المحتويات

أولًا: مقدمة

ثانيًا: توصيف المشهد في محافظة إدلب

ثالثًا: رسائل نظام بشار الأسد وحلفائه الإيرانيين

رابعًا: المطرقة الروسية

خامسًا: السندان التركي

سادسًا: تهويمات كيانات المعارضة السورية الرسمية

سابعًا: خاتمة

 

 

 

أولًا: مقدمة

يعمل نظام بشار الأسد وإيران على تغذية الشعور بالقلق لدى سكان محافظة إدلب، الذين يناهزون ثلاثة ملايين نسمة، أغلبيتهم من المدنيين، شعور القلق هذا يخففه أمل المعارضة السورية في أن يكون الموقف التركي ثابتًا في رفضه شنّ هذه الأطراف عملية عسكرية للاستيلاء على المحافظة بوصفها خاضعة لاتفاق “خفض التصعيد” الذي يرعاه الثلاثي: روسيا وتركيا وإيران، وبوصفها أيضًا آخر معاقل المعارضة السورية المقربة من تركيا.

ضمن هذه المعادلة المعقّدة، وغير مضمونة النتائج بالنسبة إلى المعارضة السورية، يترقب السوريون ما سيحدث في شمال غرب سورية بقلق بالغ، حيث تتراوح التوقعات بين عمل عسكري يشنّه النظام بدعم إيراني يتسبب بعشرات آلاف الضحايا وتشريد مئات الآلاف من السكان، وبين اتفاق على تهدئة يتلوه تسليم أو تسويات ومصالحات، وبين احتمال ضئيل جدًا يُبقي هذه المنطقة بيد المعارضة السورية إلى أجل.

 

ثانيًا: توصيف المشهد في محافظة إدلب

منذ أن أُعلن في منتصف أيلول/ سبتمبر 2017 في أستانا عن إدلب كمنطقة رابعة تخضع لاتفاق “خفض التصعيد”، بدأت المنافسة المُعلنة والمُضمرة على هذه المنطقة بين تركيا وروسيا على وجه الخصوص، نظرًا إلى أهميتها الاستراتيجية بالنسبة إلى الطرفين؛ فهي للجانب التركي جدار أمامي تضمن الأمن القومي، وتُبعد مخاطر الميليشيات الكردية من جهة، ومنطقة استقرار لفصائل المعارضة المسلحة المقربة من تركيا من جهة أخرى، بينما هي للجانب الروسي عنوان استقرار لنظام الأسد، ومدخل للإعلان عن انتهاء الثورة أو “التمرد” وفقًا للمفهوم الروسي، والبدء بمسار الحل السياسي وفق أستانا الذي لن يضمن للمعارضة السورية إلا الفتات الذي لا يرتقي بأي شكل إلى مستوى مطالب الثورة، وكذلك هي منطقة ستضمن توسيع دائرة حماية قاعدة “حميميم” العسكرية الروسية، ومنع المقاتلين من الاقتراب من المنطقة الخضراء الروسية على الساحل السوري. وعلى هامش التنافس الروسي – التركي، هناك رغبة أميركية بيّنة في إنهاء ملف (هيئة تحرير الشام) والتنظيمات الإرهابية المرتبطة بها، والتخلص من تنظيمات قد تُقلق البيت الأبيض في يوم من الأيام.

إذًا، الوضع الاستراتيجي لإدلب وضع حساس؛ فجميع الأطراف المعنية والمنخرطة في الشأن السوري العسكري، مهتمة بالسيطرة عليها، وتتجاذبها في العلن وتتصارع عليها من وراء ستار، بحيث باتت هذه المحافظة من أهم الأوراق التي تُطرح على طاولة التفاهمات والتوافقات الإقليمية والدولية، بينما يبقى السوريون آخر من يعرف ما المصير المرتقب لها، وما الصفقة التي ستتم على حسابها وحساب السكان الذين يخشون تهجيرًا جديدًا وتغييرًا ديموغرافيًا أرهق سورية وشوّهها.

