المحتويات
قررت جبهة النصرة في سورية، فك ارتباطها بتنظيم القاعدة، لكن خطوتها هذه، لم تُقنع المجتمع الدولي، كما لم تُقنع السوريين أنفسهم.
أعلنت “جبهة النصرة” في سورية عن فكّ ارتباطها بتنظيم القاعدة العالمي، الذي أسّسه أسامة بن لادن، كما قررت تغيير اسمها إلى “جبهة فتح الشام”، وكذلك استغنت عن العلم الأسود، الذي تستخدمه التنظيمات المتشددة، واستبدلت به آخر أبيض، وأعلنت أنه لن يكون للجبهة الجديدة، أي ارتباطات خارجية، أي أنها ستتحول إلى تنظيم عسكري إسلامي محلي.
برّر زعيم الجبهة أبو محمد الجولاني، الذي ظهر أول مرة كاشف الوجه، الانفصالَ لسبب خارجي وآخر داخلي، أمّا الخارجي؛ فهو “إزالة ذرائع المجتمع الدولي، خصوصًا روسيا والولايات المتحدة، وتجنب ضرباتهم”، وأمّا الداخلي؛ فهو لـ “تقريب المسافات بين الفصائل” التي تقاتل النظام في سورية.
تمت الخطوة بمباركة من أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة العالمي، الذي بارك “تقديم مصالح الشعب السوري” على مصالح تنظيمه، على الرغم من أنها تعني تخلي تنظيم القاعدة عن ذراعه العسكري، الأكثر قوة على الساحة السورية.
حدّد الجولاني أهداف التنظيم الجديد، بـ “تحقيق العمل على إقامة دين الله، وتحقيق العدل، والتوحد مع الفصائل لتحرير الشام، والقضاء على النظام وأعوانه”، ما يعني أن أهدافها ما زالت دينية لا مدنية، ولا ترى في الثورة السورية، إلاّ ثورة لإقامة الخلافة، والحكم الإسلامي الرشيد.
أولًا: ردّات الفعل الدولية
رجّح كثيرون، أن يؤدي قرار جبهة النصرة -فك ارتباطها بتنظيم القاعدة- إلى تغيير التحالفات الاستراتيجية على الأرض في سورية، وأن تحصل الجبهة الجديدة، على قبولٍ من فصائل أخرى من المعارضة المسلحة، التي تقاتل ضدّ النظام السوري، وتوقّع آخرون، أن يُليّن هذا القرار الولايات المتحدة، ويدفعها إلى الترحيب بهذه الخطوة؛ لأنها تخلصها من شبح تنظيم القاعدة، الذي يؤرقها، وذهب بعض المتابعين إلى أبعد من ذلك، وقال: إن هذه الخطوة قد تكون جزءًا من اتفاق روسي- أميركي، ليكون لهذه الجبهة دور في العملية السياسية–العسكرية، المستندة إلى المفاوضات، لكن، كانت ردّات الفعل العملية، مختلفة عن ذلك كله.
من جهتها؛ أعلنت الولايات المتحدة، وعلى لسان أكثر من مسؤول، أن جبهة النصرة ما زالت هدفًا للقصف، وأعربت عن قلقها من الخطر الذي تشكله، على الرغم من تغيير اسمها. وقالت وزارة الخارجية الأميركية: “إن تغيير جبهة النصرة اسمها، لا يعني تغيير سلوكها وأهدافها”، مشددةً على أن الإدارة الأميركية، لا تزال تعدّها منظمة إرهابية، وهدفًا للطائرات الحربية الأميركية، فيما سارع قائد القيادة الوسطى في الجيش الأميركي، الجنرال لويد أوستن، إلى القول: إن جبهة النصرة، “ستظل جزءًا من تنظيم القاعدة، حتى لو غيرت اسمها”، وعقّب المتحدث باسم البيت الأبيض، جوش أرنست، على القرارات التي أعلنتها جبهة النصرة، وأكّد أن هذه القرارات، لن تُغيّر من نظرة الولايات المتحدة إلى هذا التنظيم؛ لكونه يمثل تهديدًا مباشرًا للغرب، وقال: “ما زالت لدينا مخاوف متزايدة، من قدرة جبهة النصرة المتنامية، على شن عمليات خارجية، قد تهدِّد الولايات المتحدة وأوروبا”، لكنّه ترك الباب مواربًا، حين قال: إن بلاده “ستواصل تقييم وضع هذا التنظيم مستقبليًا”، كذلك، قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية، جون كيربي، إن الولايات المتحدة، ترى في إعلان فك الارتباط عن تنظيم القاعدة، تغييرًا في المسمّى وشكل التحالف فقط، من دون تغيير الأهداف، وقال “سنحكم على الجبهة الجديدة من تصرفاتها، وأهدافها، وعقيدتها”.
