الفهرس
2- أهمية الرقة السياسية والجغرافية
4- ردّات الفعل المحلية والإقليمية والدولية
1- تمهيد
انطلقت في الرابع والعشرين من شهر أيار/ مايو 2016 عملية عسكرية منسّقة بين القوات الأميركية و”قوات سوريا الديمقراطية”، هدفها المعلن تحرير مدينة الرقة من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، حيث قامت الثانية، وبمشاركة قوة خاصة أميركية، مكوّنة من 150 جنديًا ومساندة جويّة من الأولى، بالهجوم البري، وقد تمّ الهجوم من ثلاثة محاور: الشمال الغربي من منطقة سد تشرين، ومن الشمال عبر بلدة عين عيسى، ومن الشمال الشرقي عبر بلدة سلوك، لتشكيل مثلث تكتمل أضلاعه بالسيطرة على موقع “الفرقة 17″، الذي يُعدّ المدخل الشمالي للرقة؛ فتوجّه قسم من القوات لمهاجمة مدينة الطبقة، في مسعىً لتشتيت قوات “التنظيم”، إضافة إلى اجتياز نهر الفرات باتجاه بلدة منبج؛ لضرب خطوط إمداده، وهذا رجّح، مع حجم الحشد العسكري المتواضع (12 ألف مقاتل)، أن يكون هدف المعركة إرباك “التنظيم”، وعزل الرقة لا تحريرها.
2- أهمية الرقة السياسية والجغرافية
تنطوي مدينة الرقة على أهمية كبيرة؛ بسبب موقعها الجغرافي الذي يشكّل عقدة مواصلات تربط بين محافظات (حلب، حماة، حمص، ديرالزور، الحسكة)، محافظات لها أهميتها؛ لما تحتويه من موارد طبيعية (نفط وغاز)، وزراعية (حبوب، وأقطان)، وثروة حيوانية (لحوم، ومشتقات الحليب من الأجبان والألبان والسمن والصوف)؛ فضلًا عن إنتاجها المحلي، الزراعي والرعوي، وثرواتها الباطنية (نفط وغاز)، ووجود سد الفرات على أراضيها (سد الفرات في مدينة الطبقة على بعد ستين كيلومترًا من مدينة الرقة)، السد الذي يحجز الاحتياطي الاستراتيجي من الماء، ويوفر كهرباء تغذي معظم المدن والبلدات السورية؛ ما جعل “التنظيم” يختارها عاصمةً له في سورية، ويجعلها مقرًا لكبار قادته السياسيين والعسكريين، علاوةً على إقامة أسر مقاتليه من غير السوريين، ويعزز تحصينها والدفاع عنها؛ لما لخسارتها من دلالات كبيرة، لجهة تراجع قدراته وفشله في الدفاع عن رموزه السيادية (العاصمة) من جهة، ولجهة فقده موارد مهمة تغذي آلته العسكرية، وتلبي حاجات حاضنته الشعبية، والمواطنين الرازحين تحت سيطرته من جهة ثانية.
