يستدعي النجاح في احتواء التحرك الروسي، وفي إسقاط مطالب موسكو المسبقة، تحركًا مضادًا، مدروسًا ومنسقًا، مع القوى الدولية والإقليمية الداعمة لموقف المعارضة، يبدأ بتعزيز التوافق الراهن بين المعارضتين السياسية والمسلحة، والتمسك بإشراك الفصائل المسلحة في المفاوضات، خاصةً التي قبلت الحل السياسي وأصدرت بيانات بهذا الخصوص، والتمسك أيضًا بمرجعية محدّدة للمفاوضات وأولها بيان جنيف1 وقرارات مجلس الأمن 2218 و2254، وتأكيد ارتكاز الأخير على بيان جنيف1، وتجديد المطالبة بجدول أعمال واضح ومحدّد قبل بدء الجولة المقبلة من المفاوضات، وعدم الرضوخ للضغوط الأميركية، خاصة على شاكلة الدخول في مفاوضات من دون ضوابط ومرجعية محدّدة، والمطالبة بمفاوضات مباشرة لتجنب التضليل والخداع والمراوغة والإيهام بحصول تقدم والاستجابة لبعض المطالب.
مقدمة
لم تكن جولة مفاوضات جنيف الثانية سلسة، فهي لم تُكمل بحث جدول أعمالها، ويعود ذلك إلى غياب إرادة سياسية لدى النظام وحلفائه، وإلى تحرك الولايات المتحدة والاتحاد الروسي بدلالة الصراع في سورية وعليها، والاتحاد الأوروبي بدلالة مواجهة الإرهاب ووقف تدفق اللاجئين، إضافة إلى أن القوى المحلية والإقليمية مقيّدة بالتحرك الأميركي – الروسي، الأمر الذي دفع الهيئة العليا للمفاوضات إلى تعليق مشاركتها فيها بعد أن رفض المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا طلب تأجيلها.
عكست اجتماعات الجولة الأولى تمسك طرفي الصراع (النظام والمعارضة) كل بموقفه، والسعي لتجنب تحمل مسؤولية فشل المفاوضات وإغضاب المجتمع الدولي ومواجهة ضغوطه. في الوقت نفسه، ناور النظام حول القضايا الإجرائية وأصرّ على مناقشة ورقته (عناصر أساسية للحل السياسي في الجمهورية العربية السورية) التي قدمها إلى المبعوث الدولي، بالتوازي مع تحرك عسكري قام به على أكثر من محور، إضافة إلى عرقلته إدخال المواد الغذائية والأدوية إلى المناطق المحاصرة وتجاهل بند الإفراج عن المعتقلين الوارد في القرار الدولي 2254، وعمله على هُدن ومصالحات محلية يعتبرها بديلًا عن مفاوضات جنيف التي لا يرى طائلًا من ورائها.. كل ذلك من أجل تعزيز موقفه الميداني، والتفاوضي بالتالي، واستفزاز المعارضة ودفعها لخرق قرار وقف الأعمال العدائية والخروج من الهدنة والمفاوضات، ما يسمح له بالعودة إلى الخيار العسكري تحقيقًا لحسم يتبناه هو وإيران، يساعده في ذلك غضّ طرفٍ أميركي – روسي عن خرقه لوقف الأعمال العدائية، فضلًا عن تلقيه مديحًا روسيًا على سلوكه في قاعة المفاوضات، فقد أشاد المندوب الروسي في مقرّ الأمم المتحدة في جنيف، أليكسي إلورودافكين، بما أسماه “إيجابية” موقف وفد النظام الذي “يمكن التأسيس عليه لاستمرار المحادثات في أجواء بناءة”.
وفد المعارضة، الذي يعيش حالة تراجع الدعم الإقليمي والدولي لمطالبه، وتقييد تحركه العسكري بشروط الهدنة، وبخطر عودة القصف الروسي الوحشي، ناور هو الآخر، لكن مع سلوك إيجابي وتكتيك ناجح باعتماد موقف عملي من الطروحات التي وردت في ورقة النظام مع إضافة تعديلات عليها (قبل منها خمسة بنود بشروط وهي: وحدة سورية أرضًا وشعبًا، استعادة الجولان، الحفاظ على مؤسسات الدولة، مع اشتراط إعادة هيكلتها وإصلاحها، ومحاربة الإرهاب، مع التركيز على محاربة مولداته واعتبار الاستبداد هو المولّد الرئيس، ودعم الجيش، بعد أن تعود تبعيته إلى الهيئة الانتقالية وبعد إعادة هيكلته للوصول إلى جيش وطني)، مع الإصرار على تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات، لا دور لرأس النظام فيها، التي يعتبرها أساس الحل وقاعدة صياغة مستقبل المفاوضات وسورية في آن.