وفي محاولة دراسة الواقع من منظور سياسي وعسكري، يمكن ترجيح سيناريوهات متفاوتة في الضراوة والقسوة، بدءًا من أن تواجه المحافظة مصير مدن سورية مُدمّرة، أو مصير مدن سورية مُستسلمة، ويبقى الأمل الأفضل في أن يكون مصير المحافظة نتاج تفاهم تركي – روسي، يُجنّبها عملًا عسكريًا ستكون نتائجه في غاية السوء وفق تقديرات دولية وأممية.

محافطة إدلب، التي باتت آخر معاقل المعارضة السورية المسلحة، تخضع لإرادة مجموعة من الفصائل الإسلامية الطابع، أهمها تنظيم (هيئة تحرير الشام)، و(جبهة تحرير سورية)، و(صقور الشام)، و(جيش الأحرار)، و(الحزب التركستاني)، و(تنظيم حراس الدين)، و(فيلق الشام)، وهذه الفصائل ليست مندمجة ولا مؤتلفة تمامًا، على الرغم من وجود تنسيق الحد الأدنى بينها، ومنذ أن ارتفعت نبرة نظام بشار الأسد التهديدية للمقاتلين في هذه المحافظة، بدأت بوادر تراصّ بين هذه الكتائب، وهذا ما تأمله المعارضة، على الرغم من الخوف من الأكثر تطرفًا منها والتي تُعتبر متشددة، وهو ما قد يكون نقطة سلبية قد لا تستطيع المعارضة المسلحة إزالتها بسهولة.

برزت مسألة وجود المقاتلين الأجانب “المهاجرين” في سورية، بعد الحديث عن قرب فتح ملف إدلب. إذ باتوا أكثر ترقبًا لمصيرهم، بعد مؤشرات متزايدة عن قرب شنّ النظام لهجوم على المحافظة. ويوجد بضع مئات من “المقاتلين الأجانب” في صفوف بعض الفصائل السورية، حيث ينتمي معظمهم إلى (هيئة تحرير الشام)، إضافة إلى أن بعضهم يشكلون مجموعات مستقلة، تعمل في أرياف حلب وإدلب وريف اللاذقية مثل (الحزب الإسلامي التركستاني) وكتائب (الإزبك) ومجموعات “شيشانية”.

أفاد تقرير شهري صادر عن مجموعة من وكالات الإغاثة الأممية، في أواخر حزيران/ يونيو الماضي، بأن هجومًا مرتقبًا لجيش النظام السوري على مقاتلي المعارضة في محافظة إدلب قد يشرد ما نحو 700 ألف شخص. وقال بانوس مومسيس، منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية “إن سكان المحافظة يمكن ان ينزحوا باتجاه الحدود التركية إذا وقع هجوم كبير. وأضاف أن مثل هذه المعركة ستكون أكثر تعقيدًا ووحشية مقارنة بأي شيء حدث من قبل حتى الآن في الحرب المستمرة منذ سبع سنوات”.

كما حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) من أن معركة إدلب “يمكن أن تؤثر في حياة أكثر من مليون طفل يعيش العديد منهم في مخيمات اللاجئين”. وقالت إن العملية العسكرية ربما تشرد نحو 350 ألف طفل “لا يجدون مكانًا يذهبون إليه”. وناشدت “إعطاء الأولوية للأطفال وحاجاتهم، ووضعهم فوق المكاسب والأجندات السياسية والعسكرية والاستراتيجية”. وحذرت من أن “العنف المتصاعد سيؤدي إلى عواقب كارثية في أكبر تجمع للنازحين في سورية”.