3- التحضيرات الميدانية
لقد سبق انطلاق العملية العسكرية تحضيرات على مستويات عدة؛ فقد جهزت القوات الأميركية الخاصة -التي انتشرت في محافظتي الحسكة وحلب- مطارًا زراعيًّا في منطقة المالكية (المطار المعروف بـ “أبو حجر”، جنوب شرق بلدة رميلان النفطية)، وأقامت مطارًا ثانيًا في منطقة عين العرب (قرية خراب عشك، جنوب بلدة عين العرب/ كوباني)، وهيأتهما لاستقبال المروحيات الأميركية التي ستنقل جنودًا أميركيين؛ حيث نقلت -إلى الآن- قوة مكونة من 250 جنديًا إلى منطقة عين العرب/كوباني، وعدة مئات إلى مدينة القامشلي، وأعتدة عسكرية وذخائر، وقد قامت هذه القوات، المنتشرة في محافظتي الحسكة وحلب، بإجراء دورات تدريبية لـ “قوات سوريا الديمقراطية”، ولكتائب عربية من أبناء المنطقة في قاعدة صرين/ تل أبيض؛ لتكون مؤهلة وجاهزة كقوة ثانية، يُعتمد عليها في محاربة “داعش”. وفي هذه الأثناء زار عدد من القادة العسكريين الأميركيين مناطق انتشار “قوات حماية الشعب” في منطقة عين العرب/ كوباني، و”قوات سوريا الديمقراطية” في محافظة الحسكة، كالمبعوث الأميركي الخاص للتحالف ضد “داعش”، بريت ماكغرك، وقائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط، جوزيف فوتيل؛ اللذين زارا عين العرب/ كوباني والقامشلي، إضافة إلى زيارات قام بها ضباط أميركيون وبريطانيون وفرنسيون، من قوات التحالف الدولي، إلى مناطق في محافظة الحسكة؛ حيث التقَوا بقيادات كردية وعربية وتركمانية؛ للاتفاق على استراتيجية محاربة “داعش” بدايةً، والاطلاع على الاستعدادات والتحضيرات الجارية للمواجهة تاليًا. وقد ربطت تقديرات محللين بين تكليف “قوات سوريا الديمقراطية” بمحاربة “داعش” في الرقة، وتقديم واشنطن حوافز لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، باستقبالها وفدًا من “الإدارة الذاتية”، بقيادة الرئيسة المشتركة لـ “مجلس سوريا الديموقراطية”، إلهام أحمد، والموافقة على فتح ممثلية لـ “الإدارة” في واشنطن (فسّر مراقبون طلب “الإدارة” فتح ممثليةٍ لها في واشنطن بتقرّب “حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي” من الأخيرة وابتعاده من موسكو، وربطوا المناوشات التي جرت بين قوات النظام و”وحدات حماية الشعب” في الحسكة بهذا التوجه)، وإعطاء الضوء الأخضر لعبور “قوات سوريا الديمقراطية” نهر الفرات باتجاه مدينة منبج، وربما بعدها إلى جرابلس، وتأجيل الاعتراف بـ “الإدارة الذاتية” إلى ما بعد تحرير الرقة، وفق تصريحٍ لمصدر مطلع في الحزب المذكور؛ مراعاة للتحفظ التركي.
كان توقيت تحرير الرقة يرتبط، في التصوّر الأميركي، بانطلاق عملية تحرير الموصل من “داعش”. غير أن التطورات السياسية التي عرفها العراق مؤخرًا، من تظاهرات المواطنين المطالبين بالإصلاح، إلى تظاهرات أنصار التيار الصدري، واقتحامهم المنطقة الخضراء ومقريّ رئاسة الوزراء والبرلمان، وما نجم عن ذلك من خلافات داخل البرلمان، من رفض التشكيلة الوزارية الجديدة التي قدّمها رئيس الوزراء، حيدر العبادي، وانتخاب بديلٍ لرئيس البرلمان سليم الجبوري؛ ما دفع رئيس الوزراء، وبالتنسيق مع الأميركيين والإيرانيين، إلى إطلاق معركة تحرير الفلوجة من “داعش”؛ كي يحوّل انتباه المواطنين بعيدًا من ملفات الفساد والإصلاح وتركيبة الحكومة، فاضطُرَ الأميركيون إلى إطلاق عملية عسكرية ضد “داعش” في الرقة، قبيل اكتمال الاستعدادات لإطلاق عملية تحرير الموصل؛ لتشتيت قوات “التنظيم”، ومنعه من نقل قواته من سورية إلى العراق؛ الأمر الذي استدعى قيام قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط ،جوزيف فوتيل، بزيارة عين العرب/ كوباني يوم 21 أيار/ مايو 2016، مصطحبًا معه صالح مسلم، الرئيس المشارك لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)؛ للاتفاق على إطلاق العملية.
اختلفت تقديرات المحللين حول مبرّرات تكليف “قوات سوريا الديمقراطية” بهذه المهمة الحسّاسة، بين القول إن واشنطن اختارت هذه “القوات”؛ لاستعداداتها وقدراتها، وبين القول إنها اختارتها مضطرةً، بعد أن رفضت فصائل المعارضة العربية المسلّحة قبول التعاون مع واشنطن وفق خطة “داعش” أولًا، أو “داعش” فقط، ومطالبتها (الفصائل) بخطة لقتال “داعش” والنظام في آن واحد. وقد دفعها موقفها الرافض لرعاية قتال ضد النظام؛ كي لا تنزلق إلى إدارة حرب بالوكالة، أو تنخرط في الصراع؛ فتصطدم بإيران وروسيا، علاوةً على رغبتها في تحقيق انتصارٍ سريعٍ على “الإرهاب”، قبل نهاية ولاية الرئيس أوباما، إلى هذا الاختيار، مع ما ينطوي عليه من تداعيات سياسية وعسكرية، محلية وإقليمية.