المبعوث الدولي، الذي كان طوال الفترة الماضية أقرب إلى التصور الروسي للحلّ، طوّر مقاربته عبر محاولة نسج توافق، ولو أولي، بين طرفي الصراع بالاستناد إلى إجابتيهما عن الأسئلة التي سُلّمت إليهما، والتي تتناول طبيعة المرحلة الانتقالية وطرق إدارتها وطبيعة النظام السياسي الجديد، ووضع وثيقة من اثني عشر بندًا تؤكد أن الهدف المتوخى عملية انتقال سياسي، وهي هنا تتطابق مع مطلبٍ للمعارضة، لكنها تتجنب الحديث عن هيئة انتقالية فتعود لتقترب من وجهة نظر النظام، وثيقة تعتمد تدوير الزوايا وتحاشي الدخول في نقاط خلافية قد تُفجّر المفاوضات، مثل مصير رأس النظام، وتضغط على الطرفين بالتلويح بسيف مجلس الأمن الدولي، وقد عكس ردّ الوفدين الأولي على الوثيقة أن الهوة بينهما ما زالت واسعة.
أضفى الاتفاق الأميركي – الروسي على وقف الأعمال العدائية مناخًا إيجابيًا على المفاوضات بإخراجها من حالة الاستعصاء ووضعها على طريق محدّدة سلفًا، لكن عدم تقديم صورة كاملة وواضحة للاتفاق أثار هواجس ومخاوف طرفي الصراع، فهو، بالنسبة إلى المعارضة، غامض وينطوي على مخاطرة ومغامرة في أن تكون صورته النهائية غير منسجمة مع طبيعة الصراع وجذوره كثورة شعبية ضد نظام استبدادي ولا تُلبي تطلعات الشعب السوري بالحرية والكرامة (“هناك عدم وضوح وعدم شفافية، ولا نعلم ماهية الاتفاقات التي تمت بكل الأحوال”، وفق قول منسق الهيئة العليا للمفاوضات رياض حجاب). كذلك الحال بالنسبة للنظام، حيث لا علم لديه بما سيُطلب منه، وما هي الخاتمة؟ وما مدى تطابقها مع توجهاته وخياراته؟ هذا إضافة إلى تحفّظ أطراف إقليمية طامحة إلى الحصول على حصة كبيرة من الكعكة السورية!؟ ويكفي أن نقرأ إعلان كمال خرازي، رئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية في مكتب مرشد الثورة الإيرانية، في دمشق “إن المفاوضات الحالية في جنيف يجب أن تراعي حقوق الشعب والحكومة الشرعية السورية”، وتأكيده “رفض بلاده لأي نتائج تخالف ذلك”، وتمسّك كل من السعودية وتركيا وقطر برحيل رأس النظام.
وقد زاد الوضع إرباكًا خرق النظام الواسع لوقف الأعمال العدائية وعودته إلى استخدام البراميل المتفجرة بكثافة، بالتزامن مع طرح رئيسه تصوّره لعملية الانتقال السياسي بصورة فرّغها من محتواها، ورفضه لفكرة تشكيل هيئة حكم انتقالية، وإعلانه عن استعداده لتشكيل حكومة تضم موالين ومعارضين ومستقلين بموجب دستور 2012، وقبوله إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، مباشرة من الشعب وليس من البرلمان، وتحديد رئيس وفده لجدول أعمال اجتماعات جنيف القادمة بمناقشة ورقة دي ميستورا وليس عملية الانتقال السياسي، وسعيه لاستثمار سيطرته على تدمر بتسويق نفسه شريكًا في محاربة الإرهاب، ما رأت فيه المعارضة محاولة للالتفاف على طلبها مناقشة تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات. وهذا، إضافة إلى إصرار الروس على إجراء تعديل على وفد المعارضة أو قبول أكثر من وفد بذريعة وجود “معارضات سورية”، وانكشاف هشاشة التوافق الأميركي – الروسي الذي عكسه السّجال الإعلامي بينهما على خلفية تسريب أميركي لما قيل إن كيري وبوتين ولافروف اتفقوا عليه بخصوص مصير رأس النظام، قاد إلى هيمنة التشاؤم على تقديراتها لاجتماعات جنيف القادمة، بسبب ما اعتبرته “غياب إرادة دولية لفرض انتقال سياسي”، وبالتالي، إلى التحذير من انهيار الهدنة في ضوء خروقات النظام المتكررة، حين لفتت إلى “أن اتفاق وقف الأعمال العدائية في سورية يقترب من لفظ أنفاسه الأخيرة”.