أما روسيا؛ فلم تتردّد في الإعلان عن أنها ستستمر في قصف مواقع “جبهة النصرة”، سواء فكت ارتباطها، أم لم تفكّه، وقالت الخارجية الروسية: إنه “لا توجد حاجة إلى تأكيد أن كل محاولات الإرهابيين، لتغيير صورتهم، ستفشل”، وأشارت إلى أن “جبهة النصرة” “ستبقى إرهابية لا تهدف إلا إلى إقامة ما يسمى بالخلافة الإسلامية، من خلال وسائل قاسية وهمجية”، وأن مكافحة “هؤلاء المتعصبين ستستمر في دعم المجتمع الدولي، وبانتظام حتى القضاء عليهم تمامًا”، وحولت فورًا قولها إلى فعل، وقصفت في اليوم التالي، مواقع للتنظيم في ريف حلب، ضمن محاولتها استعادة السيطرة على المدينة، مع قوات النظام السوري وحلفائه، كما ادّعت روسيا أن عملياتها الفعّالة في سورية، هي سبب هذا الانفصال، وقال نائب رئيس لجنة الدفاع في مجلس النواب الروسي (الدوما)، أندريه كراسوف: “لقد ساهمت في هذا الانفصال، الخطوات التي اتخذتها القوات الروسية في سورية، ولا سيما تشكيل التحالف، الذي أصبح درعًا، تمنع انتشار وباء الإرهاب الدولي” في إشارة إلى تحالفه مع النظام وإيران.
ثانيًا: ردّات الفعل المحلية
أما على الصعيد المحلي؛ فقد سارعت بعض الفصائل العسكرية السورية المُعارضة، إلى الترحيب بهذه الخطوة، بينها “حركة أحرار الشام” الإسلامية، التي رأت أن فك ارتباط جبهة النصرة، بتنظيم القاعدة “كان دائمًا، العائق الأكبر أمام تشكيل جسمٍ موحد، يجمع فصائل المعارضة المسلحة”، فيما وصف “جيش المجاهدين” خطاب الجولاني بـ “الممتاز بجدارة”، وأبدى استعداده للاتحاد معه، وحذّر التحالفَ الدولي، من قصف الجبهة الجديدة الوليدة، لأنه “لم يعد هناك مبرِّر لقصفها”، أمّا “جيش الإسلام”، وهو أحد أكبر القوى العسكرية المعارضة في سورية؛ فقد رحّب بحذر، وقال؛ إن فك الارتباط “يصب في مصلحة الشعب السوري، وثورته، وحقن دمائه”، لكنه شدّد على أنه “سيراقب سلوك الجبهة الجديدة، حتى يحكم حكمًا عادلًا عليها”.
أما على صعيد القوى السياسية، فقد رحّبت الهيئة العليا للمفاوضات، التابعة للمعارضة السورية، بقرار الجبهة، وقالت: إنه “خطوة مرحب بها”، لكنّها شدّدت على ضرورة أن تتبعها “خطوات أخرى، لتصحيح أخطاء الفترة الماضية، وتحقيق الاندماج، مع المشروع الوطني الحقيقي، الذي يجمع كل السوريين تحت راية واحدة، تنتقل بالبلاد، إلى مرحلة خالية من الاستبداد والظلم”، وتحفّظ المتحدث باسمها، وقال: إنه مع هذا “لا يتوقع أن يكون لهذه الخطوة، أي انعكاس إيجابي”، لأن خطاب الجولاني في رأيه “لم يشر إلى تغييرٍ في البنية أو الأهداف، ولأن فك الارتباط هذا لم يلقَ قبولًا دوليًا”.
كما رحبت “جماعة الإخوان المسلمين” في سورية بقرار الجبهة، وقالت إنه “خطوة أولى نحو محلية الثورة وأهدافها”، وأشارت، أيضًا، إلى أن هذه الخطوة “تحتاج إلى المزيد من الالتحام مع الحاضنة الشعبية لردّ الحقوق والمظالم”.