كما اختلفت التقديرات حول الهدف من العملية، أهو إضعاف “داعش”، أم القضاء عليه؟ حيث رجّحت تقديرات الخيار الأول (الإضعاف)؛ لأن وظيفة الصراع في سورية، وعليها، لم تنتهِ بعد؛ ما يجعل بقاء”داعش”في المعادلة ضرورة، في حين رجّحت أخرى أن القضاء على “داعش” بات ضرورة؛ لأنه جزء رئيس في الخطة “ب” الأميركية التي تسعى، من خلال القضاء عليها، لوضع النظام وروسيا وإيران أمام معادلة جديدة، ليس فيها إلا النظام والمعارضة السورية، ما يضطرهم للقبول بالحل السياسي الذي تسعى له، وهذا يفسر ردّة فعلهم السلبية على التحرك.
4- ردّات الفعل المحلية والإقليمية والدولية
جاءت ردّة فعل المعارضة السورية، بمستوييها السياسي والعسكري، رافضةً وناقدةً؛ فقد رأت في الاختيار الأميركي لـ “قوات سوريا الديمقراطية” وصفةً لحرب أهلية عربية- كردية، وذلك في ضوء ممارسات “الوحدات” في مناطق عربية، أو مختلطة، سيطرت عليها في المراحل السابقة، في تل حميس، وجنوب الردّ، والهول، وتلّ أبيض، وخاصةً بلدة “سلوك” التي باتت فارغةً من سكانها العرب، حيث قامت، وفق ما وثقه معارضون ومنظمات دولية، بإعدامات لشباب من هذه المناطق، بذريعة تعاونهم مع “داعش”، ومنعت أبناء هذه المناطق من العودة إلى قراهم بعد انتهاء المعارك، فضلًا عن ردّة فعل سكان الرقة نفسها، الذين عبّروا عن هواجس ومخاوف من دخول القوات الكردية إلى مدينتهم، وقد زاد في درجة استفزاز المعارضة إعلان ممثل “حزب الاتحاد الديمقراطي” في كردستان العراق، غريب حسّو، في تصريحٍ له نقلته وكالة “نوفوستي” الروسية، “ضمّ الرقة بعد تحريرها إلى الفدرالية”، التي كان “تجمع سوريا الديمقراطية” قد أعلن عن تبنيها في مؤتمر رميلان يوم 17 آذار/ مارس 2016.
حاولت قيادة “قوات سوريا الديمقراطية” تخفيف الهواجس والمخاوف؛ بالإعلان عن أن قوات “وحدات حماية الشعب” لن تدخل المدينة، وأنها ستحميها من الخارج، كما حاول صالح مسلم، الرئيس المشارك لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، في مقابلة له مع وكالة الأنباء الألمانية، احتواء ردّة الفعل العربية بالقول: “بعد التحرير ستكون هناك مجالس إدارة مدنية ومحلية، هي من تقرر أمر الرقة وشؤونها، مثلما صار في تلّ أبيض، وغيرها من المناطق التي تمّ تحريرها، وأهل الرقة سيكونون أحرارًا في اختيار من يريدون أن يحكمهم”، لكن كلامه جاء في منزلة صبّ الزيت على النار، لأن ما تم في تل أبيض، عمليًا، هو إلحاق المنطقة بـ “الإدارة الذاتية”، عبر تشكيل مجلس محلي مُسيطرٍ عليه، كما بذلت قيادة هذه “القوات” جهدًا كبيرًا لإبراز دور المكوّن العربي في عملية “تحرير” الرقة، بحيث تتجنب الحساسيات القومية المتصاعدة بين أبناء المنطقة، لكن المحاولة لم تثمر؛ فقد أعلن مجلس شورى قبيلة شمر المعارِض عن “رفضه القاطع لمشروع الفيدرالية”، وشدّد في بيانٍ له على “وقوفه ضد طروحات التقسيم التي تهدّد وحدة التراب الوطني”، كما صدر بيانٌ عن ممثليّ عددٍ من العشائر العربية، يؤكد عدم وجود عناصر تنتمي إلى عشائرهم ضمن صفوف “القوات” التي تخوض معركة الرقة، إضافة إلى ما أعلنته جهات مطّلعة عن انضمام الآلاف من أهالي الرقة إلى تنظيم “داعش”، خلال الأيام الماضية؛ بسبب تخوّفهم من الحملة الكردية.
