ذات بعد دولي لخنق “حزب الله” بالعقوبات، أو حتى بعمل عسكري عندما يحين وقته، فإسرائيل تسعى لأهداف محددة تتمثل بمنع “حزب الله” من الحصول على صواريخ دقيقة التوجيه، أو تزويد الصواريخ التي يملكها بمثل هذه التجهيزات، ومنع “حزب الله” من التموضع على جبهة الجولان واستخدامها جبهة مواجهة إضافية ضدها، ومنع تحويل وسائل قتالية إيرانية إلى الحزب.
من جهته، يعرف “حزب الله” عواقب حفر هذه الأنفاق، التي لن تعطيه ميزة عسكرية كبيرة، وليس في حاجتها اقتصاديًا على غرار أنفاق “حماس” باتجاه سيناء، وكل ما يعني الحزب تعزيز سرديته حول مقاومة “إسرائيل” ضمن بيئته الحاضنة في الداخل اللبناني، وتوهمه امتلاك أوراق جديدة في صراعه مع “إسرائيل” لاستخدامها وقت اللزوم إذا تعرض لضغط كبير، أو استدعتها ضرورات السياسة الإيرانية ودوره الوظيفي.
خامسًا: حول البراغماتية السياسية عند إيران و”إسرائيل”
في جلسة مغلقة للكنيست الإسرائيلي عقدت في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، قال نتنياهو إن روسيا “قدّمت عرضًا للولايات المتحدة و”إسرائيل”، يتضمن انسحاب القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها من سورية، مقابل تخفيف العقوبات الأميركية على طهران”، كما قال في الجلسة ذاتها، وبشكل يناقض العرض الروسي المزعوم، إنه “لا يمكن لروسيا وحدها إخراج إيران من سورية، لكنها تحتاج إلى مساعدة من القوى الدولية الأخرى”.
تصريحات نتنياهو نفاها بشكل موارب نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريبكوف، عندما قال “لم نقدم اقتراحات بهذا الشأن للولايات المتحدة أو “إسرائيل”، إنما هذه الاقتراحات (الفكرة) شبيهة بأمور تم طرحها خلال حوار موسكو مع واشنطن و”إسرائيل” حول هذا الموضوع”.
هذا النفي الروسي المراوغ، وعدم التعليق الإيراني على كلام نتنياهو، يؤكد ما ذهب إليه الأخير، حتى لو كان مجرد بالون اختبار لجس النبض الأميركي والإسرائيلي حول الحدود التي يمكن أن تقف عندها المطالبات الأميركية والإسرائيلية. فالبراغماتية الأميركية والإسرائيلية بالتبعية، سوف ترحب بانسحاب إيراني من سورية من دون أن تحتاجا إلى حرب قد تكون مكلفة لجميع الأطراف، والولايات المتحدة التي تعتبر الوجود العسكري الإيراني وتوابعه خطرًا على الأمن القومي لإسرائيل، وتعمل على إنهائه، قد لا تمانع بنفوذ سياسي إيراني في دمشق، سبق أن تعايشت معه على مدى عقدين من الزمن.
من جهتها، إيران التي تسم البراغماتية سياستها، بغض النظر عن خطابها الإعلامي، وعلى الرغم من إجادتها لسياسة حافة الهاوية، تعرف تمامًا متى تبتعد تدريجيًا عن هذه الحافة، لذلك ليس من المستبعد، أن تكون هناك مفاوضات جارية على أكثر من خط برعاية دول قد تكون عمان إحداها، لإبعاد شبح الحرب عن إيران، ومحاولة إيران ألا تخرج خاسرة تمامًا بجميع الملفات المتدخلة فيها، ويبقى الحفاظ على حكم نظام الملالي له الأهمية الأولى، حتى لو اضطرت إلى التخلي عن أذرعها في المنطقة، أو ضبط عملها بما لا يضر بمصالح الدول المعنية.
سادسًا: خاتمة
مهما كانت سطوة الولايات المتحدة، وتفردها بالقرار الدولي نتيجة لضعف الأطراف الدولية الأخرى، ودعمها غير المحدود لإسرائيل، لن تستطيع فرض حل يفتقد للعدالة وفقًا لما أقرته الشرعية الدولية، قائم على حل الدولتين، وقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة وعاصمتها القدس الشرقية، وإلا فإنها ستبقي الصراع مفتوحًا، وستدفع المنطقة إلى مزيد من العنف وعدم الاستقرار، الذي يؤذي مصالحها ومصالح الدول الأخرى.
إن التعويل على تنمية الصراعات البينية بين الأطراف الفلسطينية، ودفع أطراف عربية لتسويق السياسة الأميركية المتحيزة، خاصة “صفقة القرن”، لن يعطي النتائج التي هدفت إليها، كما أن تعويل الأطراف المتدخلة الأخرى على حروب الوكالة أو التلويح بها، لن يعفيها من تأثير هذه السياسات وتداعياتها.
من المعروف أنه عندما لا تكون هناك قرارات بخوض حروب واسعة بين أطراف الصراع، أيًا كانت الأسباب التي تقف خلفها، تنتعش سياسات تقليب الأوراق عند كل طرف، وتجديد ما احترق منها وفقد مفعوله، بغية مشاغلة الطرف الآخر، وإيهامه بالقدرة على الأذى عندما يضطر إلى ذلك، وبما أن صراعات المنطقة باتت مترابطة، سواءً اتجهت نحو التصعيد أو الحل، فإن الأطراف المحلية التي قبلت أن تلعب دور الوكيل لأيٍّ من أطراف الصراع، ستكون خاسرة، وسيتم التخلي عنها، عندما تنعدم الحاجة إلى دورها.