أما ناشطو الثورة السورية، فقد تأرجحوا بين مُرحّب بحذر، وبين رافض، في المطلق، للجبهة وخطوتها، وكلا الطرفين، أكّدا ضرورة تبني الجبهة أهدافَ الثورة فحسب، التي لم يكن من بينها، في أي وقت من الأوقات، زجّ السوريين في حروب الجهاد العالمي، وشدّدا، على ضرورة أن تُعلن -أيضًا- عن تخلّيها عن الغلوّ والتعصب، وأن تتوقف عن الدعوة إلى إقامة الدولة الإسلامية.
بالمقابل، كانت هناك بعض قوى المعارضة، التي عَدّت الخطوة “خادعة”، وشدّدت على ضرورة أن يستمر السوريون، في محاربة هذه الجبهة، للقضاء عليها كليًا، فـ”هيئة تنسيق قوى التغيير الديمقراطي”، التي يحلو لها أن تصف نفسها بـ “معارضة الداخل”، رأت أن قرار الجبهة “التفاف مكشوف على القرارات الدولية، التي صنفت قوى الإرهاب”، وشدّدت على ضرورة احترام القرارات الدولية، التي صنّفت جبهة النصرة، كمنظمة إرهابية، في تماهٍ كاملٍ مع الموقف الروسي، الذي سعى منذ سنتين، لإدراج النصرة، ضمن الأهداف التي يقصفها التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. كذلك قال “تيار بناء الدولة” إن جبهة النصرة “ليست أفضل حالًا من النظام، فجميعها قوى طغيانية تريد فرض نفسها، وأيديولوجيتها بقوة السلاح والعنف والقتل”.
في الحصيلة؛ لا يمثل الحدث بالنسبة إلى أغلبية قوى المعارضة السياسية السورية، في محتواه، عملية فك ارتباط بين جبهة النصرة وتنظيم القاعدة، إلّا من الناحية الشكلية، وهي تعتقد أنه محاولة للتغلب على التحديات السياسية والعسكرية التي تواجه النصرة، والتي يأتي على رأسها، اتفاق الولايات المتحدة مع روسيا على التعاون، لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وجبهة النصرة في آن معًا، وكذلك خسارة الجبهة جزءًا كبيرًا من الحاضنة الشعبية لها؛ نتيجة ممارساتها المتشددة -دينيًا- ضد السكان، وهو ما تجسّد -مؤخرًا- بخروج العديد من التظاهرات، ضد الجبهة في مدن سورية مختلفة.
ثالثًا: العودة إلى البدايات
جبهة النصرة، منظمة تنتمي إلى الفكر الجهادي العالمي، سُمع باسمها أول مرة في كانون الثاني/ يناير 2012، حين ظهر زعيمها الجولاني، وأعلن عن تشكيلها في إثر عملية انتحارية ضربت مركزًا أمنيًا في كفر سوسة، بدمشق في كانون الأول/ ديسمبر 2011، وحدّدت الجبهة الهدف من وراء إنشائها؛ بأنها جاءت سعيًا من مؤسسيها، “لإعادة سلطان الله إلى أرضِه، وأن نثأر للعرضِ المُنتَهَك، والدم النازف، ونردّ البسمة إلى الأطفال الرُضّع، والنساء الرُّمل”.
تبنت الجبهة عدة هجمات انتحارية، في دمشق وحلب وإدلب. وفي نيسان/ أبريل 2014، انتقد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، إعلان الجبهة، مبايعة زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، ودعاها إلى العودة إلى صفوف الجيش الحر، وعدّها بعض المتابعين توأم تنظيم الدولة الإسلامية؛ لتشابههما -عقائديًا- وانحصار الخلاف بينهما في التفاصيل. لكن، سرعان ما اقتتل التنظيمان في نيسان/ أبريل 2014، في مدينة البوكمال الحدودية مع العراق، وانتهى الاقتتال بانفصال تنظيم الدولة عن القاعدة، واستمرار ارتباط الجبهة بها.