 

ثالثًا: رسائل نظام بشار الأسد وحلفائه الإيرانيين

تتزايد رسائل نظام بشار الأسد وحلفائه الإيرانيين، بعمل عسكري في الشمال السوري، وتحديدًا في محافظة إدلب، عبر إرسال تعزيزات عسكرية إلى المنطقة، أو بقصف مواقع في المحافظة ومحيطها، وبإلقاء منشورات ورقية على قرى وبلدات في إدلب تدعوها إلى “المصالحة”. هذه المؤشرات تترافق مع إعلان “هيئة تحرير الشام” (التي تشكّل جبهة النصرة عمودها الفقري) رفضها حل نفسها، موفرة ذريعة للنظام وحلفائه للقيام بعمل عسكري في الشمال، ليبقى مصير المحافظة مرتبطًا بشكل كبير بالتفاهمات الروسية – التركية.

وعلى الرغم من أن نظام بشار الأسد يُدرك من دون شك أن الوضع في محافظة إدلب مختلف عن الوضع في العديد من المناطق السورية الأخرى التي سيطر عليها، وأن الموقف التركي متشدد ويُحسب له حساب، خاصة أن المنطقة “أمن قومي” تركي، والدعم التركي للمعارضة السورية المسلحة فيها يختلف عن الموقف الأردني الرخو والرمادي تجاه فصائل الجنوب، وأن أي هجوم عسكري على إدلب من قبل قوات النظام خارج سياق تفاهمات أنقرة وموسكو سيحمل من المخاطر الكثير.

التهديد بالهجوم على إدلب عبّر عنه رأس النظام، خلال مقابلة مع وكالة أنباء روسية في 27 تموز/ يوليو الماضي، ردًا على سؤال حول أولية القوات الحكومية “منذ بداية الحرب، حينما سيطر الإرهابيون على بعض المناطق في سورية، أكدنا بوضوح أن واجبنا يكمن في تحرير كل شبر من الأرض السورية”، مضيفًا “الآن هدفنا هو إدلب، لكن ليست إدلب وحدها، وهناك بالطبع أراضٍ في شرق سورية تسيطر عليها جماعات متنوعة. من بينها تنظيم (داعش)، الذي بقيت لديه بؤر صغيرة، وكذلك جبهة النصرة وتشكيلات متطرفة أخرى”. وأكد “لهذا السبب سنتقدم إلى كل هذه المناطق، والعسكريون سيحددون الأولويات، وإدلب واحدة منها”. كما أتى كلامه في (عيد الجيش)، في 1 آب/ أغسطس، لجنوده في السياق نفسه، حين قال “إننا على موعد قريب مع النصر”، ليعطي إشارات إلى نية النظام استكمال تقدمه للسيطرة على باقي المناطق السورية.

هذه التصريحات كرّرها ممثل السلطة في اجتماعات “سوتشي” الأخيرة للدول الضامنة، بشار الجعفري، حين قال إن “عودة إدلب بالمصالحات الوطنية هو مطلب الحكومة السورية، وإذا لم تعد فللجيش السوري الحق باستعادتها بالقوة”.

يبدو أن طموح النظام يتمثل -حاليًا- بفتح طريق حلب اللاذقية الدولي، الذي تشكل منطقة جسر الشغور إحدى أهم المناطق الاستراتيجية التي تقع عليه، وتشكل منطلقًا لعمل عسكري من أجل الاستيلاء عليه. حيث نقلت صحيفة (الوطن) المقربة من السلطة، في 12 آب/ أغسطس، عن مصادر عسكرية قولها إن “قوات الجيش استقدمت تعزيزات عسكرية إلى ريف حماة الشمالي، كخطوة لبدء عملية عسكرية في الشمال السوري” لافتة إلى ما وصفتها بـ “الدفعة الأضخم لقوات الجيش وهي في طريقها إلى ريف حماة الشمالي، ضمن التحضيرات العسكرية للسيطرة على إدلب”.

وكان لافتًا تأكيد رئيس الأركان الإيراني اللواء محمد باقري، وفقًا لوكالة (تسنيم) الإيرانية، خلال اتصال هاتفي مع وزير الدفاع السوري العماد علي أيوب في 10 آب/ أغسطس، على “مضي الجيش السوري قدمًا بكل عزم في مسار مكافحة الإرهابيين أكثر من أي وقت مضى”. مع العلم أن موقف إيران، التي تشجع النظام على الحسم العسكري، بات خاضعًا للمراجعة. إذ إن طهران تحتاج إلى مساعدة أنقرة بعد فرض العقوبات، وقد تكون إدلب موضوع مساومة بين الطرفين.