المواقف الدولية والإقليمية
أرادت الولايات المتحدة من مفاوضاتها مع الاتحاد الروسي في جنيف إيجاد مخرجٍ للاستعصاء السياسي الذي برز في المفاوضات غير المباشرة بين النظام والمعارضة، وفي تمسّك كل من موسكو وطهران بالنظام ورأسه، وبالإطار الدستوري الذي يستند إليه (دستور 2012)، فبحثت عن أساس للانتقال السياسي في دستور النظام تلافيًا للفراغ السياسي الذي سيحصل، بحسب زعمهم، في حال تطبيق خطة الهيئة الانتقالية ووقف العمل بالدستور الحالي الذي يُطالب به وفد الهيئة العليا للمفاوضات!؟ ففي ذلك إرضاء لروسيا وإيران والنظام، تأمل أن يدفعهم إلى انخراط جاد في المفاوضات والتوصل إلى صيغة انتقال سياسي مقبولة من جميع الأطراف. دافع واشنطن إلى ذلك تحقيق تصوّرها لحل قائم على توازن مصالح الأطراف الدولية والإقليمية يعتمد قاعدة “لا غالب ولا مغلوب”، يُفرض على الأطراف المحلية من خلال منع أي طرف من تحقيق مكاسب عسكرية تؤثر في النتيجة النهائية للمفاوضات. وقد برز هذا التوجّه في تصريحات جون كيري لصحيفة “نيويورك تايمز” يوم السبت 23 نيسان/ أبريل 2016، والكولونيل ستيفن وارن، الناطق باسم قوات التحالف ضد “داعش”، وإعلان الناطق باسم الخارجية جون كيربي في 26 نيسان/ أبريل 2016، وجود جبهة النصرة في حلب وقيام فصائل مسلحة بمهاجمة مواقع النظام فيها، تصريحات أرادت تبرير قصف النظام لمدينة حلب، ومشاركة روسيا وإيران في ذلك، بوصفه ردًا على هجوم المعارضة على بلدة العيس التي كان يسيطر عليها النظام وتحقيقها تقدمًا عسكريًا.
من جهته سعى الاتحاد الروسي إلى تحقيق عدة أهداف منها: فرض حضور راسخ في شرق المتوسط، واستخدامه كمنصة لمشاكسة الولايات المتحدة للحصول على اعتراف منها كندّ، وإشراكه في حل الصراعات الدولية على قدم المساواة (قال ليونيد إيسايف، الأستاذ في قسم العلوم السياسية في مدرسة الاقتصاد العليا في موسكو، إن حل النزاع السوري ليس هدفًا رئيسيًا للسياسة الخارجية الروسية. الهدف الأهم هو عرض دور روسيا على الساحة الدولية كلاعب أساسي). وإلى تطلعه لرفع العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب بعد تدخله في أوكرانيا، فضلًا عن رغبته في توظيف ذلك في تعزيز موقعه إقليميًا ودوليًا في مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي والاتحاد الأوراسي بحيث يستطيع موازنة الاندفاعة الصينية التي جاءت على حساب مصالحه في آسيا الوسطى وأفريقيا وأميركا اللاتينية. من هنا جاء تمسكه بالنظام وبرأسه أيضًا (وقف خلف اقتراح تعيين رأس النظام لثلاثة نواب بمهمات محدّدة و”حقيقية” مقابل القبول ببقاء الأخير في سدة السلطة، مرّره عن طريق قدري جميل الذي طرحه على دي ميستورا) لتكريس حضوره بالاستناد إلى معاهدة الانتشار العسكري في سورية واتفاقية التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية، وحصوله على وعد بحصة وازنة من “كعكة” إعادة الإعمار.