كثيرًا ما أكدت الجبهة أن معظم مقاتليها سوريون، وأنها لا تعتمد على الغرباء، على عكس تنظيم الدولة الإسلامية الذي اعتمد على العرب والأجانب، وهو ما ساعد على انتشارها -جغرافيًا- في درعا، وريف دمشق، والقنيطرة، والقلمون، وشمال سورية، وخاضت معارك ضد قوات النظام، والميليشيات الحليفة له، ومعارك أخرى ضد حزب الله اللبناني. وكوسيلة لكسب المزيد من المؤيدين، والشرائح الشعبية؛ قامت الجبهة بإخراج 13 راهبة مسيحية من بلدة معلولا في القلمون السورية، علقن في المعارك الدائرة، بينها وبين قوات النظام، وأفرجت عنهنّ فيما بعد، لتُدلي الراهبات بتصريحات إيجابية، تمتدح فيها مقاتلي الجبهة، وطريقة تعاملهم الإنسانية. وكذلك احتجزت 44 جنديًا، من دولة فيجي، ضمن قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في الجولان، وأفرجت عنهم في بادرة حسن نيّة.
تنامى نفوذ الجبهة، بشكل سريع، في سورية، إلى أن أصبحت من أبرز قوى المعارضة المسلحة، وبما أن مواردها كانت كبيرة ومتعددة؛ فقد كانت سخيّة في دفع رواتب للمقاتلين، وقدّمت لهم السلاح والذخيرة، ودرّبتهم، وصنّفتهم ضمن هياكل تنظيمية منضبطة، الأمر الذي تسبب بدوره بزيادة شعبيتها ونموها.
رابعًا: نصرة أم اثنتان
قام النظام السوري، في الأشهر الأولى، من انطلاق الثورة، بإطلاق سراح العديد من الإسلاميين المتشددين، والمتشددين جدًا، ومنهم من شارك -فيما بعد- في تشكيل هذه الجبهة؛ لذلك، بقي تشكيل هذه الجبهة مريبًا، وكانت هناك شكوك واضحة في إمكانية تلاعب ما، من جانب المخابرات السورية في هذا الموضوع، وفي بداية تشكيلها؛ نبذها الحراك الشعبي، بسبب شكوكه في أنها لعبة من النظام، وبسبب تبنيها تفجيرات، استهدفت مواقع عسكرية، وأمنية موجودة في مناطق سكانية، ولم تُبال بإمكانية وجود مدنيين في هذه الأماكن، وبسبب تبنّي بعض قيادييها، خطابًا طائفيًا يبعث على القلق.
تسببت “جبهة النصرة” في سورية في قلقين؛ الأول، قلق المجتمع الدولي، وخوفه، من أن تساهم في انتشار التطرف، وما يحمله هذا الأمر، من خطر إعادة تقييم المجتمع الدولي للثورة السورية، وتحولها -في نظره- من صراع، بين نظام استبدادي، وشعب يريد الحرية، إلى صراع بين النظام، والأصولية الجهادية، والثاني، هو قلق الحراك الشعبي، من أن تقوم هذه الجبهة، بابتلاع الثورة، وتقويض دور القوى الديمقراطية العلمانية، ودور العديد من الفصائل المسلحة المعتدلة، الأمر الذي يعزز فرص الاصطدام معها.
في بداياتها، كانت “جبهة النصرة” تنظيمًا غامضًا، غير واضح المعالم والبنية، وبدت للسوريين مثل شبح، راح كل طرف يرسم صورتها بالطريقة التي يريد، فهي عند بعضهم مجموعة من الإسلاميين، المسلحين، المتشددين، الذين ينتهكون القوانين، ويسعون لإقامة إمارة إسلامية، ويستشهدون بمنعهم النساء من ارتداء (البنطلونات) وإزالتهم الخمور من المتاجر، وإجبارهم المتاجر على إغلاق أبوابها وقت الصلاة، وهي عند بعضهم الآخر تجمّع ثوار إسلاميين، كرسوا أنفسهم للدفاع عن القيم السماوية والأرضية، وهم ثوار وطنيون غير متشددين، بدليل أنهم شكّلوا مجلس شورى محليًا في مدينة (رأس العين) شمال سورية ضم كاهنًا مسيحيًا، وأمّنوا المحروقات والدقيق والأدوية مجانًا، وقاموا بحماية الأحياء، التي هجرها سكانها من اللصوص، وبتوزيع مواد غذائية على المحتاجين، حتى لو كانوا مسيحيين، ورفضوا الحصول على أي مغانم حرب، إلا إذا كانت أسلحة.