وزاد النظام من وتيرة الحرب النفسية والإعلامية التي يشنها على فصائل المعارضة في شمال غربي سورية، حين تحدثت صحيفة (الوطن) التابعة للنظام، في 15 آب/ أغسطس، عن أن “قوات النظام استقدمت الحشود الأضخم بتاريخ الحرب السورية” لاستعادة إدلب، لافتة إلى أنه “تم توزيع هذه الحشود على محاور التماس بريف اللاذقية الشمالي، وفي سهل الغاب، شمال غربي مدينة حماة”.

 

رابعًا: المطرقة الروسية

رفض الروس في اجتماع “سوتشي” الأخير، في 1 آب/ أغسطس منح ضمانات بمنع النظام من شنّ هجوم على إدلب، وقال مبعوث روسيا إلى سورية الكسندر لافرينتييف في مؤتمر صحافي “لا حديث عن هجوم كبير على إدلب”. لكنه شدد على “ضرورة وقف نشاط المجموعات الإرهابية”. وأضاف “دعونا المعارضة المعتدلة والأتراك إلى العمل لحل موضوع التهديدات ضد العسكريين الروس والجنود السوريين”، في إشارة إلى دعم روسي لمحادثات الأتراك مع فصائل الشمال السوري لتشكيل “جيش موحد” لمواجهة “جبهة النصرة”.

من جهتها، رأت صحيفة (كوميرسانت) الروسية أن “كيفية حل مسألة آخر منطقة خفض تصعيد في إدلب، ستحدِّد مصير التحالف بين الدول الضامنة الثلاث”. ففي مقال بعنوان (سورية الطويلة في مدينة سوتشي)، أشارت الصحيفة إلى أن “الوضع في إدلب أكثر تعقيدًا منه في الغوطة الشرقية وفي محيط حمص وجنوب سورية، وذلك بسبب استمرار إجلاء المسلحين إليها على مدى بضع سنوات والرعاية التركية لهم”. وأضافت أن “موسكو تعتز بالعلاقات مع أنقرة وتبحث عن حل وسط، مدركة أنه في حال حدوث تصعيد، فإن تركيا قد تعزز الفصائل المسلحة السورية وتفشل جميع المفاوضات”.

وكان السفير الروسي في دمشق، ألكسندر كينشاك، قد أفاد في تصريحات صحفية سابقة بأن “سيناريو جنوب سورية قد يتكرر في إدلب”. كما شدّد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في مؤتمر صحفي يوم 2 آب/ أغسطس، على ضرورة “تطهير الجيوب المتبقية في إدلب، بالتزامن مع حل مسألة عودة اللاجئين إلى سورية”.

وقد كُشفت في 28 تموز/ يوليو، خطة روسية للتفاهم عليها مع تركيا “تضمن للنظام فتح ممر آمن بقضم أجزاء من جنوب إدلب وغربها”. وبدا ذلك محاولة لتأمين طريق التجارة إلى الساحل، إضافة إلى قاعدة حميميم الروسية، فيما دعت “قادة الجماعات المسلحة إلى وقف الاستفزازات واختيار التسوية السلمية في المناطق التي تسيطر عليها”. ويبدو أن الخطة تقضي بتقدم قوات النظام نحو السيطرة على كل مدينة جسر الشغور وقرى ريفها الغربي، وصولًا إلى منطقة سهل الغاب، ومعسكر جورين، القاعدة العسكرية الأبرز، في ريف حماة الغربي. وبذلك يتم فصل ريف إدلب الغربي ومناطق سيطرة المعارضة في ريف اللاذقية، ومن ثم السعي لفتح الطرق بين حلب واللاذقية ودمشق عبر إدلب.