ردّة فعل النظام، بدوره، جاءت سلبيةً، فعلى الرغم من محاولاته الدائمة، وبشتى الطرق، إغواء الإدارة الأميركية، علّها تقبله شريكًا في محاربة الإرهاب، فقد رأى في العملية تنفيذًا للخطة “ب” التي تحدث عنها وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، وانتقد إرسال قوات أميركية إلى الأراضي السورية، واعتبر العملية احتلالًا لا تحريرًا، وعبّر عن استيائه من “حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي”؛ لقبوله التنسيق مع واشنطن، بعد أن كان قد دعمه بطرق شتى، وتغاضى عن مواقفه وممارساته، وتعاون معه، ومدّه بالدعم العسكري واللوجستي.
أما تركيا والسعودية، وعلى الرغم من قيام الإدارة الأميركية بالتفاهم، حول العملية، مع كل منهما، ومحاولتها طمأنتهما بطرق متعددة، كامتناعها من تزويد “قوات سوريا الديمقراطية” بدبابات وراجمات صواريخ، وتأكيدها عدم الاعتراف بأيّ كيان كردي، بما في ذلك “الإدارة الذاتية” القائمة؛ فإن اختيارها لـ “قوات سوريا الديمقراطية”؛ لتحرير الرقة من “داعش”، قد أثار ردّات فعلهما وانتقاداتهما الحادّة للموقف الأميركي؛ فقد جدّدت الدولتان الدعوة إلى عملية عسكرية برية مشتركة، تنفذها قوات عربية لمحاربة “داعش” في الرقة وشمال حلب، من دون مشاركة الأكراد، ودعتا إلى الاعتماد على المقاتلين العرب في تحرير الرقة، ولم تقبلا ردّ واشنطن على اعتراضهما برفعها نسبة المكوّنات العربية، والتركمانية، والسريانية، التي تقاتل تحت راية “قوات سوريا الديمقراطية” مثل: “لواء تحرير الرقة” و “جبهة ثوار الرقة” و “جيش العشائر” و”لواء أحرار عنزة” و”كتائب شمس الشمال”، و”قوات الصناديد”، و”المجلس العسكري السرياني”، و”لواء جند الحرمين”، و”ألوية أحرار الرقة”، و”لواء التحرير”، و”لواء المهمات الخاصة 455″، و”لواء 99 مشاة”، و”لواء القعقاع”، و”لواء السلاجقة”، و”لواء السلطان سليم”، و”لواء عين جالوت”، و”قوات عشائر حلب”، و”تجمع ألوية الجزيرة”، و”قوات النخبة السورية”، التي تتبع “تيار الغد السوري”، وقد ارتفعت حدة ردّة فعل تركيا، وتنوعت انتقاداتها لواشنطن، من اتهامها بـ “الكيل بمكيالين”، إلى الإعلان عن خيانتها تركيا؛ لعدم تنفيذها الوعود التي قدمتها بخصوص مستوى تعاونها مع “حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي” وحدوده، وجاء الكشف عن وضع القوات الخاصة الأميركية شارات الحزب المذكور؛ لتؤجّج الانفعال التركي، حيث دعا وزير الخارجية التركي القوات الأميركية إلى وضع شارات “داعش” و”النصرة” في المرة المقبلة، وقد نقلت وسائل إعلام أجواء التوتر التي خيمت على لقاء الساعتين، الذي تمّ يوم 23 أيار/ مايو 2016، بين نائب رئيس الأركان التركي، يشار غولر، وقائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط، جوزيف فوتيل، وتحذير الأول للثاني بقوله: “لا تتفاجؤوا إذا تخلّى عنكم الأكراد حين يشتد الصراع ضد داعش”، وكان مصدر ديبلوماسي غربي، حضر اجتماع وزراء خارجية حلف الأطلسي في 23 أيار/ مايو2016، قد عكس ردّة الفعل التركية بقوله: “وضعت تركيا فيتو على إطلاق معركة الرقة بقوات يتقدمها الأكراد”، وأضاف: “هدّد الأتراك بأنهم سيمنعون استخدام القواعد العسكرية التركية، وسيقومون بمنع استخدام مجالهم الجوي؛ لدعم أي تحرك عسكري ضد مصالحهم”؛ فردّت واشنطن بالقصف من حاملة الطائرات هاري ترومان، الموجودة شرق البحر المتوسط، في رسالة واضحة إلى أنقرة، مفادها أن خياراتها كثيرة، ولا تقبل ليّ الذراع التي تنطوي عليها تهديداتها.