انطلقت كل من الدولتين من النظر إلى الحل بدلالة الصراع على سورية كجزء من الصراع بينهما في أكثر من مكان وأكثر من ملف. وقد تصاعد التوتر بينهما مؤخرًا على خلفية قضايا قديمة لم يتمّ الاتفاق عليها (الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا، تمدّد حلف الأطلسي باتجاه الحدود الروسية، العقوبات الغربية التي مُدِّدت عامًا آخر) وأخرى جديدة (إرسال لواء دبابات أطلسي إلى دول البلطيق، إرسال مدمرة أميركية إلى البحر الأسود، وقرار واشنطن نشر درع صاروخية في كوريا الجنوبية). وبالتالي، عبّر هذا التوتر عن نفسه في التصعيد العسكري في حلب بمشاركة واسعة من الطائرات والقوات البرية الروسية (قال المحلل السياسي الروسي والمستشرق فلاديمير أحمدوف “الجنود الروس يشرفون على العملية العسكرية في حلب. كما نعمل على خط حمص – حماة – إدلب. وليس من الممكن الحديث عن وقف إطلاق النار في سورية حيث تجري العمليات القتالية في حلب. أعتقد في الوقت الحالي تجري المرحلة الجديدة من العملية العسكرية الروسية”).
تريد واشنطن حلًا سياسيًا يستند إلى معادلة “لا غالب ولا مغلوب”، يسمح بإقامة توازن جيوسياسي جديد في الإقليم قائم على دعامتين: دعامة سنية (السعودية) ودعامة شيعية (إيران)، لهذا رفضت التدخل العسكري المباشر في الصراع، لأن تدخلها سيعني تحقيق انتصار عسكري لمصلحة الثورة السورية وحلفائها، ومنعت المعارضة من تحقيق مكاسب عسكرية كبيرة بفرض قيود على تسليحها، والتي زادت مؤخرًا تحت ذريعة تشجيع خيار الحل السياسي، وبوضع قيود كبيرة جدًا على حركة انتقال مقاتلي المعارضة من ريف حلب الغربي ومحافظة إدلب إلى ريفها الشمالي عبر الأراضي التركية، والعمل، في الوقت نفسه، على منع النظام وحلفائه من تحقيق نصر عسكري حاسم على المعارضة عبر مساعدة الأخيرة على تحقيق مكسب عسكري يوازن كل مكسب يحققه النظام، وهذا عمّق الشرخ القائم بينها وبين السعودية (ودول مجلس التعاون الخليجي)، على خلفية عقد الاتفاق النووي مع إيران، وزاد في توجسها من نية الولايات المتحدة تعزيز علاقاتها بإيران وإطلاق يدها في الإقليم وتجاهلها لأولوية السعودية: خروج إيران من سورية والمشرق العربي. كما أثار التعاون الأميركي مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، ودعم “وحدات حماية الشعب” بالمدربين والسلاح والتقنية الحديثة، قلق تركيا التي رأت فيه تهديدًا لأمنها الوطني في ضوء ارتباط الحزب المذكور بحزب العمال الكردستاني التركي والترابط الكردي على جانبي الحدود. فنجاح الأكراد في سورية سيطرح سابقة ويفتح بابًا لحلّ الملف الكردي فيها بتوجه مماثل. وقد زاد فشل فصائل المعارضة المسلحة في تحقيق أيّ تقدم حقيقي على حساب “داعش” شمال حلب، بما يسمح لتركيا بطرح هذه الفصائل أمام المجتمع الدولي كشريك يسحب البساط من تحت أقدام القوات الكردية، في هواجس الأخيرة. كما أضعف التوجه المصري والإماراتي والأردني إزاء الصراع في سورية وعليها الموقف الخليجي التركي في مواجهة الضغوط الأميركية.