ويبدو أن ما جمع النظام مع ممثلي (مجالس سورية الديمقراطية – مسد) حول طاولة واحدة هو إبلاغ موسكو لأنقرة أنها لن تطلق يدها في إدلب وتل رفعت من دون مقابل، وأن الثمن -على الأقل- سيكون مساعدتها في الوصول إلى ما تريده، لناحية عدم عرقلة مشروعها في المفاوضات المباشرة السورية – السورية، وحماية دور النظام في المرحلة الانتقالية السياسية والدستورية، ثم قبول الصيغة التي ستقترحها موسكو حول إشراك أكراد (قسد) في صناعة المشهد السياسي الجديد. وكان الثمن، كما يبدو، تعهدًا روسيًا لتركيا بعدم قيام الدولة الكردية المستقلة على حدودها الجنوبية.

وجاءت تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في أنقرة يوم 14 آب/ أغسطس، عملًا بمبدأ “العصا والجزرة”، بهدف الاستمرار في تنفيذ الخطة الروسية في سورية مع مراعاة المصالح التركية؛ فخلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره التركي، مولود جاويش أوغلو، قال: إن المهمة الرئيسة اليوم في سورية هي القضاء على (جبهة النصرة)، لافتًا إلى صعوبة الوضع في إدلب وتأييد الروس لدخول “الجيش السوري الذي يملك كامل الحق في قمع هذه المظاهر، كونه يتواجد على أرضه ويحارب لأجل استقلاله ضد الإرهابيين وبما يتوافق مع القانون الدولي”. وأضاف “بالنسبة إلى سورية، نناقش اليوم عبر قنوات مختلفة مهمات التغلب على مقاومة الجماعات الإرهابية الأخيرة، ومهمة العودة إلى الحياة السلمية للمعارضة المسلحة التي ترفض الأساليب الإرهابية، ومناقشة تنفيذ الاتفاقيات حول مناطق خفض التصعيد، بما في ذلك في إدلب، ونأمل بحلّ مسألة إدلب من خلال التعاون”. وكشف عن تباين مواقف حكومة بلاده مع أنقرة وبرز ذلك في قوله “تركيا وروسيا وإيران، التي لا تتطابق دومًا مواقفها تجاه محاربة الإرهاب أو في جوانب أخرى من الأزمة السورية، استطاعت على الرغم من ذلك الاستعداد لحل مشكلات محددة”.

 

خامسًا: السندان التركي

تُعدّ إدلب وشمال غربي سورية من أهم الملفات بالنسبة إلى تركيا، بسبب القرب الجغرافي من جهة، ولرغبتها في تحويل شمال وشمال غربي سورية إلى منطقة نفوذ لها بلا منازع، على غرار مناطق نفوذ اللاعبين الإقليميين والدوليين الآخرين في سورية. ومن المرجح أن يكون مصير هذه المناطق معلّقًا -في الوقت الراهن- بانتظار نضوج تفاهمات تركية – روسية تشمل العديد من المناطق. كما أن مصير (هيئة تحرير الشام) (التي تشكّل جبهة النصرة نواتها الصلبة) يؤدي دورًا بارزًا في تطور الحوادث، إما إلى تهدئة موقّتة، أو تصعيد كبير يؤدي إلى انهيار تفاهمات أستانا العسكرية والسياسية بشكل كامل، وهو ما تحاول موسكو وأنقرة تفاديه.

إن مفتاح محافظة إدلب بيد تركيا، فهي التي بإمكانها تغليب خيار على آخر، ولكنها استشعرت الخطر الذي يحيق بإدلب، وبعض مناطق الشمال، واتصال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، وإشارته إلى أن تقدُّم قوات النظام السوري نحو الشمال، بشكل مماثل لما حصل في الجنوب، يعني تدمير جوهر اتفاق أستانا، لم يكن سوى خطوة استباقية لما ستحمله الأيام المقبلة.