واقعًا، بعض هذا الغموض الأسطوري صحيح، وبعضه الآخر بعيد عن الواقع، نشأ غالبًا بسبب الحاجة والرغبة، حاجة النظام إلى تأكيد وجود إرهابيين متشددين مسلحين، ورغبة الحراك الشعبي في شحن الثوار، تعويضًا عن انسداد الأفق، والضياع.
لم تكن النصرة كائنًا خرافيًا، أو بطلًا أسطوريًا، بل ظاهرة، تحوّلت إلى تنظيم مسلّح، متشدد، تعاظمت قوته في مختلف أنحاء سورية، وتلقى مساعدات سخيّة من الخارج، ولا أحد يعرف، بدقة، هوية الممولين؛ فبسرعة، صار من أكبر التنظيمات المقاتلة في سورية، وأكثرها تماسكًا، وأفضلها تسليحًا وتمويلًا، وأشدها قدرة على القتال.
خامسًا: عقاب أميركي ودولي
في كانون الأول/ ديسمبر 2012، قامت الحكومة الأميركية بإدراج الجبهة في لائحة المنظمات الإرهابية، وهو الأمر الذي لقي، في حينه، رفضًا من بعض أطراف المعارضة السياسية السورية، التي قالت في معرض دفاعاتها عنها: إن هذه الجبهة ليس لديها أي ممارسات، تتعدى حدود سورية، وإنها تحمي المدنيين، وتُقدّم الدعم الإغاثي لهم، وإنها تعمل من أجل هدف واحد هو إسقاط النظام، وقالت إنه لا يهمها مصادر الدعم، الذي تتلقاه هذه القوة العسكرية، أو أسباب هذا الدعم وخلفيّاته؛ لأن المهم بالنسبة إليها، أنها تندرج في إطار العمل لمساعدة السوريين في إسقاط نظام الاستبداد في دمشق، وقيام نظام ديمقراطي تعددي تداولي، من دون أن تحاول تفسير كيفية قيام نظام “ديمقراطي تعدّديّ تداوليّ” بمساعدة جهة عسكرية مُتشددة، تريد تطبيق الشرع، وحدود الدين، على الدولة والمجتمع، ما أدى إلى توجيه انتقادات كبيرة للمعارضة السياسية السورية، وربما كانت هذه أحد الأخطاء المُبكّرة لها.
فرح النظام السوري للخطوة الأميركية، خصوصًا أنه كان يحاول -منذ انطلاق الثورة- إيصالَ الغرب إلى قناعة بأن المنظمات الإرهابية هي التي تحاربه في سورية وتريد إسقاطه، ويوحي بأن الصراع هو بينه من جهة، وبين القاعدة أو ما يشبهها من جهة أخرى، ظانًّا أنه، يمكن له، أن يخيّر العالم، بينه والجهاديين، ما يعزز فرص قبول العالم به، وتخلّيه عن دعم المعارضة المطالبة بإسقاطه.
في 30 أيار/ مايو 2013، قرر مجلس الأمن الدولي إضافة “جبهة النصرة”، إلى قائمة العقوبات، للكيانات والأفراد التابعة لتنظيم القاعدة، وصارت الجبهة بالنسبة إلى المجتمع الدولي، منظمة إرهابية، يجب محاربتها، والقضاء عليها، لكن هذا، لم يؤثر على شعبيتها، بل زاد من تلك الشعبية في بعض الحالات؛ نتيجة شعور بعض السوريين، بضرورة تحدي المجتمع الدولي، الذي خذلهم، ولم يُقدّم لهم أي مساعدة، لإنهاء الحرب، والخلاص من النظام، الذي دمّر حاضرهم ومستقبلهم.
وفيما بعد؛ ونتيجة هذا التصنيف، اشترطت روسيا والنظام السوري ألاّ تُشارك هذه الجبهة، في مفاوضات جنيف، الساعية لإيجاد حل سياسي للقضية السورية، كما استُبعدت من هدنة، رعتها مع الولايات المتحدة هذا العام، حالها حال تنظيم الدولة الإسلامية. كذلك، قرر الطرفان إدراجها في قائمة التنظيمات الإرهابية، واستبعادها من اتفاق هدنة في سورية في شباط/ فبراير الماضي، كما بحثا تعزيز التنسيق العسكري بينهما ضدها.