لم تكتفِ روسيا بالتدخل العسكري في الصراع في سورية وعليها واستهدافها للمعارضة المسلحة والمدنيين بالقنابل الغبية والذكية التي تمطر بها المدن والبلدات والقرى، بما في ذلك الأسواق الشعبية والمراكز الصحية والمدارس والمساجد، فتقتل من تقتل من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، وتدفع البقية إلى النزوح هربًا من الموت، بل راحت تضغط لفرض رؤيتها للحل السياسي، ولمستقبل سورية كذلك، حل يُثبت قدرتها وجدارتها، كما ترى، باحتلال موقع قوة عظمى تشارك واشنطن في حل وإدارة الملفات الدولية والإقليمية. وقد دفعها الرفض الأميركي لتطويبها قوة عظمى ثانية إلى العمل على إسقاط القرار الدولي رقم 2254 لأنه يتكئ على بيان جنيف1، الذي يقضي بانتقال سياسي، أي بتغيير النظام في سورية، ويضعها عمليًا في صف الخاسرين، عبر تسويق تفسيرها لبنوده، التفسير الذي يُبقي على النظام ويُشرك المعارضة في حكومة موسّعة بعددٍ من الوزراء، بالانطلاق من التشكيك بتمثيلية وفد المعارضة، وإعادة النظر بتصنيف المنظمات الإرهابية، كمدخل لفرض نظرتها عبر اختراق وفد المعارضة بمعارضين مصنّعين في دمشق وموسكو، ودفع أطراف في الوفد الموحد للمطالبة بحلٍّ نهائيٍّ يتسق مع موقفي النظام وروسيا، واستغلال قائمة المنظمات الإرهابية لشرعنة عمليات القصف والتدمير المنهجي لفصائل المعارضة، وإخراجها من معادلة الصراع واستعادة المناطق التي بسطت سيطرتها عليها، وخاصة في مدينة حلب، التي تتعرض لهجوم عنيف ووحشي، لحجمها وأهميتها الاقتصادية والإستراتيجية، ما يكشف موقف وفد المعارضة على طاولة المفاوضات ويضعه أمام أحد خيارين: القبول بالمعروض أو مواجهة هزيمة شاملة.
لم تقف الصين بدورها بعيدًا، فقد أعلنت مباركتها للدور العسكري الروسي في سورية وعينت مبعوثًا خاصًا إلى الإقليم بعد أن تصاعد الضغط المتبادل بينها وبين الولايات المتحدة على خلفية التوتر بينها وبين دول حليفة للأخيرة (اليابان، كوريا الجنوبية، الفلبين، إندونيسيا) على جزر في بحري الصين الشرقي والجنوبي.
كما تناغم التحرك الروسي مع التوجه الإيراني الذي يتبنى الخيار العسكري لحسم الصراع، أو لإجبار المعارضة على القبول بصيغة حلٍّ يقوم على تشكيل حكومة وحدة وطنية ووضع دستور جديد على قاعدة المحاصّة المذهبية وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية يحق لرأس النظام الترشح فيها، ما شجعها على زجّ المزيد من القوات الموالية والعسكرية الإيرانية في الصراع وتركيزها على منطقة حلب لتسجيل نقاط على حساب خصومها الإقليميين، السعودية وتركيا بخاصة.
الاتحاد الأوروبي، المثقل بالأعباء السياسية والاقتصادية، جعل أولويته وقف تدفق اللاجئين ومنع تمدّد الإرهاب إلى حِماه بأي صيغة تضمن تحقيق هذين الهدفين العاجلين، كمدخل لاحتواء الإرباك الذي شكّله تدفّق اللاجئين بصورة غير مسبوقة، وما أثاره من توتر بين دوله، والحدّ من موجة الإسلاموفوبيا التي لا تخدم سوى المنظمات الإرهابية؛ فعمل على وقف تدفق اللاجئين عبر عقد صفقة مع تركيا يقدِّم فيها مبلغًا كبيرًا من المال ويسمح للمواطنين الأتراك بدخول أراضيه من دون تأشيرة مسبقة، كما فتح معها عدة فصول للتفاوض حول انضمامها إليه. وبارك التفاهم الأميركي – الروسي إزاء سورية من دون تحفظ، على الرغم من انعكاسه السلبي على مصالح ودور بعض دوله في مستعمراتها السابقة وتهميش دوره الإقليمي والدولي.