لقد بدا موقف (هيئة تحرير الشام) وكيفية التعامل معها من جانب الفصائل وتركيا، هو كلمة السر في نزع الذريعة من يد روسيا والنظام لاستهداف المحافظة، كون الهيئة مصنفة من جانب مجلس الأمن كمنظمة إرهابية. وهي معضلة تفيد معطيات عديدة بأن تركيا تحاول، منذ بعض الوقت، معالجتها سلميًا عبر إقناع الهيئة بحل نفسها، وإذا لم ينجح ذلك، فقد يكون الخيار الأخير هو مواجهتها عسكريًا عبر الفصائل الأخرى في المحافظة المدعومة من تركيا.

لعل إعلان فصائل المعارضة في المحافظة وشمال غربي سورية توحيد جهدها، واندماجها في تشكيل جديد تحت مسمى (الجبهة الوطنية للتحرير)، هو خطوة في هذا الاتجاه، أي تشكيل قوة ردع للجم النظام وإيران عن التفكير بعمل عسكري، ومواجهة هذا العمل إن تم، من جهة، وتشكيل قوة قادرة على مواجهة (هيئة تحرير الشام) في حال رفضت حل نفسها، من جهة أخرى.

في ظل تواتر الحديث عن السيناريوهات التي تنتظر محافظة إدلب، قدمت تركيا في 22 من يوليو/ تموز، بحسب ما ورد في صحيفة (نيزانسيمايا جازيتا) الروسية في 26 تموز/ يوليو، إلى روسيا ورقة أسمتها “الورقة البيضاء” بشأن الحل النهائي في إدلب ومحيطها. وتضمنت الورقة المذكورة: إعادة التيار الكهربائي والمياه وعودة المرافق الخدمية، وفتح طريق حلب – دمشق، وإزالة السواتر الواقعة في الطريق الواصل بين منطقة دارة عزة وحلب الجديدة، بما يستجيب لرغبة روسيا في إعادة تفعيل الطريق الدولي الرابط لتركيا بالأردن، في ظل الحديث عن حلٍّ اقتصادي، تدخل فيه إعادة افتتاح أوتوستراد دولي أو ما يسمى بـطريق M5 الذي يمرّ من حلب حتى حماة مرورًا بمدن سراقب، ومعرة النعمان وخان شيخون، وينتهي بمعبر نصيب الحدودي مع الأردن. وإذا ما جرى افتتاح هذا الطريق، فإن الوضع الاقتصادي سوف يتغير في البلدان الثلاثة، سورية وتركيا والأردن. حيث يعمل هذا الطريق على إعادة تعويم النظام اقتصاديًا، ويسهّل عملية فتح ملف إعادة الإعمار، وفي الآن نفسه يخدم الحركة التجارية التركية.

وهكذا، يُلاحظ أن الورقة تعكس طموح تركيا في تثبيت نفوذها، سواء المباشر أم غير المباشر، في إدلب ومحيطها، من خلال استباق التحركات الإقليمية والدولية، لتوجيه رسالة مفادها “لن نخسر بقعة جغرافية تشكل أهمية استراتيجية بالنسبة لنا من حيث أمننا القومي، ولا سيما في ظل احتمال حدوث أزمة لجوء جديدة”.

تبدو مهمة تركيا، الضامن لمحافظة إدلب ضمن اتفاقات أستانا، شاقة لناحية معالجة وضع التنظيمات الإرهابية، إلا أن الوقائع على الأرض تشي بأنها منفتحة على كل الخيارات الممكنة لحلّ عقدة وجود النصرة ومثيلاتها في إدلب: من ناحية هي تعمل على إقناع تنظيم (هيئة تحرير الشام) بحل نفسه وتسليم سلاحه ومن ثم الانصهار ضمن تشكيل يضم فصائل (الجيش الحر)، في موازاة ذلك تعزز نقاط مراقبتها في محافظة إدلب بسواتر إسمنتية ضخمة، إضافة إلى تعزيز تواجدها العسكري، ما يبدو أنه استعداد تركي لمواجهة احتمالات صدام بين القوات التركية مع تنظيم (هيئة تحرير الشام) والتنظيمات المتشددة الأخرى.