سادسًا: نتائج متوقعة ومحاذير
مهما تكن الأسباب التي دفعت جبهة النصرة لاتخاذ قرار فك الارتباط بالقاعدة، فإنه، لا بدّ من عدم تجاهل هذا التحول الكبير، وعدم التغاضي عن نتائجه، وضرورة دراسته بدقة، ومراقبة تصرفات الجبهة المقبلة، ومعرفة الاحتمالات المرتقبة لهذه الخطوة.
– أول هذه الاحتمالات، أن يكون فك ارتباطها بالقاعدة مجرد خطوة شكلية، لا معنى لها، في محاولة للخروج من المأزق السياسي، والميداني، الذي يهدِّدها، والذي يتفاقم يومًا وراء يوم، ويهدِّد بفتح جبهات ضدها، قد لا تكون قادرة على ردّ أذاها؛ لأن فك الارتباط يتطلب تبدّلات، جوهرية في أيديولوجيتها، وسياساتها، وممارساتها، وعلاقاتها، وليس تغيير اسمها فحسب، وأن يكون تحركها هذا، إعادة نظر في بنيتها التنظيمية، وإعادة تعريف علاقتها مع فروعها/ وجعلها أكثر مرونة، وأكثر محليةً، بشكل يحسن تموضعها.
– ثاني هذه الاحتمالات، أن يكون فكّ ارتباطها بالقاعدة فعلًا إعلاميًا، ذا أهداف تكتيكية، في توجّه من التنظيم الأم، لتجربة مبدأ اللامركزية الجهادية، وأن يكون السماح لها بالانفكاك، تجريبًا لهذا النمط من العمل الجهادي المحلي، ولإنجاز تحولها إلى عضو قاعدي من نوع جديد، قد يكون فعالًا في المجتمع، وفي ساحة المعارضة.
– أما ثالث هذه الاحتمالات؛ فهو أن يؤدي فك ارتباطها بالقاعدة، إلى انسيابية انضمام العناصر، من مختلف الفصائل السورية، إلى “جبهة فتح الشام”، بعد إزالة هامش الفرق بينها، وبين باقي التجمعات الإسلامية العسكرية، ما يفتح الباب واسعًا أمام انضمام فصائل، بالكامل، إليها، بوصفها مشروعًا إسلاميًا سلفيًا، محليًا، غير إرهابي، وفي هذا السياق؛ لا يستبعد بعض المتابعين أن تقوم الولايات المتحدة باستخدام “جبهة فتح الشام” كشريكٍ في مقاتلة تنظيم الدولة الإسلامية، بوصفها تنظيمًا قادرًا على استقطاب “المجتمعات السنّية”، لمواجهة الجهاد المتشدد والمُنفلت، ما يحولها من خارجة على القانون الدولي إلى عضوة فيه.
– ورابع هذه الاحتمالات، أن تؤدي هذه الخطوة إلى انشقاق الجناح المتشدّد في النصرة، وانحياز أعضائه إلى تنظيم الدولة الإسلامية، وهو أمر يريحها من أزمة رافقتها، وأوقعتها في هوية معقدة، ملتبسة بين الانتماءين، المحلي السوري والخارجي، ما أحدثَ إشكالية كبيرة بينها وبين السوريين من جهة، وبين المجتمع الدولي من جهة ثانية.
وفي الحصيلة؛ يتحمل النظام السوري، من خلال حربه التي يشنها ضد الشعب السوري، منذ خمس سنوات ونصف، المسؤولية المباشرة وغير المباشرة، عن جذب كل الحركات، والتنظيمات المتشددة إلى سورية، كما أن له علاقة غير مباشرة (وأحيانًا مباشرة) في تصنيع الحركات الجهادية المحلية، وتوسيع نفوذها، وتعقيدات ارتباطاتها، كما تتحمل المعارضة السورية جزءًا من مسؤولية بروز جبهة النصرة، ونموها، وتسيّدها، وما شابهها من تنظيمات عسكرية إسلامية، لأن هذه التنظيمات، والقوى، استمدت قوتها من ضعف هذه المعارضة، ومن عدم وجود مشروع سياسي وطني جامع، توحيدي للقوى السياسية الثورية والعسكرية، جدّي وجاذب وصارم، ما سمح لهذه الحركات بملء الفراغ، بخطابها الديني، وأدائها العسكري وأدواتها الإعلامية.