إسرائيل، التي صبّ ما حصل في سورية في مطحنتها، تريد استمرار الصراع وتفكك سورية بحيث تضمن تفوقها لفترة زمنية طويلة والاحتفاظ بهضبة الجولان. ولما كانت علاقاتها مع الرئيس الأميركي متوترة، فقد تحركت مع موسكو للتفاوض على حصتها في سورية الجديدة والمطالبة بالاحتفاظ بالجولان.
هذا، من دون أن ننسى الدور المدمّر لـ “داعش” و”النصرة”، والمشاريع الخاصة التي تطرحها قوى الأمر الواقع الأخرى والتي يتلقى بعضها مباركة ودعمًا إقليميًا ودوليًا، يأتي في مقدّمها الإدارة الذاتية التي شكلها حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ومشروع الفدرالية الذي طرحه “تجمع سورية الديمقراطية” الذي يهيمن عليه الحزب نفسه.
الخيارات المطروحة
في هذا المناخ المُلتبس وشديد التعقيد، جرت اجتماعات جنيف في جولتها الثانية. وإذا كانت الجولة الأولى حملت بعض الإيجابية، خاصة حين حدّدت بصورة لا لبس فيها أن مسألة “الانتقال السياسي” ستكون موضوع الجولة الثانية وعنوانها العريض، فإن فشل موسكو في دفع واشنطن لقبول عقد صفقة شاملة معها على مجمل الملفات العالقة بينهما دفعها إلى عرقلة المفاوضات، وتبني موقف النظام التقليدي: الرئيس خط أحمر، ليس هناك انتقال سياسي بل حكومة موحّدة يشارك فيها الموالون والآخرون والمستقلون (تحاشى رئيس وفد النظام النطق بمفردة “المعارضون” واستعمل مفردة “آخرون” للإشارة إليهم) بمقتضى دستور 2012، وغضّ الطرف عن انتهاكات النظام لاتفاق وقف العمليات العدائية وتدفّق الدعم الإيراني للنظام، وقيامها بتزويده بعتاد حربي حديث.
هذا كله وضع وفد الهيئة العليا للمفاوضات في موقف حرج ووتّر أجواء التفاوض، ما دفعه إلى طلب تأجيل المفاوضات وربط العودة إليها بجملة مطالب تتعلق بالأمور الإنسانية وإطلاق المعتقلين وتحديد جدول زمني لتشكيل هيئة حكم انتقالية، وإلى تعليق مشاركته في الجولة بعد رفض المبعوث الدولي طلب التأجيل، مع ملاحظة أن تعليق الوفد مشاركته في المفاوضات قد أزعج رعاة المفاوضات، وزادت مغادرته لجنيف من انزعاجهم لأنه حول الخطوة من تعليق احتجاجي إلى شبه انسحاب.
استثمرت موسكو الموقف. فتحركت على أكثر من صعيد في مجلس الأمن من أجل وضع “حركة أحرار الشام” و”جيش الإسلام” على قائمة المنظمات الإرهابية، ومع أطراف من وفد الهيئة العليا، تعدّهم معتدلين، دعتهم للانشقاق عنه والانخراط في وفد موحّد مع بقية المنصّات، والدخول في حوار مع النظام وفق التصور الروسي، المتطابق مع تصوريّ النظام وإيران، والتصعيد ميدانيًا من خلال المشاركة في قصف مدينة حلب بالطائرات وبجميع أصناف القذائف والصواريخ الفراغية والقنابل العنقودية. لم يأتِ الهجوم على حلب بسبب تعليق وفد الهيئة العليا للمفاوضات مشاركته في اجتماعات جنيف، كما قيل، بل كان اتخذ قبل ذلك بكثير، وهو ما كان أعلنه رئيس وزراء النظام وائل الحلقي في 10 نيسان/ أبريل 2016 “نحن نستعد مع شركائنا الروس لعملية تحرير حلب ومحاصرة كل المجموعات المسلحة هناك والتي لم تلتحق بالمصالحة”، وقد جاء نفي موسكو لذلك بسبب الخلاف على التوقيت، لا على القرار، لأنها أرادت ربط التنفيذ بسياقٍ ملائم. وهذا يفسر رفضها تشميل المدينة باتفاق الصمت الناري الذي شمل دمشق وريفها وريف اللاذقية الشمالي. في السياق نفسه، جاء إعلانها أن النظام سيتوجه لاستعادة الرقة ودير الزور للتغطية على عمليات القتل الممنهج في حلب، لوضع المدن الثلاث في سلة واحدة كبؤر إرهابية، ولامتصاص ردّة الفعل الدولية والإقليمية على قصفها حلب.