إدلب تحفظ لتركيا، في حال بقيت تحت سيطرتها غير المباشرة، ورقة ضغط ضد الأطراف الأخرى، وتكفل لها استمرار نفوذها السياسي والأمني في عملية التسوية النهائية للأزمة السورية. وقد تظهر المخاطر الأمنية بشكل جلي في حال توصلت وحدات الحماية الكردية لاتفاق مع النظام السوري بشأن صيغة تقضي بمشاركتهم في المعركة المفترضة في الشمال السوري، مقابل فتح جبهة عفرين من جهة محافظة إدلب ومحيطها، في ظل وجود مباحثات بين الطرفين حيال المعركة. وفي ضوء هذه المباحثات مع وحدات الحماية الكردية يبقى مستبعدًا أن تجد تركيا أرضية ملائمة تترك فيها الخيار للنظام السوري بضمان أمن واستقرار الشمال، لذا فإن الضامن الأرجح هو الإبقاء على نقاط المراقبة والحشود العسكرية التركية في المحافظة أو بحيّز منها إلى جانب فصائل المعارضة المسلحة.

ويبدو أن عملية عسكرية مشتركة، لم تتحدد كل تفاصيلها بعد، تشمل عمليات عسكرية تركية ضد (جبهة النصرة) بمساعدة المعارضة المصنفة بأنها معتدلة. وقد جاءت تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، في 14 آب/ أغسطس، في مؤتمره الصحفي مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، في أنقرة، لتدعم معلومات الحملة المشتركة ضد (النصرة)، إذ قال إنه “يجب حل الأزمة المتعلقة بإرهابيي جبهة النصرة والمجموعات الإرهابية التي جاءت من حلب والغوطة الشرقية وحمص”، وأنهم سيجدون حلًا لها مع الجانب الروسي والحلفاء “باستهداف الإرهابيين فقط من دون المدنيين”.

في مقابل الضمان الروسي لاستمرار حماية المدنيين وبقاء الوضع كما هو في إدلب، والتركيز على استهداف النصرة، هناك حديث روسي يشمل منح النظام ممرًا جنوب غرب محافظة إدلب، يربط محافظة اللاذقية بريف حمص الشمالي، وهو من أجل الموافقة على عدم اجتياح إدلب.

يبدو أن آليات الحل، التي تطرح بين تركيا وروسيا، قائمة منذ معركة حلب ولن تتوقف، فهناك مصالح تركية تتركز على عدم وجود ما يهدِّد أمنها القومي من الحدود مع سورية، بالإبقاء على وجودها العسكري في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون والحفاظ على نقاط المراقبة في الشمال السوري أو بجزء منه، وإقامة منطقة جغرافية مستقرة لضبط ملف اللاجئين والنازحين.

ومع تأكيده أن تركيا أنشأت 12 نقطة مراقبة للإشراف على الوضع الميداني في إدلب، وأنّها “تعمل بكل ما في وسعها لتخفيف حدة التوتر في هذه المنطقة”، شدّد أوغلو على أهمية “وجود تعاون مع روسيا والقوى الاستراتيجية الأخرى لكشف الإرهابيين والقضاء عليهم والفصل بين المتطرفين والمعارضة السلمية ومكافحة الإرهاب معًا”.

وتعدّ التصريحات التركية الجديدة حول إدلب “أقل حزمًا” عن سابقتها، إذ كان جاويش أوغلو قد هدّد في آخر تصريح له بالانسحاب من اتفاق أستانا عند بدء أي عمل عسكري من جانب النظام أو روسيا.

وفي الأحوال كلها، فإن مستقبل المنطقة مرهون بحجم التفاهمات التركية – الروسية، التي تقابلها تلبية رغبات الطرفين. وقد تتمسّك أنقرة برفض التطبيع السياسي مع دمشق، لكنها قد تبدي ليونة أكبر في قبول فتح خطوط الاتصال بين النظام والقوى الكردية، وربما لاحقًا بين دمشق وقوى معتدلة في المعارضة السورية المقربة منها، إذا ما شعرت أن ما تريده في الملف السوري قد ينجح عبر هذا السيناريو.