في حين أن السعودية، التي لا تعاني من فوبيا كردية، شدّدت على الدور الذي يجب أن يُسند إلى قوات المعارضة العربية؛ لاعتبارات تتعلق بدورها ونفوذها في سورية، حيث ثمة فصائل عربية تتلقى دعمها، وتعبّر عن نفوذها في الساحة السورية، والاعتماد عليها يوفر للمملكة مكانًا على طاولة المفاوضات حول مستقبل سورية، فضلًا عن تخوّفها من سابقة قيام فدرالية.
لم تكن تركيا والسعودية وحيدتين في هذا الموقف الرافض والمتحفظ، فالخطوة الأميركية استفزت أكثر من جهة إقليمية ودولية منخرطة في الصراع في سورية وعليها، من إيران إلى روسيا، حيث اعتبرت الأولى العملية خرقًا لسيادة الدولة السورية، وربطتها بما أشيع عن توجه أميركي روسي لتحويل سورية إلى نظام فدرالي، وهو توجه رفضته بشدة، وجمعها مع خصمها الإقليمي التركي، ودعت إلى المحافظة على وحدة واستقلال سورية، ورفعت وتيرة انخراطها في الصراع، في سورية وعليها، عبر زيادة إرسال المقاتلين الشيعة من جميع الجنسيات، وتطعيمهم بضباط من الحرس الثوري، وجيشها النظامي؛ لتكثيف حضورها في الساحة، ولقطع الطريق على أي حلّ، قد تكون أميركا وروسيا اتفقتا عليه، لا يحترم مصالحها، وفي السياق ذاته، جاء قبولها بإدراج إقامة “هيئة حكم انتقالية” في سورية، في البيان الذي صدر عن اجتماع فيينا الأخير؛ للتخفيف من صورتها كمتصلّبة، وللإعلان عن استعدادها للمساومة البناءة.
روسيا لم ترتح لنزول القوات الخاصة الأميركية على الأرض السورية، حتى لو كان هدفها محاربة “داعش”؛ لانعكاسه السلبي على دورها وحصتها من الكعكة، فانتقدت إرسال القوات، وعَدّته خرقًا للسيادة السورية، وطالبت واشنطن بتنسيق تحركها مع النظام السوري، مع أنها تعلم أن ذلك غير وارد؛ لأنه سيمنح النظام أوراق قوة، ويضعه في موقع المنتصر؛ ما يغريه برفض الدخول في عملية الانتقال السياسي، ولم تتقبل انفراد الولايات المتحدة بتحرير الرقة، فقد نقلت وكالة “إنترفاكس” الروسية عن نائب وزير الخارجية الروسي، أوليغ سيرومولوتوف، قوله: “إن موسكو كانت منذ البداية مستعدة لتنسيق المواقف مع واشنطن، وخصوصًا ما يتعلق بالوضع في الرقة”، واستغل وزير خارجيتها الإعلان عن بدء عملية تحرير الرقة؛ ليصرح بأن “موسكو مستعدة للتنسيق مع التحالف الكردي العربي، ومع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة؛ لشنّ هجومٍ من أجل طرد “تنظيم الدولة الإسلامية” من الرقة، وتابع جازمًا: “أقول بكل ثقة: إننا مستعدون لمثل هذا التنسيق”. ولما رفضت واشنطن الدعوة، لأنها رأت في الطلب مدخلًا لاستدراج اشتراك قوات النظام، والميليشيات التي تقاتل إلى جانبه، أعلن أن النظام السوري سيقبل التحرك الأميركي على الأرض السورية، إذا تم بالتنسيق مع القوات الروسية. وقد عدَّ محللون تكرار المطالبة الروسية بالمشاركة في تحرير الرقة، تعبيرًا عن عدم رضا موسكو الضمني عن استفراد واشنطن بمعركة استراتيجية مهمة، من وزن معركة الرقة؛ ما دفعها، هي والنظام؛ لإطلاق عملية عسكرية من منطقة أثريا، في ريف حماة، باتجاه مدينة الطبقة في محافظة الرقة.