الردّ المطلوب
يستدعي النجاح في احتواء التحرك الروسي، وفي إسقاط مطالب موسكو المسبقة، تحركًا مضادًا، مدروسًا ومنسقًا، مع القوى الدولية والإقليمية الداعمة لموقف المعارضة، يبدأ بتعزيز التوافق الراهن بين المعارضتين السياسية والمسلحة، والتمسك بإشراك الفصائل المسلحة في المفاوضات، خاصةً التي قبلت الحل السياسي وأصدرت بيانات بهذا الخصوص، والتمسك أيضًا بمرجعية محدّدة للمفاوضات وأولها بيان جنيف1 وقرارات مجلس الأمن 2218 و2254، وتأكيد ارتكاز الأخير على بيان جنيف1، وتجديد المطالبة بجدول أعمال واضح ومحدّد قبل بدء الجولة المقبلة من المفاوضات، وعدم الرضوخ للضغوط الأميركية، خاصة على شاكلة الدخول في مفاوضات من دون ضوابط ومرجعية محدّدة، والمطالبة بمفاوضات مباشرة لتجنب التضليل والخداع والمراوغة والإيهام بحصول تقدم والاستجابة لبعض المطالب.
لا شك أن اللحظة السياسية دقيقة ومفصلية وتقتضي من وفد المعارضة تعاطيًا هادئًا ورصينًا، وهذا يستدعي:
1 ـ تقدير موقف منطقي وعملي في آن. فالمعادلة معقدة، والمقاطعة، كما طالب البعض، مثل المشاركة بالشروط الأميركية – الروسية، تنطوي على خسارة. لكن ثمة فرقًا بين خسارة وخسارة. فالمقاطعة من دون سند دولي وإقليمي وازن أقرب إلى وصفة انتحارية، والمشاركة مع تحضير جيد وموقف صلب من المطالب المشروعة للثورة بالتغيير، والتمسك بها، أكثر منطقية وجدوى في ضوء المعطيات المحلية والإقليمية والدولية.
2 ـ التشاور مع قوى الثورة والمعارضة والدول الشقيقة والصديقة، ودراسة جميع الاحتمالات والخيارات. وهذا يطرح ضرورة الاستعانة بخبرات وطنية وصديقة لتطوير الأداء وتحسين فرص النجاح في مهمّة معقّدة ومركّبة ومثقلة بكثرة المتدخلين.
3 ـ خطة شاملة تضبط إيقاع الحركة، مع سلم أولويّات وبدائل في ضوء توقعات لتحولات وتطورات عملية التفاوض، وهذا يتطلب اعتماد آلية عمل جماعي وتكاملي لتعزيز القدرة على الإلمام بالاحتمالات كافة، وجعل مشهد عملية التفاوض مجسدًا ومرئيًا بوضوح.
4 ـ دراسة جميع الاحتمالات ووضع إجابات للتوقعات المحتملة كافةً. وهذا يستلزم من القوى الجادة القيام بوضع احتمالات متقنة عن طريق تطبيق “لعبة المباراة”، المعروفة في علم التفاوض، حيث يجري فيها تقمّص مواقف مفاوضيّ الطرفين وتسجيل النتائج والاحتمالات التي تظهر خلالها، كي لا يؤخذ الوفد على حين غرّة كما حصل معه عندما طُرح عليه اقتراح تسمية رأس النظام لثلاثة نواب.
أمام الثورة مرحلة صعبة، سيحتدم فيها الصراع وترتفع التضحيات والخسائر البشرية والمادية حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، مرحلة تنطوي على مخاطر جمة، سياسية واجتماعية واقتصادية، ضحيتها الشعب السوري ومصالحه وطموحاته، الأمر الذي يستدعي من المعارضة أعلى درجات الالتزام والجديّة والمسؤوليّة.