 

سادسًا: تهويمات كيانات المعارضة السورية الرسمية

تتوهم المعارضة السورية أنها فرضت واقعًا جديدًا في محافظة إدلب ومحيطها شمال وشمال غربي سوريا، حين شكلت (الجبهة الوطنية للتحرير) في 1 آب/ أغسطس. إذ لا يستبعد أن يؤول التشكيل الجديد إلى ما آل إليه (جيش الثورة) في درعا، خاصة أن حلفاءهم السابقين في (جيش الفتح)، أي جهاديي (تحرير الشام)، هم الهدف الأساسي للمعركة المقبلة في إدلب.

ويظهر الوهم أيضًا عند رئيس هيئة التفاوض السورية نصر الحريري، في مقابلة مع وكالة (فرانس برس)، حين قال “نتبع كل الإجراءات لحماية إدلب والمدنيين فيها بالتعاون مع تركيا كدولة ضامنة”. وتحدث عن عوامل عدة تحول دون شن هجوم عسكري على المحافظة، بينها أن “المعركة لن تكون سهلة، مع وجود عشرات آلاف المسلحين من أهالي المنطقة أو الذين تم تهجيرهم من مناطق فرضت عليها التسويات”.

في الواقع، يخشى الشارع السوري المعارض من ظهور شخصيات، داخل المعارضة، تتعامل مع النظام، من أجل تمهيد الطريق له للعودة مرة أخرى إلى الشمال السوري، من خلال ضرب الروح المعنوية للحاضنة الاجتماعية للثورة. خاصة بعد أن استفاد مما بات يُعرف بـ (الضفادع)، للتغلب معنويًا وعسكريًا على المعارضة السورية، خصوصًا في غوطة دمشق وفي محافظة درعا جنوب البلاد، وهي تحاول تكرار السيناريو نفسه في محافظة إدلب.

وما يزيد الخشية السورية هو أن الفصائل العسكرية المعارضة فشلت في إدارة مناطقها “المحررة”، ولم تستوعب توجهات القوى الدولية والإقليمية الفاعلة على الأرض السورية، وتمسكت بتفرقها، ما يجعلها ستقبل بالشروط التي كانت مرفوضة بالنسبة إليها، خاصة أنها لم تعد تتحكم في اتجاه الأوضاع داخل المحافظة.

من المؤكد أنه ما كانت تلك المآلات ممكنة لولا قبول الكيانات الرسمية المعارضة بممارسة دور شاهد الزور في تمثيلها لثورة السوريين، وارتهاناتها لأدوار وظيفية مرحلية.

 

سابعًا: خاتمة

يبدو الثابت الأهم في مسألة تحديد مصير إدلب هو وجود تنظيم (هيئة تحرير الشام)، إلى جانب بعض التنظيمات المتشددة الأخرى المرتبطة بتنظيم القاعدة. ولا يمكن التوصل إلى حل سلمي يجنّب المحافظة تدخلًا عسكريًا من دون حل مشكلة هذه التنظيمات، سواء من خلال إقناعها بحل نفسها بعد تسليم سلاحها لتركيا، أو بالقيام بعمل عسكري للقضاء عليها من قبل فصائل الجيش الحر مدعومًا من تركيا.

ويبدو أن أكثر من سيناريو ينتظر إدلب، منها العسكري لبعض المناطق، ومنها التسويات لمناطق أخرى. بمعنى آخر سيكون هناك سيناريو مزيج للمحافظة.

على أن حسم معركة إدلب، لا ينهي المشكلة السورية، إذ أصبحت سورية حالة معقّدة، قائمة على التوازن والتصادم والتفاهم في وقت واحد بين قوى دولية وإقليمية، تعتقد كل واحدة منها أنها صاحبة القرار.