5- التقديرات الميدانية
توقّع المحلِّلون العسكريون معركة قاسية وطويلة ودامية، وذلك؛ لاعتبارات تتعلق بعوامل عديدة، لعلّ أولّها أن القوات الكردية لا تبدو، على الرغم من الضجة الإعلامية حول العملية، والتي أرادت بها إبراز مكانتها في المعادلة الدولية، متحمّسة لمعركة الرقة؛ من منطلق تمسّكها بأولوية “تحرير” منبج وجرابلس، وربط عفرين بكوباني، وثانيها عدم وجود حاضنة شعبية لهذه القوات في الرقة، حيث أغلبية السكان من العرب، ولديهم هواجس ومخاوف من دخول القوات الكردية إلى المدينة، وهي المتهمة بتنفيذ جرائم تطهير عرقي ضد العرب في مناطق كثيرة، سبق ودخلتها كتل أبيض وتل حميس والهول … إلخ، وقد وظّف “التنظيم” الموضوع، ونجح في تجييش مشاعر العداء لهذه “القوات” بين عرب المحافظة، وثالثها الحساسيات والتباينات بين الفصائل المنضوية في “قوات سورية الديموقراطية”، حول الدور الذي ستلعبه هذه الفصائل في القتال، وفي الرقة بعد تحريرها، ورابعها رمزية المدينة بالنسبة لـ “داعش” الذي قام بتحصينها، وتجهيز حقول الألغام والمفخخات والانتحاريين، وتحصين مواقعه في الجهة الشمالية للمدينة، خاصة “السجن المركزي”، ومحيط “الفرقة 17″، و”مطحنة الرشيد”؛ كونها نقاط تمركز أساسية للدفاع عنها، وقام بحفر الخنادق حولها، كما قام بنشر حواجز طيارة عند مدخل المدينة الجنوبي، وعند جسر الصوامع شمالها، والتدقيق في هُويات المارة؛ وهذا يتسق -إلى حدّ كبير- مع تقدير قيادة “داعش”، التي لم ترَ في التحضيرات والحشد ما يقلق؛ فأعطت الأولوية لمواجهة عملية العزل والتطويق، التي بدأت مؤشراتها في ريف حلب الشمالي، حيث الاستعدادات لإخراجها منه، وقطع طرق تواصله مع الخارج، جارية على قدم وساق؛ فنقل قوات النخبة لديه من الشدادي (لواء الصحابة)، ومن الرقة (لواء الصديق)؛ لشنّ هجومٍ استباقي على مارع، وفي حال نجاحه، سيتوجه إلى إعزاز والحدود مع تركيا؛ للإبقاء على خطوط إمداه مفتوحة وسالكة.
وقد جاء توضيح القيادة الميدانية لـ “قوات سوريا الديمقراطية”؛ ليعكس هذه الصعوبات، حيث أعلنت أن هدف الهجوم الحالي تحرير ريف الرقة، وعزلها عن ريفيها: الشمالي والغربي، وحصر قوات “التنظيم” في المدينة التي ستكون هدف المرحلة الثانية، توضيح له دلالتان: إما أن تكون “قوات سورية الديمقراطية”، وعمادها قوات كردية، غير جاهزة لمهاجمة الرقة، وإما لتبرير عدم تحمس قيادتها للقيام بالعملية، في ضوء توجه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لحصر عملياته القتالية في مناطق الكثافة السكانية الكردية؛ لأن أولوية هذه القيادة التوجّه إلى منطقة جرابلس – منبج؛ لاستكمال السيطرة على الشريط الواصل إلى منطقة عفرين؛ للوصل بينها وبين عين العرب/ كوباني؛ بحيث تحقق تصوّرها بإقامة حكم ذاتي، على مساحة متصلة، من المالكية (أقصى شمال شرق سوريا) إلى عفرين (أقصى شمال غرب سوريا)؛ ما اضطُر واشنطن إلى الموافقة على السماح لها بالعبور إلى الضفة الغربية لنهر الفرات باتجاه منبج، على الرغم من الاعتراض التركي الواضح، ثمنًا لقبولها شنّ عملية عسكرية على “داعش” في ريف الرقة الشمالي والغربي.
6- الفرص والمخاطر
انطوى تكليف “قوات سوريا الديمقراطية”، التي تغلب عليها “وحدات حماية الشعب” الكردية، بالقيام بمحاربة “داعش” في الرقة، على فرصٍ ومخاطرَ في آنواحد؛ فـقد أثبتت هذه “القوات” جدارتها في مواجهة “داعش” في أكثر من موقع ومعركة، ليست معركة تحرير عين العرب/ كوباني إلا أنموذجها الأبرز، ومعارك رأس العين، وتل حميس، وجنوب الردّ، والهول، واليعربية، والحسكة، وتلّ أبيض، والشدّادي، وسدّ تشرين، شاهدة على استعداداتها وقدراتها.
غير أن استعداداتها وقدراتها الكبيرة، لا يمكن أن تبرر، وحدها، اختيارها المهمة، خاصّة أنها تسعى إلى فرض مشروعٍ سياسيٍّ لا يحظى بإجماع وطني، وأن سجلها السياسي والحقوقي يشي بممارسات عنيفة، وغير قانونية، ضد المواطنين العرب في المناطق التي انتزعتها من “داعش”، والرقة منطقة معظم سكانها من العرب؛ ما يثير هواجس ومخاوف من تكرار هذه الممارسات، وهذا يطرح علامات استفهام حول منطقية الاختيار الأميركي وبراءته، علاوة على أن تمكينها من “تحرير” الرقة؛ سيحوّلها إلى قوة مهيمنة على الأكراد ومصيرهم في سورية، وعلى مساحات شاسعة من الأراضي، وهذا سيزيد من فرصها في تعويم مشروعها، ويخلق بيئة عدائية، واقتتالًا داخليًا كرديًا- كرديًا، وعربيًا- كرديًا.
قد تنجح “قوات سوريا الديمقراطية” في تحرير مساحات جديدة من “داعش”، وتقدّم دعمًا غير مباشرٍ لمعركة العبادي ضد “التنظيم” في الفلوجة، لكنها لن تستطيع “تحرير” الرقة من دون قبول ومشاركة عرب المحافظة، وهذا يستدعي من هذه “القوات”، ومن رعاتها الأميركيين، إقناع البيئة العربية، بالملموس وليس بالكلام، بأنها لن تضام، وأن الرقة ستبقى لأهلها، شكلًا ومضمونًا، وأن التحرير لن يتم على أنقاض مصالحهم وحقوقهم، كما يستدعي إقناع الدول الداعمة للمعارضة بأن عملية التحرير لن تكون على حساب مصالحها، ومصالح حلفائها من فصائل المعارضة المسلحة، بدءًا من وقف هجمات ” قوات سوريا الديمقراطية” عليها، مرورًا برفع الحظر عن دعمها بالسلاح النوعي والذخائر، من أجل تمكينها من الدفاع عن مناطق سيطرتها ضد “داعش” والنظام في آن، وصولًا إلى إشراكها في معركة عزل الرقة، وتشتيت قوات “داعش”، ودعمها وإسنادها، خلال المواجهة، بالأسلحة والذخائر والمعلومات الاستخبارية والقصف بالطائرات.
ليست المعركة المفتوحة ضد “داعش” في ريفيّ الرقة وحلب المعركةَ الأخيرة، لكنها المعركة التي ستحدّد صورة الموقفين العسكري والسياسي وتوازنات القوى، وترسم تخوم نفوذ القوى، المحلية والإقليمية والدولية، على الأرض السورية، تمهيدًا لتوظيفها على طاولة التفاوض وبازار المساومات.